لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

10

المــوت

قطعنا إلى الآن شوطاً كبيراً صوب الجواب على السؤال فيما يتعلق بماهية الموت من وجهة نظر الكتاب. وأقول من وجهة نظر الكتاب لأنه إذا كان الجسد هو كل الإنسان فأنت لا تحتاج إلى إعلان ليخبرك ما هو الموت. فالموت بالنسبة للجسد هو بكل بساطة التوقف عن كل وجود عملي. وإذا كان الجسد هو كل الإنسان - التراب الذي يضطجع في القبر - فالموت هو بطبيعة الحال انقراض الكيان. ولا حاجة في ذلك إلى إعلان فما علينا إلا تطبيق العلم الذي لدينا.

كذلك قد رأينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن الموت ليس انقراضاً، وأن النفس الحية في الإنسان لا تنقرض بتوقف عملها كحياة للجسد. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نتخذ من تأثير الموت على الجسد حجة نطبقها على تأثيره على الروح أو على النفس. ولقد رأينا أن كلمة الله تستعمل فعلاً اللغة الشائعة المألوفة، لغة الحس، وتُقرن الإنسان بجسده. وهذا الذي نراه في الآيات والنصوص التي يهيم بها أصحاب نظرية الفناء. فالإنسان هو اللحم والدم الذي نراه ونلمسه. والجسد الميت هو إنسان ميت. هكذا نتكلم كلنا كما لو كنا من جماعة الماديين. ولكنها الطريقة المألوفة. والواقع أن كلامنا اليومي بهذه الطريقة جدير بأن يعرضنا لدى أي جيل أكثر حكمة للتهمة بأننا نشاطر الفنائيين أنفسهم عدم إيمانهم بوجود نفس خالدة. ومع ذلك فنحن نؤمن إيماناً راسخاً بهذه الحقيقة رغماً عن كل ما ذكرناه من تعبيرات، بل إن هجمات الفنائيين ذاتها لم تجعلنا قيد شعرة أكثر حذراً في استخدامنا لهذه التعبيرات. بل أكثر من هذا، أننا نقتبس القول «إنك تراب» ونؤمن به ومع ذلك لا نؤمن أننا فقط تراب أو أن التراب هو كل شيء فينا. كما أننا من الجهة الأخرى نستخدم بنفس الحرية واليقين عدداً من الآيات والنصوص لا يعرف الفنائيون كيف يستخدمونها وتتحدث جميعها عن الإنسان باعتباره «في الجسد» ، «مستوطناً في الجسد»، «متغرباً عن الجسد»، «خارج الجسد» ومع ذلك نقول إن الجسد هو الإنسان أيضاً.

والآن دعنا نضع السؤال واضحاً بغير اعتبار لأي جواب جزئي نكون قد حصلنا عليه للآن وهو: هل تعليم الكتاب عن الموت يتضمن أنه إنقراض؟ هل هو "توقف عن الوجود"؟ أو - كما يلذ لهم أن يقتبسوا من أيوب 19:10 - هل هو "كأننا لم نكن"؟

إنك تضع حبة الحنطة في الأرض وهي، في لغة الكتاب، «لا تحيا إن لم تمت» (1كو 36:15). فهل الجرثومة الحية تنقرض لكي تأتي بالحصاد؟ هل تتوقف أو تنعدم العمليات العضوية فيها؟ وأين يكون الحصاد لو كان الأمر كذلك؟ ومع هذا ففي مكانين يتحدث الكتاب عن هذه الظاهرة الطبيعية باعتبارها «موتاً». والحق، إنك إذا تأملت قليلاً، لوجدت أن وجه الشبه بين موت الحبة وموت الإنسان هو أقرب مما يبدو ظاهرياً. فهناك في الحبة ما يطرح بعيداً كنفاية ويترك حتى ينحل، وذلك هو القشرة الخارجية. أما البذرة أو الجرثومة الحية الداخلية فإنها «تخلع مسكنها» ولكنها بدلاً من انقراضها في العملية تشق الأرض وتطلع نباتاً. أليس لنا في هذا درس؟ أليس لنا رمز؟ بل أليس لنا تشبيه عجيب يشجع على استخدام الكلمة القوية «موت» في هذه الحالة؟ أكان يخطر مطلقاً على فكر أولئك الفنائيين أنه «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير» فهل حبة الحنطة تتلاشى لكي تأتي بثمر؟ إن جماعة الفنائيين المُخرِّفِين لم يحاولوا قط (على قدر ما أعلم) أن يفسروا بهذه الظاهرة الطبيعية المعروفة تعليمهم الشيطاني بأن الموت هو نهاية أو توقف الوجود.

أضف إلى هذا أن الكتاب يتحدث عن موت الإنسان بلغة لا تترك مجالاً لأي شك أو ريب. لقد اعترفت اعترافاً كاملاً وبلا تردد أن بالكتاب طائفة كبيرة من النصوص التي تقرن الإنسان بجسده وتتحدث عنه باللغة العادية المألوفة. بل هناك فصول - سنبحثها في مكانها - يبدو التوفيق بينها وبين أجزاء أخرى في الكتاب أمراً صعباً بحسب الظاهر. ولكن النور الواضح الكامل الذي يقدمه لنا العهد الجديد في فصول كثيرة بسيطة سهلة المأخذ كفيل بأن يشبع ويرضي كل ذهن فيما يتعلق بماهية الموت. وسأشرع الآن في بحث بعض هذه الفصول:

(1) إن الرسول بطرس كما رأينا يعبِّر عن الموت بأنه «خلع مسكنه» (2بط 14:1) أو خيمته. والرسول بولس يستخدم نفس اللغة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى تعليق فإنه يقدمه قائلاً: «إن نُقضَ بيت خيمتنا الأرضي» (2كو 1:5).

ومن الواضح أن الرسول يميِّز بين الخيمة وساكنها إذ يقول بعد ذلك بقليل «فإننا نحن الذين في الخيمة». فالخيمة هي التي تُنقض وليس ساكنها. والإنسان مقترن بالساكن أكثر من اقترانه بالمسكن أو الخيمة.

(2) هناك تعبير آخر عن الموت في نفس الفصل (2كو 4:5) وهو «الخلع» (أو خلع الثوب) حيث يقول «لسنا نريد أن نخلعها» فإذا لم يكن هناك شيء ينفصل عن الجسد كيف يمكن استخدام مثل هذا التعبير على الإطلاق؟ هل يمكنك أن تتحدث عن "نسمة خالعة" أو "حياة خالعة"؟

إن خلع الثوب، إذا كان رمزاً لخلع الجسد، كما هو بالحقيقة، يصبح أمراً واضحاً بسيطاً عندما ندرك أن جزءاً من الإنسان، وهو الجزء الأعلى منه، ليس هو الجسد بل هو شيء في الجسد، هو النفس الحية.

واضح من هذا إذن أن الموت ليس هو توقف عن الوجود بغض النظر عما تصيره النفس أو الروح بعد ذلك - الأمر الذي أتركه مفتوحاً الآن.

(3) وفي النص المقتبس من 1بطرس 15:2 والذي سبقت الإشارة إليه يطلق على الموت كلمة «خروج» أو رحيل إذ يقول الرسول «بعد خروجي»، أو بعد رحيلي.

فالإنسان هنا يخرج أو يرحل. إلى أين؟ ليس هذا هو السؤال الآن. وإنما المهم هو أن الإنسان يخرج أو بعبارة أخرى يترك بيت هذه الخيمة أو هذا المسكن الأرضي. فهل تستطيع أن تستخلص من الكتاب المقدس أنه بعد الموت يصبح الإنسان منتهياً أو بلا وعى؟ لا شيء من ذلك. فالموت ليس هو نهاية وليس هو غيبوبة. وإنما هو «خروج» لا أكثر ولا أقل.

(4) وفي هذا يتفق التعبير المستعمل ثانية في 2كورنثوس 8:5 «نتغرب عن الجسد» - «نثق ونُسر بالأولى أن نتغرّب عن الجسد ونستوطن عند الرب». أنا أعرف أن القوم يزعمون (وهذا هو رجاؤهم الوحيد) أن هذا القول لا يشير إلى الموت إطلاقاً وإنما يُقصد به القيامة. ويا لها من خسارة عظيمة يريد أن يجلبها علينا هؤلاء الناس بتخريفهم هذا. فهم يريدوننا أن نفهم أن «التغرب عن الجسد» يطلق على ذات الوقت الذي فيه سيسعد الجسد بملء بركته. ويا له من تحريف لكلمة الله يهرف به قوم لا يفقهون! إن الأمر جد بسيط. فحينما يقول الرسول المغبوط «نُسّر بالأولى» فإن قوله هذا لا بد أنه يتضمن الحالة المتوسطة (التي بين الموت والقيامة) باعتبارها الوسيلة لتحقيق النصف الآخر من الآية «ونستوطن عند الرب». فالواضح أن هاتين الحالتين ليستا متعاقبتين بل هما متلازمتان (في زمن واحد) بدليل أنه يقول «أننا ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الرب» أي أن الحالتان تسيران معاً. فكيف يشك أحد في الشيئين اللذين يتوق إليهما، وهما الحالتان العكسيتان، تسيران معاً وفي نفس الوقت أيضاً؟

إنه من العبث محاولة استخدام قول الرسول «لسنا نريد أن نخلعها» لمناقضة التفسير البسيط الطبيعي لرغبة التغرّب عن الجسد كما لو كان الأمران متناقضين. ليس هذا هو الحال إطلاقاً. إنه يقول فعلاً إنه كان يئن مشتاقاً لا أن يخلعها بل أن يلبس فوقها، فإن حالة الخلع ليست في ذاتها الحالة التي كان هو أو أي إنسان غيره يرغب فيها. ومع ذلك فإن العلم واليقين بأن التغرّب عن الجسد معناه الاستيطان عند الرب جعله «يسر بالأولى» أن يتغرب عن الجسد. إن الموت لم يكن مرعباً له بل بالعكس. فالموت، إذن، هو الانفصال عن الجسد - هو خلع خيمة أو مسكن الجسـد - هو الخروج منه، هو التغرّب عنه.

يضاف إلى هذا، كما سبق ورأينا من متى 28:10، أن موت الجسد ليس هو موت النفس. فالرب يوصينا بأن «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم» فالنفس لا يمكن أن تكون مجرد الحياة وإلا فإن الذين يقتلون الجسد يقتلونها هي أيضاً. كما أن تعبيراً كهذا "قتل الحياة" لا يوجد ولا يمكن أن يوجد على الإطلاق كما سبق وقلنا. وذلك لأن "القتل" في حد ذاته معناه "نزع الحياة" وأنت لا تستطيع أن تتحدث عن نزع حياة الحياة. لقد ثبت الآن بالبرهان القاطع أن الإنسان عندما يموت فإن نفسه تبقى هي هي لا يمسها الموت. أما إذا كانت تبقي واعية من عدمه فهذا أمر آخر سنتناوله بالبحث سريعاً. كذلك هلاك الجسد والنفس كليهما في جهنم ليس موضوعنا الآن ولكننا سنتناوله في مكانه. أما الآن فيكفي أن نعلم أنه عند خلع الجسد بالموت تبقى النفس حية.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.