سفر عامـوس |
مقدمة المعلومات التي لدينا عن عاموس أكثر مما اعتدناه مع أصحاب النبوءات الصغيرة. فهو بوحي من الله يقدِّم لنا لمحات تاريخية ذات أهمية قصوى، يجدر بنا أن نتناولها في إيجاز قبل أن نبدأ دراسة ما قدّمه من رسائل لإسرائيل وللأمم المجاورة. لقد أُعطيت له هذه النبوءات في أيام عزيا ملك يهوذا ويربعام الثاني ملك إسرائيل. ويصف نفسه بأنه كان راعياً في “تقوع”، وهي قرية تربض على الجانب الجبلي من يهوذا، وتبعد عن أورشليم قرابة اثني عشر ميلاً. واسم هذه القرية يرد كثيراً في الكتاب. ومن بين مواطنيها كانت تلك المرأة الحكيمة التي أوفدها يوآب لإقناع داود بالسماح لابنه القاتل أن يعود إلى ميراثه، ضداً على خط مستقيم للشريعة الإلهية والإنسانية (2صم2:14). وكذلك كان منهم “عيرا بن عقيش” واحد من أبطال داود (2صم26:23). ومما يستلفتنا في عديد من المناسبات، وحتى بعد الرجوع من بابل، تلك الغيرة التي اتسم بها رجال تقوع، ولو أن ملامة ألحقت بعظماهم في مناسبة بناء سور أورشليم (نح5:3،27). وإذ كانت القرية في البرية، تحوطها الوحشة والفراغ، لذلك كانت موضعاً مناسباً للرعاة، وهناك واصل عاموس عملة المتضع حتى أفرزه الرب نبياً. وهو يخبرنا أنه لم يولد في بيئة الأنبياء الطيبة، ولا هو اختار بنفسه تلك الدعوة. ولكن حين كان راعياً وجاني جميز (وهو ثمرة التينة البرية)، قال له الرب «اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل» (ص14:7،15). وكان في هذا ما يكفي عاموس. فلم يكن معانداً للصوت الذي من السماء، بل وسرعان ما ترك وراء ظهره مراعي البرية؛ وأعطى ظهره لموطن مولده، حتى نراه يعلن كلمة الرب في قلب عاصمة المملكة الشمالية، الأمر الذي أثار حفيظة يربعام وكاهنه الزائف أمصيا. ولما قيل له أن يهرب إلى أرضه وهناك يتنبأ؛ أبرز لهم، في الحال، وفي شجاعة، ما لديه من وثائق التعيين الإلهي، وقدم لهم رسالة أشد من سابقاتها. أما كم من السنوات استطالت خدمته، وما هي ظروف وزمان موته، فليس لدينا سجلات بشأنها. غير أن ما زودنا به الإعلان الإلهي حافل بأعظم الدروس أهمية لنا. هي أبداً طريقة الله أن يعد خدامه سراً للعمل الذي سينفذونه في ما بعد جهراً. فهوذا موسى في ما وراء البرية، وجدعون على أرض البيدر، وداود مع غنيماته القليلة على التل، ودانيآل رافضاً أن يتدنس بأطايب الملك، ويوحنا المعمدان في البرية، وبطرس في سفينة صيده، وبولس في العربية، وعاموس يسير من خلف القطيع ويرعى ماشية في برية تقوع. كل أولئك يشهدون لهذه الحقيقة. ومهم أن نلاحظ أن الشخص الذي تعلم من الله في مدرسة الخفاء والاستتار هو فقط المؤهل لأن يضئ في الخدمة العلنية. لم يكن لدى عاموس فكرة أن يصير نبياً، أو أن يُعترف به كنبي، كما يفعل الناس اليوم، الذين يختارون الخدمة كمهنة يحترفونها. قد كان في إمكانه - بلا ريب - أن يظل قانعاً بمواصلة عمله المتواضع كزارع صغير إلى مدى عمره، لو أن هذا كان فكر الله من نحوه. على أنه وهو يتتبع القطيع كان وكأنه يناجي الرب. وفيما هو يجني الجميز من أطراف البرية، كان يفكر في نتائج علاقة النفس بالله وأهمية السير في طرقه. وبينما هو يرعى قطعان الغنم كان يتلقى أعجب الدروس عن محبة الخالق الأمين وعنايته. وإذ جاء “ملء الزمان” بالنسبة له، أوقد الله الشعلة فالتهبت. وإذا بالراعي المتواضع بطلاً مغواراً، نبياً يدفعه روح الله، ليس لقومه فقط بل لإسرائيل جميعاً ومن يحيط بهم من أمم. ولا نقرأ عن تردد عدم الإيمان، ولا معارضة لقول الله، ولا مساومة أو مناقشة بالنسبة لموارد المعيشة الزمنية، كلا، ولا نلمس قلق الجسد أو الرغبة في أخذ مكان الجبهة الأمامية لتلتفت إليه الأنظار كنبي أو حكيم. بل تاريخه، على مداه، هو تاريخ إنسان الله، بسيط متواضع، ينتظر أو يركض في الوقت الذي يراه سيده مناسباً. وكم في هذا جميعه من الدروس لنا اليوم! فما أكثر الخدام الذين صفوا أنفسهم خادمين، وحياتهم الداخلية على تناقض محزن مع دعوى الخدمة. وما أكثرهم أيضاً أولئك الذين يصرون على أن يشغلوا مكان الخادم لله، ممن لم يصرفوا قط زمناً في مدرسته يتعلمون طرقه كما عاموس. ومن هنا صارت أقوالهم خواء فاشلة إلى أقصى حدود الفشل، الأمر الذي نتوقعه صادراً من أناس لم يرسلهم الرب. ولكن الأمر على النقيض من هذا مع عاموس. وبقدر ما نتعلم عن هذا الرسول، بقدر ما نكون على استعداد لأن نصغي إلى رسالته. إن سنوات الاختفاء تلك لم تمضِ عبثاً. لم تكن مجرد زمان أصغى فيه لصوت الله مكلماً إياه؛ بل كان في خلاله يحصل خبرة، ونظرة نافذة للناس وللأشياء مما كان له نفعه في خدمته. فنحن طالما نسمعه، بين وقت وأخر، يستخدم تشابيه وأمثلة نتبيّن منها مدى تفكيره وملاحظته لما كان يمر عليه ويراه في محيط حياة الباكرة، من حياة وجماد. وإنك لترى ذلك بوضوح من الفصول الآتية: 13:2؛ 12:3؛ 9:4؛ 8:5؛ 12:6؛ 1:7،2، وغيرها مما سنراه ونحن نتقدم. موضوع السفر بصفة عامة، دينونة تقع على إسرائيل ويهوذا كما على الأمم المجاورة لهم. في الأصحاحين الأولين نجد ثمانية إعلانات مستقلة موجهة بالتتابع إلى دمشق وغزة وصور وأدوم وعمون وموآب ويهوذا وإسرائيل. والقسم الثاني من النبوءة يشمل الأصحاحات الأربعة التالية (ص3-6)؛ وفيه نرى كلمة الرب لإسرائيل، أي للمملكة الشمالية، مملكة العشرة الأسباط. أما القسم الثالث فيشمل الثلاثة الأصحاحات الأخيرة (ص7-9)؛ وفيه نجد مجموعة من خمس رؤى، تقطعها فقرة اعتراضية كبيرة (ص10:7-17) خصصها الروح لتاريخ النبي شخصياً كما ألمحنا قبلاً. وتُختم الرؤى بإعلان البركة والرجوع الألفي كما نرى في هوشع ويوئيل، بل وفي النبوءات بصفة عامة. فإن كانت الدينونة هي الموضوع الرئيسي، غير أن الدينونة ليست إلا تمهيداً للطريق للمجد. ولن يسكت الرب حتى يثبت البر والبركة في كل الأرض. أصحاح 1 , 2 تهمة الأمم إن عاموس لا يخفي ما قد يميل الناس أن يدعوه “نشأته الوضيعة”، بل بكل جرأة يطالعنا بالقول «أقوال عاموس الذي كان بين الرعاة من تقوع، التي رآها عن إسرائيل في أيام عزيا ملك يهوذا، وفي أيام يربعام بن يوآش ملك إسرائيل، قبل الزلزلة بسنتين» (ع1). هنا اسم النبي، ودعوته المتواضعة، ومحل إقامته، وتاريخ نبوءته. والزلزلة التي أشار إليها تصلح أن تكون علامة لأكثر من تاريخ واحد، فليس بين أيدينا سجل يحدد زمانها، ولكن يقال في التقليد اليهودي أنها حدثت يوم حاول عزيا أن يغتصب بتبجح وظيفة كاهن للرب ويدعي لنفسه حق ممارستها. ويربط يوسيفوس المؤرخ الحادثين معاً، لكن لا دليل على ذلك. وإذ كان لنا في المقدمة من قبل جولة حول النقاط الأخرى المشار إليها في العدد الأول، لنتحول من فورنا إلى الرسائل النبوية، ومنها ثمانٍ في الأصحاحين الأولين؛ خمس في أصحاح وثلاث في الآخر. ومن العدد الثاني نستخلص أن الأمم التي يتجه إليها الحديث لها علاقة بأورشليم وجبل صهيون. هناك وضع يهوه اسمه، لذلك فهو يزمجر غاضباً ويرسل صوته قاضياً دياناً، فتنوح مراعي الرعاة وييبس رأس الكرمل. لاحظ أن كل نبوءة على حدة تبدأ بالصيغة الخطيرة ذاتها، فيما خلا اسم المملكة. «من أجل ذنوب دمشق الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه، لأنهم....». ويرى المفسرون اليهود أن هذه العبارة لها قوة العبارة الآتية “ثلاثة ذنوب قد غفرتها، أما الرابع فافتقده بالدينونة”. ومهما يكن من رأي فإن العبارة تتضمن أن الله في طول أناته قد صبر مرة وأخرى، منتظراً أن يتبين فيهم دليلاً على التوبة قبل أن يعاملهم آخر الأمر في غضب؛ ولكنهم لم يقدموا هذا الدليل. ففي ثلاثة ذنوب ملأوا كأس إثمهم، وفي الرابع فاض معلِناً أنه لا جدوى من اختبار جديد. فقد فسدوا ورجسوا في عينيه. إذاً فلا مفر من أن تأخذ الدينونة مجراها. ويسلط النبي الضوء قوياً على رأس شرّ كل أمة، عند سرده بنود الاتهام المخيف، الذي يمتزج به الحكم عليها، الصادر من شفتي الرائي الملهم. فان دمشق «داست جلعاد بنوارج من حديد». لقد اضطهدوا تخوم إسرائيل المكشوفة عبر الأردن، وكانوا في اضطهادها قساة غير راحمين جنساً أو عمراً، بل غمروا الأرض، وقطعوا أوصالهم، وعاملوهم كأنهم حبات حنطة تحت النورج. من أجل ذلك تلقاهم دينونة لا ترحم من حاكم الكون الذي كانت عيناه على كل طرقهم (ع3-5). وغزة، تلك العاصمة الفلسطينية القديمة، افترسوا شعبه، وسبوهم وباعوهم لأدوم. وما أبشعها صورة - من الناحية الرمزية - للديانة الزائفة التي تُسلم الإنسان لقوة الجسد! وهكذا أعانوا العدو العنيف المتنكر لعلاقة الأخُوَّة، ليبيد ويستبعد قريبه. ولكن كما أنهم سعوا لإهلاك شعب الرب الضال، فإن ناره ويده على فلسطين لتهلكها بتمامها(ع6-8). وصور، المدينة التجارية الواقعة على البحر، والتي كانت مرة في «عهد الأخُوَّة» مع إسرائيل أيام سليمان وحيرام، قد نسيت عهودها، وبالمثل ساندت أدوم إذ سلمته أسراها. لذلك ستأكل النار سورها الذي كانت تزعم أن أحداً لا ينفذ منه، وتمحو قصورها (ع9،10). أما أدوم، أقسى أعداء ذرية يعقوب مرارة، فلم يكن متحفّظاً في فورته، بل «تبع بالسيف أخاه، وأفسد مراحمه». من أجل ذلك فإن الرب لن يشفق عليه في يوم غضبه العادل، مجازياً أدوم بما جمعه على إسرائيل من سخط. والوقع أن نبوءة عوبديا ترتبط بهذه الفقرة ارتباطاً وثيقاً (ع11،12). وأما مظهر الغضب الشيطاني الجهنمي الذي ظهر به عمون ضد إسرائيل، ساعياً بالقسوة البالغة العنف أن يمحو أمل الأمة المختارة رغبة في توسيع تخومهم، فقد استدعى المجازة الإلهية العادلة على رأسه المجرم، وتعريضه لكل غضب الرب في يوم زوبعة غضبه (ع13-15). أما موآب، من الزاوية الأخرى، لم تكن تعنيه قسوة أدوم ضد إسرائيل، بل كل ما كان يهتم به هو إجراء القضاء عليه، بينما هو نفسه متهم بالتهم ذاتها. من أجل ذلك فسوف يقطع «القاضي من وسطهم ويقتل جميع رؤسائهم» (ص1:2-3). إلى هذه الحدود ترامت الرسائل النبوية موجَّهة للشعوب المحيطة بأرض إسرائيل. والتاريخ شاهد على إتمام تلك النبوءة. فإن غزة وصور وأدوم وعمون وموآب لم تعد إلا مجرد أسماء. فقد تلاشى مجدها إلى الأبد. وإن كانت دمشق لا تزال، ولكن سُبي شعبها وسكن الغرباء في قصورهم. وهكذا دلت نبوءات النبي الراعي على أنها كلمة الرب. على أن النبي لا يرفع صوته ضد الأمم فقط. فعلى يهوذا وإسرائيل كان يجب أن يعلن الدينونة الآتية بسبب طرقهم الدنسة. فيهوذا، صاحب الامتيازات الأكثر، قد احتقر ناموس الرب ورفضوا أن يطيعوا وصاياه، أضلتهم أكاذيب معلميهم الزائفين، والأنبياء الذين فضلوهم على رسل السماء الذين أرسلهم إله آبائهم. الآباء، للأسف، تحولوا عن صخرهم، والبنون ساروا في طرقهم. لأجل هذا فقصور أورشليم تُحرق بالنار كقصور الأمم، والمكان الذي وضع فيه يهوه اسمه يسلم لأعدائه (ع4،5). أما الاتهام الموجه لإسرائيل فهو أطولها جميعاً، فإن المملكة الشمالية المتكبرة تُتهم بالطمع والاستباحة والوثنية، وإلى جانب هذا كانت هناك اللا مبالاة إزاء الشر الواقع بينهم. لقد باعوا البار بالفضة، والبائس لأجل نعلين. والتجارة كانت في تقديرهم أغلى من دعوى المساكين. وإذ عاشوا في النجاسة قبيحة الوصف، كانوا لا يزالون يدعون أنفسهم باسم الرب القدوس، وهكذا دنّسوه في أعين الأمم. وجاءت الوثنية فألهبتهم «ويشربون خمر المُغَرَّمين في بيت آلهتهم»، وتمددوا بجانب كل مذبح على ثياب المحتاجين المرهونة. فقد كانت الشريعة تحرم الاحتفاظ بثياب الفقير كرهن في الليل، أما هؤلاء فلم يحتقروا الشريعة فقط بل - وعلناً - كرّسوا تلك الثياب المرهونة عندهم لعبادة أوثانهم. والقضاة أيضاً، ضداً لكل قانون، استغلوا غرامات المُغَرَّمين في شراء الخمر لأعيادهم الوثنية. هذه هي «خمر المُغَرَّمين». وهكذا أهين قدوس إسرائيل، أهانه أولئك الذين كانوا يفاخرون باسمه. ومع ذلك فما أجمل ما يذكِّرهم به. فقد أباد الأموري من أمامهم حين أصعدهم من أرض مصر وسار بهم في البرية أربعين سنة. لكنهم أضلوا النذيرين بالخمر، وأبوا أن يستمعوا إلى إنذارات الأنبياء. تلك صورة مخزنة حقاً، أدعى للرثاء، ولكن ما أكثر ما تكررت منذ وقتهم! فإن أصحاب الامتيازات الفضلى هم غالباً أعظم المجرمين ذنباً. وأخيراً اكتملت آثامهم. ولذلك وُضعت الحزمة الأخيرة على العجلة، وزمان الرحمة قد أتى إلى منتهاه. لذلك لا يثبت أحد «في ذلك اليوم»؛ يوم غضب الرب (ع6-16). ما أخطرها اتهامات! وما أشد فعل هذه الكلمات القديمة. ألا ليتنا نعتبرها حسنا، نحن الذين يُدعى علينا اليوم اسم الرب. أصحاح 3 تأديب الأمة المختارة بهذا الأصحاح يبدأ القسم الثاني من النبوءة، ممتداً إلى نهاية الأصحاح السادس، وهو يشتمل على كلمة الرب لإسرائيل، كعتاب أخير قبل تنفيذ القضاء الذي سبق وأشار إليه. والذين يخاطبهم الرب بالقول «يا بني إسرائيل» في هذه النبوءة، ليسوا هم فقط العشرة الأسباط، بل «كل القبيلة التي أصعدتها من أرض مصر» (ع1)، ناظراً إليهم كأمة واحدة، ولو كانوا في ذلك التاريخ مملكتين. فإن امتيازاتهم الخاصة جعلتهم أكثر مسؤولية من الأمم الوثنية المجاورة. «إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض». هذا امتياز خاص، «لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم» (ع2). وهذا مبدأ إلهي ينبغي ألا ننساه، وهو أن المسؤولية وليدة العلاقة. فلأن الرب أفرز إسرائيل عن الأمم، وأدخلهم في عهد معه، كان ينتظر منهم أن يظهروا الطاعة التي هي من مقتضيات مركزهم المرموق. وإلا فإنهم يكونون موضوعاً لمعاملته التأديبية. والأمر ذاته يصدُق على جماعة الله في التدبير الحاضر منظوراً إليها في مجموعها، وفي أفرادها؛ كل قديس على حده. فنحن مطالَبون أن نسلك بحسب دعوتنا السامية، وإلا فإننا نجلب على أنفسنا تأديب أبينا. على أن التأديب ليس دليلاً على أن قلب الله قاسٍ من نحونا، فالعكس صحيح. لأن محبته هي التي تجعله يعاملنا هكذا. فقد يظل العالم سائراً في حماقته، لا يعرف شيئاً عن مثل هذه المعاملات السياسية، لكن ليس هكذا مع الشعب الذي دُعي باسم الرب. والعدد الثالث يكشف عن أسرار الشركة الصحيحة. فلن يسير اثنان معاً إلا إذا كانا على اتفاق، لا التشابه في تقدير الأمور والنظر إليها من زاوية واحدة فقط، بل المشاركة الفكرية إزاء أساس شركتهما معاً. فإن الله من جانبه لا يستطيع أن يسير في شركة قريبة مثل هذه مع أولئك الذين يطلبون مكسباً لأنفسهم في كل شيء. ولن يستطيع القديسون أن يسيروا معاً في علاقة مقدسة إذا كان أحد القديسين يطلب مجد الله، بينما الشريك الآخر غارق في الأفكار والطرق الشريرة. وابتداء من العدد الرابع يعلن النبي السبب الذي يدفعه لرسالته هذه. ذلك لأن لكل نتيجة سبباً. فلابد أن ينفخ بالبوق لكي يرتعد الشعب، لأن الله عتيد أن يجلب عليهم شراً وبلية. «هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟»، ولاحظ أن “البلية” كارثة، فليس المقصود بها هنا الخطية. كما رأينا في الأصحاح الأول من نبوءة يوئيل، والله يستخدمها كعصا تأديب لشعبه. وها هو عاموس يحذِّر سكان مدن إسرائيل من هذه الكارثة. إذاً فقد كان لدى عاموس ما يستلزم التنبؤ، والله أعلن له سره، فلا بد له أن يعلن ويذيع تلك الأسرار على مسامع الشعب. «السيد الرب قد تكلم فمن لا يتنبأ؟» (ع4-8). في الواقع، هذا مستوى رفيع، لكنه المستوى الوحيد الخليق بكل من يدعي أنه يخدم الحق الإلهي. فإذا لم يتكلم الله فإن توقعات أحدنا لن تختلف كثيراً عن الآخر، والآراء الفلسفية التي لأحدهم تتساوى في قابليتها للمدح أو النقد مع رأي الآخر. أما إذا كان الله نفسه قد تكلم في كلمته، ففي هذا الكفاية لكل من يخاف الله. وما على خادمه إلا أنه يذيع ما أُعلن له رافضاً مخالفات العلم الكاذب الاسم. تلك قيمة الكتب المقدسة، وهي التي يحاول الشيطان بكل مكره أن يحرمنا منها في الوقت الحاضر. لكن الله قد أعلن مشيئته في كلمته «إن السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء». ومن هنا فإن رجل الإيمان يتقبل الكتابات النبوية التي صادق عليها الرب يسوع، بوصفه محكمة الاستئناف العليا، عالماً أنه قد «تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس». وهنا ينتصر الإيمان حيث يتعثر العقل المجرَّد في ظلام دامس، إذ يحاول عبثاً أن ينفذ ببصره إلى المستقبل، أو ليفسر الماضي أو يدرك الحاضر. ولطالما سمعت من الذين يعارضون وحي الكتاب إنه ما لم نكن مهيئين للإيمان بعصمة كتبة الأسفار المقدسة، فباطلاً نتحدث عن كتاب معصوم، وهذا على النقيض من الإعلان الخطير الذي نطق به الرب يسوع «لا يمكن أن يُنقض المكتوب». أما مسألة العصمة البشرية فلا دخل لها هنا على الإطلاق. وحينما يتكلم الله، فالذي يعوز الإنسان هو أن يكون، لا معصوماً، بل مطيعاً في تقديم ما قد أعلنه. هكذا كانت الحال مع عاموس ورفقائه، جماعة الأنبياء. فليس من الضروري أن تتوفر للناسخ المعلومات الدقيقة عن الأحداث التي يمليها عليه آخر ليكتبها، وإنما هو يسمع الكلمة فيكتبها كما سمعها. وعلى هذه الصورة نستطيع أن نفهم كُتَّاب العهد القديم ومعنى أنهم كانوا «باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها». إنما عدم الإيمان هو الذي يثير المشكلات ويضع الصعوبات. وفي الأعداد من 9-15 نجد الرسالة النبوية عن تشتيت إسرائيل، ولكن في نفس الوقت عن بقية تخلص. ففي قصور فلسطين ومصر يذاع أن السيد الرب سوف لا يكون سوراً لشعبه بسبب خطاياهم. وأن الأمم التي مرة شهدت لقوته سوف تشهد لعدالته، فلما كف شعبه عن السير معه، لم يجد بداً من أن يسلمهم للتأديب. ولكن كما كان يفعل الراعي في الشرق حين يُنزع «من فم الأسد كُراعين أو قطعة أذن هكذا يُنتزع بنو إسرائيل الجالسون في السامرة في زاوية السرير وعلى دمقس (وسادة) الفراش». فالراعي الذي يفقد واحداً من قطيعه هو مسؤول عنه ما لم يثبت أن الوحوش مزقته، ومن هنا يسعى أن يسترد جزءاً من الخروف المفترس، ولو قطعة منه. هكذا سوف يستبقي الله جزءاً من إسرائيل، لا تفترسه وحوش الإمبراطوريات الأممية، ولو كان بقية صغيرة جداً. فلابد من معاقبة ذنوبهم بسبب ممارساتهم الوثنية، التي كان مذبح بيت إيل الذي أقامه يربعام بن نبَاط مثالاً لها. وسقوط ذلك المذبح معناه هلاك الذين تباهوا بثرائهم، غير مبالين بحالة إسرائيل الساقطة. وهذا سنراه بأكثر تفصيل في الأعداد الأولى من الأصحاح السادس. أصحاح 4 فلم ترجعوا في هذا الأصحاح يذكِّرهم الرب بالوسائل المتنوعة التي كان يستخدمها للكلام معهم بقصد ردهم إليه، وكانت النتيجة أنهم واصلوا طرق الخطية برغم الإنذار أو العقوبة. فقد احتقروا تأديب الرب. من المحتمل أن يكون خطاب الأعداد الثلاثة الأولى موجهاً إلى نساء إسرائيل العظيمات. فإن أولئك النسوة المترفهات المتصلفات المتبجحات، ظلمن المساكين وسحقن البائسين لخدمة غاياتهن الجسدية. وأذ كُنَّ لا يبالين بالأحزان التي جلبنها على الآخرين في سبيل ملذاتهن التي حصلن عليها بأساليب شريرة، كُنَّ في ولائم مبتهجات، وقد فاتهن أن قدوس إسرائيل يرى. فقد أقسم بقدسه أن يعاقبهن على خطاياهن، ويأخذهن بحماقتهن، كما يقبض الصائد بالشص على السمكة الشرهة التي تزعم أنه لا خطر عليها وهي تقرض الطعم المنصوب لها. اختلفت النظرة إزاء العددين 4،5. فقد رأى البعض فيها دعوة للتوبة موجهة لضمائر الشعب. وفي هذه الحالة تكون «تقدمة الشكر» مع «خمير»، موافقة لكلمة الله كما هي معلنة في لاويين13:7 حيث نرى أن خبز الخمير يصاحب ذبيحة السلامة أو الشكر، كاعتراف من جانب مقدم الذبيحة بعدم أهليته الشخصية. على أن ذبيحة الشكر لا تُقدَّم إلا حيث يكون الشعب في حالة صحيحة مستقيمة أمام الله. فدعوتهم إلى مذبح بيت أيل المنشق عن الله وتقديم ذبيحة الشكر هناك، حيث تكون الحاجة إلى ذبيحة خطية، أمر يناقض فكر الله. أذاً، أستطيع أن أفهم أن هذه العبارات نوع من التهكم الخطير، قياساً على أسلوب إيليا التهكمي على كهنة البعل. ويبدو وكأن النبي يريد أن يقول: “هاتوا تقدمة خمير كذبيحة شكر لأنكم هكذا تريدون يا بني إسرائيل”. دون إشارة إلى فكرة خبز الخمير الذي يقدم مع الذبيحة أو أول الثمار، بل إن الخمير هو التقدمة التي يدعوهم النبي، متهكماً، أن يقدموها. إن العبارة كلها تعليق محزن على حالة إسرائيل التي يرثى لها، ذلك الشعب الذي ما كان نظام عبادتهم إلا إثما ومعصية، ومع ذلك كانوا يفاخرون بطقوسهم. وحين يتطلع الله من عليائه إلى ادعاءات المسيحية الاسمية الأكثر إثماً، أَ فلا ينظر إليها متقززاً منها بالأكثر؟ على أنه إذا كان الضمير حيّاً فإنه يقود بالحري إلى الابتعاد عن إثم له هذا الطابع الأليم السافر. أما إنه ليس في فكر الله أن يتقبل ذبيحة تُقدم في بيت أيل أو الجلجال: فواضح من ص5:5. فإن كل ما يحيط بهذين الموضعين، موضعي الارتداد عن الله، كان بغيضاً في عيني ذاك الذي وضع اسمه في أورشليم. ولكن وا أسفاه! فهناك كذلك قد بلغ الهوان والدنس. وبسبب هذه الحالة التي كنا نتأمل فيها، أرسل عليهم جوعاً شديداً «وأنا أيضاً أعطيتكم نظافة الأسنان في جميع مدنكم، وعوز الخبز في جميع أماكنكم». ومع ذلك فلم يكن هناك دليل على التوبة، الأمر الذي جعل الله يقول «فلم ترجعوا إليَّ» (ع6)0 والمطر أيضاً منعه بطريقة تدعو إلى التساؤل والتدريب لو أن ضمائرهم كانت حية، حيث كان يعطي المطر لمدينة ويمنعه عن أخرى. مع ذلك يكرر قوله الأسيف «لم ترجعوا إليَّ يقول الرب» (ع7،8). ثم ضربهم باللفح واليرقان، وبذلك تلفت غلاتهم القليلة قبل أن تنضج. وإذ كانت الجنات والكروم أفضل حالاً، فقد أرسل القمص لكي يتلفها. ومع ذلك فما من يقظة. لقد ظل الضمير نائماً. «فلم ترجعوا إليَّ يقول الرب» (ع9). وبالوبإ عاقبهم «على طريقة مصر». وجعل جثث فتيانهم مع خيلهم التي قتلت في الحرب، تملأ الهواء برائحتها النتنة، فكانوا يتنفسون مرضاً وموتاً. ولكن يبدو أن أحداً لم يستطع أن يميز حقيقة مَن الذي كان يذلهم ويضايقهم، فلم يرجعوا إليه (ع10). ثم زيدت على ويلاتهم كارثة طبيعية هائلة، قد تكون زلزلة، مصحوبة بنار. فقلب الله بعضاً منهم على غرار ما فعل بسدوم وعمورة، بحيث أن الذين أفلتوا ولم يبيدوا كانوا كشعلة منتشلة من النار. ومع ذلك فلم يرجعوا إلى الرب (ع11). لم يميزوا يده في كل ما أصابهم، ومن ثم حاولوا أن يفلتوا من الغضب، لم يسمعوا له، ولا سمعوا لرسله. وهذه أبداً طريق الإنسان الذي لم تمسه النعمة الإلهية. فإذ يغلق عينه عن براهين معاملات الله يواصل طريقه في عدم المبالاة، حتى تغلق عليه الهاوية فاها. وبسبب عدم المبالاة لم يبقَ إلا شيء واحد: ينبغي أن يلاقوا في الدينونة ذاك الذي احتقروا إنذاراته وأعماله التأديبية «فاستعد للقاء إلهك يا إسرائيل». ومع أنهم لم يعرفوه، لكنه هو الذي كوَّن الجبال وخلق الرياح. هو ذاته يعلن للإنسان أفكاره السرية، ويجعل الصبح ظلاماً، ويمشي على مشارف الأرض، هو الرب، يهوه، إله الجنود (ع13). هو الذي لابد أن يلاقوه... ولكن كيف؟ وأنت أيها القارئ ضع الأمر عينه قدامك إذا كنت لم تخلص بعد. فكر جيداً كيف تقف في يوم غضبه العظيم! والمؤمن السالك في عدم المبالاة، تصدق عليه هذه الكلمة من زاويته الخاصة. فإنه إذا استقل بطريقه الخاصة قد يحتقر تأديب الرب ولا يسمع لصوت توبيخه. لكن لن يطول به المدى. فإن عاجلاً أو آجلاً سيلقى الله، ويومئذ يظهر كل شيء في محضره. أصحاح 5 مرثاة على بيت إسرائيل حزينة وخطيرة هي مرثاة النبي على الأمة العاثرة التي طالما أحبها. فقد تجلّت خيبتهم كشعب، من حيث وفائهم وولائهم لله، وما كان لهم على أساس المسؤولية أن يتوقعوا بركة ما. فإن عاد الله وأقامهم، ففي النعمة الخالصة فقط، وبغيرها لن يكون لهم نصيب سوى الدينونة. وهكذا فشل كل ما عَهَدَ الله به للإنسان في كل العصور، ولا نستثني من ذلك حتى الشهادة التي سُلِّمت للكنيسة. لكن موارد الله في ذاته لا تفرغ، إنما يبرزها عند ظهور خيبة من هم موضوع نعمته. وهذا من شأنه أن يسعد ويسمو بروح الذين يتنهدون بسبب الانقسامات التاعسة والخراب الشامل الذي أصاب ما كان ينبغي أن يكون شهادة للمسيح ومجد الله في هذه الأيام الأخيرة. لكن لا داعي لليأس، فإنه يزعج النفس؛ فلنتوجه إلى الله من أجل شعبه. وإذا ما وجِدت الروح المنسحقة والتوبة، فهو - له المجد - قادر أن يفعل أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر. لقد وصلت عذراء إسرائيل إلى درجة من الانحدار بحيث لم يعد في مقدورها أن تقوم، فلا هي كانت ترغب في ذلك، ولا كان من قادتها من يستطيع أن يقيمها. لكن الله لا يزال يصرخ في آذان من يريد أن يسمع «اطلبوني فتحيوا»، فليس من يُنجِّي سوى ذاك الذي انحرفوا عنه. أما السعي وراء بيت إيل والجلجال وبئر سبع، حيث المرتفعات التي تشهد للوثنية التي منبعها الإرادة الذاتية، فهو بلا جدوى كما قرأنا في ص4:4 بأسلوب التهكم. وإن كان هناك شيء من الروابط المقدسة التي تتصل بكل واحد من هذه المواضع، فذلك لا يمنع سبيها. فلم يعد بيت إيل بيتاً لله، ولا عاد الجلجال ليتحدث عن دحرجة العار. فإن بيت إيل، بالحري، أصبح معقلاً للشياطين، والجلجال صار هو نفسه عاراً (ع1-5). فلا قيمة لما يُقال عنه “تسلمناه من الآباء” سواء في أوهام الخلافة الرسولية، أو الفكر الحديث الذي ساد في بعض الدوائر عن “أسس الكنيسة الأولى” أو “استمرارية مائدة الرب”. فما كان واضحاً أنه من الله أولاً، قد فسد بفعل الكبرياء والإرادة البشرية. على أنه يمكن رفض تلك الحالة والرجوع عنها - أمانة للرب - برغم كل الارتباطات والذكريات عن البركة الماضية. والقائد والمرشد الوحيد هو الكتاب المقدس، وليس القواعد البشرية وادعاء السلطان. إنما «الذي كان من البدء» هو القاعدة الأصلية وليس آخر. هكذا التحريض لإسرائيل أن يطلبوا الرب ويحيوا. «لئلا يقتحم بيت يوسف كنار تحرق ولا يكون من يطفئها من بيت إيل» (ع6). لكنهم بالأسف أصمُّوا الآذان عن الإنذار، فبعد سنوات قليلة تحت الدينونة تجرد بيت يوسف من أرضهم، بحيث لم يعودوا يجتمعون حتى يوم المجد العتيد. وفي الأعداد من 7-9 يحلِّق راعي الغنم التقوعي إلى أعلى ذروة في الشعر الملهم. ولا ريب في أن «الكواكب من حُبُكها (أي في مداراتها)» كانت أبداً موضوع تأملاته وهو يحرس قطعانه على التل في ظلمة الليل الساجي. وواضح أنه درس سفر أيوب لأن ع8 وثيق الصلة بأيوب 9:9، 31:38. ها هو يصرخ «يا أيها الذين يحولون الحق أفسنتيناً ويلقون البر إلى الأرض. (لاحظوا) الذي صنع الثريا والجبار، ويحوِّل ظل الموت صُبحاً ويظلم النهار كالليل، الذي يدعو مياه البحر ويصبها على وجه الأرض. يهوه اسمه. الذي يفلح الخرب على القوي فيأتي الخرب على الحصن» (ع7-9). إن الثريا والجبار هما أهم المجموعات الكوكبية. وفي الشاهدين اللذين ذكرناهما آنفاً من سفر أيوب يترجمان “الكواكب السبعة”. وقد فهم العبرانيون أنهما يشيران إلى تلك المجموعات النجمية أو الكوكبية اللامعة التي تعلن عظمة الخالق ومجده. والنبي يدعو فاعلي الإثم أن يعتبروا ذاك الذي يهدي الأجرام السماوية، والذي أبرزها للوجود، الذي يجعل الشمس تشرق بمجدها، مبدداً الظلمة، والذي تستطيع يده أن تتحكم في تحركات الكواكب حتى تأتي بالليل، والذي يمنح الأرض الظامئة مطراً. مع هذا الخالق القادر أمر الناس، رغبوا أم لم يرغبوا. وعيناه تلاحظان طرق شعبه الشريرة، شعبه الذي دعي اسمه عليه. وإذ رفضوا النور معاندين، فقد أظهروا بغضهم لمن يوبخونهم عند الباب، وتجنبوا المتكلم بالاستقامة والصدق (ع10). وخلفاؤهم ما أكثرهم! فمن المألوف أنك تجد الأشخاص السالكين بعدم مبالاة أو في خطأ واضح، يفيضون سخطاً ضد الذين تدفعهم الأمانة لتوبيخ طرقهم الدنسة. فتراهم يمتدحون الكارزين والمعلمين الذين يسايرون ويرضون جميع الناس، بينما هم يتجنبون ويحتقرون الأشخاص الأمناء الخائفين الله. على أن القديس الذي يريد أن يقف إلى جانب الله ينبغي أن يتوقع المقاومة والإشاعات المغرضة من الأشخاص ذوي التفكير العالمي وغير الروحيين. ومع أن عاموس كان يعلم أنه لابد أن يُبغَض من أجل الإنذار والتوبيخ عند الباب، فقد واصل رسالته الخطيرة دون اعتذار أو تردد. فهو يعمِّق في ضمائرهم الخطايا التي كانت موشكة أن تجلب القضاء على الأمة المذنبة. لقد ظلموا المسكين، ولم يفكروا إلا في راحتهم هم، وأذلّوا البار، وأخذوا الرشوة، وأساءوا إلى البائسين في الباب الذي هو موضع الحكم. وإلى جانب هذا كانوا من الوقاحة بحيث كان من واجب العاقل الفطن أن يبتعد عن التعرض لإثمهم وشرِّهم، لأنه زمان رديء (ع11-13). لكن خادم الله الأمين لا يخفي شيئاً، ولا يتملق. بل يعلن رياءهم ثم يدعوهم لأن يطلبوا الخير لا الشر لكي يحيوا وليكون رب الجنود معهم. فإن أطاعوا الكلمة يتراءف الله على بقية يوسف (ع14،15). والذين على شاكلة عاموس لن تكون لهم شعبية عند قومهم. وإنه لمن الأفضل كثيراً أن ننال مدح إلهنا عن مدح الكثيرين. ونظير بولس، كان عاموس يتكلم، ليس كمن يرضي الناس، بل الله الذي يختبر القلوب. ومع ذلك فقد خلا كلامه من الأسلوب الجارح والألفاظ اللاذعة، بل إنما كان يذكرهم، بروح الجد، بإثمهم، داعياً إياهم، دعوة المحبة إلى التوبة. أما إذا أعرضوا عن هذه الدعوة، فإن النحيب لابد أن يحِّل محل أغانيهم الجوفاء، كما حدث سريعاً حين تكدَّرت الأفراح، وفي مباهج الكروم سُمعت مراثي الخراب (ع16،17). وعجيب سقوط الأدنياء، ومع ذلك فما أقوى كلامهم في أسلوب من التدين والتقوى. فمع أن حالة إسرائيل كانت شريرة بائسة، فقد وُجد بينهم من يعترفون بأنهم يشتهون يوم الرب، أملاً منهم في الخلاص من عنائهم وويلاتهم التي هي ثمرة انحرافهم وضلالهم. وعلى مثل هؤلاء ينطق النبي بالويل. ما الذي يتوقعونه من نفع في يوم الرب؟ إنه سيكون كما لو هرب إنسان من أمام الأسد فصادفه دب. يحاول أن ينجو من الخطر الثاني فيهرب إلى بيته، وإذ يسند يده إلى الحائط تلدغه حية سامة مختبئة في زاوية، فتصُب في كيانه سمها الزعاف. وهكذا لا يهرب من الدينونة. إن يوم الرب هو يوم الاستعلان، ولذلك فهو بالنسبة إلى الأشرار يوم ظلام لا نور، «قتام لا نور له» (ع18-20). واتفاقا مع ادعائهم بتكريم يوم الرب، كانت أعيادهم واعتكافاتهم باطلة غير حقيقية. فبحسب الظاهر كان هناك الادعاء بتكريم الرب في أيام حكم يربعام الثاني، ولكن في الواقع كانوا يهينونه بممارساتهم الدنسة التي أمعنوا فيها. ولذلك أبغض أعيادهم ورفض تقدماتهم. لقد كان يريد منهم أن يجري البر كنهر جبار في الأرض، لا أن يبادروا بالصور الخارجية والفرائض والطقوس (ع21-24). على أن مسلكهم الراهن الزائف كان طابعهم المحيِّر منذ بداية تاريخهم. حتى في أيام البرية، أقاموا خيمة معبودهم الصنمي إلى جوار مقدس الرب، وكانوا يقدمون لمعبوداتهم الكاذبة تلك ذبائحهم وتقدماتهم خلال تلك السنوات الأربعين. «فأسبيكم إلى ما وراء دمشق، قال الرب إله الجنود اسمه» (ع25-27). هذا جميعه على غاية من الخطورة، وخليق بأن نعتبره. فالرب يعلن هنا أن السبي الأشوري كان ثمرة وثنيتهم الخاطئة منذ مبدئهم! وإذ لم يكن ذلك الارتداد قد دين وحُكم عليه حقيقة، فلابد أن يدانوا بسببه! ما أشدَّ ما تحمله هذه العبارة من توبيخ لأولئك الذين يرفضون أن يواجهوا هذه الحقيقة؛ وهي أن الشرَّ غير المقضي عليه لا يزال يعمل كالخمير، حتى يخمَّر العجين كله. ومرة أخرى يواجهنا الدرس عينه الذي ألمحنا إليه ونحن ندرس هوشع4:7-7. ألا حبذا القلوب التي تنحني أمام الحق الذي طالما يبرزه الكتاب، وهكذا تُحفظ من دنس الشر غير المقضي عليه وغير المدان. أصحاح 6 مستريحون في صهيون لم يكن بيت يوسف وحده هو الذي أغاظ الرب. بل الشعب كله كما سبق القول. وإذا ما قرأنا هنا عن إسرائيل فإن الإشارة لا تقف عند العشرة الأسباط، بل تنصرف إلى الأمة جمعاء. وهكذا يُختم هذا الجزء من النبوءة بكلمة فاحصة موجَّهة لأولئك المستريحين في صهيون، والذين اطمأنوا إلى جبال السامرة (ع1). فقد ظن أهل المملكة الجنوبية أنهم بمنأى من الخطر الذي يهدد المملكة الشمالية، فاطمأنوا إلى أنه في مقدور السامرة أن تصمد طويلاً في وجه الحصار، بحيث يتسنى لهم أن يتهيئوا لمواجهة الخطر إذا ما دنا. ومن ثم استراحوا، ولم يعبئوا بإطاعة صوت الله داعياً إياهم إلى التوبة، ولا تذللوا من أجل أحزان أخوتهم. إن “الراحة في صهيون” تحدِّثنا عن الحالة السطحية التي يوجد فيها اليوم كثيرون من المدعوين أولاد الله، غير عابئين بالرسالة الخطيرة، ولا مُظهرين أي اهتمام للسلوك في قوة الحق. على أنه إذا كان شعب الله لا يبالون بما هو هام في عيني إلهنا، فليس لهم أن يتوقعوا أن يعمل الله لأجلهم في أوقات المصاعب والضيقات. إن مدناً فلسطينية هلكت، وقد كانت يوماً جميلة رائعة. وما كلنة وحماة وجتُّ الآن سوى أطلال وبقايا لماضٍ مجيد، فقد أصابها الخراب. وهل كان إسرائيل خيراً من هذه الممالك؟ هم يستبعدون يوم البَلِّية، بينما الظلم والفساد يغشيان تخومهم. يضجعون على أسرة من العاج ويتمددون على فراش منقوشة، ويعيّدون بلا خوف آكلين أفخر قطعانهم ومواشيهم. يغنون على صوت آلات الطرب، ويعيون من كؤوس السلافة. ينعمون بأطيب الأدهان، لكن الله يدير عليهم دفة الحكم الخطير، فيعلن قائلاً «لا يغتمون على انسحاق يوسف» (ع2-6). أوَ ليس في هذا صوت لكل قديسي الله اليوم؟ أم لسنا في خطر داهم من العيشة لأجل ملذاتنا، والبهجة في مقتنياتنا، ونحن غافلون عن حالة الكنيسة المحزنة، غير مباليين بالانقسامات التي مردها إلى الإرادة الذاتية، والتي طالما أهانت الرب، رأس الكنيسة الممجَد؟ لا شك في أن المحبة الصادقة للرب تقودنا إلى تدريب أنفسنا إزاء الحالة الراهنة. ومثل هذه التدريبات تقودنا لأن نفتش الكتب المقدسة، وأن نحكم على الأشياء في نورها؛ بل تنشئ فينا الرغبة في السير أفراداً في السبل القديمة، التي سلك فيها شعب الله، حتى لو بلغ الأمر بواحد أن يضطر لأن يسير وحده. ومع هذا يجب أن نظهر بالضرورة تلك «المحبة نحو جميع القديسين» التي تُميز كل من استحضر - ولو على أقل قياس - إلى حقيقة أنه يوجد جسد واحد وروح واحد. وبسبب انعدام الاهتمام بانسحاق يوسف، لم يتشدد الرب معهم، بل أعلن أنه يكره عظمة يعقوب وسوف يسلم حتى مدينة داود للقادم الأممي (ع7،8). وعندما يأتي الهلاك في آخر المطاف، فإن الإحساس المرعب بغضب الرب يهوه يسدُّ كل فم حتى وهم يدفنون الموتى، لأن اسم الرب لا يتوافق مع شفاههم الدنسة (ع9،10). إنه حقاً لأمر محزن أن يوجد الإنسان تحت عصا التأديب، ويعجز مع ذلك عن التجاوب مع ماسكها. تلك هي قمة القساوة التي تنشئها الخطية. والأعداد من 11-14 تتكلم عن السبي البابلي الذي جاء من الشمال، بعد الغزو الأشوري بقرن من الزمان. فلما جاء الكلدانيون كطوفان غامر غشى كل الأرض، كان ذلك بأمر الرب، مستخدماً إياهم كعصاه التأديبية، لأن يهوذا حوَّل الحق سماً وثمر البر أفسنتينا، لذلك فإن القدوس يقف ضد خاصته إذا هم حوَّلوا حقه أكذوبة وسلكوا في النجاسة. وهذا المبدأ صحيح على كل قياس، فإن الرب البار يحب البر، ولن يربط اسمه بما يناقض البر. وبهذه الرسالة يُختم القسم الثاني من نبوءة عاموس. أصحاح 7 التعليم بواسطة الرموز القسم الأخير من السفر ينطوي على مجموعة من خمس رؤى، تكشف بالأسلوب الرمزي عن الدينونة الإلهية، ويشمل الأصحاحات من 7-9 كما ألمحنا في المقدمة. والأعداد التسعة الأولى من أصحاحنا تطالعنا بثلاث من الرؤى، بينما يطالعنا باقي الأصحاح بقطعة بديعة من التاريخ الشخصي. في الرؤيا الأولى (ع1-3) أُعطي للنبي أن يرى ضربة من الجراد، ليس مجرد جراد يأكل الأخضر «في أول طلوع خِلف العشب (العشب المتأخر النمو)، وإذا خِلف عشب بعد جزاز الملك» ذلك أن في أرض فلسطين يحصدون على مدار العام الزراعي محصولين، وفي الظروف المواتية قد يكون «خِلف العشب بعد جزاز الملك» إشارة إلى المحصول الثاني الذي يعتمد الشعب عليه إلى حد كبير في تزويدهم بطعام الشتاء. غير أن النبي رأى الجراد المفترس يتلف كل غصن أخضر غض، الأمر الذي دفع النبي أن يصرخ بقلبه «أيها السيد الرب اصفح. كيف يقوم يعقوب فإنه صغير؟». والرب قد سمع لشفاعته وأجاب «لا يكون». ولا ريب أن الجراد كرمز كان يشير إلى سوط مخرِّب كجيش كاسح، يجرف كل ما في طريقه، ولا يترك بقية. وفي أيام موسى حمي غضب الرب وأراد أنه يبيد الأمة، لكن الوسيط تدخل بشفاعته. والله يحب أن نرجوه، لأنه يُسرُّ بأن يجاوب حينما يسمع صراخ الذين يحملون على قلوبهم شعبه المحتاج. وفي الرؤيا الثانية (ع4-6) رأى النبي ناراً آكلة، كانت من الحمُّو بحيث لحست في شدتها مياه الغمر العظيم «وأكلت الحقل (أي أكلت جزءاً منه)» وهذه أيضاً دينونة من أقسى نوع، لكنها لم تكن قاطعة نهائية. ومرة أخرى تنطلق من قلب رجل الله صرخة أليمة «أيها السيد الرب كُف. كيف يقوم يعقوب فإنه صغير؟». ومرة أخرى يستجيب الرب في النعمة «هو أيضاً لا يكون قال السيد الرب». وهاتان الضربتان هما كناية عن الغضب المخيف الذي لا يميِّز، يصيب الكل على السواء. ولذلك فإنه في الرؤيا الثالثة يرى ما يؤكد له أن كل واحد سينال من القضاء بحسب إثمه. وقف الرب على حائط وفي يده زيج ليختبر استقامة الحائط وسلامته. فصاح بعبده «ما أنت راءٍ يا عاموس؟». كان الجواب «زيجاً» فقال السيد «هأنذا واضع زيجاً في وسط شعبي إسرائيل، لا أعود أصفح له بعد. فتقفر مرتفعات إسحاق وتخرب مقادس إسرائيل، وأقوم على بيت يربعام بالسيف» (ع8،9). هذا تشبيه من اليسير إدراكه. واختبار الحائط بالزيج يكشف حقيقة حالته. فإذا لم يكن الحائط عمودياً موازياً للزيج فخطأ البنَّاء يكون واضحاً بلا جدل. وكلمة الله هي الزيج، وهي تمتحن وتختبر كل نفس، لتكشف كل انحراف، وتجلب الدينونة على كل ما يناقضها. لكن القوم في طول أرض إسرائيل وعرضها احتقروا تلك الكلمة، بينما استمرأ الشعب طرقهم ولم يطلبوا مشورة الرب. ولذلك فليس لأحد حق في أن يشكو عند معاقبته حسب طرقه. فقد كانت كل مرتفعات الأرض شهادة صامتة على عصيان الأمة. فعليهم جميعاً سيحل الخراب يوم يكون السيف على بيت يربعام. ولما وصلت هذه الأقوال الخطيرة إلى مسامع أمصيا كاهن مرتفعات بيت إيل المرتد، نهض غاضباً ليعلن أن عاموس قد خان الملك. ذلك أنه بوصفه رأس النظام الطقسي المرتد، الذي أقامه وسانده ملوك إسرائيل العصاة، كان يريد - لو أمكن - أن يتخلص من هذا الكارز المزعج الذي نادى بالحق، لأن مهنة الكهانة كانت مهددة بالخطر حينئذ لو فُتح الباب في الأرض لأمثال عاموس. ومن ثم أرسل إلى يربعام قائلاً «قد فتن عليك عاموس في وسط بيت إسرائيل. لا تقدر الأرض أن تطيق كل أقواله. لأنه هكذا قال عاموس: يموت يربعام بالسيف ويُسبى إسرائيل عن أرضه» (ع10،11). إن الحق الذي أعلنه عاموس كان فعلاً لا يطاق. غير أن أمصيا لم ينقل أقوال عاموس بأمانة، إما عن نقمة، أو لأن شعوره بالذنب قاده لسوء فهم تلك الأقوال. وليس لدينا من أقوال عاموس تاريخياً ما يثبت أنه أعلن أن يربعام نفسه يموت بالسيف، بل أن السيف سوف يسلط على بيته، الأمر الذي تم في الموت المباغت لابنه زكريا (2مل10:15). ولسنا نقرأ أن الملك أجاب. وربما كان هذا الحاكم النشيط يعتبر هذا النبي الراعي ونبوءاته غير ذات موضوع، لا تلفت أنظاره، أو ربما كان يخشى أن يمَّس شخصاً كان واضحاً أنه مُرسل من قبل الله. وهكذا ترك الأمر للكاهن الزعيم لكي يتصرف بنفسه مع الكارز المقتحم الجسور. وإذا به يناقشه ويجادله، مذكراً إياه بأنه على أرض "أبروشية" لا تقع في دائرة اختصاصه. فيقول «أيها الرائي أذهب أهرب إلى أرض يهوذا وكُل هناك خبزاً، وهناك تنبأ. وأما بيت إيل فلا تعُد تتنبأ فيها بعد لأنها مقدس الملك وبيت الملك» (ع12،13). تلك شكوى معادة، يرددها كثيراً أولئك الكهنة والكارزين الذين صنعهم الناس، الذين يقولون إن رجال الله المرسلين من الروح لا يجب أن يصطادوا في مياههم الإقليمية، ولا يمسوا قطعانهم. وإذ هم ينظرون إلى ميراث الله كأنه نصيبهم المعيَّن لهم، لا يتسامحون مع الخادم الذي يأتي بكلمة الله الواضحة ولا يطلب كسباً مالياً أو مادياً، وإنما هو يعلن مشورة خالصة فحسب. وإذ كان أمصيا أجيراً، فإنه يعتبر عاموس واحداً من أولئك، فيحثه على الذهاب إلى أرض يهوذا، وهناك «يأكل خبزاً». فلم يكن في مقدوره أن يتصور واحداً يخرج ليعلن ويذيع كلمة الله ولا يتطلع إلى عيشة أفضل. إن قلبه الطماع قاده إلى اعتبار وظيفة رئيس الكهنة وسيلة مُثلى لكسب العيش، ويفترض أن عاموس هو الآخر - حسب تقديره - موظف، صاحب مهنة، نظيره بالتمام. وإلى هذا نراه يزعم لنفسه دعوى التسامي، فيدّعي أنه الخادم الأعظم والناصح الروحي للملك والشعب في بيت إيل، التي كانت - بلغه أيامنا الحاضرة - مدينة كاتدرائية، وأمصيا رأسها الكنسي الإكليريكي. وكأن لسان حالة يقول: ألا بُعداً لهذا الفضولي القادم من الجنوب! لكن عاموس، وفي وداعة وأمانة، يجاوب هذا الكاهن المتنطع الحاقد «لست أنا نبياً ولا أنا ابن نبي» فلا هو راءٍ بالمهنة، ولا هو ممسوح بيد بشر ولا عن طريق الوارثة. «بل أنا راعٍ وجاني جميز. فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل» (ع14،15). هذه كانت مسوِّغات أو مؤهلات تعينيه، لكن لم يكن ليفهمها أمصيا ولا غيره من الآلاف بعده. فقد دخل عاموس إلى دائرة خدمته بدعوة مباشرة من الله. تماماً كرسول العهد الجديد «لا من الناس ولا بإنسان»؛ بل بتعيين إلهي. وما قرأنا في أي من العهدين عن إنسان يؤهل إنساناً غيره لكي يتكلم بكلمة الرب. قد يتسنى لإيليا - بأمر الله - أن يمسح أليشع، ولبولس أن يختار سيلا. لكن الله وحده هو الذي يمنح الموهبة ويأتمن خادمه عليها. لكن ليستمع أمصيا لما هو أكثر. لقد حاول بوقاحة أن يسيطر على خدمة ممنوحة من الله، إذاً فليسمع قضاءه المحتوم «فالآن اسمع قول الرب: أنت تقول لا تتنبأ على إسرائيل ولا تتكلم على بيت إسحاق. لذلك هكذا قال الرب: امرأتك تزني في المدينة، وبنوك وبناتك يسقطون بالسيف، وأرضك تُقسم بالحبل، وأنت تموت في أرض نجسة، وإسرائيل يُسبى سبياً عن أرضه» (ع16،17). كلمات واضحة هذه. وإن لم يكن لدينا من التاريخ المقدس ما يؤكد ويسجل إتمام هذه الأقوال، بيد أننا لا نشك في أنها قد تمت بحذافيرها. ولسنا نقرأ عن جواب من جانب أمصيا. فقد كان ضميره في صف النبي، وربما كان هذا هو الذي ختم شفتيه. وما أشد وقعها على نفسه حينما تستحضر هذه الأقوال لذهنه وهو - وقد تعرَّى وتجرد من كرامته وأبهته - يرفع عينيه، التي أعمتها الدموع، صوب السماء، في أرض الأشوريين! أصحاح 8 جوع في الأرض الأعداد الافتتاحية الثلاثة لهذا الأصحاح تحتوي على الرؤيا الرابعة، وعلى تفسيرها. ونلاحظ أن هذه الدروس الموضوعية جميعاً - فيما عدا آخرها - هي من النوع الذي يرتسم في ذهن الشاب الذي نشأ في مناطق ريفية، ويألف الحياة الزراعية. فالجراد هو الوبأ الجائح الذي يرهبه الفلاح الشرقي. وكثيراً ما أشار عاموس إلى نار تهدد بإتلاف المحاصيل والقطعان على السواء. ثم أن الشاب الريفي يعرف الزيج، إذ يستخدمه البناءون في إقامة أسوار منازل الأهلين والأسوار الواقية للمزروعات الخاصة. وهكذا أيضاً التصوير والتشبيه الذي نراه في مشهد الرؤيا الرابعة. أراه الرب سلة من القطاف (أي ثمار الصيف)، سلة من ثمار لا يمكن حفظها طويلاً لأنها نضجت وزاد نضجها. وجواباً على تساؤل الرب: «ماذا أنت راءٍ يا عاموس؟» يقول النبي «سلة للقطاف». وبعد ذلك نقرأ عن تفسير الرمز البسيط. فإن إسرائيل قد أصبح ثمرة عطنة، في طريقها إلى التحلل. فقد أتت النهاية؛ أي النهاية بطرحه. فلن تطول النعمة لأولئك الذين رفضوها بإصرار. فأغاني القصر تتبدل صيحات ويل يائسة حزينة، بينما جثث محتقري رسالة الله تملأ المدن وتلقى في صمت. وإلى جانب هذا الإعلان بمجيء النهاية، نقرأ موجزاً خطيراً عن خطية الشعب. فقد ابتلعوا المساكين في أطماعهم، وأذلوا الفقراء كما في أيام يعقوب، إذ يقول صارخاً «قد كنزتم في الأيام الأخيرة» (يع 1:5-6). وروح الطمع هذه جعلت من الأعياد والسبوت عبئاً ثقيلاً. هم بحسب الظاهر كانوا يحتفلون بها، في الوقت الذي كانوا فيه يتمنون متى ينتهي النهار (نهار العيد أو السبت) حتى يشتروا ويبيعوا ويربحوا. وبسبب هذا يقسم الرب قائلاً «إني لن أنسى إلى الأبد جميع أعمالهم»؛ لقد كان كل شيء تحت عينه المقدسة، وسجّل الكل في كتابه. وأمام كرسيه سوف يواجهون الكل. وإذا كانت عين الخاطئ تقع على هذه الصفحات، فإنني أشدد عليه أن يتنبه إلى ما في هذه الأقوال من خطورة. فقد تنسى أنت ما عملت، وقد تكون غافلاً عن خطاياك الكثيرة؛ لكن الله يعلن هنا أنه لن ينساها جميعاً. فإن ذَكَرها، فسوف يكون نصيبك الطرد من حضرته إلى الأبد. أما أولئك الذين يحكمون على أنفسهم الآن وعلى ذنوبهم، واثقين في ذاك الذي مات لكي يخلص، فيقول عنهم « لا أعود أذكر خطاياهم ولا تعدياتهم فيما بعد» (إر34:31، عب17:10) . وأنت أيها القارئ، هل خطاياك يذكرها أم لا يذكرها؟ وبسبب خطايا إسرائيل ترتعد الأرض، ويُحمل شعبها كما بقوة نهر مصر الجارفة. حينئذ تغيب الشمس في الظهر وتعتم الأرض في النهار المنير؛ وهذا تشبيه شعري للتدليل على الخراب الشامل نتيجة لأنانيتهم الشرهة، ومسلكهم العنيف القاسي إزاء المساكين، وعدم رضاء الله على طرقهم. ولسوف يكون النحيب في ذلك اليوم مريراً، حين تكون التوبة قد فات أوانها، فلا تحول دون وقوع الكارثة التي تتهددهم، والتي ستكون كمناحة على ابن وحيد، وآخرة الشعب تكون يوماً مُرّاً (ع4-10). وفضلاً عن هذا فهوذا جوع مقبل عليهم، على أولئك الذين “يتهممون (أو يبتلعون) المساكين”، الذين يشترون «البائس بنعلين». لكنه ليس جوعاً إلى الخبز ولا عطشاً للماء، بل لاستماع كلمات الرب التي رفضوها. وكشعب مهجور سوف يتجولون من بحر إلى بحر باحثين على كل الضفاف عن كلمة الرب التي يوماً ازدروا بها، ولكن بعد فوات الوقت، فإنهم «لا يجدونها» (ع11،12). ولا ريب أن هذه النبوءة قد تمت - على قياس ما - يوم سُبي شعب إسرائيل إلى أشور؛ غير أن عريضة الاتهام الكاملة تنتظرهم لأيام ضد المسيح. وليس إسرائيل ويهوذا وحدهما سيجتازون تلك المجاعة، فإن المسيحية الاسمية الأشد ذنباً، والتي طالما تباركت في غنى بالكتب المقدسة، هي الأخرى سوف تنحرف بتمامها عن الحق وتتحول إلى الخرافات. وسيأتي اليوم الذي فيه سوف يُرفع من الأرض روح الله، الذي طالما استخفوا به؛ حينئذ «تذبل بالعطش العذارى الجميلات والفتيان»، لأن ماء الحياة الذي رفضوه سوف يُمنع عنهم، فيموتون يأساً، ويسلَّمون لضلال شديد حتى يصدِّقوا الكذب، يوم يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم. وسوف ينتهي الجوع، ليس برجوعهم إلى الله، بل بأنهم سيحلفون بأوثانهم، ولكنهم إنما سيجدون - كما في يوم إيليا - أن أحداً من أوثانهم لا يسمعهم ولا يعتبرهم. فيسقطون ولا يقومون بعد (ع13،14). أصحاح 8 جوع في الأرض الأعداد الافتتاحية الثلاثة لهذا الأصحاح تحتوي على الرؤيا الرابعة، وعلى تفسيرها. ونلاحظ أن هذه الدروس الموضوعية جميعاً - فيما عدا آخرها - هي من النوع الذي يرتسم في ذهن الشاب الذي نشأ في مناطق ريفية، ويألف الحياة الزراعية. فالجراد هو الوبأ الجائح الذي يرهبه الفلاح الشرقي. وكثيراً ما أشار عاموس إلى نار تهدد بإتلاف المحاصيل والقطعان على السواء. ثم أن الشاب الريفي يعرف الزيج، إذ يستخدمه البناءون في إقامة أسوار منازل الأهلين والأسوار الواقية للمزروعات الخاصة. وهكذا أيضاً التصوير والتشبيه الذي نراه في مشهد الرؤيا الرابعة. أراه الرب سلة من القطاف (أي ثمار الصيف)، سلة من ثمار لا يمكن حفظها طويلاً لأنها نضجت وزاد نضجها. وجواباً على تساؤل الرب: «ماذا أنت راءٍ يا عاموس؟» يقول النبي «سلة للقطاف». وبعد ذلك نقرأ عن تفسير الرمز البسيط. فإن إسرائيل قد أصبح ثمرة عطنة، في طريقها إلى التحلل. فقد أتت النهاية؛ أي النهاية بطرحه. فلن تطول النعمة لأولئك الذين رفضوها بإصرار. فأغاني القصر تتبدل صيحات ويل يائسة حزينة، بينما جثث محتقري رسالة الله تملأ المدن وتلقى في صمت. وإلى جانب هذا الإعلان بمجيء النهاية، نقرأ موجزاً خطيراً عن خطية الشعب. فقد ابتلعوا المساكين في أطماعهم، وأذلوا الفقراء كما في أيام يعقوب، إذ يقول صارخاً «قد كنزتم في الأيام الأخيرة» (يع 1:5-6). وروح الطمع هذه جعلت من الأعياد والسبوت عبئاً ثقيلاً. هم بحسب الظاهر كانوا يحتفلون بها، في الوقت الذي كانوا فيه يتمنون متى ينتهي النهار (نهار العيد أو السبت) حتى يشتروا ويبيعوا ويربحوا. وبسبب هذا يقسم الرب قائلاً «إني لن أنسى إلى الأبد جميع أعمالهم»؛ لقد كان كل شيء تحت عينه المقدسة، وسجّل الكل في كتابه. وأمام كرسيه سوف يواجهون الكل. وإذا كانت عين الخاطئ تقع على هذه الصفحات، فإنني أشدد عليه أن يتنبه إلى ما في هذه الأقوال من خطورة. فقد تنسى أنت ما عملت، وقد تكون غافلاً عن خطاياك الكثيرة؛ لكن الله يعلن هنا أنه لن ينساها جميعاً. فإن ذَكَرها، فسوف يكون نصيبك الطرد من حضرته إلى الأبد. أما أولئك الذين يحكمون على أنفسهم الآن وعلى ذنوبهم، واثقين في ذاك الذي مات لكي يخلص، فيقول عنهم « لا أعود أذكر خطاياهم ولا تعدياتهم فيما بعد» (إر34:31، عب17:10) . وأنت أيها القارئ، هل خطاياك يذكرها أم لا يذكرها؟ وبسبب خطايا إسرائيل ترتعد الأرض، ويُحمل شعبها كما بقوة نهر مصر الجارفة. حينئذ تغيب الشمس في الظهر وتعتم الأرض في النهار المنير؛ وهذا تشبيه شعري للتدليل على الخراب الشامل نتيجة لأنانيتهم الشرهة، ومسلكهم العنيف القاسي إزاء المساكين، وعدم رضاء الله على طرقهم. ولسوف يكون النحيب في ذلك اليوم مريراً، حين تكون التوبة قد فات أوانها، فلا تحول دون وقوع الكارثة التي تتهددهم، والتي ستكون كمناحة على ابن وحيد، وآخرة الشعب تكون يوماً مُرّاً (ع4-10). وفضلاً عن هذا فهوذا جوع مقبل عليهم، على أولئك الذين “يتهممون (أو يبتلعون) المساكين”، الذين يشترون «البائس بنعلين». لكنه ليس جوعاً إلى الخبز ولا عطشاً للماء، بل لاستماع كلمات الرب التي رفضوها. وكشعب مهجور سوف يتجولون من بحر إلى بحر باحثين على كل الضفاف عن كلمة الرب التي يوماً ازدروا بها، ولكن بعد فوات الوقت، فإنهم «لا يجدونها» (ع11،12). ولا ريب أن هذه النبوءة قد تمت - على قياس ما - يوم سُبي شعب إسرائيل إلى أشور؛ غير أن عريضة الاتهام الكاملة تنتظرهم لأيام ضد المسيح. وليس إسرائيل ويهوذا وحدهما سيجتازون تلك المجاعة، فإن المسيحية الاسمية الأشد ذنباً، والتي طالما تباركت في غنى بالكتب المقدسة، هي الأخرى سوف تنحرف بتمامها عن الحق وتتحول إلى الخرافات. وسيأتي اليوم الذي فيه سوف يُرفع من الأرض روح الله، الذي طالما استخفوا به؛ حينئذ «تذبل بالعطش العذارى الجميلات والفتيان»، لأن ماء الحياة الذي رفضوه سوف يُمنع عنهم، فيموتون يأساً، ويسلَّمون لضلال شديد حتى يصدِّقوا الكذب، يوم يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم. وسوف ينتهي الجوع، ليس برجوعهم إلى الله، بل بأنهم سيحلفون بأوثانهم، ولكنهم إنما سيجدون - كما في يوم إيليا - أن أحداً من أوثانهم لا يسمعهم ولا يعتبرهم. فيسقطون ولا يقومون بعد (ع13،14). أصحاح 9 حبـــة لا تقع الأصحاح الأخير ينقسم إلى قسمين. الأعداد العشر الأولى تطالعنا بالرؤيا الخامسة، وبإحصاء يهوه للضيقات التي سوف تصيب إسرائيل في أرض تيهانهم، مع اليقين بأن حبَّة واحدة من حنطته لا تقع أو تضيع. ثم في الأعداد من 11-15، كما هي العادة المألوفة مع الأنبياء، يتشوق الرائي إلى الرجوع للمجد والبركة في الأيام الأخيرة، يوم تنتهي تجاربهم وتخلص الأمة في البقية الراجعة. والرؤيا في هذه المرة تتناول بيت الله. وفيها يُرى السيد قائماً على المذبح أو إلى جانبه، فيأمر بضرب تاج العمود حتى ترجف الأعتاب. والكهنة والشعب لن يتمكنوا من الهروب، فإنهم مخصصون للهلاك الذي لن ينجو منه أحد (ع1). ويعلن أنهم ولو نقبوا إلى الهاوية، أي مقر الأرواح، أو حاولوا أن يتسلقوا إلى السماء، فإن يده سوف تقبض عليهم. قد يختبئون في رأس الكرمل، أو في غمار البحر، فلن يهربوا من القضاء العادل بسبب خطاياهم. وحتى وهم مسبيون في وسط أعدائهم فإنه يرسل عليهم سيفاً ويجعل عليهم عينيه للشر لا للخير (ع2-4). تلك هي الرؤيا. وعاموس يتخذها موضوعاً له في الأعداد التالية. فهو يصف عظمة الإله الذي ازدروه، ويدعو الطبيعة لتشهد لقدرته وحكمته تعالى. بلمسته تذوب الأرض والساكنون فيها ينوحون. يبسط السحب فوق السماوات ويصبَّ على الأرض أمطاراً، يهوه اسمه (ع5،6). مَنْ إذاً يتحدى ويناهض إلهاً كهذا؟ ومن ممن يحتقرونه يتوقع أنه ينجح؟ إن امتيازات إسرائيل الخاصة لن تجدي الآن نفعاً، فقد أصبحوا لا يستحقون أكثر من سواهم، فهم لا يفرقون شيئاً عن الكوشيين. ونفس الإله القدير الذي أخرج إسرائيل من أرض مصر، هو كذلك الذي أخرج الفلسطينيين من كفتور والأراميين من قير، ولم يعد إسرائيل في عينيه الآن سوى مملكة خاطئة أكثر شراً من جيرانهم. وهكذا فإنه يبيدهم عن وجه الأرض. بيد أنه ذكَر وعده للآباء، فكلمته عن النسل العتيد لن تسقط، لذلك فهو يستثني بقية، هو «لا يبيد بيت يعقوب تماماً» (ع7،8). بل سوف يغربلهم بين جميع الأمم كما الحنطة في غربال، لكن حبة واحدة لا تقع على الأرض. فقط الخطاة من الشعب هم الذين يموتون بالسيف، أولئك الذين قالوا «لا يقترب الشر ولا يأتي بيننا» (ع9،10). وهذا هو التشبيه الذي استخدمه سيدنا مع بطرس الواثق في نفسه. فقد كان عتيداً أن يدخل في غربال الشيطان، لكن ليس لهلاك قاطع، بل لكي ينفصل التبن عن الحنطة. تلك هي نتيجة غربلة إسرائيل بين الأمم. فليس إسرائيل الله هم كل أولئك الذين من نسل إسرائيل، أي ليس جميع الذين من صُلب يعقوب هم بنو الإيمان. إنما الذين ينحنون لكلمة الرب ويصدِّقون شهادته هم إسرائيل الله، على هؤلاء يستمطر رسول العهد الجديد سلاماً ورحمة من الله. وهؤلاء هم الحنطة التي ستبقى محفوظة للملكوت العتيد. في ذلك اليوم ستقام خيمة داود التي طال زمان سقوطها، وتعود مدينة أورشليم وتبنى وتقوم على أنقاض الماضي. وإسرائيل الراجع سوف يرث أرض أدوم، وجميع الأمم الناجية سوف تعترف بسيادتهم (ع11،12). ولاحظ أن هذا هو النص الذي اقتبسه يعقوب في أعمال15 ليبرِّر دعوة الأمم، ولو أن في تطبيقه لهذا الاقتباس ما هو أبعد من ذلك. وهذا القول يتفق تماماً مع فكرة انطلاق النعمة للأمم. كما نتبين منه أنه بعد ما يكتمل عمل الله الحاضر في أن يأخذ من بين الأمم شعباً لاسمه، سيحوِّل الرب يده ويمدها مرة أخرى لإسرائيل، ويقيم مظلة داود متمِّماً جميع المواعيد التي تكلم بها الأنبياء (أع15؛ إر16،17). وفي وقت الرجوع المجيد ذاك، سوف تعود أرض فلسطين وتزرع وتترنم وتزهر. ويستقر سبي إسرائيل في أرضهم، أرض ميراثهم. والمدن الخربة سوف تعود وتبنى وتُسكن. والكروم والجنات سوف تزدهر. والله نفسه سيغرس شعبه المختار في الأرض التي أعطاها لآبائهم وثبتها بقسم «ولن يُقلَعوا بعد من أرضهم» التي يعيدهم إليها، بل هناك يسكنون تحت مُلك الرب يسوع المسيح الشامل. والكلمات الثلاث «قال الرب إلهك» هي خاتمة قاطعة للسفر كله. فلقد تكلم الله، وسوف يُجري كلمته من أجل اسمه. |
جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.