قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

11

الوعـي أو الشعور بعد الموت

(ا)

الآن في موضوع الوعي بعد الموت. ولا شك أن كل برهان على هذا الوعي من جانب النفس هو أيضاً برهان على وجودها. ولكن كثير ممن يسلمون بوجود النفس بعد الموت لا يسلمون بوعيها ويتمسكون بما يسمونه "نوم النفس". الأمر الذي لا أساس له في الكتاب وإن كانوا يزعمون أنهم يستمدون نظريتهم منه.

ولكنك لن تجد في الكتاب شيئاً عن نوم النفس. إن الإنسان ينام حسب تعبير الكتاب، ولكنه دائماً يفعل ذلك بالاقتران مع الجسد، وليس أبداً بالاقتران مع النفس، فنقرأ في متى 52:27 «وقام كثير من أجساد الراقدين»، وكذلك في يوحنا 11:11 «لعازر حبيبنا قد نام. لكنى أذهب لأوقظه» أي بإقامة الجسد. وهكذا رقد استفانوس وحمله رجال أتقياء ودفنوه، أي دفنوا جسده. وكذلك رقد داود وانضم إلى آبائه ورأى فساداً - أي جسده بطبيعة الحال. وأيضاً في 1كورنثوس 39:7 «وإن مات (رقد) رجلها فهي حرة لكي تتزوج بمن تريد في الرب فقط» فالكلام كله هنا عن الجسد ولا صلة له بالنفس أو الروح إطلاقاً. وكذلك في نفس الرسالة أصحاح 30:11 يقول الرسول «وكثيرون يرقدون» باعتبار أنه تأديب واقع على الجسد ولا علاقة له بفرح الوجود مع الرب الذي هو نصيب النفس. ثم في أصحاح 6:15 «ولكن بعضهم قد رقدوا» - أي تواروا من صفوف الشهود. ونفس الأصحاح عدد 18 «إذاً الذين رقدوا في المسيح أيضاً هلكوا» وعدد 20 «ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين» فهنا أيضاً الإشارة إلى قيامة الجسد الذي هو في الواقع موضوع الأصحاح كله.

وهكذا دائماً، وسواء كان الموت تأديباً تنكسر له قلوبنا إذ نتطلع إلى الجسد الهامد الذي انقطعت أنفاسه، أو إذا كان المقصود مجرد وصف تاريخي للحقيقة الخارجية (الموت)، أو إذا كانت القيامة هي بيت القصيد، إذا كان هذا أو ذاك، فهنا نجد العبارة التي تعثر بها المضللون - نجدها بسيطة واضحة جميلة ونن نشخص بأبصارنا إلى الجسد الهامد، الهيكل المادي، ونمسح دموعنا بين الإيمان واليقين قائلين: "سيقوم أخونا".

والواقع أن الأدلة متوفرة للغاية في كلمة الوحي على أن الموت فيما يتعلق بالنفس ليس هو حالة لا شعور أو عدم وعي والفصول الدالة على ذلك معروفة جيداً ولا يعوزها إلا تطهيرها مما علق بها من اعتراضات أثارها المضللون حول معناها البسيط الواضح.

واعتقادات الفريسيين بشأن هذه النقطة مسلَّم بها من الجميع، والقصة المعروفة عن لعازر والغني في لوقا 16 تحظى بكل موافقتهم ولا اعتراض عليها من ناحيتهم غير أنهم يأبون علينا أن نعتقد أنها أي شيء أكثر من قصة متمشية مع خرافات الذين كان الرب يخاطبهم! ولكن مما لا شك فيه أن غرض الرب من القصة هو رفع الحجاب عن العالم الآخر وذلك واضح في علاقتها بباقي الأصحاح. ففي الجزء الأول منه كان الرب يتكلم عن الإنسان باعتباره وكيلاً غير أمين تحت حكم الطرد من وكالته ولكن أموال سيده الإلهي لا زالت في يده. وهنا يحرضهم الرب قائلاً: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية» (ع 9). أما الفريسيون وهم محبون للمال فقد استهزؤا به، لذلك قدّم لهم هذه القصة لكي يريهم أن ما يعتبره الناس شيئاً عظيماً هو مَكرهة في نظر الله. وبيت القصيد في القصة هو هذا «أنك استوفيت خيراتك في حياتك» والآن «أنت تتعذب» ولا تنسب للرجل أية جريمة سوى فشله فيما يتعلق بمال الظلم. فهو لم يقدر أن يخدم الله والمال. لقد خدم المال لا الله. وبينما المسكين الذي أهمله حملته الملائكة من عند بابه إلى حضن إبراهيم، كان هو يتعذّب. أما كيف مسّ هذا السهم قلوب الفريسيين المحبين للمال فمن السهل رؤيته. وإنما المهم في موضوعنا هو أن الحالة الموصوفة هي حالة رجل مُعذَّب بعد موته مباشرة، قبل القيامة والدينونة، وله إخوة لازالوا على الأرض يمكن أن يكرَز لهم.

قد تسمى هذه القصة مَثَلاً فليكن. ولكن المهم كما قلنا هو أن حالات الأموات هي المراد إبرازها. ومن المسلَّم به أن تصويرها هذا مبني على اعتقادات فريسية.

ومن المستغرب مع ذلك كيف تصبح التعبيرات التي استخدمها الرب موضوعاً للمجادلة بحيث يظن البعض أنه ما دامت اللغة استعارية فليس في استطاعتنا استخدامها للتعليم بحقيقة الحالة بعد الموت. أما أن المقصود استخدامها لذلك الغرض فواضح للأسباب الثلاثة الآتية:

أولاً: لأنها موجهة إلى الفريسيين ومؤسسة (كما هو مسلَّم به) على اعتقادهم الذي يتناوله الرب ويتحدث إليهم على أساسه دون كلمة اعتراض.

ثانياً: أن الاستعارات والرموز لا بد من استخدامها في الكلام عن حالة مثل هذه بعيدة كل البعد عن دائرة اختبارنا ولا تمت إلى أي شيء منها بصلة، أي أنه كان لا بد من استعارة كلمات وعبارات وأفكار من الأشياء التي حولنا وتكييفها للتحدث عن هذه الأشياء غير المنظورة.

ثالثاً: لو أن الغرض هو مجرد تبيان الجزاء النهائي بعد القيامة فليس هناك من سبب يمكن تقديمه لعدم تصويره هذا الجزاء مباشرة كما يفعل الكتاب في أماكن أخرى كثيرة بدلاً من تصويره تحت ستار حالة خيالية للموت. ولا شك أنه في هذه الحالة كان التصوير يفقد الكثير من دقته وإتقانه.

إن الرموز ليس من الصعب قراءتها بفهم وإدراك على واحد هو من حيث هذه النقطة التعليمية فريسي. ذلك كان الحال مع بولس الرسول وهو حالنا نحن أيضاً، فإنه بهذه الوسيلة قد نقلت إلينا أفكار ما كان يمكن بغير هذه الطريقة تصويرها لنا تصويراً حياً رائعا. والواقع أن المعنى المستفاد من الرموز في هذه القصة هو من الوضوح بحيث أن معارضيه لا بد لهم من الالتجاء إلى أبشع الخيالات والتصورات للتهرّب من حديثها الجلي الواضح.

فإذا كان التعليم بوعي الأموات تعليماً خاطئاً فها هو الرب يعلِّم به. بل إنه من المستحيل أن ينكر أحد الحقيقة الواضحة وهي أنه له المجد يستخدم عقيدة الفريسيين، ويصادق عليها. ونحن نعرف أنه له المجد لم يستخدم قط الخرافات التي كان يدينها ولم يتخذ أبداً تقاليد الناس أساساً لتعليمه ذي السلطان الذاتي. إن هذا المُميِّز الواضح يغيب على ما يبدو عن أفكار المعارضين، وأنه لكفيل في الحقيقة بأن يزلزل الأرض تحت أقدامهم فليست حجتهم عرجاء ولا سند لها فحسب حيث أنه من المُحال أن يتصور أحد أن السيد له المجد يمكن أن يستخدم الضلال كوسيلة لتبيان الحق (وبدون أدنى إشارة إلى كونه ضلالاً) بل إن مغزى القصة ذاته هو هذا: «وأنا أقول لكم اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية». وهذه هي إدانة الرجل الغني: أن أمواله أصبحت الآن تتخذ مركز الاتهام ضده وليست في جانبه. لقد استوفى خيراته في حياته وأخذ نصيبه في عالم زائل. وهو الآن يتعذّب. ولاحظ كيف أن اللغة تتفق مع المعنى تمام الاتفاق؛ فيقال «حتى إذا فنيتم» والمراد طبعاً إذا مُتم وليس إذا قمتم كما يود البعض أن يفهموها. كلا، بل «حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية». هنا الحقيقة التعليمية الدقيقة معبَّراً عنها بكلمات صريحة واضحة وليس بمَثَل على الإطلاق بل أنها هي التي تشرح المَثَل وتؤيده إذا أردت أن تسمي القصة مثلاً.

هذا يبين أننا عند الموت نُقبل في المظال الأبدية وليس قبل ذلك. لا شك أنه بعد دينونة الأعمال، وبالتالي بعد القيامة، يُمنح الجزاء الدقيق أو تُوقَّع العقوبة الدقيقة. ولكن إلى أن يأتي الوقت لذلك نقرأ عن أرواح الهالكين باعتبارها «الأرواح التي في السجن» (1بط 19:3) بلا أي شك في كونها هالكة، تماماً كما أن «المتغرب عن الجسد» هو «مستوطن عند الرب» وبلا أدنى شك في خلاصه.

يضاف إلى هذا أن الرب يقول فعلاً إنه يوجد عذاب في جهنم. ولكنه يقول أيضاً إنه يوجد عذاب في الهاوية. والواقع أن المعنى البسيط الواضح الذي يدركه أي شخص بمجرد قراءة القصة لأول مرة يزداد وضوحاً وتوكيداً كلما عاود التأمل فيه. ولا عجب. فهناك الحق بكل توافقه وانسجامه.

12

الوعـي أو الشعور بعد الموت

(ب)

في المقال السابق أن الرب يؤيد تعليم الفريسيين فيما يتعلق بالوجود الواعي في حالة السعادة أو التعاسة بعد الموت. والآن ننتقل إلى فصل في الكتاب يبين إلى أي مدى كان تلاميذ الرب متشبعين بالتعليم الكتابي فيما يتعلق بهذه النقطة، ذلك لأننا نقرأ أنه بعد قيامته عندما كان التلاميذ مجتمعين معاً «وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلامٌ لكم! فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ انظروا يدي ورجليّ: إني أنا هو! جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي» (لو 36:24 - 39).

واضح هنا أن التلاميذ عرفوا صورة الرب. والواقع أنه ما من مرة من مرات ظهوره لهم نجد شيئاً خيالياً أو شبحياً يجعلهم يظنون أنهم كانوا يرون روحاً. فمريم المجدلية ظنته البستاني. وتلميذا عمواس، قبل اجتماعهما بالتلاميذ بساعات قليلة، ظناه شخصاً عادياً، وعندما اجتمعا بالتلاميذ والذين معهم وجداهم «يقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان». وبينما كانا يخبران بما حدث في الطريق «وقف يسوع نفسه في الوسط». إن هذا الظهور المفاجئ والأبواب مُغلّقة هو الذي أذهلهم. إنهم لم يشكوا في مَن هو، ولم يكن جسهم إياه ليعطيهم هذه المعرفة. إنهم كانوا يدركون ويعرفون أنه الرب، والرب لم يكن بحاجة لأن يخبرهم عن اسمه فهو لا يقول "إني أنا يسوع" بل «إني أنا هو» مستخدماً اللغة العادية التي أشرت إليها، لغة الحس، التي تقرن الإنسان بجسده وليس بروحه «جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي». ومن هذا يتضح أن المشكلة لم تكن هل هو يسوع أم شخص آخر؟ بل هل هو يسوع في الجسد أم روح فقط؟ وقد أجاب الرب على هذا السؤال.

فلم تكن المسألة عندهم إذن مسألة خيال أو حقيقة بل مسألة وجود جسدي أو روحي. هذا هو كل ما كان يشغل بالهم. فالتلاميذ الذين رأوه إنساناً حياً بينهم لم يكن ليكفيهم أن يروا روحه الراحلة، لأن المسألة عندهم لم تكن مسألة حقيقة فلسفية تتعلق بما وراء القبر وترتبط بالعقل الباحث، بل كانت مسألة حب قلبي ربطهم بشخصه العزيز المبارك. وما كان من شيء يطمئن قلوبهم ويعزي خواطرهم سوى تحققهم من أنه هو نفسه. وهذا ما يؤكده الرب لهم. وعندما رأوه وقد ظهر لهم هذا الظهور المعجزي لم يصدقوا أنه كان يمكن أن يكون إنساناً حياً جاء وسطهم بهذه الكيفية العجيبة فظنوا أنهم رأوا روحاً - الأمر الذي يصححه، له المجد - بأمره إياهم أن يتحققوا أن له لحماً وعظاماً. وهذا وحده ما كانت تستطيع قلوبهم أن تسميه «أنه هو» نفسه.

ولكنه واضح هنا أيضاً أن تلاميذ الرب كانوا من حيث هذه النقطة فريسيين، والرب بدلاً من مراجعة أفكارهم باعتبارها خيالات خرافية، يوجه أنظارهم إلى عدم جسمانية «الروح» وإلى لحمه وعظامه.

ونحن نستطيع أن نعرف مدى شيوع استخدام كلمة «روح» من العبارة الموحى بها عن معتقدات اليهود في أعمال 8:23 «لأن الصدوقيين يقولون إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح، وأما الفريسيين فيقرون بكل ذلك» فهنا أيضاً نرى كلمة روح مستخدمة استخداماً عادياً للتعبير عن أرواح البشر بالانفصال عن الجسد. أما الملائكة فطبقة أخرى من الأرواح. وهذا ما تؤيده القرينة. لأن بولس وهو يُحَاكَم بشأن أقواله عن قيامة يسوع أعلن أنه فريسي مؤمن بالقيامة. وهنا انقسم المجمع «فحدث صياح عظيم، ونهض كتبة قسم الفريسيين وطفقوا يخاصمون قائلين: لسنا نجد شيئاً ردياً في هذا الإنسان! وإن كان روح أو ملاك قد كلمه فلا نحاربنَّ الله» (ع 9). يتضح من هذين الفصلين أن الملائكة تعتبر طبقة من الكائنات منفصلة عن الأرواح المُتكلَم عنها - «إن كان روح أو مـلاك». وبولس يربط نفسـه مع الفريسيين في هـذه العقيدة - قيامة الأموات - ويعود فيذكرها مرة ثانية مبيناً النقاط التي تتفق فيها مع عقيدة المسيحيين. «لأن الصدوقيين يقولون إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح، وأما الفريسيين فيقرون بكل ذلك». وتدل لغة الكاتب الملهم هنا على موافقته على هذا التعليم حيث يقول «وأما الفريسيون فيقرون بكل ذلك» والمعنى المفهوم من كلمة «يقرون» هو أنهم يعترفون بحقيقته، أي أن الإيمان الفريسي والإيمان المسيحي يتفقان في هذه الأمور.

وفي ضوء هذه الحقائق الإيمانية تصبح بعض الفصول الكتابية واضحة جلية مثل كلمات الرب للص المائت «اليوم تكون معي في الفردوس» أو طلبة استفانوس وسط الحجارة المنهالة عليه من أعدائه «أيها الرب يسوع اقبل روحي» أو «ترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» أو الفصل الذي يتكلم عن «أرواح أبرار مكملين» بالقيامة في عبرانيين 40:11. وستأتي أمامنا كلمات الرب للص في مناسبة أخرى أما الآن فلنتحول إلى بعض فصول أخرى.

في فيلبي 21:1- 24 نجد عبارة تحتل بطبيعة الحال مكاناً هاماً في المجادلة حول هذا الموضوع وهي قول الرسول «لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح. ولكن إن كانت الحياة في الجسد هي لي ثمر عملي، فماذا أختار؟ لست أدري! فإني محصور بين الاثنين: لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً. ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم». هذا الفصل واضح وبسيط يكاد لا يحتاج إلى إيضاح أو تفسير ولكن نظراً لأهميته في وضع الأمور في نصابها ورغبة في إجلاء معناه إلى أقصى حد بحيث لا نترك مجالاً لأي نقص أو اعتراض فإننا نقسمه إلى أقسامه ونتأمل في كل قسم على حدة:

(1) الشيء الأول هو أن غرض الحياة عند الرسول كان المسيح. والموت كان ربحاً. هذا هو المعنى الوحيد الواضح. فلا شك أن عبارة «لأن لي» الواردة في بداية الجملة تسري على كل من العبارتين التاليتين. فيمكننا أن نقرأها هكذا: "لأن لي الحياة هي المسيح (لأن لي) الموت هو ربح". فهو لا يقول كما يود البعض أن يقرأوا الجملة "لأن لي الحياة هي ربح لقضية المسيح" بل: «لأن لي الحياة هي المسيح» أي أن المسيح هو غرض حياتي. وعندما يأتي للكلام عن الربح لا يقول "لقضية المسيح" بل: «لأن لي الموت هو ربح». ثم يستمر قائلاً:

(2) «فماذا أختار؟ لست أدري!». أليس واضحاً أنه رغماً عن كون الموت ربحاً له فإنه كان محصوراً بين اختيار الموت أو الحياة، وذلك لأن الأمر كان يتعلق باختيار ما فيه صالحه الشخصي أو ما فيه صالح القديسين كما يخبرنا بعد ذلك. ففي كلامه التالي لا يمكن لأي ذهن مخلص إلا أن يرى أن الرسول إنما كان يعلن سبب حيرته بين هذين الشيئين (الموت أو الحياة) عندما يقول «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً. ولكن - هنا الحيرة - أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم». فمع أن الموت كان ربحاً له، وهو كان يعرف ذلك يقيناً، إلا أن الانحصار كان بين ربحه الخاص وربح الآخرين. فالانطلاق ليكون مع المسيح لم يكن شيئاً ثالثاً على الإطلاق. لقد كان محصوراً بين اثنين لا ثالث لهما: الموت والحياة - الأول: ربح له، والثاني: ربح للقديسين. وهو يحدد هنا بدقيق العبارة أن الانطلاق والوجود مع المسيح معناه الموت كما أن البقاء في الجسد معناه الحياة أو العيشة على الأرض.

(3) ولكن هنا بالذات يثير المعترضون كل ما يستطيعون من ضوضاء ويستخدمون كل ما عندهم من علم واسع باللغة اليونانية محاولين إقناعنا بأن كلمة analusan ليس معناها «ينطلـق» to depart بل يرجع to return وإن العبارة في عرفهم يجب أن تُقرأ: "لي اشتهاء لرجوع المسيح والكينونة معه" ولكن لسوء الحظ هذه النظرية أن الرسول بولس يستعمل نفس الكلمة اليونانية في مكان آخر (2تي 6:4) مشيراً بما لا يترك مجالاً لأي شك إلى موته حيث يقول «فإني أنا الآن أُسكَب سكيباً، ووقت انحلالي my departure قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي ..» فإذا كانت الكلمة هنا معناها بصريح العبارة الانحلال أو الموت فلماذا لا يكون معناها هكذا هناك حيث القرينة تحدد معناها بالموت. إن البعض من أصحاب نظرية الفناء على استعداد للتسليم بأن قول الرسول «أن أنطلق» معناه الموت ولكنهم يصرون على أن النصف الثاني من الجملة «وأكون مع المسيح» لا بد أن يكون معناه الحالة المجيدة عند القيامة، واضعين بين الحادثتين (الموت والقيامة)، حالة يسمونها اللاشيئية أو حالة اللاوجود أو نوم النفس. وهذا يجعل الانطلاق إلى دائرة النسيان أو عدم الوعي «أفضل جداً» من الشركة الحاضرة مع المسيح والفرح في الله وتمجيد المسيح بخدمة كخدمة الرسول! ويا له من لغز عجيب!

وهنا نشير مرة أخرى مجرد إشارة إلى 2كورنثوس 5 ، فإن العبارات الواردة بهذا الفصل «مستوطنون في الجسد» - «متغربون عن الرب» - «نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب» تتحدث بنفس اللغة الواضحة التي كنا نتأمل فيها الآن. ثم ننتقل إلى نص واحد كتابي آخر في هذا الموضوع وهو نص يصور لنا في واقعية كاملة ذات الشيء الذي هو موضوع بحثنا - ليس في مَثَل بل في حقيقة تاريخية - رجل متغرب عن الجسد - روح واعية بأمور لا يُنطق بها - شعاع عابر يضيء من دائرة غير المنظور - موسى على جبل التجلي مع الرب.

لم يكن الأمر حلماً فإن العيون المغلقة بالنوم لم تره بل بالعكس إذ استيقظت رأته: «وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم. فلما استيقظوا رأوا مجده، والرجلين الواقفين معه» (لو 32:9). ذلك يدل أيضاً على أن الأمر لم يكن مجرد رؤية تجلّت لهم عند اليقظة بل إن المشهد كان هناك قبل أن يروه - «موسى وإيليا يتكلمان معه (مع يسوع)» إنه كان شيئاً حقيقياً واقعياً بغض النظر عن جميع المشاهدين وما أبسط وصفه «رجلان يتكلمان معه، وهما موسى وإيليا» - واحد منهما رُفع بمجد إلى السماء منذ قرون مضت، والآخر «انطلق» منذ عهد أطول ودفن جسده ومع ذلك لا زال «رجلاً» يرى ويشاهد ويتكلم، فلا هو تلاشى ولا هو نائم، بل في ملء نشاط التفكير والتمتع. ولا هو مُقام من الأموات أيضاً كما يحلو للبعض أن يتصوروا لأن يسوع نفسه هو «الباكورة» كما هو «البكر من الأموات». والمسألة هنا لم تكن مجرد إعادة البعض إلى الحياة الأرضية التي تركوها منذ ساعات أو أيام، مثل لعازر وغيره الذين أقامهم الرب، بل مسألة رجل يتمتع ببركة جو آخر - جو ما كان ممكناً أن يتمتع به ما لم يكن قد أُقيم (حسب رأي أصحاب نظرية نوم النفس أو عدم وعيها) قيامة روحية وفي عدم فساد. ولكن هذه القيامة بدايتها وباكورتها وبكرها هو الرب نفسه كما يؤكد الكتاب. فموسى إذن لم يكن ممكناً أن يكون هذه الباكورة أو هذا البكر. ويتضح من هذا أنه كان في حالة الانفصال عن الجسد وقتذاك، ومع ذلك كان شريكاً لواحد لم يمر بالموت إطلاقاً ومع أنهما لم يكونا على صورة جسد مجد المسيح إلا أنهما ظهرا «بمجد»، وللناس أن يفسروا ذلك ما شاء لهم التفسير، وليس ذلك فقط بل دخلا في السحابة أو «المجد الأسنى» (كما يسميها بطرس بعد ذلك) - سحابة الحضور الإلهي.

فهل يمكن أن يكون هناك ما هو أوضح من ذلك لتبيان حالة الإنسان بعد الموت أو الانطلاق؟ إني شخصياً أعترف بأني لا أفهم كيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك وها هو مسموح لنا هنا أن نتفرس في شخص قد رحل أو انطلق بالموت، أو كيف نتحقق بغير ذلك أن راحلين كإبراهيم أو اسحق أو يعقوب يكونون لا زالوا "أحياء عنده" - عند ذاك الذي كما يخبرنا الرب «ليس إله أموات بل إله أحياء». من هذا نرى كيف أنهم عند الله أحياء أولئك الذين هم عند الناس أموات. وهكذا نتعلم كيف نميز لغة الحس ولغة الإيمان، نتعلم كيف يوجد حقاً انطلاق ووجود مع المسيح، وأن هذا الانطلاق بالمقارنة مع الحياة الأرضية هو أفضل جداً. إن أية حجة يسوقها أصحاب نظرية الفناء ضد هذا الفصل الكتابي لا يمكن أن تقف على قدميها لحظة واحدة بل تنهار من أساسها على الفور. والواقع أن جميع حججهم قد استُعرضت ونُقضت لأن كل ما في جعبتهم هو أحد شيئين: إما أن موسى قد أُقيمَ من الأموات وهذا ينقضه الوحي في أماكن أخرى (كو 18:1؛ 1كو 23:15؛ رؤ 5:1)، أو أن الأمر فقط كان مجرد "رؤية" أو ظهور، الأمر الذي ينقضه الفصل نفسه. وعلى ذلك فإني أستطيع هنا أن أترك مسألة الوعي أو الشعور بعد الموت (ولو أنه توجد نصوص أخرى تؤيدها كل التأييد) - أقول أتركها هنا وأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن الروح القدس قد أعطانا في الكتاب المقدس الجواب الشافي الكامل بشأنها.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.