قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

15

سلطان المكتوب واستخدامه

الآن في المصائر النهائية الأبدية، أي الحياة الأبدية أو الموت الأبدي. وهنا نجد طائفتين من المعارضين للعقائد المعروفة بين عامة المسيحيين. الطائفة الأولى، وهي التي يطلق عليها عادة جماعة "الفنائيين" وإن كانوا هم يفضلون أن يطلقوا على عقيدتهم "الخلود المشروط" - أي المقيد بشرط. والطائفة الثانية، هم الذين ينادون بتعليم خلاص جميع البشر بعد دهور متفاوتة من العذاب المطهري.

ولا شك أن التأمل في هذه الأقوال المتعارضة يسير بنا في اتجاهين مختلفين إلى آخر حد. نقطة واحدة يتلاقى فيها هؤلاء المعارضون وهي تمسكهم جميعاً بالتعليم الذي يطلقون عليه عادة الاسم الكتابي «رد كل شيء» كما يتلاقون في محاولة تدعيم نظرياتهم بحجج عاطفية أو أدبية يسوقونها ضد العقائد المسيحية العادية. والقلعة التي يحتمي وراءها كتاب الفريق الأول يجدونها في النصوص الكتابية التي تتحدث عن الحياة الأبدية باعتبارها نصيب المُخلَّصين وعن الموت والهلاك الأبدي باعتباره نصيب غير المُخلَّصين. أما قلعة الفريق الثاني فيجدونها كما يعتقدون في النصوص التي تتحدث عن مصالحة كل شيء. ولما كان غرضنا تبيان وجهة نظر الكتاب استناداً على الكتاب نفسه، ولما كانت أقوال الكتاب بمعناها الكامل لا تُفهم على وجهها الصحيح إلا في مكانتها وطبقاً لقرينتها، فإن السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة، ومواجهة جميع الاعتراضات والحجج التي تهب من أي جانب، يتلخص في التأمل في تعليم الكتاب نفسه. والحق أن هذا السبيل دون سواه هو وحده الذي يُرضى كل من تحتل كلمة الله في فكره وفي قلبه مكانها اللائق بها وسلطانها الواجب لها. بهذا وحده يبقى الحق أمامنا باستمرار، وبهذا وحده تُحفظ نفوسنا في حضرة الله الذي أعطانا الحق وليس في حضرة الأفكار والتخيلات البشرية التي بلا أساس.

إنني لا أجزع أو أتراجع أمام الحجج العاطفية أو الحجج الأدبية. ولكن لمناقشة هذه الحجج يتحتم علينا أولاً أن يكون أمامنا نص التعليم الذي ينادي به المعترضون ثم يأتي دور الكتاب الذي يجب أن يسلّط نوره أيضاً على هذه "الحجج الأدبية" حتى يكشف ما بها من مغالطات.

فجدير بنا إذن، في المكان الأول، التأمل في سلطان المكتوب في هذا الموضوع الجلل، ذي الأهمية الكبرى لنفوسنا، الذي لا يتناول عقائدنا بشأن مصير الإنسان الأبدي فحسب بل يتناول صفات الله نفسه. والسؤال عن سلطان المكتوب يتضمن بطبيعة الحال سؤالاً آخر وهو: ما هو الشيء في المكتوب الذي له هذا السلطان: أهو النص، أو إن شئت فقل، أهو "حرفية" الكلمة، أم هو ما يسميه البعض "أقوال الله في خطوطها العريضة" بالمقابلة مع حرفية الكلمة؟ إلى أي شيء من هذه يكون الاحتكام؟ وهل الخطر في التدقيق أكثر من اللازم أم أقل من اللازم؟

ذلك أن أحد كتابهم المشهورين كتب يقول (وهو مخطئ فيما يقول): "بما أننا في تدبير الروح القدس .. فإن مرشدنا هو أقوال الله في خطوطها العريضة، إعلان الله في وحدته المجيدة، أسفار الله في بساطتها الأبدية مقروءة في ضوء وإنارة روح المسيح الساكن فينا ما لم نكن مرفوضين، إن مرشدنا ليس - ولن يكون - ما يسميه الكتاب «الحرف يقتل» - ذلك الفهم الاستبدادي الواقعي لاستعارات ومجازات غامضة أو كلمات منعزلة معصومة من الخطأ".

إن هذا الكلام في حقيقته يتضمن وضع روح الله والإنارة التي يعطيها في موقف المتعارض مع كلماته الفعلية إذا كانت تلك الكلمات تعني بوضوح شيئاً آخر غير الإنارة. ومثل هذا التفكير يكاد يكون قريباً من الادعاء بوحي يجعل النصوص الكتابية تعنى أي شيء يوافق هوى المُفَسِّر ومزاجه. وهو مبدأ يحرمنا من أعظم سند لنفوسنا، بل يجرِّدنا من ذات السلطان الذي به وحده نستطيع أن نفصل في الأمور المتخالفة. إن الرسول يخبرنا أن الأمور التي كان يتكلم عنها لم تكن «بأقوال (كلمات) تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس» وإنه لمن العجب حقاً أن نجعل الروح القدس متعارضاً مع «كلماته»! إننا إلى هذه الكلمات نحتكم وهي وحدها دستورنا الإلهي وهي الفيصل المُطاع في كل الشئون.

ومما يجدر بالملاحظة فوق هذا أن الرسول نفسه الذي يشهد عن «كلماته» بأنها من تعليم الروح القدس، هو ذاته الذي يخبرنا أن «الحرف يقتل» وإذا لم نأخذ هذا النص منعزلاً فإن القرينة تدلنا على معناه الصحيح. نجد هذا النص في 2كورنثوس 6:3 وهو في العدد السابق له يجري هكذا: «ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئاً كأنه من أنفسنا، بل كفايتنا من الله، الذي جعلنا كفاةً لأن نكون خدام عهد جديد. لا الحرف بل الروح. لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحيي».

فإذا تأملنا في الأعداد السابقة للنص الذي اقتبسناه نجد الرسول يتكلم مقارناً الكتابة على «ألواح حجرية» مع كتابة روح الله الحي «في ألواح قلب لحمية». وإذا مضينا إلى الأعداد التالية للنص نجده يتكلم عن الكتابة الأولى باعتبارها «خدمة موت منقوشة بأحرف في حجارة» مُعطاة لبني إسرائيل على يدي موسى، وعن الثانية، بالمباينة مع الأولى، باعتبارها «خدمة الروح»، وفي العدد التالي أيضاً يسمي الواحدة «خدمة الدينونة» والأخرى «خدمة البر».

واضح لأول وهلة إذن أن الرسول بعبارة «الحرف» الذي «يقتل» كان يتكلم عن «خدمة الموت» وهذه باعتبارها منقوشة «في حجارة» هي الناموس وليست شيئاً آخر. وهذا ما يقارنه مع «العهد الجديد» أو الإنجيل باعتباره «خدمة البر» و«خدمة الروح». إن الناموس (الحرف) يقتل. لقد كان الهدف من الناموس، بإعلانه لما يطلبه الله من الإنسان، أن يعطي للإنسان حكم الموت في نفسه. وفي هذا يقول الرسول «لما جاءت الوصية عاشت الخطية فمت أنا» (رو 9:7) أما الإنجيل فمهمته «خدمة البر» أي أنه يقدم البر، لا أن يطالب به، وهكذا كان الإنجيل حياة للنفوس وليس موتاً. ففي الواحد نجد «الحرف» (مجرد الوصية) يقتل» بينما في الآخر نجد قوة الروح عاملة، معطية حياة. وبولس كان خادم «العهد الجديد» وليس العهد العتيق - «لا الحرف بل الروح».

ولكن المعارضين يستعملون عادة كلمات معزولة - يستخدمونها بعيداً عن قرينتها لتثبيت مبادئ لا تمت إليها بأية صلة. وبذلك يضعون الأقوال التي علَّم بها الروح القدس موضع التعارض مع الروح القدس الذي علَّم بها. وبدلاً من التمسك بالنص الموحى به يأتوننا بنوع من الإرشاد الوهمي الذي ينكر على المكتوب دقته الحرفية.

أما نحن فقد تعلمنا أن سبيلنا إلى التمييز بين «روح الحق وروح الضلال» إنما هو مدى ما نحققه في حياتنا الروحية من كوننا "سامعين" أو "غير سامعين" لرجال الله الذين أعطاهم الوحي ليوصلوه إلينا (1يو 6:4). لقد تعلمنا من مسلك البيريين الأشراف أن «نفحص الكتب كل يوم» لنعرف هل هذه الأمور هكذا. كما تعلمنا من رسول الأمم العظيم أن ذات «الكلمات» التي أعطانا إياها هي من تعليم الروح القدس.

وليس هذا هو رأيهم في المكتوب فقط بل من آراء ذلك الكاتب نفسه، أنه بجانب الكتاب المقدس هناك كتب مقدسة كثيرة Bibles مثل التاريخ، والضمير، والطبيعة، والاختبار، وكلها غير معصومة وكأن الناس هم وحدهم المفسرون المعصومون لهذه المقدسة غير المعصومة! فالتاريخ، في رأيه، واحد من هذه الكتب المقدسة، وإن كان الكاتب لا يقول لنا أين وكيف كُتب التاريخ الذي يقصده، والتاريخ كما نعلم يفيض بالأحداث المتضاربة والتيارات المتلاطمة التي لا تستقر على حال. والضمير، هو كتاب آخر حتى وإن كان يعلم الناس أن ينحنوا أمام الخشب أو الحجر أو الثعابين والتماسيح. والضمير، الذي جعل شاول يقتل قديسي الله ظاناً أنه يقدم له خدمة. والطبيعة، هي أيضاً في اعتقاده كتاب مقدس حتى وإن كان مفسروها من أمثال "هكسلي" أو "دارون". والاختبار الذي أثبت لليهود في أيام إرميا أنهم حينما كانوا يبخرون لملكة السماوات «شبعوا خبزاً وكانوا بخير ولم يروا شراً». هذه جميعها في اعتقادهم كتب مقدسة يجلس عقل الإنسان للحكم على منطوقها الناقص المتناقض ليقرر ماذا يقبل منها وماذا يرفض! وكلمة الله المباركة في رأيهم يجب أن تتخذ مكانها بين هاتيك الكتب، وعلى الإنسان أن يقرر أياً من منطوقها نقبل وأياً نترك!!

وإنه لمن العجيب حقاً أن نسمع من أفواه أولئك الذين يعترفون بمثل هذه الثقة في «إنارة روح المسيح» أن روح الحق قد علم الخطأ أو على الأقل استخدم وسائل ضعيفة وناقصة في توصيل الحق حتى أنه لم يستطع منع اختلاطها بالخطأ. إننا نرفض مثل هذا التعليم التجديفي رفضاً باتاً. إننا نؤمن، على أساس سلطان المكتوب نفسه، أن «كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً، متأهباً لكل عملاً صالح» (2تي 16:3، 17). إننا نؤمن بإعلان إلهي حقيقي معطى لنا من إله حق لا يستطيع أن يكذب - إله لا يعطينا حجراً بدل الخبز، ولا يضع الظلمة بدل النور، أو النور بدل الظلمة. إننا نستطيع بروح الطاعة أن «نفحص» هذه الكتب، شاعرين بضعفنا وجهلنا، ولكن واثقين بإخلاص في إلهنا الذي يؤكد لنا أنه «إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم، هل هو من الله» (يو 17:7).

إن المشاهد التصويرية في الكتاب المقدس للأمور الأبدية هي التي نجد فيها بطبيعة الحال أروع وأدق صور الدينونة الأبدية، وهذه بالذات هي الفصول التي يصعب إلى آخر حد مصالحتها مع النظريات المختلفة التي ينادي بها المضللون. وسفر الرؤيا على وجه الخصوص - ذلك السفر النبوي الذي يستعرض أمامنا مشاهد الأمور الآتية - هو معضلة المعترضين ومصدر متاعبهم بصفة خاصة، فإن الطابع المجازي الذي لهذه الرؤى هو حجتهم لرفض كل ما لا يستطيعون فهمه أو تفسيره. والرأي عندهم أن التمسك بسلطان مثل هذه النصوص إنما هو توكيد لذلك "الفهم الاستبدادي الواقعي لاستعارات ومجازات غامضة"، الأمر الذي يحتج عليه كاتبهم الكبير. ومع ذلك فإن سِفر الرؤيا - شأنه شأن القليل من أسفار الوحي - له عنوانه الموحى به، وهذا العنوان هو «إعلان يسوع المسيح». وكأني بشكاوى الغموض وعدم الوضوح سبقت فوصلت إلى المسامع الإلهية من أعماق المستقبل الذي لم يكن قد ولد بعد فاحتاط لها وهيأ الجواب عليها بالتوكيد أن السِفر هو إعلان، أي بيان حقيقي لأمور آتية «ما لا بد أن يكون». وإني أدعوهم للتأمل في هذه النقطة بالذات وهي أنهم بالأسف يجدون أكبر صعوبتهم في السِفر الذي يدعون المسيح بأنه «إعلانه».

إن الطابع المجازي لا يمكن إنكاره ولكنه الأسلوب الوحيد الذي نجده حينما كان الغرض وصف أمور أبدية. وهذا أمر طبيعي إذ لا يوجد في الواقع طريقة أخرى يمكن بها تصوير هذه الأمور أمامنا نحن البشر سوى طريقة المجاز والاستعارة من الأشياء التي تحيط بنا. ونحن نثق أن ذاك الذي يكلمنا بهذه المجازات والاستعارات لم يقصد أبداً أن يحدثنا بأصعب الطرق وأكثرها غموضاً بل يستخدم الكتاب طريق المجاز ليصور لنا ما يستحيل على أي إنسان بدون هذه الطريقة أن ينطق به (2كو 4:12).

غير أنه وإن كانت الشكوى قديماً من الأنبياء أنهم كانوا يتكلمون بأمثال (حز 49:20) فإنه كان المنتظر من التلاميذ على الأقل أن يفهموا هذه الأمثال. لقد سأل الرب مرة الاثنى عشر قائلاً «أمَا تعلمون هذا المثل؟ فكيف تعرفون جميع الأمثال؟» (مر 13:4) لا شك أنه من المخزي لنا أن نشبه أولئك الذين قيل عنهم «مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يفهمون». إن الرب لا يخادعنا فهو لا يدعونا أن نرى ما يمنعنا من رؤيته أو فهمه.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.