قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

1

هل جسد الإنسان هو كل الإنسان؟

الماديون أن جسد الإنسان هو كل الإنسان، وأن هذا الجسد قد يحتاج إلى نسمة حياة أو «روح» تجعله قادراً على القيام بوظائفه، ولكن الفكر والعقل والذهن هي من خواص أو ملكات المخ البشري أو على حد تعبيرهم "المخ في صورته البشرية" ـ وهم يزعمون أن الإنسان كان ذلك، أي كان إنساناً له هذه الخواص والملكات، قبل أن تُنفخ فيه نسمة الحياة، وأن قول الرب للإنسان «لأنك تراب» (تك 19:3) يعبِّر عما هو الإنسان في كل كيانه، وأن الروح هي نسمة الحياة نفسها أو مبدأ متضمن فيها ـ أي أنها نوع من القوة المحركة أو الطاقة المحيية vitalizing energy أما الإنسان نفسه فهو الجسد؛ التراب، الذي يوضع في القبر بعد الموت. ومعنى ذلك في زعمهم، أن الروح والنفس " قد تنفصلان ثانية عن الإنسان، فيرجع الإنسان إلى حالته الأولى التي كان عليها قبل حصوله عليهما، وعندئذ يكون الجسد الميت الذي تركوه في القبر هو الإنسان .. الشخص .. الذات".

وجوابنا على هذه المزاعم هو: أن الماديين يقتبسون الكتاب من ناحية واحدة يخالونها مؤيدة لنظريتهم. أما كل ما يرونه مخالفاً وداحضاً لها فيتعامون عنه كل التعامي. فهناك في الواقع بعض عبارات في الكتاب تبدو كأنها تعتبر الجسد هو كل الإنسان، ولكن هناك أيضاً عبارات كثيرة مثلها تعتبر الإنسان شيئاً آخر متميزاً عن جسده كل التميز، وإليك بعضها: «ما أحياه الآن في الجسد» (غل 20:2)، «ونحن مستوطنون في الجسد .. نتغرب عن الجسد» (2كو 6:5، 8)، «أعرف هذا الإنسان: أفي الجسد أو خارج الجسد؟ لست أعلم» (2كو 3:12)، «كأنكم أنتم أيضاً في الجسد» (عب 3:13)، «وبدون جسدي أرى الله» (أي 26:19)، «أحسبه حقاً- ما دمت في هذا المسكن- أن أنهضكم بالتذكرة، عالماً أن خلع مسكني قريب .. فاجتهد أيضاً أن تكونوا بعد خروجي، تتذكرون» (2بط 13:1 - 15).

فلو أن الأمر كما يزعم الماديون لمَا كان ممكناً أن تُكتب مثل هذه العبارات في الكتاب. ونحن لم نأت بتفسير بل بمجرد عبارات كتابية تنقض لأول وهلة كل الفلسفة المادية من أساسها.

لقد حاولوا التهرّب من قوة البرهان الكتابي نفسه بقولهم إن عبارة «في الجسد» تعني "في هذا الجسد" كما لو كان القصد عمل مباينة بين الجسد الحاضر وجسد القيامة المُمَجَّد. ولكن تغييرهم للتعبير الكتابي ليجعلوه موافقاً لغرضهم دليل واضح على أن التعبير الكتابي لا يوافق غرضهم. والواقع أن الإنسان في القيامة سيكون أيضاً «في الجسد» مع هذا الفارق أن جسد الحياة الحاضرة هو جسد الاتضاع بينما جسد القيامة هو جسد المَجد. «كما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضاً صورة السماوي» (1كو 49:15). قد يقتبسون ضد هذا قول الرسول بعد ذلك «إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد» (ع 50) ولكن هذا لا يسعفهم ولا يفيدهم شيئاً، لأن الرسول لم يقصد قط أن ينفي وجودنا إطلاقاً في السماء وإنما قصد أن ينفي وجودنا في السماء في جسد ترابي، ويثبت أن القيامة ستُوجدنا في السماء في جسد مجيد سماوي. يؤيد ذلك قول الرب نفسه عن جسد قيامته إن له «لحماً وعظاماً» (لو 39:24) وليس "لحماً ودماً" كحالته قبل الموت، فإن اتحاد الاثنين الأخيرين معاً هو ما يشير إليه النص المُقتبَس من أقوال الرسول بولس في 1كورنثوس 50:15 ونحن نعلم أن الرب قد أقيم من الأموات «باكورة» وعينة لقيامتنا، فهو لم يقم ويتغير بعدئذ، وكذلك الراقدون به «سيقامون في مجد» وهذا وحده برهان قاطع على أن عبارة «في الجسد» لا يقصد منها المباينة بين جسد حاضر قابل للفساد وجسد عتيد غير قابل للفساد.

وهناك فصول أخرى تؤيد هذه الحقيقة. فعندما يحدثنا الرسول عن اختطافه إلى السماء الثالثة وأنه لا يعلم «أفي الجسد أم خارج الجسد؟» حدث هذا الاختطاف، لسنا بحاجة إلى من يؤكد لنا أن الجسد المقصود هنا ليس جسد القيامة، لأن الرسول لا يقول لنا إنه لمّا كان في السماء الثالثة لم يعلم إذا كان «خارج الجسد»، أي أن القيامة قد صارت، بل يقول هذا وقت أن كان يكتب، أي وقت أن كان يرى كل شيء حوله باقياً كما هو. يتضح من هذا أن قوله «في الجسد» أو «خارج الجسد» هو مرادف تماماً لقوله في مكان آخر «مستوطنين في الجسد» أو «متغربين عن الجسد» (2كو 6:5 - 8) وكما أنه لا يمكن في هذه الحالة أن يكون المقصود بعبارة «خارج الجسد» الوجود في حالة القيامة، فكذلك عبارة «في الجسد» لا يمكن أن يكون المقصود بها كما يزعمون "في هذه الحالة الفاسدة"

والحق أن العبارتين تبقيان في كل بسطاتهما مليئتين بالمعنى البسيط المراد منهما. فلو أن تعليقات أصحاب عقيدة الفناء كان لها أي ظل من الحقيقة لما كان هناك مجال لمثل هذه العبارات الواضحة الصريحة. فالرسول يقول إنه رأى رؤياه إما وهو في الجسد أو وهو خارج الجسد. فإن كان قد رآها وهو خارج الجسد فقد كان إذن وهو خارج الجسد موجوداً فعلاً كشخص متميز عن الجسد، شخص له شعوره ووجدانه وإدراكه إذ كان يرى ويفرح. فأقل ما ينبغي التسليم به من أقوال الرسول هذه أن ما يسميه «خارج الجسد» ليس هو وجوده في جسد القيامة لأن القيامة لم تكن قد صارت، فضلاً عن أنه لما عاد من الفردوس وجد نفسه في جسد الاتضاع الترابي الفاني. هذا من وجه، ومن الوجه الآخر لا يمكن أن يكون المقصود بعبارة «خارج الجسد» وجوده في حالة «تراب» كما يزعم الماديون أن الإنسان ليس إلا تراب. يا لها من سخافة تلك التي تعتبر أن الإنسان ليس أكثر من «تراب»!

وهكذا تبقى عبارات الكتاب التي اقتبسناها مليئة بالمعنى الذي لها في بساطتها لأننا حتى ولو سلمنا جدلاً للفنائيين بصحة رأيهم عن عبارة «في الجسد» أنها للمباينة بين الجسد الحالي وجسد القيامة ـ مع أن الأمر ليس كذلك كما تبين لنا ـ فإن الحقيقة تبقى هي هي لا يمكن دحضها وهي أن الإنسان ذاته هو الذي يُنظَر إليه أنه «في الجسد» وليس مجرد النفس أو الروح كما يتوهمون. فالكائن المقيم في الجسد (وهذه هي قوة التعبير في 2كورنثوس 6:5) هو الإنسان بحيث أن الجسد منظور إليه باعتبار «خيمة» يسكنها الإنسان وأنه «يخلعها» في الوقت المعين (2بط 14:1).

هذه نقطة واضحة لا تقبل جدلاً: الجسد خيمة أو مسكن يسكنه ساكن. فمن هو هذا الساكن؟ سواء أكان الروح أو النفس، أو كلاهما معاً، فإن لغة الكتاب التي اقتبسناها تؤكد أن الجسد شيء وساكنه شيء آخر. وقد كان بولس أبعد ما يكون عن فكرة اعتبار الجسد هو الإنسان حتى أنه لم يكن يعرف إذا كان قد رأى رؤياه وهو في الجسد أو خارج الجسد. وهو بذلك يؤكد لنا أنه يمكن للإنسان وهو «خارج الجسد» أن يرى ويعي أموراً لا ينطق بها.

ولكن ألم يقل الرب الإله للإنسان «لأنك تراب» (تك 19:3)؟ وألم يقل الكتاب «وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض» (تك 7:2)؟ وألم يقل أيضاً «وحمل رجال أتقياء استفانوس» بعد موته لدفنه وليس مجرد جسده (أع 2:8) مما يبدو دالاً على أن الشخص نفسه هو ذات الجسد أو التراب المحمول للدفن؟

أما الجواب على ذلك فهو: أنه من الواضح أن الإنسان في هذه النصوص مُوحَّد مع جسده، كما أنه في النصوص السابقة مُوحَّد مع روحه أو نفسه. ومن الخطأ أن تستند المحاجة على النصوص الأولى دون الثانية أو على الثانية دون الأولى. أعني أنه من الخطأ القول بأن الإنسان كله نفس استناداً على النصوص الأولى، أو أنه كله جسد استناداً على النصوص الثانية، فليس الجسد وحده، أو النفس وحدها، أو الروح وحدها، هي الإنسان، بل يتكون الإنسان من «الروح والنفس والجسد» جميعاً (1تس 23:5) بحيث أنه يمكن، وهو الواقع فعلاً، أن يُوحَّد مع أي واحد من الثلاثة تبعاً لاتجاه الفكر في ذهن المتكلم. فتوحيده مع الجسد الذي يراه الإنسان ويلمسه هو على العموم لغة العيان، في حين أن الإيمان يُوحِّده مع غير المنظور الذي هو «الروح». فالذين يعتقدون بفناء الإنسان وملاشاته بعد موته ـ جماعة الفنائيين المساكين ـ لا يرون ولا يقرون إلا ما يقع تحت نظرهم وحسهم، أما ما لا يُرَى ولا يُلمَس فهم عميان عنه. وهذا دليل محزن على حالتهم التعيسة.

فعن الرب يسوع نفسه نقرأ في وصف دفنه له المجد، أنهما (أي يوسف الرامي ونيقوديموس) «هناك وضعا يسوع» وأن يوسف «أنزله وكفنه بالكتان، ووضعه في قبرٍ» (يو 42:19؛ مر 46:15) فهل من مجرد استعمال هذه اللغة نحكم بأن الرب، تبارك اسمه، لم يكن سوى الجسد الذي دُفن، كما يفهم البعض من أقواله عن استفانوس؟ حاشا! ولكن هذا ما يذهب إليه الماديون. فإذا كان الجسد هو كل شيء، وإذا كان الجسد هو الإنسان، هو الشخص ذاته، فلا يكون الشخص الذي دُفن موجوداً في أي مكان آخر سوى القبر. والنتيجة الحتمية لذلك هي هذه: إذا لم تكن الروح سوى نسمة حياة عديمة الشخصية، بل مجرد قوة محركة أو محيية، وإذا لم تكن النفس سوى الحياة الناتجة عنها، فيتبع ذلك منطقياً أنه عند مفارقة هذين للمسيح لم يبق من شخصه في دائرة الوجود سوى ما وُضِعَ في القبر! وهذا هو الكفر بعينه. وإن قالوا إن هذه الكلمات تنطبق فقط على ناسوت المسيح وليس على لاهوته يكونون بذلك قد جدّفوا على شخصه المعبود. فالرب، في لاهوته وناسوته، كان في الحياة والوجود شخصاً واحداً فإذا كان الشخص هو الجسد الذي وُضِع في القبر فلا يكون للمسيح المائت لاهوت ولا نفس ولا روح، ولا يكون شخصه موجوداً في أي مكان آخر حينما كان في القبر. هذه هي النتيجة المنطقية، ولكنها النتيجة التجديفية، التي لا يمكن أن تكون هناك نتيجة غيرها لمثل هذه المزاعم الباطلة التي لا سند لها من الكتاب.

والآن، ليسمح لي القارئ أن أسأل: هل كان هناك مسيح حقيقي ـ شخص حي موجود بعد الموت أم لا؟ إن كان كذلك، فالرب بكل ما في كلمة «الرب» من قوة ومعنى لم يكن موضوعاً في قبر يوسف، لأن كلمة «وُضِعِ» وأمثالها بالنسبة له ليست إلا لغة الحس واللمس التي لا تنطبق إلا على مجرد الجانب المادي الذي نراه ونلمسه (الجسد) وليس مسموحاً لنا أن نذهب بمعانيها إلى أبعد من ذلك. والآن، إن كان الرب قد وُضِعَ في القبر ومع ذلك فالجانب الأعلى، الذي هو نفسه وروحه في وحدتهما الشخصية مع لاهوته، لم يوضع هناك، فمن الواضحعلى هذا النحو عينه أن يقال عن داود أو استفانوس أو موسى إنه وضع في القبر، ومع ذلك لكل منهم جانبه الأعلى الذي لم يوضع هناك.

أما البعض، وهم جماعة الماديين أو الفنائيين الذين يُعلِّمون أن الجسد هو كل الإنسان وأن الشخص بموته يفنى ويتلاشى ولا يصبح له وجود، فإنهم بإصرارهم الجريء على الخطأ لا يفزعون من أن ينتهي بهم ذلك الضلال إلى تلك النتيجة المروعة التي تجاوز كل الحدود، ألا وهي إنكارهم الوقح لمجد شخص المسيح الواحد الحي الباقي كإله وإنسان بعد موته. إنهم غرباء عن ذاك الذي وهو سائر على الأرض استطاع أن يقول عن نفسه «ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو 13:3). ولو كانت أفكارهم الشنيعة صحيحة كيف استطاع ذاك الذي كان له «سلطان أن يضعها (حياته)» أن يكون له بعد ذلك «سلطان أن يأخذها أيضاً». فإذا كان الموتى لا شيء، ولا يدرون شيئاً، كما يزعم الماديون، فكيف استطاع جسد ميت أن يكون له سلطان أن يأخذ أو يسترجع حياته ثانية (يو 18:10) وكيف استطاع أن يقول «انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أُقيمه» وهو يتكلم عن هيكل جسده (يو 19:2 ـ 22). ومن العسير هنا أن نجد حتى مجرّد اللبس في الكلام لأن ذات الشخص الذي كان يتكلم عن جسده هو بذاته الذي قال إنه يقيمه بعد موته. وهم لا يستطيعون أن يقولوا إن الآب هو الذي كان يتكلم عن «جسده» لأنه واضح أن الآب ليس هو الذي تجسّد، وهنا تفارقهم الحجة. فما دام الرب يسوع قد أقام جسده الميت المدفون في قبر يوسف، إذن فقد كان هناك شخص آخر غير مدفون، شخص حي بعد الموت، لكي يقيم ذلك الجسد المدفون. فليس الموت إذن فناء لأن يسوع «مات» بالحقيقة ومع ذلك كان موجوداً حياً أثناء موته. فالقول إن «الرب وُضِعَ» في قبر يوسف هو حق، ولكنه ليس كل الحق. والإصرار على عكس ذلك شطط قاتل وضلال مُهلِك للنفس.

والخلاصة أن الكتاب في لغته البسيطة يضع الحجر الأساسي لخلود النفس إذ يؤكد أن الإنسان يسكن في الجسد، وهذا لا بنفيه أنه في مواضع أخرى يتكلم كما لو كان الجسد هو الإنسان. فمن وجهة نظر الكتاب كل من هذين الأمرين صحيح.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.