لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

سفر يشوع

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب وليم كيلي

الفصل الثالث

(من الإصحاح التاسع إلى الثاني عشر)

في الجهاد المسيحي ليست المسألة دائماً من جهة قوة العدو فقط؛ لأن قوتهُ ليست من أقوى الشرور التي يصادفها شعب الله في هذا العالم، بل يجب أن يخشى من حيل الشرير أكثر من قوتهِ؛ لأن الشيطان إذا أتى أولاد الله كحية يضرُّبهم أكثر مما لو أتاهم مزمجراً كأَسد. من المعلوم أن الخصم في وقت الاضطهادات الجهارية يكون مثل أسد زائر، ولكن في وقت الأَمن والراحة يستعمل التمليقات والخداع ليجتذب قلوب شعب الله إلى العالم ويغريهم لحبهِ ومعاشرتهِ، وأنهُ من الأمور المحزنة نجاحهُ في ذلك وكم قد استعمل حيلة الحية لضرر شعب الله وإهانة مجدهِ فيهم، ولكن تعزيتنا بهذا الخصوص تأتي من النعمة الإلهية التي هي فوق كل شيء وقد وضعت لنا قانوناً بهِ يمكننا أن نكتشف مكائد العدو ونميز بين ما هو للعالم وما هو للمسيح. ولنا من هذا القبيل قانون أعلى مما كان لليهود بحيث أننا نحكم في كل شيءٍ بحسب مقامنا المسيحي ودعوتنا السماوية العليا، فإذاً الاضطهادات التي يثيرها الشيطان علينا إذ يهيج بغض العالم إنما تسوقنا بأكثر سرعة إلى ملجأَنا الوحيد، وإذ ذاك نقول مع الرسول: «ولكننا في هذهِ جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا» (رومية 37:8) تختلف دعوتنا عن دعوة إسرائيل قديماً بحيث أنهم دعُوا إلى الراحة والاطمئنان ولصيانة حياتهم الأرضية خلاف الكلمة المقولة لنا «من وَجد حياتهُ يضيعها، ومن أضاع حياتهُ من أجلي يجدها» (متى 39:10)

إن رفض المسيح من العالم غيَّر كل شيءٍ هنا للمؤْمنين بهِ، فامتلاكنا المسيح واتحادنا معهُ وهو مرفوض من العالم ومرتفع إلى السماء جعلانا مطمئنين ولو خسرنا كل شيءٍ هنا حتى حياتنا أيضاً. ولكن ماذا ذلك كلهُ بالنسبة إلى الحياة الأبدية؟ فإن المسيح عَلَى حالة القيامة من الأموات هو حياتنا، وبما أنهُ هو حياتنا نرى العالم الرافضهُ ضدنا، ويستطيع الشيطان أن يستعملهُ لضررنا، ولكن عند هيجان العالم ضدّنا نختبر عظم بركتنا؛ لأنهُ إن هاج العالم بغضاً لنا ولاطمنا وأهاننا وأحرمنا ما نحسبهُ ضرورياً لمعاشنا هنا فماذا إذاً؟ إننا نزداد فرحاً وشكراً لله لأن ذلك عطية جيدة تؤول لمجد الله «لأنهُ قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤْمنوا بهِ فقط بل أيضاً أن تتأَلموا لأجلهِ» (فيلبي 29:1) لذلك ما علينا إلاَّ أن نتقدم إلى ما هو قدام طاعة لمشيئة الله، لأن كلما كانت جلدات الشيطان قوية مؤلمة أعطانا الرب نعمة أوفر، وحوَّل جميع آلامنا وأحزاننا لخير نفوسنا إذا قبلناها من يد أَبينا كما يليق بأبناءٍ مطيعين، ويكون المسيح نفسهُ قوتنا العظمى في ذلك، غير أنهُ ينبغي أن نتذكر دائماً أن الوقوف قدام مكائد إبليس وحيلهِ أصعب جداً من الوقوف أمام قوتهِ التي أُبطلت بغلبة المسيح وإن استعملها إنما تحمل المؤمن بأكثر سرعة إلى ملجأَهِ الأمين.

اجتمع جميع ملوك كنعان ضدّ إسرائيل، ولكن لا قوتهم أسقطت شعب الله بل حيلة سكان جبعون.

«ولما سمع جميع الملوك الذين في عبر الأردن في الجبل وفي السهل وفي كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحوّيون واليبوسيون اجتمعوا معاً لمحاربة يشوع وإسرائيل بصوتِ واحد» (يشوع 1:9و2) فالظاهر أن هؤلاء الملوك تشجعوا بسبب انكسار إسرائيل قدام أهل عاي؛ لأنهُ عند سقوط أريحا وقع رعب شديد عليهم، ولكن بعد حادثة عاي تعلم الملوك أن إسرائيل ليس بمنصور دائماً، وأصابوا بأفكارهم؛ لأنهم تأكدوا مما جرى أنهُ بممكن أن إسرائيل ينكسر بكل ذلّ حين نظروا أن مدينة صغيرة توقف ذلك الجيش العظيم الذي ذابت قلوب جميع سكان الأرض من إقبالهِ عندما عبروا الأردن ثم سقطت أريحا من جري هتافهم فقط، وأما بعد انكسارهم أمام عاي فأخذ الملوك يتشجعون وتشاوروا معاً وقرّ رأَيهم أنهُ إذا اتفقوا معاً ضدّ جيش إسرائيل يقدرون عليهم؛ لأنهُ حسبما ظهر لهم أن أهل عاي كسروهم بكل سهولة المرة الأولى وإنما انكسروا المرة الثانية لأنهم من زيادة الثقة تجاسروا أكثر من اللازم إذ تركوا المدينة فأُخذت بواسطة الكمين، ولم يعرفوا ما كان الله قاصداً أن يُعلِّم شعبهُ إياهُ، فلا عجب من ذلك؛ لأن إسرائيل أنفسهم لم يتعلموا ذلك بعد كما يجب، كانوا قد استفادوا قليلاً إذ رأَوا أن لا شيءٍ ينصرهم سوى حضور إلههم معهم، ولكنهم خافوا قليلاً لما رأَوا كل هؤلاء الملوك متفقين عليهم وسقطوا في الفخ الذي نصبهُ قدامهم الشيطان حين أتاهم سكان جبعون ليتحالفوا معهم لأنهم حسبوا ذلك نجداً مناسباً لهم تحت ظروف كهذهِ بحيث يكون لهم بعض أصحاب يساعدونهم أو عَلَى الأقل لا يساعدون أعدائهم عليهم.

«وساروا إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال وقالوا لهُ ولرجال إسرائيل من أرض بعيدة جئنا، والآن اقطعوا لنا عهداً» (يشوع 6:9) فكلام كهذا كان من شأْنهِ أن يزيل من بال إسرائيل كل شك بكونهم مخطئين إذا سمعوهُ؛ لأَنهم كانوا عارفين كل المعرفة أن الله لا يدعهم يتحالفوا مع أمم كنعان الذين قد حكم عليهم بالهلاك. إن الله كان قد أعطى تلك الأرض لعبده إبراهيم من برهة أربع مائة سنة، ومع ذلك بقي الكنعانيون فيها أجيالاً عديدة بدون من يكدرهم، ولم يخطر عَلَى بالهم إلاَّ من مدة وجيزة نحو أربعين سنة أنهُ مزمع أن يصير عليهم خطر، وذلك حين بلغهم الخبر بعبور إسرائيل البحر الأحمر فارتعدوا أنظر (خروج 13:15-18) ثم بعد سكوت مدة أربعين سنة عاد ففاجئهم خبر بقدوم إسرائيل من شرقي الأردن ثم عبورهم إياه بطريقة معجبة وبعد ذلك سقوط أريحا ولو شاءُوا كان ممكنا لهم أن يهاجروا كنعان ويسكنوا في بلدان أُخرى؛ لأنهُ لم يبق لهم حرب في أرض الرب، نعم كل كرة الأرض لله لكنهُ اختار إبراهيم وأعطاهُ أرض كنعان، فمن هم ملوك كنعان أو غيرهم حتى يقاومون الله؟ وبأي حقٍّ يغتصبون أرضهُ أو يستوطنون فيها بخلاف إرادتهِ؟ أَليس هو المطلق السلطان؟ أو هل نحسبهُ تعالى وحدهُ بدون حق التصرُّف في العالم كما يشاءُ مع أننا نسلم للملوك بالحقوق المختصة بالسياسة ويتصرفون كل واحد منهم في أراضي ملكهِ كما يشاءُ! ما أعجب الأفكار التي استولت عَلَى عقول الناس من جهة حقوق الله في سياسة هذا العالم! لنتذكر أن الله عبّر إسرائيل الأردن بموجب حقوقهِ المطلقة بالنظر إلى كونهِ سيد الأرض كلها، تابوت العهد الذي قادهم كان تابوت الرب سيد الأرض كلها. راجع ( يشوع 11:3-13) وإذ ذاك لم يشاء أن ينقص شيئاً من حقوقهِ الإلهية ولم يعبر إسرائيل بموجب حقوقهم الإنسانية بل إنما رفعوا راية الرب عند دخولهم أرض كنعان، فإذاً الذين قاوموها خاطروا بأنفسهم؛ لأنهم عرفوا أن الله إله إسرائيل قاصد أن يسكن شعبهُ نسل إبراهيم في تلك الأرض لو أرادوا أن يصدقوا ذلك ولكن لم يريدوا مع أنهُ كان قد بلغهم كل ما جرى مع فرعون وعماليق وعوج وسيحون ومديان اتفقوا بصوت واحد أن يحاربوا إسرائيل فيجب أن تكون العواقب المرة عَلَى رؤُوسهم .

وأما سكان جبعون فبادروا إلى العمل عَلَى طريق آخر بينما كان باقي الأمم متكلين عَلَى القوة الظاهرة، عمل سكان جبعون بغدرٍ وفي ذلك رمز صريح إلى مكائد إبليس مع شعب الله في كل حين، إننا نعلم من (أفسس 6) حقيقة مؤثرة بهذا الخصوص، وهي أننا نحتاج إلى سلاح الله الكامل لكي نتمكن من الثبوت ضد مكائد إبليس، وفي نفس هذا الإصحاح المشار إليهِ مبايتة بين مجاهدة إسرائيل ضد الكنعانيين ومصارعتنا نحن ضد إبليس وأجنادهِ حيث يقول:«فإن مصارعتنا ليست» الخ يعني بذلك أن مصارعتنا تختلف عن مصارعة إسرائيل كما تقدم. فإذاً يجوز لنا حسب نور العهد الجديد أن نشبه سكان جبعون فيما عملوا بالذين يستخدمهم الشيطان في كل حين ليغدروا بشعب الله ويقودوهم إلى مخالفة ما يوافق عهد الله ودعوتهِ، فقالوا ليشوع ورجال إسرائيل:«من أرض بعيدة جئنا، والآن اقطعوا لنا عهداً فقال رجال إسرائيل للحويين: لعلك ساكن في وسطي فكيف أقطع لك عهداً؟» (يشوع 7:9و8) فعندي أنا هذه الحادثة تفيدنا بطريقة محزنة بحيث نرى ليس يشوع والشيوخ ارتابوا في كلام الجبعونيين بل رجال إسرائيل الذين ما كنا نظن أن فيهم تمييزاً هكذا أكثر من رؤسائهم، وهكذا يصير معنا أوقاتاً كثيرة يظهر تمييزٌ روحي في البسطاء أكثر مما يظهر في الذين كنا نظنهم مميزين. وعَلَى أي حال كانت يجعلنا الله نشعر باحتياجنا إليهِ.

وإن كان كذلك في إسرائيل فكم بالحري في الكنيسة لا نقدر أن نستغني عن عضو واحد من أعضاء المسيح لأن الله قد مزج الجسد كما شاءَ، فإن كان أخ واحد ولو كان عَلَى غاية من البساطة يرتاب في مسألة من جهة التصرف الحسن اللائق بجماعة اخوتهِ حال كونهِ مخلص النية علينا أن ننتبه لهذا الأخ ونفحص بالمسألة فحصاً مدققاً، لعل فكر هذا الأخ من الله القاصد بذلك أن يصوننا جميعاً من فخ العدو، ولكن يشوع وعرفاء الشعب لم ينتبهوا إلى ما سأل عنهُ الرجال الإسرائيليون؛ لأنهُ من النوادر أن من تعوَّد السياسة يسمع لرأْي الذين تحت قيادتهِ إذ يبان ذلك كأنهُ خلاف الطبيعة، وأما في أمور الله فكل من يحتقر أصغر اخوتهِ يخسر خسارة عظيمة كما ظهر وقتئذٍ، فلما جاوب رجال إسرائيل بالبساطة قائلين: «فكيف أقطع لك عهداً؟» سكت الجبعونيون عن موضوع قطع العهد والتفتوا إلى يشوع وقالوا لهُ:«عبيدك نحن» (يشوع8:9) فحسب الظاهر لا يمكن أن يكون كلام أظرف من هذا! «فقال لهم يشوع: من أنتم؟ ومن أين جئتم؟ فقالوا لهُ: من أرض بعيدة جدَّاً جاءَ عبيدك عَلَى اسم الرب إلهك» (يشوع 8:9و9) فبهذا انكشف خداع العدو تماماً؛ لأنهُ كان من أغرب العجائب أن يُسمع اعتراف باسم الرب من شفاه كنعانيين، فاعترفوا هذا لأنهم عرفوا أنهُ يقع في موقع القبول عند واحد مثل يشوع؛ لأن من يعتبر اسم الرب حقيقة يسرع لقبول الاعتراف بهِ ولو كان الاعتراف ممن لم يكن ينتظرهُ منهم. ثم بعدما لاحظوا فاعلية كلامهم فيهِ عادوا فقالوا:«لأننا سمعنا خبره وكل ما عمل بمصر وكل ما عمل بملكي الأموريين الخ» (يشوع 6:9-13) فقصتهم الطويلة المركبة من الأكاذيب أخذت فاعليتها في يشوع والشعب «فأخذ الرجال من زادهم ومن فم الرب لم يسأَلوا» (يشوع 14:9) وهكذا رمى أهل جبعون الطعم لإسرائيل واصطادوهم بهِ فلحقت عواقب هذا الضرر بني إسرائيل زماناً طويلاً. إن رجال إسرائيل الذين ارتابوا أولاً صاروا بأَمن الآن وسلموا أنفسهم لشبكة الصياد، ولا عجب من ذلك حيث يشوع قائدهم قد أُخذ بها أولاً. أخذوا من زادهم علامة الشركة، ولكنهم لم يسألوا من فم الرب فهنا العدو كسر إسرائيل مرة ثانية، وذلك عبرة لنا في كل حين، لا نعرف كم من العواقب المحزنة تتعلق باشتراكنا مع أُناس بدون أن نسأل من فم الرب، نرى مثال ذلك في ما جرى مع بطرس في إنطاكية من جهة أكلهِ الطعام وامتناعهِ عنهُ مع المؤمنين من الأمم، إذ خاف من أهل الختان وانفصل عن اخوتهِ حتى أن برنابا انقاد إلى ذلك، فبطرس الشجاع خاف عَلَى شرفهِ مع أهل الختان واستعمل الرياء، وبهذه الواسطة فاز الشيطان بالغلبة عَلَى شعب الله إلى حين وكانت لغلبتهِ عواقب عظيمة مرة لولا وجود بولس هناك الذي حملتهُ الغيرة للمحاماة عن حق الإنجيل (مهما خسر من اعتبار اخوتهِ لهُ) فوبخ بطرس مواجهة لكي يثبت عندنا حق الإنجيل، ولولا لذلك لكنا قد فقدناهُ بواسطة حادثة صغيرة جدّاً كهذه التي هي مجابرة الاخوة في الطعام، بطرس والذين معهُ أكلوا وامتنعوا عن الأكل ولم يسأَلوا من فم الرب.

«فعمل يشوع لهم صلحاً وقطع لهم عهداً لاستحيائهم وحلف لهم رؤساء الجماعة» (يشوع 15:9) فتعاهدوا معهم معاهدة مقترنة مع اسم الرب. ومما يستحق الاعتبار أنهُ لم يخطر عَلَى بالهم أن ينكثوا العهد مستخفين باسم الرب الذي ربطوا أنفسهم بهِ، مع أنهم عرفوا بعد ذلك أنهم أُخذوا بغدرٍ، لكنهم لم يحسبوهُ من الأمور الجائزة أن ينكثوا العهد احتراماً لأسم الرب، ونحن كذلك يجب علينا أن نحترس كل الاحتراس من أن نهين مجد هذا الاسم ‘ن كنا قد ارتبطنا بهِ ولو في ما يؤول لضررنا، كان الضرر قد حدث وتمَّ وما عاد ممكناً لهم أن يردوا ما حدث بحكمتهم، ولكنهُ كان ممكناً لهم أن يتخلصوا من ذلك لو شاءَوا أن يسألوا من فم الرب ماذا ينبغي أن يفعلوا والأمر هكذا معهم، ولكنهم لم يسألوه فأخطئوا مرة ثانية؛ لأنهم عاهدوا سكان جبعون بدون الرب ثم صادقوا عَلَى ما عملوا بدون أن يسأَلوه، والحاصل أن العدو قد فاز بغلبة عظيمة عَلَى جيش الرب في ذلك اليوم. أَلا يتضمن في كل ذلك تعليم لنا أيها الأحباء وإنذار مؤثر، فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً، وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور (كورنثوس الأولى 11:10) أنهُ يهمنا جداً في جميع المسائل المتعبة والتي يمكن أن يكون فيها ما يؤثر في احساساتنا ويربطنا برباطات عملية أن نسأَل من فم الرب قبل أن نرتبط بشيء منها، فإن هذا يوفر علينا كثيراً من الحزن والخجل، ويحفظنا من الانكسار أمام أعدائنا، وهذا يجب خصوصاً عَلَى الذين فيهم حكمة لإرشاد الآخرين ولهم المقام الأول بين اخوتهم؛ لأنهُ من المعلوم أنهُ يصعب جدًّا عَلَى أمثال هؤلاءِ أن يرجعوا عن كلمتهم ولو كانوا قد استعجلوا بنطقها في مسألة ما، وكلما ازدادت خبرتهم في أمور الله، وقويت سلطتهم بين شعبهِ استصعبوا النزول عن قولهم أكثر، وإن اصطادهم الشيطان فارتبكوا بأمرٍ ما تنتج من ذلك عواقب مرّة، فعلينا بتخصيص هذا المبدأ لأنفسنا، أنهُ سهل علينا أن نستعجل بتقديم النصائح لغيرنا إن وقعوا في ارتباكات ونقول بغاية التأكيد: ينبغي أن يُفعل كذا وكذا بينما لم نسأل من فم الرب. لذلك لنصلِّ بعضنا لأجل البعض وخصوصاً لأجل الذين يحتاجون مشورة الرب أكثر بالنظر إلى مقامهم كي يُحفظوا من التكلم بالعجل فيما يتعلق بأنفسهم أو بغيرهم، لا سيما في ما يهين اسم الرب أو ما يمجدهُ في مجاهدتنا ضدّ العدو. هذا كلهُ من الفوائد التي يجوز لنا أن نستخرجها لأنفسنا من قصة سكان جبعون وغدرهم برجال إسرائيل، سمح الله بأنهم يُحفظون ولكن حاملين دمغة الإهانة بين إسرائيل.

«فدعاهم يشوع وكلمهم قائلاً: لماذا خدعتمونا قائلين نحن بعيدون عنكم جداً وأنتم ساكنون في وسطنا؟ فالآن ملعونون أنتم، فلا ينقطع منكم العبيد ومحتطبو الحطب ومستقو الماء لبيت إلهي لبيت إلهي الخ» (يشوع 22:9-26) فلم يبقَ طريق عادل لاستحيائهم سوى استبعادهم، فأعطيتْ حكمة ليشوع وللشيوخ حتى يخلصوا الجبعونيين من الجماعة فاستبعدوهم ؛ لأنهم لو قتلوهم بعدما عاهدوهم لكانت عليهم خطية أخرى كما يبان مما صار بعد ذلك مع بيت الملك شاول، صار اسم الرب الجليل رابطاً بين الجبعونيين وإسرائيل، ولكنهم بحالة العبودية لبت الرب ومذبحهِ فالحاصل أن لا شيء صانهم سوى اسمهِ العزيز، فاقترنوا بمذبحهِ لكن بدمغة العبودية عليهم، ولكن مع ذلك كان الضرر الحاصل لإسرائيل من معاهدة أهل جبعون أكثر جداً من الضرر الذي حصل من انكسارهم أمام أهل عاي حين صعدوا بقوتهم؛ لأن انكسارهم هناك كان مؤقتاً وكان ممكناً لله أن ينظر إليهم ويخلصهم من مذلتهم، وأما هنا فوقعوا في ضرر مزمن لا تزال عواقبهُ تلحقهم وقتاً طويلاً كما سنرى. وهكذا كانت النتائج عظيمة ومضرة بهذا المقدار من أخذهم زاد سكان جبعون ومن فم الرب لم يسأَلوا.

«فلما سمع أدوني صادق ملك أورشليم أن يشوع قد أخذ عاي وحرمها كما فعل بأريحا وملكها فعل بعاي وملكها، وأن سكان جبعون قد صالحوا إسرائيل وكانوا في وسطهم خاف جدّاً؛ لأن جبعون مدينة عظيمة كإحدى المدن الملكية، وهي أعظم من عاي، وكل رجالها جبابرة، فأرسل أدوني صادق ملك أورشليم إلى هوهام ملك حبرون وفِرْام ملك برموت ويافيع ملك لخيش ودبير ملك عجلون يقول: اصعدوا إليَّ وأعينوني فنضرب جبعون لأنها صالحت يشوع وبني إسرائيل» (يشوع 1:10-4) فإذاً عوضاً عن أن يبطل اتفاق الملوك ضد إسرائيل بواسطة معاهدة أهل جبعون وبني إسرائيل اشتدّ وثبت بهذهِ الواسطة نفسها وتم بأكثر سرعة واعتمدوا عَلَى مهاجمة جبعون نفسها، ولكن الرب يتمم أفكارهُ رغماً عن مؤَامرة الملوك، وذلك ما يعزينا جدّاً، ومهما كانت الظروف لا يليق بنا أن نرتاب بإلهنا لأنهُ إن ضجت الأمواج وعلت إلى السماءِ فهو فوقها، وإن كنا قد استعجلنا واشتبكنا بشبكةٍ ما فلا نخاف أنهُ مزمع أن يتركنا، بل نعترف لهُ بزلتنا فنكون حينئذٍ قد غلبنا عَلَى أنفسنا أدبياً، وهذه الغلبة تعد لنا الطريق للغلبة عَلَى الشيطان، وهكذا صار وقتئذٍ، «فأرسل أهل جبعون إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال يقولون: لا تُرخِ يديك عن عبيدك اصعد إلينا عاجلاً وخلصنا وأعناَّ لأنهُ قد اجتمع علينا جميع ملوك الأموريين الساكنين في الجبل، فصعد يشوع من الجلجال الخ» (يشوع 6:10و7) فهذا الارتباك كان من أول نتائج معاهدتهم سكان جبعون، فأصبح يشوع ملتزماً بأن يعينهم لا هم يعينون إسرائيل.

فيقال هنا أن يشوع صعد من الجلجال الموضع الذي كانت محلة إسرائيل فيهِ، فلنسأل ماذا ينفعنا روحيّاً عَلَى سبيل الرمز كونهم حالين في الجلجال ورجوعهم إليها دائماً كان مدة حروبهم؟ فأقول: قد رأينا معنى الختان أنهُ يشير إلى حكمنا عَلَى أنفسنا بواسطة صليب الرب يسوع المسيح، وأن ذلك قد صار مرة واحدة في الذين هم في يسوع المسيح ولا يمكن إعادتهُ، وإن كان ذلك كذلك فماذا يعني رجوعهم دائماً إلى الجلجال موضع الاختتان؟ ولماذا حلوا هناك ولا في موضع آخر؟ كنا نظن أنهم كلما تقدموا في الحروب يقدمون المحلة أيضاً ولا يرجعون إلى مكان بعيد كهذا، فالجواب يتضمن فائدة عظيمة جدًّا لنا، فإننا نحن بناءً عَلَى أن إنساننا العتيق قد صلب مع المسيح عَلَى الصليب ينبغي لنا دائماً أن نرجع إلى مركزنا هذا متذكرين العمل الذي تمَّ لأجلنا هناك، ونحكم عَلَى أنفسنا وطرقنا بموجب ذلك، فرجوعهم إلى الجلجال يقابل إماتة شهواتنا ونكران ذواتنا في اختبارنا المسيحي. أنظر (رومية 19:6) و (كولوسي 5:3-8) فإنهُ أولاً اختتانهم المرة الأولى في الجلجال يقابل خلعنا جسم الخطايا البشرية مرة واحدة بصليب المسيح، وثانياً رجوعهم إلى المحلة هناك يقابل إماتة شهواتنا فعلاً ودائماً كقول الرسول المشار إليهِ: فأميتوا أعضائكم التي عَلَى الأرض الزنا النجاسة الخ فهذا لا يمكن إجراءهُ حقيقةً إن لم يكن صادراً من اتحادنا مع المسيح بموتهِ ومبنياً عليهِ كما نرى في (رومية 6) لأن الإنسان الذي يجتهد في إماتة شهواتهِ ليس بالنظر إلى صليب المسيح الذي هو حكم الله لا عَلَى ذنوبنا فقط بل عَلى نفس طبيعتنا البشرية أيضاً، فلا بد أن ينتفخ إذ يظن ذاتهُ أنهُ مستحق المدح نوعاً بسبب اجتهادهِ في قهر نفسهِ، لربما يقرّ بقصوراتهِ عَلَى سبيل التواضع بينما يظن في قلبهِ أنهُ أفضل من غيرهِ لأجل نفس هذا الإقرار، ناسباً لنفسهِ شيئاً من الفضائل لكونهِ قد اعترف بأن الحق عليهِ في مسألة ما؛ لأنهُ بقدر ما يكون الإنسان عظيماً في عيني نفسهِ بهذا المقدار يكون صليب المسيح صغيراً عندهُ، وبما أن الله قد حكم عَلَى طبيعتنا وقت صلب المسيح بعدم النفع مطلقاً، فمهما قهرنا ذواتنا إنما نقهر ما لا قيمة لهُ، فإذاً أين الافتخار؟ الإنسان ينكر نفسهُ ولكن المنكر والمنكر كلاهما عديم النفع، فهنا ترى ما أشير إليهِ برجوع إسرائيل دائماً إلى الجلجال الموضع الذي اختتنوا فيهِ مرّةً، فرجوعهم إليهِ ذكرهم دائماً أنهم بحالة الختان أي الإنفراز لله وإذ ذاك يجب أن يتصرفوا كما يليق بحالتهم، وهكذا نحن يجب علينا أن نعيش دائماً بالنظر إلى الصليب الذي بهِ قد خلعنا الجسد مرة واحدة وبموجب ذلك نميت فعلاً كل ما فينا لا يوافق الصليب. فما يهمنا لأجل سلوكنا أن نحلَّ في الجلجال إن فهمناهُ مجازياً. إني لا أُصادق عَلَى قول المسيحي القائل أنهُ يكفيهِ كونهُ قد وجد طبيعتهُ صلبت مرة واحدة عند موت المسيح، ولذلك لا ينبغي لهُ أن يهتم كثيراً في إماتتها فعلاً كل يوم، بل أقول لهُ نعم يا أخي إن ذلك حق ولكن ما هو المقصود بالرجوع دائماً إلى المحلة موضع الاختتان؟ أَلا يجب عليك إذاً أن تميت شهواتك كل يوم؟ بلى لأنهُ إن كان الأول حق فلا ينفي حقيقة الآخر أيضاً، فإن الأول هو الأساس للثاني، وإنهُ لأمر واضح ومسلم بهِ أن قهر أنفسنا بغض النظر عن صليب المسيح لا ينفعنا شيئاً ولكن بعد معرفتنا ذلك هل يجوز لنا أن نهمل نكران أنفسنا وإماتة شهواتنا دائماً؟ كلاَّ البتة، فإننا نكون مخجولين بسبب قصوراتنا العديدة عندما نراها في نور صليب المسيح ومجدهِ إذ هو القانون للحكم عَلَى أنفسنا لكي لا نطاوع شهواتنا في شيءٍ، ومن المعلوم أيضاً أن طبيعتنا تضادّ تعليماً كهذا؛ لأن آخر شيءٍ يتركهُ الإنسان هو ذاتهُ، ولكن عندما نلتفت إلى المسيح الذي كل سعادتنا منهُ محكوماً عليهِ من الله لأجلنا حال كونهِ القدوس البار متألماً لأجل الأَثمة نرى حينئذٍ ما هو مركزنا والقانون لسلوكنا أيضاً، وإن كنا لا نضبط شهواتنا بموجب ذلك يؤدبنا الله بطرق محزنة للغاية لينبهنا بواسطتها؛ لأن كيف نعيش في الخطايا التي مات المسيح لأجلها، ولو سلكنا دائماً بنور كلمة الله حاكمين عَلَى أنفسنا في كل ما لا يوافقهُ لحفظنا من تأْديبات وأحزان كثيرة جلبناها عَلَى أنفسنا (كورنثوس الأولى 31:11و32) إن تغافلنا عن ذلك فإنهُ آمين ومحافظ عَلَى مجدهِ في أولادهِ ولا يمتنع عن أن يفكّرنا بطرق مؤلمة.

إننا بخطر دائماً من هذا القبيل لأننا تارة تضطرم غيرتنا في خدمة الرب ونسعى باجتهادٍ لإفادة الآخرين ناسين أنفسنا، وتارة من الفتور نتساهل فنطيع شهواتنا، وعَلَى الحالين نحن في خطر. مع أن الأولى هي في الظاهر أسلم من الثانية، الأمر ليس كذلك لأنهُ لا يسمح للمسيحي مهما غار عَلَى خدمة الرب أن يغفل عن حالة نفسهِ أمام الله قائلاً مع الحبيبة: «جعلوني ناطورة الكروم، أما كرمي فلم أنطرهُ» (نشيد الأنشاد 6:1) لأن هذهِ الخدمة عينها تقتضي سهراً زائداً حذراً من فخاخ العدو كما قد ظهر في نفس هذا لتاريخ، نعم وإن كنا عَلَى الحالة الروحية المعبر عنها بأرض كنعان فذلك لا يغنينا عن السهر الدائم وإماتة شهواتنا التي تحارب النفس. مادمنا مجاهدين في حروب الرب نحتاج إلى أن نرجع دائماً إلى المحلة في الجلجال لأن المسيح لم يصلب لأجلنا فقط بل صلبنا نحن معهُ أيضاً «ولكن الذين هم في المسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواءِ والشهوات» (غلاطية 24:5) فإن لم نسلك سلوكاً موافقاً للصليب نسقط في فخاخ إبليس ونختبر أحزاناً مرّة وآلاماً شديدة من يد الله تأديباً لنا، وحين يؤَدبنا يضربنا من نفس الباب الذي خرجنا منهُ طاعة لشهواتنا «الله لا يشمخ عليهِ، فإن الذي يزرعهُ الإنسان إياهُ يحصد أيضاً، لأن من يزرع لجسدهِ فمن الجسد يحصد فساداً» (غلاطية 7:6و8) فليرجعنا إلى جلجالنا مهما كلفنا رجوعنا من الحزن والخجل. ثم إختتان جيش الله في الجلجال صار علامة لهم عَلَى انفرازهم لله؛ فإن قوتهم ضد أعدائهم تكون بقدر محافظتهم عَلَى عدم اختلاطهم مع الأمم، وإذ ذاك كان الجلجال أنسب موضع لمحلتهم، قاموا من هناك فخرجوا للحرب ثم رجعوا إليهِ بعد النصرة، ومثلهم مثلنا في جهادنا الروحي بحيث مركزنا هو صليب المسيح الذي قد أفرزنا عن العالم ولا يزال يحفظنا، كذلك وإن غفلنا في وقتٍ ما زالت قوتنا ضد العدو فأصبحنا مثل العالم.

«قال الرب ليشوع: لا تخافهم لأني بيدك قد أسلمتهم، لا يقف رجل منهم بوجهك، فأتى إليهم يشوع  بغتةً، صعد الليل كلهُ من الجلجال، فأزعجهم الرب أمام إسرائيل وضربهم ضربة عظيمة في جبعون وطردهم في طريق عقبة بيت حورون وضربهم إلى عزيقة وإلى مقيدة، وبينما هم هاربون من أمام إسرائيل وهم في منحدر بيت حورون رماهم الرب بحجارة عظيمة من السماءِ إلى عزيقة فماتوا، والذين ماتوا بحجارة البرد هم أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف» (يشوع 8:10-11) فبالحقيقة حارب الرب عن إسرائيل في ذلك اليوم وأظهر يدهُ بطريقة عجيبة جدًّا، لا شك أنهُ كان يقدر أن يعمل كل شيءٍ وحدهُ كما عمل عند البحر الأحمر ولكنهُ سمح لهم أن يشتركوا في العمل وكان ذلك حسب ما كان آخذاً بإجرائهِ مع شعبِ في ذلك العهد. الشكر لله لأن دعوتنا في هذا العهد أفضل؛ لأنها دعوة سماوية، ولكن مع كل ذلك أنهُ يكون من العمى لا بل من الحماقة العديمة الخشوع إذا استخفينا بالكرامة التي منحها الله لإسرائيل بشركتهم معهُ في إبادة أمم كنعان؛ إذ كانوا قد جعلوا تلك الأرض نظير موضع لوباءِ معدٍ قتال ليس لأنفسهم فقط بل لبقية العالم أيضاً، وإذ وجد شعبٌ لله قصد الله أن يسكنهم في تلك الأرض الجيدة فلم يكن طريق آخر لذلك سوى إبادة أولئك الكنعانيين تماماً؛ لأنهُ إن كان يجوز لملك أرضي أن يلاشي قوماً ن رعيتهُ بسبب زيادة فتنهم ويسكن آخرين في موضعهم فكم بالحري يجوز لله أن يفعل كذلك إذا شاءَ؟

«حينئذٍ كلم يشوع الرب يوم أسلم الرب الأموريين أمام بني إسرائيل وقال أمام عيون إسرائيل يا شمس دومي عَلَى جبعون ويا قمر عَلَى وادي أيلون» (يشوع 12:10) فلنلاحظ أن يشوع كلّم الرب قبلما كلّم الشمس؛ لأنهُ قد أكرم الخالق لا الخليقة التي يجوز لنا أن نستعين فيها، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الرب من أعدائهِ «أليس هذا مكتوباً في سفر ياشر فوقفت الشمس في كبد السماءِ ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل ولم يكن مثل هذا اليوم قبلهُ ولا بعدهُ سمع فيهِ الرب صوت إنسان لأن الرب حارب عن إسرائيل» (يشوع 13:10و14)  نعم كان ذلك اليوم عجيباً جداً مستحق الذكر الدائم، ولا شك بأن خبرهُ يعثر الكافر ولكنهُ  يفرح المؤْمن، إني لمسلمٌ أن أهل العلوم قد وجدوا صعوبات عظيمة في هذه الحادثة؛ لأنهُ من دأبهم أن يستصعبوا كل ما يفوق معرفتهم، ونحن لا نقدر أن نساعدهم؛ لأن لا شيء يحفظنا من العثرة في أمور الله سوى الثقة فيهِ وفي كلمتهِ، فالصعوبات والمشاكل مهما كانت عظيمة سواء كانت في الأخبار الواردة في الكتاب أو الجارية في ظروفنا لا يجوز لنا أن نقيسها عَلَى حكمتنا وقوتنا، بل نقيسها عَلَى الله سبحانه وتعالى، وهذا آخر شيءٍ يخطر عَلَى بال الإنسان لكونهِ واثقاً في نفسه ومرتاباً في إلههِ.

في ذكر هذه الحادثة شيء آخر يجب الالتفات إليهِ وهو أن يشوع لم يأمر الشمس فقط بالوقوف بل القمر أيضاً، وذلك ليس لأجل ضوءهِ؛ لأن ضوء الشمس الحاكمة النهار يكفيهم من هذا القبيل، فكان إذاً سبب آخر يقتضي توقيف القمر. فلنسأل: ما هو هذا السبب؟ لا شك أن الله أرشد يشوع لأمرٍ غريب كهذا ثم أظهر قدرتهُ الإلهية لإجراءِ ما أمر بهِ، فوقفت الشمس والقمر أيضاً. من المعلوم أن الأرض هي التي تدور لا الأجرام السماوية التي حسب الظاهر هي الدائرة، فالكتاب المقدس يستعمل الكلام الدارج المفهوم عند العامة لا الكلام المختص بأهل العلوم الذي لا يُفهم عند العامة، وعدا ذلك كلام كهذا لا يستعمل عند البسطاء بل عند العلماءِ أنفسهم أيضاً؛ لأن أعلم العلماء وأشهرهم يقول في كلامهِ الاعتيادي: طلعت الشمس أو غابت الشمس، كما أن الفلاح يقول هكذا، وذلك من الأمور الموافقة، ومن يستعمل كلاماً خلاف ذلك فيعدُّ من الحمقى لا من العقلاء، فيشوع إنما استعمل الألفاظ اللائقة.

ومن المعلوم أيضاً أن العلم المدقق بالأجرام السماوية إنما انكشف من مدة وجيزة ولم يكن عند اليهود ولا عند الأمم قديماً، وأنهُ من الأمور المحققة الآن أنهُ لو وقفت الشمس وحدها واستمر القمر في سيرهِ لانخربتْ دائرة الطبيعة، غير أننا لا نظن أن ذلك كان معلوماً عند يشوع حين أمر القمر بالوقوف مع الشمس، فلو فعل هذا الأمر بحكمتهِ لما خطر ذلك عَلَى بالهِ بل كان قد اكتفى بتوقيف الشمس التي كان ضوئها ضرورياً لهم لأجل تكميل الانتقام من أعدائهم، ولكنهُ لم يعمل كذلك بل أوقف الشمس والقمر معاً، فيبان من ذلك أن الخالق ألهم يشوع بما تكلم في ذلك اليوم العجيب، وأن كلمة الله تحتوي ما يفوق العلوم لا ما يضادها إذا فهمناها حق الفهم، فإن العلماءَ الذين يتفوهون بما يحط في شأْن كلمة الله زاعمين أنهم تحققوا أموراً كثيرة من العلوم الطبيعية تغلّط كلمة الله إنما يفعلون ذلك من بغضهم لها وعدم درسهم إياها ككلمة الله؛ لأنهم بالحقيقة يحتقرونها ويسرون جدًّا إذا خال لهم أدنى مضادة بينها وبين العلوم ويتكلمون عن العلوم كأَنها محققة وأنها المحك أو المقياس الذي يجب امتحان كل شيءٍ بهِ، فلا تخفهم مع كل تعظمهم لأنهم لا يستطيعون أن يقفوا أمامك إذا تمسكت بكلمة الله مقتصراً عليها وحدها، ولا تجادلهم بحسب مباديهم العملية لأنهم واثقون بأن معرفتهم مستوفية ولو عرفت أكثر منهم فلا يقتنعون منك، وإذ ذاك فلا فائدة أدبية من مجادلتهم، ولربما تحتدّ بروحك وتنطق بما لا يليق، فالأحسن والأليق بك أن تستعمل كلمة الله وحدها فإنها سيف ذو حدين مع أننا لا نقدر أن نستعملها كما يجب إلاَّ بمصاحبة الروح القدس لها، وإن كنت متكلاً عَلَى الله بكل تواضع يكون معك ويتنازل لأجل إرشادك ليس لافتخارك بل لما يؤُول لمجدهِ تعالى. لذلك عند مواجهتك أخصام الكلمة الممتلئين من الأفكار الباطلة والاعتراضات الفاسدة ضدّ كلمة إلهنا جاوبهم فقط من هذهِ الكلمة نفسها بلا خوف، فتجد أكثر اعتراضاتهم مبنية عَلَى اقتباسهم عبارة ما سؤَ الاقتباس إما بتحريفها أو بتجريدها عن قرائنها، وعَلَى أي وجهٍ يظهرون احتقارهم لكلمة الله وجهلهم إياها عَلَى حدٍّ سوى.

وطالما استهزأَ الكفرة بما قيل عن وقوف الشمس بأمر يشوع، ولم يخطر عَلَى بالهم أن يسأَلوا: لماذا أوقف القمر أيضاً؟ فإنهم لو فحصوا عن ذلك بإخلاص لظهرت لهم حقيقة جميلة، فإنهُ يظهر منها أن الخالق ليس بجاهل ترتيب الأمور التي خلقها، وأن الكلمة التي غلطوها هي صادقة وهي بالحقيقة كلمتهُ، وتجري جميع اعتراضاتهم الكفرية هذا المجرى نفسهُ. فيجب عَلَى كل مؤْمن أن يقتصر عَلَى كلمة الله بدون تردُّد؛ لأنها حصن منيع لكل من يلتجئ إليها. إن الحقائق العلمية مهما كانت صحيحة ونافعة في محلها لا تغنينا عن كلمة الله ولا يجب أن نجعلها أقل اعتباراً عند المسيحي؛ لأن الله لا يستعمل العلوم الطبيعية لإحياء نفوسنا أو لبنيانها روحياًّ، بل يستعمل كلامهُ لذلك، وبما أنهُ هو خالق كل شيءٍ وقد أعطانا كلمتهُ لإفادتنا أدبياً لا يمكن وجود اختلاف بين كلامهُ وأعمالهُ وإن ظهر شبه اختلاف يكون ذلك بسبب قصر معرفتنا وليس بسبب غلط أو نقص في كلمة إلهنا وهي التي تخلصنا من الغضب الآتي وتعزينا في أوقات الضيق وتؤكد لنا الميراث الأفضل الموضوع قدامنا، فينبغي لنا إذاً أن نصرف وقتاً بدرسها بكل خشوع لا بالتنكيت عليها؛ فإن توقيف الشمس والقمر كان من عجائب الله، وقد فعل ذلك لقصد عظيم ليتمجد بهِ؛ لأنه لا يصنع آية لإظهار قوتهِ فقط بدون أن يكون مقصد أدبي مقترناً معها. قد قال كثيرون: أن فعل الأعجوبة إنما هو توقيف قوانين الطبيعة مؤقتاً، ولكني لا أعتبر كلامهم هذا إلاَّ حدًّا ناقصاً ولربما يضلنا إذا قبلناهُ بدون فحص، فإنهُ ليس من الأمور اللائقة أن نقول أن الله يوقف قوانين الطبيعة؛ لأنهُ لا يوقفها مطلقاً، ولكن إن قصد في وقتٍ ما أن يجري آية إنما يرفع شخصاً أو شيئاً إلى حالة حيث يكون مؤقتاً فوق فاعلية قوانين الكون التي لا تزال جارية عَلَى مجراها ويستثنى منها ذلك الشيء إلى حين بحسب إرادة الله، مثلاً لما مشى بطرس عَلَى الماءِ، ولما عام الحديد بأمر أليشع النبي دامت قوانين الطبيعة كما هي، فإنهُ لو حاول أحدٌ المشي في أثر بطرس لغرق، وكذلك لو رمى آخر حديداً في الموضع نفسهِ الذي طفا فيهِ الحديد بأمر النبي لغرق أيضاً حسب العادة؛ لأن قوانين الطبيعة كانت جارية مجراها غير واقفة في الحادثتين، ولكن الله أظهر قدرتهُ بحفظ بطرس وبطفو الحديد رغماً عن تلك القوانين، وكذلك الأمر إذا أقيم أحدٌ من الأموات، فإن الموت لا إذ ذاك جارياً مجراهُ، فقط الله يستخرج واحداً من حكمهِ. قد قدمت هذهِ الملاحظة البسيطة دحضاً للاعتراض الذي نسمعهُ من أفواه كثيرين إذ يسأَلون قائلين ما هي الفائدة الناتجة من توقيف أو تعلق قوانين الطبيعة كلها لأجل حادثة واحدة كعوم الحديد أو شيءً آخر مثل ذلك؟ كأنهم ينسبون لله حماقة ظانين حسب زعمهم أنهُ يتكلف لعملٍ عظيم جدًّا لأجل إجرءِ شيء زهيد، ولكن الحماقة منهم؛ لأنهُ إن كان الله يريد أن يظهر لطفهُ نحو عبيدهِ وأجرى عملاًّ فوق الطبيعة لأجلهم فلا يعتبر ذلك زهيداً، ثم إذا نظرنا إلى ظروف إسرائيل أيضاً حين تداخل الله في أمرهم بطريقة عجيبة نرى إظهار لطفهِ ورحمته لا قدرته فقط؛ لأنهم كانوا قبل ذلك بقليل قد استعجلوا وعاهدوا سكان جبعون ومن فم الرب لم يسأَلوا، ومعاهدتهم هذه عينها جلبت غضب الملوك حتى عَلَى الجبعونيين أنفسهم، وحين استغاثوا بيشوع أسرع إلى معونتهم وهاجم جميع الأعداءِ، فنصره الرب عليهم ورماهم هو أيضاً بحجارة عظيمة من السماءِ، والذين ماتوا بحجارة البرد كانوا أكثر من الذين قتلهم بني إسرائيل بالسيف، ولما كانوا باحتياج لوقت أكثر لتكميل الانتقام من أعدائهم أوقف الله الشمس والقمر يوماً كاملاً، وبذلك برهن أنهُ مع شعبهِ وأنه ضد ملوك كنعان، وكان انكسارهم المرة الأولى أمام عاي ثم استعجالهم في معاهدة أهل جبعون قد جعلاهم يشعرون بضعفهم وعدم حكمتهم، ولكن مع ذلك كلهُ شاهدوا لطف إلههم وأمانتهُ الذي لم يمتنع عن أن يرافقهم إلى كسر هؤلاءِ الملوك المقتدرين الذين ذابت قوتهم مثل الشمع قدام النار حين قاتل الرب عن شعبهِ، فعلينا أن نتعلم نفس هذه الحقيقة في محاربتنا الروحية أنهُ إن كان الرب معنا ننتصر، وإن لم يكن معنا ننكسر، ذلك وإن كان انتصارنا أو انكسارنا ليس بظاهر عياناً فلا يكون إذ ذاك أقل حقيقة مما ظهر في إسرائيل، وعَلَى أي حال لا يريد الرب أن ننتصر بدونهُ؛ فإنهُ لو أمكننا أن نفوز بغلبات بدون الرب فماذا تكون الفائدة إلا فخاخاً عظيمة لنا؟ نعم يا أحبائي إنهُ خير لنا أن ننكسر ونهان ونحطّ في التراب عندما نتغافل عن كلمة الله ووجوب السيرة اللائقة بحضورهِ تعالى معنا من أن ننجح بطريقة مهينة لمجد إلهنا. فنستفيد إذاً من التأمل في هذه القصة فوائد كثيرة أدبية من كل وجه.

قد وصلنا الآن تقريباً إلى نهاية الأخبار عن حروب الرب المتضمنة في هذا السفر، نرى أيضاً في الإصحاح 10 بعض معاملات يشوع مع الملوك الذين استأْسرهم، إذ عاملهم بطريقة صارمة ليظهر للجميع أن الغلبة هي من قبل الرب وباسمهِ، وأنهُ أخذ بإبادة الكنعانيين أمام شعبه، وذلك كيفما تحالفوا ومهما تعصبوا ضد يشوع وإسرائيل فلا بدَّ من انكسارهم بقوة الرب ربّ الجنود، فسقطت الحصون والمدن والملوك وجيوشهم أمام يشوع القائد المنصور لشعب الله، «وأخذ يشوع جميع أولئك الملوك وأرضهم دفعة واحدة؛ لأن الرب إله إسرائيل حارب عن إسرائيل، ثم رجع يشوع وجميع إسرائيل معهُ إلى المحلة إلى الجلجال» (يشوع 42:10و43)

ثم نرى بعض تفاصيل الإصحاح الحادي عشر التي ينبغي أن أقدم عليها بعض ملاحظات مختصرة قبل أن أجتاز إلى القسم الأخير، أي القسم المتضمن في الإصحاح 12 فصاعداً إلى آخر السفر.

«فلما سمع يابين ملك حاصور أرسل، أرسل يوباب ملك مادون وإلى ملك شمرون، وإلى ملك أكشاف، وإلى الملوك الذين إلى الشمال في الجبل وفي العربة جنوبي كنروت، وفي السهل وفي مرتفعات دور غرباً، الكنعانيين في الشرق والغرب، والأموريين والحثيين والفرزيين واليبوسيين في الجبل، والحويين تحت حرمون في أرض المصفاة، فخرجوا هم وكل جيوشهم معهم شعباً غفيراً كالرمل الذي عَلَى شاطئِ البحر في الكثرة بخيل ومركبات كثيرة جدّاً، فاجتمع جميع هؤلاءِ الملوك بميعاد وجاءُوا ونزلوا معاً عَلَى مياه ميروم؛ لكي يحاربوا إسرائيل، فقال الرب ليشوع: لا تخفهم لأني غداً في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعاً قتلى أمام إسرائيل، فتعرقب خيلهم وتحرق مركباتهم بالنار» (يشوع 1:11-6). فمن قوله لا تخفهم نرى لطف الرب ليشوع إذ يشجعهُ، فساعة تكلم يشوع مع الرب عَلَى سبيل الطلب، وساعة تكلم الرب مع يشوع تشجيعاً له ففي كلا الأمرين لنا فوائد أدبية لأننا نحتاج إلى ممارسة الصلاة التي بها نكلم إلهنا، وعندنا كلامهُ أيضاً الذي بهِ يكلمنا، فكلاهما ضروريان لنا ولا يغنينا الواحد عن الآخر، وأما من جهة كلمة الله فأريد أن أقدم بعض ملاحظات عليها في هذا الموضوع، لربما يخال للقارئِ أن كلام الله المكتتب ليس ككلامهِ لو كلمنا شفاهاً وأسمعنا صوتهُ من السماءِ كما كلم يشوع، فأقول: أنهُ إن تكلم شفاهاً أو كتابة فلا فرق في ذلك من جهة أهمية كلامهِ، فإنهُ عَلَى الحالتين كلام الله وذو سلطان علينا، ولكن المكتتب ينفعنا أكثر لكونهِ معنا في كل حين حتى نلهج بهِ نهاراً وليلاً، إن شئنا ذلك، ونستعملهُ كسيف في محاربتنا الروحية.

قال الرب مشيراً إلى كتب موسى «فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك، فكيف تصدقون كلامي؟» (يوحنا 47:5) فمن قولهِ هذا يبان أن كتب موسى ذات سلطان ككلام السيد الشافي، وبالحقيقة المصدر واحد؛ «لأنهُ لم تأْت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (بطرس الثانية 21:1). إني أذكر هذه الشواهد تنبيهاً للقارئ المسيحي كي لا يظن أن كلام الرب ليشوع إذ قال لهُ: لأني غداً في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعاً قتلى أمام إسرائيل كان أكثر تأثيراً له من كلام الله الموجود بين أيدينا الذي يمكننا أن ندرسهُ دائماً لتعليمنا وتعزيتنا، لأنهُ من المحتمل أن نحول حلاوة هذه النعمة (أعني وجود كلام الله بين أيدينا هكذا) إلى خلّ ونتهاون به أو نتذمر كأَن إلهنا ليس معنا ليرشدنا بكلامه ويعزينا في كل حين، أو كأَن بعض القدماءِ فاز بنعمة منه تعالى من هذا القبيل أكثر منا فلا يجوز لنا ذلك. قابل عَلَى هذا (عبرانيين 1:2-4) وأيضاً (تيموثاوس الثانية 16:3و17)

فتعرقب خيلهم الخ ( يشوع 6:11-9) فمن المعلوم أن معترضين كثيرين استغربوا صرامة معاملة يشوع طاعة لأمر الله، وعَلى زعمهم الفاسد بوجود حنو عندهم أكثر من الله تقشعر أبدانهم من تصورهم عملاً قاسياً كهذا، ولكن هذا يخفى عليهم بإرادتهم؛ لأنهم لو أرادوا لعرفوا أن هؤلاءِ الذين استحقوا هذه المعاملة كانوا أكبر أعداء الله، وتجاسروا عَلَى حقوقه غاية المجاسرة، إذ توغلوا في جميع الفواحش بدون حياءٍ وبدون خوف، وكل ذلك مقترن مع أفظع نوع من أنواع عبادة الأصنام خلاف غيرهم من الأمم، وأنهم أبدوا الشرور المخالفة الطبيعة نفسها. أنظر ( لاويين الإصحاح 18و20) حيث يذكر موسى شروراً لا تطيق الأمم سماعها، ثم يقول: «ولا تسلكوا في رسوم الشعوب الذين أنا طاردهم من أمامكم؛ لأنهم قد فعلوا كل هذه فكرهتهم» (لاويين 23:20) فإن كان الله قاصداً أن يسكن نسل إبراهيم في أرض كنعان لا يمكن إبقاء الكنعانيين فيها أيضاً، وقد تقدم الكلام عَلَى هذا الموضوع إذ قلت أنه كان مسموحاً لهم بأن يهاجروا الأرض عند إقبال إسرائيل لو شاءوا حيث أنهم عرفوا من زمان طويل أن إسرائيل مقبل، فإذاً إبقاؤهم هناك ما كان إلاَّ من عدم إيمانهم ومن تمردهم أيضاً عَلَى إله السماءِ والأرض، وليس ذلك فقط بل كان الله قد تأنَّى عليهم زماناً طويلاً كما يبان من كلامه لإبراهيم « وأما أنت فتمضي إلى آبائك بسلام وتدفن بشيبة صالحة وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا؛ لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملاً» (تكوين 15:15و16)  «فلم ينتبهوا إلى طول أناتهِ التي من شأْنها أن تقودهم إلى التوبة» (رومية 4:2) وفي كل مدة تلك الأجيال كان شعب الله بعبودية قاسية وأحزان شديدة، وكان ذلك تأْديباً لهم، وأما أولئك فكانوا مرتاحين لا بل مستعدين للشيطان الذي كان يدرّبهم في كل أنواع الشرور المحرمة، ولم يكمل ذنبهم حتى زمان يشوع فكان حينئذٍ لا بد من إجراءِ القصاص الواجب؛ لأن الله لا يتغاضى عن الأثمة إلى الأبد، فالمعترضون عَلَى إجراء القصاص عليهم بواسطة يشوع قد نسوا كل ذلك و بالحري لم يعرفوهُ وقد نسوا أيضاً أن الله ديان الأرض كما وأنهُ قد دان العالم أوقاتاً خصوصاً وقت الطوفان حين أهلك كل الأرض إلاَّ نوحاً ومن كان معهُ، وقلَب سدوم وعمورة والمدن التي كانت حولهما، وإن كان جائزاً لهُ أن يفعل ذلك فلا محل للاعتراض عَلى إبادة أمم كنعان السبع أمام إسرائيل، وكان في ذلك أيضاً تعليم مفيد لإسرائيل أنفسهم، إذ شاهدوا شرور سكان الأرض ثم صرامة معاملة الله معهم كي يضعوا ذلك في قلوبهم كما قال لهم موسى محذراً إياهم.«لكي تحفظون أنتم فرائضي وأحكامي ولا تعملون شيئاً من جميع هذه الرجاسات، لا الوطني ولا الغريب النازل في وسطكم؛ لأن جميع هذه الرجاسات قد عملها أهل الأرض قبلكم فتنجست الأرض، فلا تقذفكم الأرض بتنجيسكم إياها كما قذفت الشعوب التي قبلكم» (لاويين 26:18-28) فإن كان الله لم يشفق عَلَى هؤلاء فلا يشفق عَلَى إسرائيل أيضاً إذا حادوا عن شريعتهِ فكانت إبادة الكنعانيين عبرة لهم، وحين تنجست الأرض برجاساتهم فيما بعد عاملهم الله معاملة صارمة كما نعرف من أسفار أخرى من التوراة، وبالحقيقة الشيء الذي حملهم إلى التوغل في الشرور بعد سكناهم الأرض كان معاشرتهم بعض الكنعانيين الذين أبقوهم بينهم خلافاً لأمر الرب لأنهم تركوا أناساً منهم لأجل أسباب مختلفة من الكسل أو الجبانة أو اللطافة، ولم يجروا أمر الرب بإبادتهم مطلقاً، فنسوا أمر الله وشفقوا عَلَى الأموريين الذين صاروا لهم فخاخاً ومناخس. وفي ذلك فوائد كبرى لنا بحيث أنه يظهر لنا ضرورية الطاعة المطلقة لكلمة الله وعظم أهميتها مهما تكلفنا من التعب. إن الله أحكم من شعبهِ ولا يأمرهم إلاَّ بما هو لخيرهم، فأقول للقارئ: إن عرفت مشيئة الله بادر للعمل بموجبها حالاً تاركاً العواقب لهُ ولا تتردد بذلك. ولربما يُشكى عليك بأنك قاسٍ وعديم المحبة، لكن لا تبالِ بذلك بل تمم مشيئة الله وهو يبرئك في حينهِ، ولا بد من امتحان إيمانك لكي يكون للصبر عمل تام.

كما أمر الرب موسى عبدهُ هكذا أمر موسى يشوع وهكذا فعل يشوع، لم يهمل شيئاً الخ» (يشوع 15:11-18) فأخرب جميع المدن الكبيرة وقتل ملوكها، وكيفما اتفقوا معاً لم ينفعهم اتفاقهم بل إنما أوقعهم بأكثر سرعة في يد يشوع؛ لأن الرب قصد إهلاكهم. «لم تكن مدينة صالحت بني إسرائيل إلاَّ الحويين سكان جبعون بل أخذوا الجميع بالحرب؛ لأنهُ كان من قبل الرب أن يشدّد قلوبهم حتى يلاقوا إسرائيل للمحاربة فيحرَّموا فلا تكون عليهم رأفة بل يبادوا كما أمر الرب موسى» (يشوع 19:11و20) ليس أن الرب جعلهم أشراراً أولاً ولذلك تركهم لعدم إيمانهم فلم يصدقوا أنهم محاربون الرب نفسهُ، وإذ ذاك تجاسروا واقتحموا مهاجمة إسرائيل فأهلكتهم يد الرب، فإن الله لم يجعل إنساناً خاطئاً قط ولكن إن كان أُناس متمردين سالكين حسب شهواتهم وأهوائهم يتركهم لحماقة قلوبهم قصاصاً لهم، وإذ ذاك لا يدرون الأخطار التي قدامهم بل يكملون ذنبهم مثل فرعون حتى يصير إهلاكهم ضرورياًّ، وأما الأمم الكنعانية هؤلاء فكانوا مستحقين الهلاك قبل وصول إسرائيل إلى أرض كنعان، وإن كان ذلك كلهُ فلله تعالى حق أن يقاصهم بكل الطرق التي استحسنها منها تركهم لعمى قلوبهم حتى أن الأمور نقسها التي كانت لتليين قلوبهم كعبور الأردن وسقوط أريحا وعاي إنما قسّت قلوبهم فحملتهم عَلَى مهاجمة إسرائيل، وعامل الله إسرائيل عَلَى نفس هذا المبدأ عينهِ حين أرسل لهم المسيح بحالة الفقر والتواضع، وإذ ذاك أعثرهم منظرهُ بسبب كبرياءِهم وانتظارهم مسيحاً جبار بأس ليأتيهم ببركات زمنية موافقة لشهواتهم، ولما كانوا هكذا حضور المسيح إنما أوقعهم بأكثر سرعة في الحالة التي جلبت عليهم الغضب إلى النهاية. أنظر قول بطرس: «وحجر صدمة وصخرة عثرة الذين يعثرون غير طائعين للكلمة الأمر الذي جعلوا لهُ» (بطرس الأولى 8:2) الأمر أي ليس عدم طاعتهم بل عثرتهم، فإن الله لم يجعلهم غير طائعين ولكن لمّا كانوا هكذا تركهم لحماقة قلوبهم وجعلهم للعثرة كما قلنا.

«وجاء يشوع في ذلك الوقت الخ» ( يشوع 21:11و22) فبعدما أخذ يشوع الأراضي المذكورة هنا استراحت الأرض من الحرب. ما أجمل هذا الكلام! وعندما نقرأه نتمنى لإسرائيل لو بقوا أمناءَ متنشطين طائعين لله؟ لأنهم كانوا إذ ذاك قد تمتعوا ببركة دائمة وراحة تامة، ولم نكن قد سمعنا عن أحزانهم المرّة فيما بعد، «فلم يسمع شعبي لصوتي، وإسرائيل لم يرضَ بي فسلمتهم إلى قساوة قلوبهم؛ ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم . لو سمع لي شعبي وسلك إسرائيل في طرقي، سريعاً كنت أُخضع أعدائهم، وعَلَى مضايقيهم كنت أرض يدي، مبغضو الرب يتذللون لهُ، ويكون وقتهم إلى الدهر، وكان أطعمهُ من شحم الحنطة، ومن الصخرة كنت أشبعك عسلاً» (مزمور 11:81-16) «ليتك أصغيت لوصاياي فكان كنهر سلامك وبرك كلجج البحر، وكان كالرمل نسلك وذرية أحشائك كأحشائهِ، لا ينقطع ولا يباد اسمهُ من أمامي» (أشعياء 18:48و19).

لا شك أنهم سيفوزون في الأيام الآتية براحة تامة في أرضهم الخاصة الجيدة، ليس كالراحة التي تمتع بها آباؤهم مؤقتاً تحت قيادة يشوع بن نون، بل تحت ملك المسيح الذي هو أعظم من يشوع وأمجده. وأما نحن فإن كنا قد حصلنا عَلَى الراحة في المسيح فإنما هي راحة مقترنة مع الحرب، وكلما جاهدنا ساهرين في الجهاد الحسن ارتحنا وسلمنا من مهاجمات العدو ومكايدهِ، ولنا أمل وطيد بالحصول عَلَى الراحة عن قريب، تكون تامة ودائمة إلى الأبد، بحيث لا نعود نسمع عن حروب ولا يوجد مزعج ولا مكدّر.  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.