قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

13

اعتراضات من العهد القديم

نتقدم للتأمل في الاعتراضات التي يثيرها المعترضون ضد الآراء التي سبق ابداؤها وهي اعتراضات مؤسسة على ما يزعمونه تعليماً واضحاً مستمداً من فصول كثيرة في الكتاب. وهنا ملاحظة يجدر بنا توجيه الالتفات إليها في مستهل هذا التأمل وهي أن هذه الاعتراضات جميعها، ما عدا استثناءات قليلة وبسيطة، موجودة كلها في العهد القديم، وبصفة خاصة في ثلاثة أسفار متجاورة (وفي الحقيقة متحدة في نواح كثيرة) وهي أسفار أيوب والمزامير والجامعة.

ومع ذلك فهناك قصة تتحدث بها هذه الاقتباسات التي يسوقها المعترضون من العهد القديم وهي قصة نجد مغزاها في 2تيموثاوس 10:1 حيث يخبرنا الرسول أن المسيح «أبطل الموت وأنار (لنا) الحياة والخلود بواسطة الإنجيل». وهذا معناه أن المعترضين على الحقائق التي أوردناها من الكتاب يتلمسون النور لأنفسهم من بين ظلال تدبير فيه كانت الظلمة نسبياً لا زالت تخيم على هذا الموضوع بالذات - موضوع الموت ومصير الإنسان بعد القبر. فهم ينظرون إلى الموت كما كان قبل أن يبطله المسيح للمؤمن. وهم ينظرون إلى الحياة والخلود قبل أن ينيرهما المسيح بواسطة الإنجيل، فلا عجب إن كانوا يتعثرون في الظلمة التي اختاروها لأنفسهم.

ولكن إبطال الموت مقترن بلا شك بإنارة الحياة والخلود بواسطة الإنجيل. ومن الواضح أن تكون أقوال العهد القديم متمشية مع هذا الحق على نوع ما. فإذا كانت «الحياة» قد أنيرت فعلاً بواسطة الإنجيل وليس بغيره - فكيف كان يمكن أن يكون الموت معروفاً معرفة كاملة في العهد القديم؟ خذ بولس وأيوب مثلاً، كما أشرت سابقاً، وقارن بين أقوالهما فيما يتعلق بالموت. أليس هناك فرق؟ ألم يشرق نور لبولس أضاء له جوانب القضية كلها بينما كان أيوب يتلمس طريقه وسط دياجير من الظلمة محاولاً فك طلاسمها وفتح مغاليقها؟ نعم كان هناك فرق واضح.

فصل آخر يزيدنا إيضاحاً بشأن ذلك التدبير القديم نجده في عبرانيين 8:9 حيث يخبرنا الوحي الإلهي أن الحجاب كان فيه قائماً «معلناً الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يظهر بعد، ما دام المسكن الأول له إقامة». ذلك هو عنوان العهد القديم وطابعه. أما أن إبراهيم وقديسين آخرين ذهبوا إلى السماء بعد الموت فهذا لا يتضمن أن الطريق إلى هناك كان معلناً في العهد القديم - أعني أنه لم يكن معلناً للناس قبل أن يموتوا. كذلك كلمات الرب في يوحنا 13:3 «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» لا تتضمن إطلاقاً أن أخنوخ وإيليا لم "يصعدا إلى السماء" فقد صعدا فعلاً، وإنما الرب يتكلم كما تدل القرينة بكل وضوح عن شهود حاليين للأمور السماوية أو «السماويات». فلم يكن الموضوع أخنوخ وإيليا اللذين لم يكونا هناك (على الأرض) ليشهدا بما قد يعرفانه، ولا حالة الأموات الراحلين الذين لا دخل لهم بموضوع الحديث إطلاقاً وإنما غاية الكلام هي عدم وجود أي شاهد آخر سماوي يمكن الاتصال به سوى شخصه الكريم المبارك، ابن الإنسان، الذي هو «في السماء» حالة كونه على الأرض. «إن قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟ وليس أحد (بداهة ليس أحد هنا ليعطي شهادة) صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء». فكل من يجعل هذه الأقوال تتعارض مع حقيقة صعود أخنوخ وإيليا إلى السماء فإنما يحاول تحميل الكلمات أكثر مما تحتمل، وكذلك من يحاول أن يستنبط منها شيئاً عن حالة الأبرار الراحلين.

فالفصل الذي أشرنا إليه في رسالة العبرانيين لا يعنى إطلاقاً أن مؤمني العهد القديم لم يذهبوا إلى السماء بعد الموت وإنما يعني أنه لم يكن هناك إعلان بعد ذهابهم إلى السماء ولم يكن هناك وعد بذلك للناس الأحياء. إن الفصل يعني بكل بساطة أن تدبير العهد القديم كان يتناول المواعيد الأرضية وليس المواعيد السماوية. فإذا كان إيمان شخص مثل أيوب قد حمله إلى يوم آت بعيد فيه سيرى بعينيه وليّه (فاديه) الذي كان يعلم أنه حي فذلك لأن أيوب كان يتطلع إلى قيامته أو وقوفه له المجد على الأرض في اليوم الأخير كما يقول «أما أنا فقد علمت أن وليِّي حي، والآخر على الأرض يقوم، وبعد أن يُفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله» (أي 25:19). فإذا كانت الهاوية، أرض الظلام، تتوسط بين الحالتين، فهي يقيناً في عرفه ليست السماء.

ذلك إذن كان رجاء العهد القديم (مثل رجاء أيوب) فقد كان النور ضئيلاً خارجاً عن المشهد الحاضر «ظل» الموت المظلم يكاد لا يمكن اختراقه. أما القيامة والعودة إلى مشهد من البركة الأرضية فكان هو الشيء الأكيد الواضح. كانت هناك ولا شك إشارات متفرقة إلى أشياء أخرى. فأخنوخ مثلاً ذهب قديماً إلى الله ولم الموت. وإيليا في يوم تال مضى إلى السماء حياً - أشعة قليلة من النور لمعت هنا وهناك. ولكن ذلك لم يكن إعلان السماويات ولا إعلان ما للمؤمنين من نصيب هناك. ولا إبطال الموت وإنارة الحياة والخلود.

ومع ذلك فلم يكن رجال العهد القديم فنائيين كما يدل على ذلك تعليم الفريسيين الذي كان الشعب يتبعه. لقد عرفوا شيئاً، ومع كل ما كان يحيط بهم من ظلمة كانوا أحكم من أولئك الذين تحولوا الآن من النور الذي سطع إلى الظلمة القديمة.

بل إن بدعة استحضار الأرواح نفسها تشهد بهذا. إنها بدعة وثنية لا شك ولكن ممارستها تعتبر شهادة للعقيدة التي تستمد كيانها منها، وإن إصعاد صموئيل في العهد القديم (1صم 28) لدليل قاطع على تلك العقيدة التي لا تنفع في زعزعتها مماحكات المستهترين.

صحيح أن روح قديس راحل لم تكن ولا يمكن أن تكون تحت رحمة امرأة عرّافة أو ساحرة تستحضرها متى شاءت. ولكن الذي حصل فعلاً كما يُفهم واضحاً من القصة أن المرأة لم تستحضر روح صموئيل بل أنه هو الذي حضر على غير انتظار منها بدليل أنها ارتاعت وصرخت بصوت عظيم عندما رأته. إن لغة القصة جلية واضحة لكل من يؤمن بوحي كتاب الله الكامل وهي أن المرأة رأت صموئيل وأن صموئيل تكلم إلى شاول. كذلك ليس هناك صعوبة في أن شاول نفسه لم يرَ روح صموئيل بقدر ما لا توجد صعوبة في أن خادم أليشع لم يرَ الخيل والمركبات التي كانت حول دوثان (2مل 17:6). أما قول صموئيل «وغداً أنت وبنوك تكونون معي» فلا يعني إلا الوجود في حالة الموت أو في الهاوية (حالة انفصال الجسد عن الروح) وما أطلت الكلام في هذه النقطة إلا لأبين أن الأمر لم يكن كله ظلاماً - حتى في العهد القديم - فيما يتعلق بالخلود.

والآن نتجه إلى أسفار أيوب والمزامير والجامعة التي منها يستمد الفنائيون معظم نصوصهم لتدعيم تعليمهم.

إن هذه الأسفار الثلاثة تنتمي إلى قسم من العهد القديم له طابعه المتميز جداً عن باقي أقسامه الأخرى. فبينما الأسفار التاريخية هي في جملتها لغة المؤرخ الإلهي، وبينما أسفار الأنبياء تعطينا أقوال الرب نفسه موجهة إلى الشعب عن طريق النبي، فإننا في ذلك القسم من الكتاب الذي يحتوي على: أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد، نسمع أكثر ما نسمع صوت الإنسان. ولست أقصد بهذا بطبيعة الحال أن هذه الأسفار أقل وحياً من الأسفار الأخرى ذرة واحدة. حاشا وكلا. إنني لا أشك إطلاقاً أنها جميعاً بتوجيه الروح القدس نفسه حتى أننا لا نجد فيها إلا كل ما هو مفيد ولازم. ومع ذلك، فإننا إذا وجدنا - كما نجد فعلاً في سفر أيوب - الشيطان نفسه متكلماً، فإننا لا نستخدم أقواله باعتبارها معبرة عن الحق الإلهي وإنما هي مُسجَّلة لنا بكل عناية لغرض إلهي. ولكننا عندما نسمعه يقول «ابسط يدك الآن ومس كل ما له، فإنه في وجهك يجدّف عليك» (أي 11:1) فإننا لا نأخذ أقواله هذه كما لو كانت «هكذا قال الرب». إنها أقوال الشيطان ولو أنها مدونة في الكتاب. وكذلك عندما يقول الرب لأصحاب أيوب «إنكم لم تقولوا فيّ الصواب كعبدي أيوب» فواضح أننا لا نستطيع أن نعتبر كل أقوالهم معبرة عن الحق الإلهي. بل عندما نأتي إلى أقوال أيوب نفسه، رغم الاستحسان السابق ذكره، نجد أنه هو أيضاً في أقواله حسب نفسه «أبر من الله» (2:32) حتى أننا لا نستطيع أن نستشهد بأقواله بدون تحفظ.

ولقد لاحظت فيما سبق شيئاً مماثلاً لهذا فيما يتعلق بسفر الجامعة، ذلك السفر الذي يعطينا اختبارات شخص لم يترك حجراً على حجر في العالم إلا وقلبه سعياً وراء السعادة بغير طائل، كما يعطينا الأشياء التي «قالها في قلبه» وهو يقوم بهذا البحث الباطل المتعب. ونحن نعلم ماذا كان تاريخ سليمان رغم حكمته وماذا كان حكمه الختامي هو نفسه تحت إرشاد روح الله على مساعيه كلها عندما أصبح أخيراً «الجامعة» (أو الواعظ) الكارز والمُنادِي ببُطل الحياة التي عرفها واختبرها أكثر من سواه. فهل يصدق مع ذلك أن «أقواله» المعبرة عن خواطره والتي خطها هو بنفسه في كلمة الله لتعليمنا على حساب اختباره، قد اتخذها الفنائيون باعتبارها أقوال الحق الإلهي لكي يقرروا على أساسها أن الناس «بهائم» وأن الإنسان لا فرق بينه وبين البهيم؟!

أما سفر المزامير فله في الواقع طابع آخر. طابع في جملته نبوي، ومن ناحية معينة نبوي إلى أقصى حد، ولكن نبواته لها خاصية تنفرد بها بين النبوات وتجعله يشبه الأسفار التي نحن بصددها وهي أنها تعبيرات عن أفكار وعواطف بشرية تصبح تحت إرشاد وتوجيه الروح القدس ظلالاً سابقة ليوم آخر ومشهد آخر. فمن قبيل ذلك يجلس داود متأملاً في آلامه الشخصية إلى أن تجد أفكاره متنفساً لها في كلمات لها معنى أعمق، بتوجيه الوحي، مما يستنفده أي تطبيق على داود - أقوال نبوية لمتألم آخر أعظم من داود. ولكن ذلك يختلف عن الإعلان المباشر. إنه يترك المتكلم ينطق بأشياء كما يراها من وجهة نظره هو حتى وهو يعطيها هذا المعنى الأعمق الأبعد.

نجد الإنسان في هذه الأسفار يعبر عن مشكلات عويصة تتعلق بالعالم وبنفسه - متفكراً فيها بكيفية قد تضله الطريق - مشكلات لا توجد الإجابة الكاملة عليها إلا في حضرة الله. وهكذا يُسمح لصوت الإنسان أن يعبر عن نفسه - عن مشاكله وشكوكه واعتراضاته وحججه - أمام واحد يهمه الأمر جداً ولكنه يتنازل ليأخذ مركز السامع المصغي ولا يصدر حكمه في القضية قبل استماع تفاصيلها ووجهة نظر الدفاع فيها. أليس مما يليق بالله أن يصنع هذا؟ في اعتقادي أن هذا من أعظم الأمور عمقاً وأجلها قيمة ومعنى.

وهذا ينطبق طبعاً على سفري أيوب والجامعة بصفة خاصة كما ينطبق على المزامير بدرجة أقل. وهنا يعترض المعترض بالقول إن اقتباس أيوب 13:5 مع سبق "إشارات" أخرى إلى هذا السفر في العهد الجديد يبرهن على أن سفر أيوب بجملته هو صوت الله. ولكن دعنا ننظر إلى هذه الإشارات الأخيرة، وهي على حسب فكرهم كالآتي:

أيوب

21:1

21:1

1:42 - 7

14:12

19:34

11:41

العهد الجديد

1تي 7:6

رؤ 7:3

رو 11:2

أف 9:6

كو 25:3

رو 35:11

النص

«لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء (؟)

«الذي يفتح ولا أحد يغلق ويغلق ولا أحد يفتح» (؟

«الذي يفتح ولا أحد يغلق ويغلق ولا أحد يفتح» (؟)

«لأن ليس عند الله محاباة»

«سيدكم أنتم أيضا في السماوات وليس عنده محاباة»

«وأما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة»

«أو من سبق فأعطاه فيكافأ»

من هذه الإشارات نجد واحدة منها وهي يعقوب 11:5 تتكلم عن مجرد صبر أيوب وعاقبة الرب. أما 1 تيموثاوس 7:6 ، رؤيا 7:3 فمن المشكوك فيه جداً أنهما تشيران إلى سفر أيوب إطلاقاً. في حين أن رومية 35:11 تشير إلى جواب الله على أيوب وليس من أحد يشك بطبيعة الحال في أنها صوت الله، بينما الفصول الثلاثة في رومية 11:2؛ أفسس 9:6؛ كولوسي 25:3 قد تشير إلى ما يقوله أليهو عن عدم محاباة الله للوجوه، ولكنها مجرد تعبير عن حق بسيط عام يكاد لا يسمح باعتبارها إشارات إلى أيوب على الإطلاق. يضاف إلى هذا أن أليهو ليس واحداً من الأصحاب الثلاثة الذين يدمغ الرب أقوالهم بالبُطل ولكنه شخص يستخدمه الرب للجواب على أيوب بعد أن صمتوا جميعاًُ (الأصحاب وأيوب) عن الكلام.

بقي إذن أن في العهد الجديد كله إشارة واحدة وهي ليست مؤكدة إلى أقوال أيوب نفسه (1تي 7:6) إلى جانب ذلك الاقتباس الواحد من أقوال أليفاز في 1كورنثوس 19:3 «الآخذ الحكماء بمكرهم ..». والذي رأيناه أن كلمات الله نفسه تفرِّق تفريقاً واضحاً بين أيوب وأصحابه الثلاثة فتخبرنا أن أيوب قد قال عنه الصواب، أما هم فلم يقولوا ذلك، كما تخبرنا أنهم جميعاً بما فيهم أيوب قد أخطأوا في تفسير معاملات الله. ولذلك يصبح أليهو أولاً المتكلم بالنيابة عن الله وبعد ذلك يتكلـم الله نفسـه. ولكـن أيوب قد تكلم الصواب عن الله. أمـا أصحابـه فلم يفعلوا ذلك.

ومع هذا فإن أليفاز استطاع أن يقول أشياء كثيرة صائبة، ولا شك أنه تعلم ذلك الصواب من الله وكان ينطق به كمن تلقاه منه تعالى. والروح القدس يعطينا أحد هذه الأقوال على فم بولس. ولكن هـذا لا يعتبر شهـادة للأقـوال الأخـرى التي نطـق بها أليفاز نفسـه ولم تكن صوابـاً.

أما سفر الجامعة فلا شيء فيه مطلقاً يمكن تأويله للتدليل على أنه صوت الله. هذا كما قلنا ليس معناه أن السفر ليس موحى به. إن كل كلمة فيه من وحي الله ولا شك، ولكن هذا ليس موضوع الكلام كما سبق وأوضحنا.

وكذلك سفر المزامير. إنه سفر إلهي بكل يقين. لكن بينما المزامير موحى بها وحياً كاملاً إلا أنها، كالأسفار التي أشرنا إليها، فيها تعبير عن وجهة نظر إنسان في الأرض، أفقه أرضي، وبالتالي أفكاره أرضية. ومع التسليم الكلي بوجود الجوهر الإلهي في العنصر الإنساني في كل مكان في المزامير، إلا أن كل أنشودة فيه هي أنشودة إنسان وكل حزن هو حزن إنسان، مع بعض استثناءات من أقوال الله المباشرة.

وكذلك سفر الأمثال. إنه يتناول أموراً بشرية بكل وضوح رغم ما له من سلطان إلهي كامل لا شك فيه.

*

وإذا اتجهنا إلى أيوب نجد التعبيرات التي يعبر بها عن مشاعره التالية: أنه لو مات من الرحم لكان حينئذاك مضطجعاً ساكناً، نائماً مستريحاً، كسقط مطمور، هناك حيث يكف المنافقون عن الشغب، وحيث يستريح المتعبون (13:3 - 17). كان يصبح وكأنه لم يكن، في أرض الظلام وظل الموت.

والآن، كما قلت، لست أعتزم أن أبرهن على انسجام جميع أقوال أيوب مع إعلانات الكتاب فيما يتعلق بالحالة المتوسطة بين الموت والقيامة. فهي معطاة لنا باعتبارها أقوال أيوب، لا شيء أكثر من ذلك. وباعتبارها أقوال قديس من قديسي تلك الأيام الخوالي فإنها تدل على مدى الغموض وعدم اليقين الذي كان سائداً وقتئذ. وبمقارنتها مع أقوال بولس نجدها ترينا أن الموت لم يكن قد أُبطل بعد وأن "الظلام" لم يكن قد بدده النور بعد. ومع ذلك فإنها أقوال لا يمكن أن تسعف الفنائيين ولا يمكن أن تخدم نظريتهم الباطلة.

فالواقع أن أقوال أيوب غير متناقضة إطلاقاً مع ما رأيناه في أماكن أخرى من الحق المُعلن بشأن أرواح الراحلين. فلا شك أن لواحد في مثل تعبه وبليته كان العالم غير المنظور مكاناً "للراحة" ولكن هل "الراحة" فناء؟ وإذا كان العالم غير المنظور «أرض ظلام» أيضاً، فالظلام والفناء فكران متناقضان بكل يقين. هذه هي أقوال أيوب، ولم يبق على أصحاب نظرية الفناء إلا أن يسقطوها من حسابهم فإنها لا تغنيهم شيئاً.

*

والآن نوجه التفاتنا إلى سفر الجامعة. وهنا نجد أن كل ما يثيره الفنائيون قد سبقت الإجابة عليه ما عدا فصلاً واحداً. وهذا الفصل هو الوارد في أصحاح 5:9،6 «لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون، أما الموتى فلا يعلمون شيئاً، وليس لهم أجر بعد لأن ذكرهم نُسِيَ. ومحبتهم وبغضتهم وحسدهم هلكت منذ زمان، ولا نصيب لهم بعد إلى الأبد، في كل ما عُمل تحت الشمس» ثم في عدد 10 «كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك، لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها».

هذا مثل واضح للغاية على أسلوب الكلام الذي أشرنا إليه، أسلوب النظر إلى الأمور من زاوية بشرية محض، فإن وجهة نظر الكاتب في هذا المَثل واضحة إلى أقصى حد. وفي الواقع لم يكن بمقدوره وقت ترديده لهذه الأفكار أن تكون له أفكار غيرها. فهو فيما يتعلق بالأموات «لم يعلم شيئاً» فعلاً لأنه لم يكن يعلم إذا كانت روح الإنسان تصعد إلى فوق أم لا. ولذلك فلم يكن في مقدوره إلا النظر إلى الأمور من زاويته كإنسان في العالم، وإلا لما استطاع أن يقول «وليس لهم أجر بعد» لأن ذلك لو أخذناه على إطلاقه لكان معناه إنكار القيامة وحياة الدهر الآتي، ولكن الجامعة كان يتطلع إلى المشهد حوله - المشهد الذي خرج منه الناس دون أن يتركوا وراءهم أية علامة تدل على وجودهم - حيث أصبح ذكرهم نَسياً منسياً، وحيث محبتهم وبغضهم وحسدهم، الأمور التي جعلت منهم مرة مُمثلِين بارزين في المشهد، قد تلاشت كلها واندثرت. وفي علاقتهم بالمشهد الحاضر لا يعلمون شيئاً لأن حكمتهم ومعرفتهم قد رحلت أيضاً. هذا ليس معناه أنهم «فقدوا ذاكرتهم» أو أنهم صاروا أغبياء، ولكنهم لا يعلمون شيئاً عن الأمور الحادثة بعد رحيلهم ولا يمكن لحكمتهم أو معرفتهم أن تظهرا في العالم مرة ثانية والجملة الختامية في عدد 10 تبين بوضوح المعنى الذي ينصرف إليه الجزء الأول من النص «ولا نصيب بعد إلى الأبد في كل ما عمل تحت الشمس».

ولذلك كان الدرس والمغزى: اعمل وانشط الآن. فلا عمل في القبر أو الهاوية. والحكمة اللازمة لهذا المشهد الناشط لا وجود لها هناك. ذلك كله حق من ناحيته الخاصة، ولكنه جميعه وليد تأملات الإنسان وليس إعلاناً إلهياً عن حالة الأموات ولم يُعطَ لنا في الكتاب بهذه الصفة. ولو أنك سألت هذا الإنسان ماذا يعرف عما وراء القبر لأجابك، كما أجاب فعلاً، مَن يعلم؟ «مَن يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق؟». إنه كان يرى التراب ملقى في القبر، وكان ذلك كل ما يعلم أما ما عدا ذلك فتخمين، ولا شيء أكثر من التخمين.

ولكن ذلك كان جزءاً من أقوال الجامعة وتأملات قلبه وهو يبحث باطلاً «للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عُمل تحت السماوات» (13:1) ولكن سرعان ما جاء الوقت الذي أدرك فيه عدم قدرته على تحقيق هذا الهدف، كما عبر عنه ذلك أخيراً باعترافه المتواضع، إذ قال: «كما أنك لست تعلم طريق الريح (أو الروح)، ولا كيف العظام في بطن الحُبلى، كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع» (5:11).

اعتراف بسيط ولكنه في غاية الأهمية، ذلك لأنه على الجانب المظلم من هذا الاعتراف تقوم جميع الفصول التي يستند عليها الفنائيون في حججهم الواهية. بينما على الجانب الآخر توجد جملة واحدة على الأقل مُحمَّلة بالمعاني ويجدر بنا إنصافاً لـ «جامعة» العهد القديم (أو واعظه) أن نتأملها بشيء من العناية أكثر مما فعلنا.

يقول الجامعة: «فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» (7:12). إن الناس كما رأينا يحاولون أن يفسروا «الروح» هنا بأنها مجرد "النَفَس" كما يقولون هكذا عن الروح التي استودعها الرب على الصليب في يديَّ الآب والتي استودعها استفانوس في يديَّ الرب نفسه. إن العقول البسيطة لا يمكنها أن ترى أي معنى في رجوع النَفَس إلى الله، بينما إذا كان المقصود هو الروح، كما هو المقصود حقاً، فإن هذه العبارة تصبح على أعظم جانب من الأهمية. إنها ترفع الستار عن حياة «البُطل» وتترجمها إلى معناها الحقيقي. وهي الجواب على تساؤل الأصحاح السابق المتشكك. فإذ قد وصل المتسائل إلى نهاية الحكمة البشرية في الموضوع يجد هنا «طريق الروح» معلناً. إنها «ترجع إلى الله الذي أعطاها» وهكذا يتحقق الانسجام الكامل مع تلك النتيجة «ختام الأمر كله» التي تدعونا عبارات السفر الأخير لكي «نسمعها» ألا وهي «اتق الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله. لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة، على كل خفيِّ، إن كان خيراً أو شراً» (جا 13:12،14).

فإذا كان ذلك هو ختام الأمر كله، فهل من المعقول أن تكون نهاية الأمر الذي استمد منه هذه الخاتمة الجليلة ليست إلا حفرة القبر المظلمة الصامتة؟ ألا يدل ذلك بالعكس على أن رجوع التراب إلى الأرض «كما كان» ما هو إلا وسيلة لرجوع الروح إلى حضرة الله الذي أعطاها؟ ليس كما كانت - لاحظ هذا جيداً - بل بالصفة التي اكتسبتها في خيمتها الأرضية أو مسكنها الأرضي.

ومع أن كل عمل لا يأتي إلى دينونة قبل القيامة إلا أننا عندما «نفنى» يحدث شيء من اثنين: إما أننا «نُقبل في المظال الأبدية» أو نذهب إلى «السجن» حيث تواجه النفس النُذر الدالة مقدماً على مصيرها الأبدي كالرجل الغني في الهاوية. أما الجامعة فلا كلام عنده عن القيامة. الموت هو طابع البُطل على كل شيء، وهو موضوع السفر، ولكن الشيء الذي يحار فيه كل الناس وتقف حكمتهم عنده مكتوفة اليدين يعلنه الإيمان على حقيقته وهو دعوة الروح للرجوع إلى حضرة خالقها، الأمر الذي بدونه تصبح صفراً لا قيمة له في حين أنها به تصبح قيمتها لا حد لها.

*

والآن نتأمل قليلاً في شهادة المزامير.

إن بعضاً من الفصول التي تتصل بموضوعنا أكتفي بمجرد اقتباسها. فمن هذا القبيل «الإنسان أشبه نفخة. أيامه مثل ظل عابر» (مز 4:144) «الإنسان مثل العشب أيامه» (مز 15:103) إن أقوالاً كهذه من التي تصف قصر حياة الإنسان على الأرض ليست جديدة أو غير معروفة لدى المؤمنين بخلود النفس، وإنه لأمر خطير وغير طبيعي في الواقع أن تكون مخلوقات الله هكذا موضوعة «للبُطل» إذا غضضنا النظر عما يحدث لها بعد الموت. إنه ولا شك موضوع خطير يستحق التفكير والتأمل. فالنقطة الرئيسية في الموضوع هي ذلك الخراب والدمار الذي حل بالخليقة الأولى بدخول الموت. هذا ما يعطي لقصر تاريخ الإنسان الأرضي خطورته القصوى.

والفصول الأخرى تكاد لا تختلف في مغزاها عن تلك التي اقتبسناها. فهي تتكلم عن الإنسان باعتباره مرتبطاً بالعالم الذي هو عابر فيه. فالقول «أسبح الرب في حياتي، وأرنم لإلهي ما دمت موجوداً» (مز 2:146) والقول «قبل أن أذهب فلا أوجد» (مز 13:39) لا يختلفان في معناهما ولا حتى في مبناهما عن العبارة التي قيلت عن شخص نُقل حتى لا يرى الموت، حيث قيل عن أخنوخ إنه «لم يوجد» (تك 24:5) ومع ذلك فإنه حتى الفنائيون أنفسهم لم يعلّموا بعد بأن أخنوخ قد تلاشى من الوجود حرفياً، الأمر الذي كان يجب أن يصرّحوا به لكي يكونوا منسجمين مع أنفسهم.

كذلك خذ مزمور 3:146،4 «لا تتكلوا على الرؤساء، ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده. تخرج روحه فيعود إلى ترابه. في ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره» أليس من الواضح هنا كما تدل القرينة أن «أفكاره» التي تهلك إنما هي الخطط والمقاصد التي تعلقت بها آمال مَن كان يرجـو الإفـادة من إتمامها وإذا بالمـوت يخطـف صاحبـها فجـأة فيضـع حـداً لهـا جميعاً؟

كذلك هناك طائفة من الفصول مختلفة عن هذه بعض الشيء. مثال ذلك مزمور 5:6 «لأنه ليس في الموت ذكرك. في الهاوية (القبر) من يحمدك؟» وكذلك مزمور 17:115 «ليس الأموات يسبحون الرب، ولا مَن ينحدر إلى أرض السكوت» أو ذلك الفصل في إشعياء 18:38، 19 «لأن الهاوية (القبر) لا تحمدك. الموت لا يسبحك. لا يرجو الهابطون إلى الجب أمانتك. الحي الحي هو يحمدك كما أنا اليوم. الأب يُعرِّف البنين حقك».

هذا الفصل قد يتطلب منا شيئاً أعمق من التأمل، وذلك لأننا لم نتعود على التطلع إلى هذه الأمور من الزاوية التي كان يتطلع إليها الإسرائيلي التقي، الذي كان يرنو إلى اليوم الألفي كما سبقت الإشارة - اليوم الذي سيملك فيه البر، وتمتلئ الأرض بمعرفة الرب كما تغطي المياه البخر - يوم «جماعة الأبرار» التي لا يقوم فيها الخطاة أو الأشرار (مز 1) - ذلك ما كان يتوقعه إيمان الأتقياء في ذلك العهد وهو ما يتوقعه إيماننا أيضاً مع الفارق أن إيمانهم كاد يكون قاصراً على هذا الحد، لأن معرفتهم بالأمور السماوية كانت غامضة جداً. ذلك كان الأفق المجيد الذي يمتد إليه بصر إيمانهم. وهو الذي منه وبسببه تصاعدت من أفواههم وقلوبهم تسبيحات «الهللويا» التي تبدأ وتنتهي بها الخمسة المزامير الأخيرة انتظاراً وتوقعاً نبوياً لذلك المشهد الأرضي البهيج السعيد. ذلك كان مطمع كل إسرائيلي تقي في تلك الأيام. إن تسبيح الرب وحمده على الأرض، وتربية الأبناء لخدمة مقادسه، والصعود إلى ذلك الهيكل حيث كان مجد الرب يسكن بصورة مرئية - ذلك كله كان مقترناً عنده بكل فكرة تتعلق بحمد الرب. وإنك لترى ذلك جلياً في ذلك الاقتباس الأخير من إشعياء «الأب يُعرِّف البنين حقك». أما الموت فكان يضع حداً لهذا كله ويوقف كل تسبيح وحمد. «في الهاوية (القبر) مَن يحمدك؟» كلا. الأحياء فقط هم الذين يفعلون ذلك.

أضف إلى هذا أن طول الأيام كان بركة من بركات العهد القديم، وقطع الإنسان في منتصف أيامه، كما جاء التهديد لحزقيا، كان دليلاً على الغضب الإلهي، هذا ما كان يجعل اليهودي التقي يبغي طول العمر ويفزع من سكون القبر. أما مزمور 115 فهو مزمور نبوي يتطلع إلى يوم آتٍ فيه ستتطهر الأرض بدينونة تُلاشى منها الخطاة. وهذا ولا شك ما يُشار إليه في هذا المزمور وأمثاله.

ولكن العهد القديم يحتوي مع ذلك على فصول مليئة باليقين والرجاء، ونكتفي هنا بأن نشير إلى واحد منها «باد الصديق وليس أحد يضع ذلك في قلبه. ورجال الإحسان يُضمُّون، وليس من يفطن بأنه من وجه الشر يُضَم الصديق. يدخل السلام. يستريحون في مضاجعهم. السالك بالاستقامة» (إش 1:57، 2).

إن الذين لا يمكنهم التسليم بأن لغة الكتاب لا معنى لها، والذين لا يضعون المر مكان الحلو أو الظلام مكان النور، لا يمكنهم قطعاً أن يقبلوا أن «السلام» (هنا) و«الراحة» (في أيوب) معناهما الفناء أو العدم! إن قولاً كهذا يكون مرادفاً للقول إن «الموت الثــاني» - الموت الأبدي - هو السلام الأبدي! وهذا قول لا يقوله عاقل.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.