لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

سفر يشوع

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب وليم كيلي

الفصل الثاني

(الإصحاح الخامس إلى الثامن)

 كان عبور بني إسرائيل الأردن حادثة عجيبة جدَّا وواسعة المعنى ولكنهُ لم يكن الكل. كانت ضمائر الكنعانيين قد تأثرت منهُ غاية التأثير في كل نواحي أرضهم، ولكن اقتضى الأمر عملاً آخر كان إله إسرائيل مزمعاً أن يجربهِ بعد ولكن قبل إجرائهِ انكشف أمر في إسرائيل أنفسهم لم نكن ننتظرهُ، وهو أن جميع الذين وُلدوا في البرية لم يكونوا قد اختتنوا بعد، فاتخذ الروح القدس فرصة لينبههم عَلَى إهمالهم ولم يكن ممكناً لهُ أن يتغاضى عنهُ بعد، وليس هذا الأمر من المسائل الوهمية القليلة الفائدة؛ لأنهُ مذكور هنا بصريح اللفظ، وليس ذلك فقط بل ورد لنا نور العهد الجديد أيضاً بخصوص الختان بالنظر إلى كونهِ رمزاً لمنفعة المسيحيين. لا شك في أن بني إسرائيل كانوا قد اختبروا رحمة الله وطول أناتهِ كل مدة مسير البرّية مع أنهم تغافلوا عن واجباتهم وبالأخص أهملوا الاختتان الذي لا يليق إهمالهُ بعد دخولهم أرض عمانوئيل التي كانت يدهُ الحنونة قد قادتهم إليها لكي يسكنوها معهُ، وإن كان هو يتنازل إلى أن يسكن في وسطهم فيجب عليهم أن يتعلموا ما يليق بحضورهِ، وإذ ذاك فكان الاختتان ضرورياً. وأما من جهة الحقيقة الرمزية المستترة في الختان فلا يعثر علينا أن نفهمها بواسطة الشواهد الكثيرة المتضمنة في العهد الجديد عَلَى ذلك وهي واضحة بهذا المقدار حتى أنهُ لا يقتضي لنا أن نستخرج معانيها بواسطة تمييزها الروحي كما في أكثر الرموز المتضمنة في العهد القديم. وعَلَى ذلك قول الرسول «لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح ونفتخر في المسيح يسوع ولا نتكل عَلَى الجسد» (فيلبي 3:3) فالظاهر أنهُ يقصد بهذا الكلام المسيحيين، لكن مسيحيين قد أدركوا ما هو الإيمان المسيحي. لست أقصد بقولي هذا أن الآخرين لم يحصلوا عَلَى الوسائط لأجل تعليمهم ما هو الإيمان، فإنها كانت عندهم ولكنهم أهملوا؛ لأن سلوكهم كان عالمياً، ونرى أمثالهم في عصرنا هذا سالكين كما لا يوافق كونهم من الختان، وسبب ذلك إما تركهم درس كلمة الله أو معاندتهم نورها الصافي الذي يوضح مقام المسيحي ودعوتهُ بالنظر إلى كونهِ ليس محسوباً في الجسد ولا من العالم، فلا يجب أن الذي يحب العالم يرفض تعليماً كهذا. إن الروح القدس لا يخاطب المسيحيين كأْنهم من العالم وفي الجسد، بل باعتبار مقامهم في المسيح ، -كيف لا- وهو ناظر إلى مجد الله فيهم؛ لأنه لو تساهل وتكلم عنهم بهدوءٍ وهم سالكون حسب مبادئ عالمية يصادق نوعاً ما عَلَى ما يحط بمجد المسيح، ويقدم إذ ذاك عذراً لخيانتهم. إننا نرى أناساً مسيحيين يغتنمون فرصة تسهيلاً للشهوات العالمية، إذ يتخذون زلات الأتقياء المذكورة في الكتاب عذراً لشقاوة نفوسهم وتباطئهم عن السلوك الواجب، مع أن الله لم يصادق قط عَلَى زلات عبيدهِ مهما كانوا أعزاء عندهُ، فلا يجوز التعلل هكذا؛ لأن إلهنا بغيرة شديدة واعتناء مدقق قد رتب كلامهُ حتى يجعلنا بلا عذر إذا استعملناهُ سوء الاستعمال أو حرفناهُ لغايات بشرية، إنهُ تعالى من حكمتهِ وقداستهِ يخاطب أولادهُ دائماً حسب أفكارهِ الحنونة ومقاصدهِ السامية فيهم، وليس حسب أفكارهم الدنية عن أنفسهم، فالخطاب عَلَى هذا المنوال يكون لائقاً بمجدهِ ومؤمّناً لهم. تأسف بولس جداً عَلَى قوم في أيامهِ اتخذوا اسم المسيح الجليل عليهم مع أنهم عاشوا مفتكرين في الأشياء الأرضية إذ قال: «لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداءُ صليب المسيح الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم الذين يفتكرون في الأرضيات» (فيلبي 18:3و19) فهؤلاء هم عَلَى ما هو خلاف المشار إليهم في بداءة هذا الإصحاح بقولهِ:«لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح، ونفتخر في المسيح يسوع، ولا نتكل عَلَى الجسد»(عدد3) وعَلَى ذلك أيضاً قولهُ: «وأنتم مملئون فيهِ الذي هو رأْس كل رياسة وسلطان، وبهِ أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيد بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح» (كولوسي 10:2و11) فقولهُ "وأنتم مملئون فيه"ِ أي مكملون فيهِ أمام الله من كل الأوجه، مثلاً إن كانت المسألة من جهة ذنوبكم فتكفيكم الكفارة بدم المسيح، وإن كانت المسألة من جهة الطبيعة الفاسدة البشرية فها هي مخلوعة عنكم بحكمِ الله وقت صلب المسيح، فإذ ذاك كان يجب عليهم أن يقتصروا عَلَى عمل الله ولا يلتفتوا إلى الطقوس كأنها لازمة لأجل تكميلهم أمام الله. لم يقل الرسول أننا نحن ختنّا بختان المسيح بل أنتم ختنتم؛ لأنهُ كان يخاطب مؤمنين أكثرهم من الأمم أصلاً لم يكونوا قد واجهوهُ كما يبان من إصحاح 1:2 ، فيصرح أنهم كانوا قد حصلوا عَلَى ختان في المسيح أفضل مما يمكن تحصيلهُ بواسطة طقس بشري، وذلك إصلاحاً لأفكارهم بالنظر إلى ميلهم إلى الطقوس والفرائض اليهودية كما يبان من بعض تلميحات متضمنة في هذا الإصحاح عينهُ، فبكلام كهذا عمل روح الوحي جميع الاحتياطات اللازمة ليصونهم وإيانا أيضاً من الأضرار الناتجة من هذا الميل الرديء، وبتعلمهم حقيقة ختان المسيح أظهر ما هو مقامنا أمام الله ووضع أساساً راسخاً لكل بركة ثابتة من جهة قهرنا الجسد ونمونا في الحياة الروحية.

لا حاجة لي أن أقول أن هذهِ العبارة لا تشير مطلقاً إلى إختتان الرب يسوع المذكور (لوقا 21:2) لأن الختان المذكور فيها هو غير مصنوع بيد خلاف إختتان الرب الذي صار حرفيّاً بيد.

لا شك أن كل من وُلد من الله يحب القداسة بموجب الولادة الجديدة وزرع الله الثابت فيهِ، ولكنهُ في خطر دائماً أن يجتهد لتحصيلها بغضّ النظر عما قيل هنا من جهة خلع الجسد بواسطة صليب المسيح. فإنهُ قد حصل عَلَى الشيءِ الذي يرغبهُ، ولست أقول هذا مستخفاً بما يجب علينا من نكران الذات وإماتة أهواء الجسد عملياً؛ لأن ذلك من واجباتنا الأولية، عَلَى أن القوة اللازمة لا تأتينا إلاَّ بمعرفتنا عمل الله الذي قد عملهُ ليس فينا بل خارجاً عنا، فإن عمل الروح القدس فينا إنما يجري عَلَى مجرى ذلك.

في ذلك الوقت قال الرب ليشوع: «اصنع لنفسك سكاكين من صوان وعد فاختن بني إسرائيل ثانيةً، فصنع يشوع سكاكين من صوان وختن بني إسرائيل في تل القلف وهذا هو سبب ختن يشوع إياهم؛ أن جميع الشعب الخارجين من مصر الذكور جميع رجال الحرب ماتوا في البرّية عَلَى الطريق بخروجهم من مصر؛ لأن جميع الشعب الذين خرجوا كانوا مختونين، وأما جميع الذين وُلدوا في القفر عَلَى الطريق بخروجهم من مصر فلم يختنوا؛ لأن بني إسرائيل ساروا أربعين سنة في القفر حتى فني جميع الشعب رجال الحرب الخارجين من مصر الذين لم يسمعوا لقول الرب الذين حلف الرب لهم أنهُ لا يريهم الأرض». الخ (يشوع 2:5-9) قد أظهر الوحي هنا أهمية الختان إذ تكلم كثيراً عن وجوب إجرائهِ لأنهُ لم يكن من الأمور اللائقة أنهم يدخلون أرض كنعان في الغرلة، وهكذا خُتنوا جميعهم حالما عبروا الأردن وقبلما باشروا بحروب كنعان. وفي كل ذلك فوائد لنا؛ لأننا بعد ما نتحقق الحقائق الماضي ذكرها المعبّر عنها بعبور الأردن، نلتزم أن ننتبه إلى شئ آخر أعني وجود الجسد الفاسد فينا المرموز إليهِ بإجراءِ الختان؛ لأننا لا نستطيع أن نتمتع بخيرات كنعان ونجاهد ضد أعدائنا الروحية ما لم نعلم كيف نحسب أنفسنا أمواتاً عن الجسد بموجب موتنا مع المسيح، وعَلَى ذلك قول الرسول «فأميتوا أعضائكم التي عَلَى الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذي هو عبادة الأوثان» (كولوسي 5:3) ولكنهُ يأمرهم هكذا بدون أن يضع أولاً أساساً راسخاً لإيمانهم بقولهِ: «شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبتهِ، الذي لنا فيهِ الفداء بدمهِ غفران الخطايا» (كولوسي 12:1-14) وأيضاً « وأنتم مملئون فيهِ الذي هو رأس كل رياسة وسلطان، وبهِ أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوع بيد بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح» (كولوسي 10:2-11). وأيضاً «إذا كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله» (كولوسي 1:3) فهذا هو الأساس الحقيقي لإماتة شهواتنا وإن كنا نجتهد في ذلك بطرق أُخر يكون اجتهادنا باطلاً؛ لأنهُ يكون إما لأجل إصلاح الجسد غير القابل الإصلاح أو لإماتتهِ بقوتنا وذلك ليس ممكناً، وقد وقع في هذا الفخ كثيرون من المسيحيين منهم بعض الرهبان الغيورين الذين طالما اجتهدوا أن يقهروا الجسد بقوتهم حسب قوانين بشرية، واختبروا زيادة التعب بدون فائدة، وقد شهد أُناس منهم شهادة مؤثرة عن ذلك كما نرى في تاريخ مارانطونيوس الراهب التقي الشهير المصري الجنس الذي اجتهد كل الاجتهاد بنية مخلصة زماناً طويلاً؛ ليقهر الجسد ويغلب إبليس وينجو من حركات الطبيعة الفاسدة، ولكنهُ ازداد قلقاً وتعباً. وفي آخر حياتهِ شهد للرهبان رفقائهِ أن الطريق الحقيقي ليس هكذا إذ قال لهم: "فلا نشغلنَّ عقولنا بتصورات وتخيلات من جهة الأرواح الشريرة، ونيأَس خوفاً من الهلاك بل بالأحرى لنفرح ونتعزَّ في كل حين كالذين قد حصلوا عَلَى الفداء، ولنتذكر أن الرب معنا ذاك الذي انتصر عَلَى الشياطين وأبطل قوتهم وإن كان الرب معنا العدو لا يقدر أن يضرَّنا، إن الأرواح الشريرة تترأى لنا عَلَى هيئات متنوعة حسب الحاسيات الموجودة فينا حينما تقصدنا وإن وجدتنا فرحين بالرب منشغلين بالتأمل في سعادتنا العتيدة وبأمور ربنا متذكرين أن كل شئ في يديهِ وأنهُ لا يمكن لروح شرير أن يؤذي المسيحي، فعند ذلك ترجع أجناد الشر منهزمة إذ تنظر أنفسنا محفوظة بواسطة أفكار صالحة كهذه" فيبان من إقرارهِ هذا أنهُ قد اختبر عدم النفع من الاجتهادات الناموسية لقهر الجسد، وإذ ذاك دلَّ رفقاءهُ عَلَى طريق أفضل. هذا من جهة الرهبان الغيورين، وأما من غيرهم من المسيحيين فقد اجتهدوا لتحسين الطبيعة البشرية بواسطة التهذيب والتمدُّن وحسن الآداب، غير عارفين أنها لا تقبل الإصلاح، وأنها محكوم عليها بعدم النفع من وقت موت المسيح، وهم بالحقيقة مغشوشين من إبليس أكثر من أولئك؛ لأنك تراهم مفتخرين بأعمالهم مع أنهم لا يعرفون أعماق فساد القلب ولا تظهر فيهم علامات تدل عَلَى نكران أنفسهم وحمل الصليب. إن كلامي هذا كلهُ صحيح فلا عجب من وجود شواهد في الكتاب المقدس كثيرة بهذا المقدار تدلّ عَلَى أهمية الختان، وكان يجب عَلَى الإسرائيلي نفسهِ قديماً أن يعرف أن الختان الحقيقي ليس قطع اللحم فقط بل انفصال القلب عن كل شر كقول النبي: «اختتنوا للرب وانزعوا غُرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم لئلا يخرج كنار غيظي فيحرق وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم» (إرميا 4:4).

«وقال الرب ليشوع اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر فدُعي اسم ذلك المكان الجلجال إلى هذا اليوم» (يشوع 9:5) . فإن مصر كناية عن العالم حال كونهِ موضع العبودية لشعب الله، فإسرائيل لم يفقدوا آثار العبودية المصرية حتى جازت سكاكين يشوع قائدهم الأمين في لحم غرلتهم، وكذلك نحن أيضاً لا نزال حاملين عار عبوديتنا لهذا العالم إلى أن نتعلم حقيقة الختان بالمسيح.

«فحلَّ بنو إسرائيل في الجلجال وعملوا الفصح في اليوم لرابع عشر من الشهر مساءً في عربات أريحا، وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيراً وفريكاً في نفس ذلك اليوم، وانقطع المنُّ في الغد عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعدُ لبني إسرائيل منُّ، فأكلوا من محصول أرض كنعان في تلك السنة» (يشوع 10:5-12). إنهم بعد الاختتان حفظوا عيد الفصح وأكلوا من محصول كنعان وانقطع المنُّ الذي كان طعامهم في مسير البرية، ففي كل ذلك فوائد لنا عَلَى سبيل الرمز، فإن عيد الفصح رُسم لهم في مصر فحفظوهُ أولاً هناك ليلة خروجهم بعجلٍ وهو رمز جميل إلى المسيح بالنظر إلى كونهِ الذبيحة الإلهية المكفرة عن خطايانا لأجل خلاصنا من دينونة الله العادلة. أنظر (كورنثوس الأولى 7:5) وأننا نعرف أنهم حفظوهُ في البرّية (عدد 5:9) ولكن لا حفظهم إياهُ في مصر ولا في البرية أتاهم بفرح مثل حفظهم إياهُ في ارض كنعان، لا شك أن العيد لم يزل كما هو إذ ذبحوا خروفاً ورشوا من دمهِ وأكلوا من لحمهِ، ولكنهم عيدوهُ الآن تحت ظروف تؤول إلى زيادة الفرح وطيبة القلب، ونحن كذلك نتعلم قيمة دم المسيح فصحنا الذي ذُبح لأجلنا ونحن بعد في الحالة المعبّر عنها بمصر والعشاء الرباني الذي رُسم تذكاراً لذلك هو عزيز عندنا في جميع الاختبارات المعبّر عنها بمسير البرّية، ذلك وإن لم نكن قد عرفنا بعد البركات المعبر عنها بدخول كنعان، ولا شك أن اشتراكنا فيهِ يزداد فرحاً كلما تقدمنا في الحياة الروحية، ولا ينقص اعتبارنا إياهُ مهما بلغنا من النمو بل بالعكس نعيّد العيد في أرض كنعان بزيادة الفرح وطيبة القلب. قد سُمع من البعض كلام فحواهُ أن الحقائق الإلهية الأساسية مثل العشاء الرباني تفقد جانباً من أهميتها عند بلوغنا إلى إدراك مقامنا السماوي وامتيازاتنا الخاصة.

فأقول لا يمكن وجود غلط مكدر أكثر من ذلك وكل من تفوَّه بهِ إنما يظهر خفة عقلهِ إذ يظن أنه ممكن لذلك العمل العظيم الذي عمله الله حين تنازل من لطفهِ إلى أن يسدُّ شدة احتياج نفوسنا الأثيمة بإجرائهِ عمل الفداء، يمسي أقلّ اعتباراً عندنا بسبب إدراكنا حقائق أُخرى من الكتاب مهما كانت، فإن الأمر بعكس ذلك لأننا مع تقدُّمنا في أمور الله نفهم جميع الحقائق بطريق أفضل لا سيما عمل الفداءِ الذي هو أساس جميع بركاتنا وليس ذلك فقط بل سنتذكر أيضاً بموت الرب بعد دخولنا المجد الأبدي.«وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأُمة وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة فسنملك عَلَى الأرض» (رؤية 9:5و10). نعم معرفتنا هنا جزئية ولا نقدر أن ندرك جميع الحقائق مرة واحدة ولكن تقدُّمنا تدريجياً يجعلنا نفهم كل شئ زيادة الفهم، وعَلَى كل ذلك قابل كلام الرسول (رومية 1:5-12) حيث يصرح في أول العبارة بتبريرنا بالإيمان وإقامتنا في نعمة الله وافتخارنا في الضيقات، ثم في آخرها يقول «وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا بهِ الآن المصالحة».

وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيراً وفريكاً، كان الفطير والفريك من القرابين المشيرة إلى جسد الرب الطاهر القدوس أنظر(لاويين 2). فإن المسيح كان محسوباً من ثمر الأرض بالنظر إلى اتخاذهِ جسداً بشرياً، عَلَى أننا نعلم أنهُ كان ولا يزال أعظم من إنسان. ثم بعدما قدم ذاتهُ ذبيحة لأجلنا وصعد إلى السماء صرنا نعرفهُ كما هو هناك ونقتات بهِ حال كونهِ مقاماً من الأموات وجالساً في المجد، انقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض، فالمن رمز أيضاً إلى المسيح (يوحنا 49:6-51) غير أنهُ يشير إليهِ حال كونهِ الطعام المناسب لنا في مسير البرّية حيث نحتاج إلى الصبر والتعزيات بسبب مشقات وأتعاب هذه الحياة الدنيا، ونجدهُ معنا في كل حين ساداً احتياجنا من هذا القبيل. وأما غلة الأرض فتشير إليه باعتبار كونهِ الطعام المناسب لنا حال كوننا سماويين محاربين حروب الرب، غير أنهُ ينبغي لنا هنا أن نلاحظ جيداً أنهُ يكون غلطاً فظيعاً إذا لاح في بالنا أن المسيح ينقطع عن أن يكون المن لنا عند بلوغنا إلى معرفة حقائق أسمى مما عرفنا أولاً. نعم من جهة إسرائيل لم يكن ممكناً لهم أن يستمروا عَلَى أكل المن وغلة الأرض معاً؛ لأنهم لم يقدروا أن يكونوا في البرّية وفي أرض كنعان في وقت واحد، ولكننا نحن روحياً في الحالتين معاً المعبر عنهما بالبرّية وكنعان، فإذاً مقامنا المسيحي ممتاز بصفات متنوعة، فإننا من الجهة الواحدة قاطعون البرّية مختبرون هناك المراحم اللائقة باحتياجاتنا، ومن الجهة الأخرى قاطعون الأرض السماوية مبتهجين ببركاتها وأمجادها، وعَلَى هذا ينبغي الاحتراص عند مطالعتنا رموزاً كهذه لئلا ننغش في حقيقة حالنا؛ لأنه بالكاد يقع غلط أكثر خطراً من الظن بأننا قد خرجنا من ظروف التجربة الموصوفة بمسير البرّية وتخلصنا من القصورات الشخصية التي تقتضي لنا مراحم الله اليومية ومعونة الروح القدس. ما دمنا قي هذا العالم نحن في موضع الضعف والخطر والحزن ولا يوجد هنا إلا كل ما هو سبب لامتحاننا؛ «لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم» (يوحنا الأولى 16:2) وليس مرورنا بهِ إلاَّ المرور في وسط تجارب وأحزان متنوعة، وبالحقيقة اختبارنا هنا هو اختبار البرّية المر، وأما المنُّ فلا ينقطع عن أن ينزل كل يوم في محلّتنا فنشعر ونعترف بأن لا شئٍ يصوننا ويقودنا في هذا المسير سوى نعمة ربنا يسوع المسيح رئيس أحبارنا الحيّ في كل حين ليشفع فينا، أعني بذلك ليس قوة قيامتهِ فقط التي هي لنا بلا شك، بل أعني تلك النعمة التي هي ألجأته أن ينزل من السماء، والتي بموجبها الآن ينظر إلى جميع احتياجاتنا اليومية ويعين ضعفاتنا، وهذا العمل ليس هو ما يقابل امتيازات كنعان والمصارعة والغلبة، بل هو موضع الضعف حيث نحتاج المنّ والرحمة كل يوم، ونحتاج المسيح في كل وقت وعَلَى أي حال؛ لأن الرب يسوع يخدم قديسيه في الطريقتين. لاحظوا رسالة فيلبي التي اقتبسنا منها سابقاً بخصوص الختان، فإن فيها فوائد أخرى موافقة لموضوعنا الحاضر إذ نرى المسيح في الإصحاح الثاني بالنظر إلى كونهِ المنَّ نازلاً إلى حيث نحن، وأما في الإصحاح الثالث فنراهُ غلة الأرض السماوية مجتذباً عيوننا وقلوبنا إلى حيث هو هناك، ولا يصح لنا أن نستغني عن هذا ولا عن ذاك؛ لأن الفوائد التي في الإصحاح الثالث لا تغنينا عمَّا يوجد في الإصحاح الثاني، فهذه الحالة كون المسيح لنا في المجد بمثابة غلة الأرض للإسرائيليين قد أوضحها الرسول بولس غاية الوضوح أكثر من غيرهِ من الرسل؛ لأنهُ دعي خصوصاً ليعلن ذلك، لست أقول أن الآخرين المتكلمين بالوحي ما أشاروا إلى هذا الموضوع، بل أن بولس علّمنا أكثر منهم جميعاً عن مقام المسيح في السماء واتحادنا معه، بينما يعظّم أيضاً تلك النعمة التي تعتني بنا مدة غربتنا في عالم الدموع هذا.

«وحدث لما كان يشوع عند أريحا أنهُ رفع عينيهِ ونظر وإذا برجل واقفاً قبالتهُ وسيفهُ مسلول بيدهِ، فسار يشوع إليهِ وقال لهُ: هل لنا أنت أو لأعدائنا؟ فقال: كلا بل أنا رئيس جند الرب، الآن أتيتُ، فسقط يشوع عَلَى وجههِ إلى الأرض وسجد وقال له: بماذا يكلم سيدي عبدهُ؟ فقال رئيس جند الرب ليشوع : اخلع نعلك من رجليك لأن المكان الذي أنت واقف عليهِ هو مقدس. ففعل يشوع كذلك» ( يشوع 13:5-15). فيقتضي لي أن أقدّم ملاحظة عَلَى ما ورد لنا في هذه العبارة. أن الله عندما يبدي عملاً جديداً، أو يدعو شعبهُ لمباشرة مشروع جديد يعلن عن ذاتهُ بطريقة جديدة بحسب اقتضاء الحال، فإنهُ لما أعلن ذاتهُ لموسى ظهر بعليقة متوقدة ولا تحترق، وذلك ما يشابه حال إسرائيل في مشقات البرّية حال كونهم بظروفٍ من شأنها أن تتلفهم، ولكن القوة الإلهية حفظتهم وكذلك نحن من جهة مسيرنا في برّية هذا العالم في الظروف التي كانت تتلفنا لولا عناية الله. «أنتم الذين بقوة الله محروسين بإيمان لخلاص مستعدٍ أن يعلن في الزمان الأخير» (بطرس الأولى 5:1) وأما بعد دخولهم أرض كنعان فلم تناسبهم علامة العليقة المتوقدة؛ لأنهم أصبحوا بظروفٍ أُخرى تقتضي أن الله يعلن ذاتهُ لهم عَلَى هيئة تناسب تلك الظروف، وإذ ذاك ظهر ليشوع كرئيس جند الرب. وهكذا نحن نحتاج إلى أن نعرف الرب يسوع المسيح كرئيس جند الرب ليقودنا إلى النصرة والغلبة عَلَى عدونا الشيطان، سواءٌ قاومنا بالقوة أو احتال علينا؛ لأنه هو وحدهُ خصمنا. حاشا أن يكون لنا عدوٌّ سواهُ وإن قاومنا أناس فلا نحسبهم أعداءَ، ولو هم حسبوا أنفسهم هكذا، «فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم عَلَى ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات» (أفسس 12:6). محاربة إسرائيل كانت مع بشر من لحم ودم، وأما مصارعتنا فليست كذلك بل مع الشيطان وأجنادهِ الذين مركزهم في الهواء (أفسس 2:2) ويقاوموننا من جهة الأمور الروحية، فلذلك يقال أن مصارعتنا هي معهم في السماويات، وكما كان الكنعانيون يضادون يشوع وبني إسرائيل لكي لا يتمكنوا من الإقامة في الأرض البهجة، هكذا أولئك يفرغون كل جهدهم ضدنا لكي لا نعرف مقامنا في المسيح وهو في المجد، ولا دعوتنا المسيحية، ولا البركات التي يمكن التمتع بها الآن، وإذ ذاك يعيقوننا عن السلوك اللائق بمجد الله في المسيح يسوع.

لنلاحظ أيضاً أنهُ لن يعطَ ليسوع أن يرى سيفاً في يد رئيس جند الرب فبلما وضع سكاكين الصوان في أيدي بني إسرائيل لإجراءِ الختان، فإن الله أمرهم أن ينزعوا غرلهم قبل أن أذن لهم أن يحاربوا أهل كنعان، وكذلك لا نصلح نحن للمصارعة في السماويات ما لم يجر فينا أولاً ختان المسيح «من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاموا في اليوم الشرير (أفسس 13:6) ومما يستحق الالتفات إليهِ أيضاً قول رئيس جند الرب ليشوع «اخلع نعلك من رجليك؛ لأن المكان الذي أنت واقف عليهِ هو مقدس» وكان التنبيه ضرورياً جداً لسبب حضور الرب مع إسرائيل جندهِ؛ لأن بحضورهِ تليق القداسة والاحترام. ومثل ذلك قول الرسول لنا: «فاثبتوا ممنطقين أحقائكم بالحق، ولابسين درع البر» (أفسس 14:6) وأيضاً «لذلك ونحن قابلون ملكوتاً لا يتزعزع ليكن عندنا شكرٌ بهِ نخدم الله خدمة مرضية بخشوع وتقوى لأن إلهنا نار آكلة» (عبرانيين 28:12) فإن تغاضينا عن درع البرّ المعبر بهِ عن الضمير الصالح الناتج عن السلوك التقوي نسقط أمام العدو عند مهاجمتهِ إيانا.

«وكانت أريحا مغلقة مقفلة بسبب بني إسرائيل، لا أحد يخرج ولا أحد يدخل» (يشوع 1:6) إن أريحا في هذا السفر نظير رمز إلى قوة الشيطان في هذا العالم، لكن قوتهُ التي يستعملها لكي يمنعنا عن التمتع ببركاتنا السماوية ليست قوتهُ التي يستخدمها ليذلنا في مصر أو ليرجعنا إليها بعد فرارنا منها، نعم قوتهُ هي هي لكنه يستعمل وسائط كثيرة ويصلي فخاخاً مختلفة بالنسبة إلى البركات التي يقصد الله أن يمنحنا إياها في وقتٍ ما يفرغ كل جهدهِ فيما يوقف القديسين أو يسقطهم أو يلهيهم عن طلب ما هو فوق، وعن تعلق قلوبهم بما هو هناك، وكانت أريحا أول مدينة محصنة في طريق الشعب بعد عبورهم الأردن، ولا يمكنهم التقدُّم في طريقهم ما لم يأخذوها أولاً، فشاء الله أنها تحرَّم ونخرب أصالةً، فلذلك أوصاهم سبحانه وتعالى بالتفصيل كيف يعملون، ولم يتخذ عَلَى نفسهِ أن يقاتل عنهم هو وحدهُ كما عمل معهم حين أهلك فرعون وجيشهُ. هنا ينبغي للشعب أن يحاربوا ويكون لكل منهم شركة في الحرب، ولكن كان يجب أن يأخذوا أريحا أولاً بالإيمان فقط والوسائط التي استعملوها كانت خلاف الطبيعة، ومما لم يكن يظنُّ أنهُ فعَّال لأخذ مدينة محصنة، لكن لم تؤْخذ مدينة هكذا بأكثر سهولة منذ ابتداء العالم. «بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام» (عبرانيين 30:11) علمهم الله كيف يعملون بأعظم تدقيق، واضطرَّهم الأمر أن ينتبهوا إلى كلامهِ. لا بدَّ أن المدينة تؤْخذ، غير أنهُ ينبغي أن تؤْخذ عَلَى حسب كلمة الله، ولا مدخل مطلقاً لحكمة الإنسان. وعيّن لهم سبعة أيام وقتاً كافياً لامتحان إيمانهم وصبرهم، فإنهُ كان قادراً أن يهدم تلك الأسوار أول يوم، ولكنهُ لم يشاء ذلك، وهكذا يمتحننا نحن أيضاً في جهادنا الروحي. نرى هنا أن تابوت عهد الرب تقدَّمهم كما أنهُ سبقهم ونزل قدامهم في مياه الأردن ونشفها، هناك عبر أمامهم ليصونهم من لجج الموت، هنا يقودهم للنصرة عَلَى أعدائهم.

«وكان في اليوم السابع أنهم بكروا عند طلوع الفجر، وداروا دائرة المدينة عَلَى هذا المنوال سبع مرات، في ذلك اليوم فقط داروا دائرة المدينة سبع مرات، وكان في المرة السابعة عندما ضرب الكهنة بالأبواق أن يشوع قال : اهتفوا لأن الرب قد أعطاكم المدينة، فتكون المدينة وكل ما فيها محرماً للرب» (يشوع 15:6-17). هل يمكن وجود شئ أعجب مما عمل يشوع حين دعا الشعب أن يهتفوا متأَكدين أن المدينة مزمعة أن تسقط مع أنهم لم يستعملوا لذلك وسائط كافية حسب نظر البشر لا بل حقيرة أيضاً! ولكن الرب كان معهم وعملوا حسب كلمتهِ تاركين لهُ نتيجة الأمر، فنظروا إلى المدينة كأنها خربة مع أنها قائمة وكل قوتها فيها، ذلك من قوة الإيمان وشدة اليقين، ويجب أن يكون الحال هكذا معنا. شاء الله أن يعلن لنا ما لم نرهُ لكننا نتأَكدهُ قبل حدوثهِ. راجع ( بطرس الثانية الإصحاح 3). إن العالم سيعرف حقيقة الكلمة بعدما تتم فعلاً رغماً عن  عدم إيمانهم الحالي واستهزائهم بها وبالذين يعملون بموجبها. قال الرسول:«وأما نحن فلنا فكر المسيح» (كورنثوس الأولى 16:2) ليس من جهة الحوادث المتنبأَ بها فقط، بل في جميع ما أعلنهُ الله لإيماننا، ولكن لا يخفى وجود ما يعيقنا عن إدراك كل ذلك كما يجب، وأكبر مانع لنا هو حب العالم؛ لأنهُ إذا امتزج القديسون مع العالم لا يمكنهم أن يتمتعوا بالقرابة مع الرب، وإدراك أفكارهُ لأجل تعزيتهم، بل تراهم مثل العالم يخبطون خبط عشواء في ظلام عدم الإيمان وطياشة الأفكار والظنون البشرية الباطلة، إذ ينكرون مجد المسيح ويحزنون الروح القدس بواسطة الترتيبات البشرية في الكنيسة، والابتعاد عن كلمة الله، وذلك الذي قد منع شروق شمسها اللامعة عَلَى قلوبهم.

لم يبق الله ليشوع ولا للشعب أدنى مدخل لاستعمال حكمتهم بترتيب شئٍ ما بل رتب هو كل شئ بحكمتهِ الفائقة، فكانوا من أعظم الحكماء لو اقتصروا عَلَى ذلك، ولكنهم حسب دأْب الإنسان خانوا كما سنرى.«وأما أنتم فاحترزوا من الحرام لئلا تحرَّموا وتأخذوا من الحرام وتجعلوا محلة إسرائيل محرَّمة وتكدروها، وكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدساً للرب وتدخل في خزانة الرب» (يشوع 18:6و19) فكانت المدينة وسكانها وثروتها للدمار والهلاك مطلقاً، ماعدا المعادن الثمينة التي كانت للرب الذي إذا شاء يقدر أن يأخذ شيئاً من قوة إبليس، ويحولها لأجل مقاصدهِ، كما نعلم أنهُ قادر أن يستخدم الشيطان نفسهُ بعض الأوقات كما في تأديب عبدهِ أيوب، وخداع الملك آخاب، إلى غير ذلك. ولكن لا يجوز لنا أن نشرع بعمل كهذا؛ لأننا إذا دخلنا العالم في الكنيسة عَلَى أمل أن نصلحهُ بهذه الواسطة أو أنهُ يساعدنا في عمل الخير، نجعل المحلة محرَّمة ومكدرة.

«وحلف يشوع في ذلك الوقت قائلاً: ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذهِ المدينة أريحا» الخ (يشوع 26:6و27) ثم أنهُ صار تعدٍّ فيما بعد عَلَى هذا الحلف، أنظر( الملوك الأول 34:16) ولكن لماذا لعن الرب الرجل الذي يتجاسر أن يبني أريحا؟ أليس لأجل السبب الذي سبق ذكرهُ وهو أنها رمز دائم إلى قوة الشيطان في هذا العالم التي يستعملها لمنع شعب الله عن امتلاك بركاتهم الخاصة؟ لذلك لما استولى عَلَى إسرائيل فيما بعد حرَّك حئيل البيتئيلي أن يجدد بناء أريحا غير خائف من لعنة الله.

«وخان بنو إسرائيل خيانة في الحرام فأخذ عخان بن كرمي بن زبدي بن زارح من سبط يهوذا من الحرام، فحمي غضب الرب عَلَى بني إسرائيل» (يشوع 1:7). لا توجد بركة مما يعطي الله للإنسان إلاَّ وتكون فرصة للشيطان ليجربهُ بها، ويحملهُ عَلى التعدي، كما صار عند أخذ بني إسرائيل أريحا، فإنهم خانوا في الحرام، وألزمهم الله بتبرئة أنفسهم من الشر، وإجراء القضاء عَلَى الخائن بطريقة أدق مما ظهر في معاملاتهِ معهم في البرّية، وذلك يوافق طرقهُ مع شعبهِ؛ لأنهُ كلما جاد عليهم بلطفهِ يحافظ عَلَى ما يليق بصفاتهِ وطبيعتهِ. لو تساهل حينئذٍ وتغاضى عن الشر المستتر، أين كانت إذ ذاك الشهادة الدالة عَلَى حضورهِ في وسط إسرائيل؟ لا يمكن أن يتغاضى؛ لأنهُ ملتزم بأن يبرهن وجوده في وسطهم، وهل نرتاب بحضورهِ في وسطنا الآن لكونهِ لا يجري القصاص عَلَى طريقة ظاهرة كما أجراه وقتئذٍ في إسرائيل؟ كلا هل فارقنا بسبب خيانة الكنيسة؟ وهل تركنا الروح القدس؟ أو هو باقٍ معنا إلى الأبد، نعم هو في وسطنا ولا يتغاضى عما لا يليق بقداستهِ مع أنهُ لا يظهر غيظهُ بطريق ظاهر للعيان. استعمل الله حينئذٍ طريقاً فعالاً ومذلاًّ لأجل صيانة مجدهِ وذلك في نفس الوقت الذي ابتدأَ فيهِ أن يظهر للعالم ما هو آخذٌ بعملهِ لشعبهِ، كان قد شاع الخبر عن إسرائيل بين سكان كنعان وذابت قلوبهم خوفاً من ذلك، وأما الآن فانعكست الأمور وذابت قلوب إسرائيل بعد انكسارهم أمام عاي تلك المدينة الصغيرة، شاءَ الله بانتشار خبر ذلك كما انتشر خبر عبورهم الأردن بالافتخار وسقوط أريحا المدينة المحصنة. هكذا الحال معنا الآن، فهل يسمح الله بإذاعة الخبر عما يصدر من شعبهِ لمجدهِ تعالى ولإكرامهم أيضاً، ويستر ما يصدر منهم لأغاظتهِ ولإذلالهم؟ حاشا لأنهُ يوجد عدو بين شعب الله ينظر حدوث كل شئ يهين مجدهُ تعالى، ويبادر حالاً إلى إذاعتهِ في كل العالم، والله سبحانهُ وتعالى لا يمنعهُ عن ذلك لأنهُ ليس بحسنٍ أن تخفى زلاتنا.

أنظر ما جرى في كنيسة كورنثوس مثلاً، فإن الله بنعمتهِ وحكمتهِ يحوّل حتى تذليلات شعبهِ ويجعلها واسطة لتبرئتهم عموماً بعد إجراء التأْديب الواجب عَلَى الأشخاص الذين أذنبوا، ومهما صار من الألم والخزي للمتدربين بسبب الخيانة، فذلك يكون لخيرهم أو يجعلهم متّضعين أمام الله، ثم يأْتي وقت لإجراءِ القصاص عَلَى الذين يشمتون بشعب الله لأنهُ وإن استخدمهم كقضيب لتأديب شعبهِ، يعود فيعامل القضيب بما يستحقهُ بعد ما يؤدب أولادهُ بهِ يريد الله أن شعبهُ يسلكون حسبما يليق بمجدهِ فيدقق النظر في سيرتهم ظاهراً وباطناً إذ لا يخفى عليهِ شئ لأن الباطن كالظاهر مكشوف لديهِ ولا يسأل عما هو نافع للشعب ولائق بهم، بل يسأل عما يليق بحضورهِ هو ذاته معهم في أرضهِ. كان قد خصص الفضة والذهب بنفسهِ، وحرّم كل من يتجاسر ويختلس شيئاً منها، وهوذا ليس رجل كنعاني بل إسرائيلي تجاسر عَلَى هذا متهاوناً بقوة الرب، كأنهُ ليس إلاَّ وثناً ما لهُ نظر ولا سمع. خان عخان ولكن حمي غضب الرب ليس عليهِ وحدهُ بل عَلَى كل جماعة إسرائيل، فيصدق نفس هذا المبدأ عَلَى الكنيسة بحيث «إذا كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معهُ» (كورنثوس الأولى 26:12).

«وأرسل يشوع رجالاً من أريحا إلى عاي، وكلمهم قائلاً: اصعدوا تجسسوا الأرض، فصعد الرجال وتجسسوا عاي، ثم رجعوا إلى يشوع وقالوا لهُ: لا يصعد كل الشعب بل يصعد نحو ألفي رجل أو ثلاثة آلاف رجل ويضربوا عاي، لا تكلف كل الشعب إلى هناك لأنهم قليلون» (يشوع 2:7و3) فلا شك أنهم غلطوا بذلك، لأنهم لم يطلبوا الإرشاد من الرب بل عملوا حسب حكمتهم التي كانوا يظنون أنها كافية لإرشادهم في أخذ مدينة صغيرة مثل عاي، وأنهُ لا يقتضي لهم عَلَى ظنهم قوة الله وحكمتهِ وإرشادهُ لأجل أخذ مدينة صغيرة كما لو كانت كبيرة محصنة. وليست المسألة الآن عن من ومن منهم كانوا أعظم ذنباً في هذا المشروع، لربما كانت نيتهم مخلصة ولكنها لم تخلصهم من نتائج غلطهم هذا؛ لأن الله أخجلهم جميعاً أمام العالم، وعاملهم بالنظر إلى كونهم شعباً واحداً، وإن كنا نستصعب مبدأ معاملتهِ هكذا نحرم أنفسنا بركات عظيمة كانت مهيأَة لنا لو كنا قد تصرفنا بموجبهِ، إذ نحن شعب واحد وأعضاء جسد واحد، ومعاملات الله تجري معنا حسب هذا المبدأ. وإني أتجاسر وأقول أن كثيرين استغربوا أمراً كهذا، إذ حمي غضب الله عَلَى جميع إسرائيل بسبب خيانة شخص واحد منهم مع أن ذلك ليس بعلمهم، ولكنهُ تعالى دائماً يتصرف بالحكمة والجودة الكاملتين، وما علينا إلاَّ أن نأَتمنهُ بدون تردد مطلقاً.

إن يشوع قد بادر بالتقدُّم حالاً عوضاً عن أن يسأَل الرب كيف حالهم الآن أمامهُ وهل عيناه الطاهرتان رأَتا فيهم ما يكدرهُ أم لا؟ أفلا يوجد خطر علينا نحن أيضاً إن كنا نسرع بالخدمة للناس بدون أن نقترب إلى الله أولاً؟ نعم يوجد خطر عظيم من هذه الجهة، بحيث غيرتنا نفسها في خدمتنا تجعلنا ننسى نوعاً قداسة الله الذي أمْرنا معهُ، وكثيراً ما رمتنا في شبكة لم تقدر أن تخلصنا منها. نعم الغيرة في الحسنى جيدة، ولكنها لا تكفي وحدها، ولا تغنينا عن الحق والقداسة والسهر الدائم في سلوكنا وخدمتنا أيضاً، فعلينا إذاً بحفظ هذه المثيلة لأننا نرى غضب الله حامياً عَلَى إسرائيل حال كون يشوع قائدهم غير عالمٍ بحدوث شئٍ بغير محلهِ.

فرجع الذين أُرسلوا وقالوا لهُ: لا تكلف كل الشعب إلى هناك لأنهم قليلون، فقبل كلامهم حالاً وأظهر بذلك الثقة بالذات لا في الرب، فجميعهم نظروا إلى صغر المدينة، وحكموا حسب الجسد أن لا حاجة لهم إلى إرشاد إلهي كما في أخذهم أريحا؛ لأن تلك المدينة مع أسوارها العالية جعلتهم يشعرون ويعترفون بأن لا شئ يحطمها سوى قوة الله، وإذ ذاك كان الله وحدهُ متكلهم، وأما الآن فلم يكن أخذ عاي متعلقاً إلاَّ عَلَى المقابلة بين قوتهم وقوتها، وذلك بحسب سرعة فكرهم بالحكم لا بحسب الحق الواجب عليهم كجنود الرب. وهكذا غلبتهم عَلَى أريحا التي كانت بغاية السهولة، أصبحت فخاً لهم في عاي، فإنهم نظروا أن سكانها قليلون فقالوا: لا يجب أن يتعب كل جيش الرب إلى مكان كهذا «فصعد من الشعب إلى هناك نحو ثلاثة آلاف رجل، وهربوا أمام أهل عاي، فضرب منهم أهل عاي نحو ستة وثلاثين رجلاً، ولحقوهم من أمام الباب إلى شباريم، وضربوهم في المنحدر، فذاب قلب الشعب وصار مثل الماءِ» (يشوع 4:7-6) فلم يكن الآن ذوبان القلب للكنعانيين وملوكهم كما كان في أريحا، بل ذابت قلوب شعب الرب، ولماذا ذلك؟ أليس لأنهم صعدوا بدون أن يسألوا الرب؟ وهكذا الحال معنا الآن يا اخوتي، فماذا نحن بدون الله؟ نعم بدونهِ قوتنا لا تنفع وأنهُ من الأمور النافعة لنا أن نتعلم ذلك؛ لأن افتخارنا ليس بما هو الله عليهِ لنحونا فقط بل بحضورهِ معنا أيضاً، حال كوننا محتفظين من كل ما يكدّرهُ صعدوا بدون الله فأصبحوا ضعفاءُ جداً، وذابت قلوبهم مثل الماءِ وامتلأَ يشوع غيظاً وذلاً أمام الله.

«فمزق يشوع ثيابهُ وسقط عَلَى وجههِ إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساءِ هو وشيوخ إسرائيل، ووضعوا تراباً عَلَى رؤُوسهم، وقال يشوع: آه يا سيد الرب لماذا عبّرت هذا الشعب الأردن تعبيراً لكي تدفعنا إلى يد الأموريين ليبيدونا، ليتنا ارتضينا وسكنّا في عبر الأردن» (يشوع 6:7-8) ولكن ماذا يفعلون في عبر الأردن شرقاً؟ فإنهُ إن كان إلههم ليس معهم، فالحال واحدة هنا وهنالك. «أسأَلك يا سيد ماذا أقول بعدما حوَّل إسرائيل قفاهُ أمام أعدائهِ؟ فيسمع الكنعانيون وجميع سكان الأرض ويحيطون بنا ويقرضون اسمنا، وماذا تصنع لأسمك العظيم» (يشوع 8:7و9) فأصاب بذكر اسم الله العظيم نظير موسى (خروج 12:32) وصار لهُ الجواب من الله حالاً؛ لأن اسمهُ متعلق بشعبهِ، ويجري معاملاتهِ معهم بالنظر إلى مجدهِ تعالى. «فقال الرب ليشوع: قم لماذا أنت ساقط عَلَى وجهك؟ قد أخطأ إسرائيل بل تعدوا عهدي الذي أمرتهم بهِ بل أخذوا من الحرام بل سرقوا بل أنكروا بل وضعوا في أمتعتهم» (يشوع 10:7-12) فلنلاحظ هنا أنهُ يستذنب لا عخان بل كل الشعب، ولم نر اتحاداً تاماً كهذا قبل عبورهم الأردن، لا شك بأن حدوث شئٍ ردي كان ينجس محلتهم حتى في البرّية ولكن لم يعاملهم الله معاملة صريحة مدققة نظير هذهِ ما داموا سائرين في البرّية، والمبدأ هو بقدر ما تكون بركة الله عظيمة لشعبهِ بهذا المقدار تكون مسئوليتهم كجماعة الرب. والآن صارت منهم خطية متجاسرة عَلَى الله، فلكونهم متحدين معهُ ومنتسبين إليهِ شاءَ أن يجعلهم يشعرون بها؛ لكي يبرّئوا أنفسهم منها، وتكون فيهم مخافة الرب التي هي بداءة الحكمة لهم ولنا نحن أيضاً لأجل السلوك المستقيم. تغافل يشوع والشعب عن أن يسألوا الرب قبل شروعهم بأخذ عاي، فانهزموا من أمام مدينة صغيرة وحقيرة، لو سأَلوهُ قبل لكان قد أرشدهم إلى حدوث شئٍ مكدر بينهم الذي منعهُ عن الذهاب معهم، لأن الله مع أنهُ غني النعم لا يرافق شعبهُ وهم بحالة لا تليق بحضورهِ، وإن تغافلوا هم عن وجود السوءِ بينهم فلا يتغافل هو عنهُ. لا شك بأن عمل الفداء قادر أن ينزع أعظم شر، وأنهُ قد رفع خطايا المؤْمنين، لكن لا ينتج من ذلك أنهُ مسموح لهم أن يسلكوا مثلما يريدون. حاشا.

واستفدنا أيضاً من حادثة عاي فائدة أُخرى وهي أن الزلة التي هي حسب الظاهر طفيفة جداً، إذا تغاضينا عنها وتقدمنا كأن كل شئٍ بيننا وبين إلهنا بحالة الصواب؛ تسبب لنا أضراراً عظيمة عند محاربتنا مع أجناد الشر، هل ذلك مما يضعف اتكالنا عَلَى الرب؟ كلاًّ ولكنهُ مما يحملنا إلى السهر باعتناءٍ زائد في جميع تصرفاتنا. إن قوتنا تقوم بهذا أن لنا الله ليسهر علينا؛ لأن عيوننا قاصرة البصر وكثيرا ما تساهلنا في ما أعطى فرصة للعدو. يشوع قصَّر في ذلك حيث أنهُ لم يسأَل الرب، وإذ ذاك سمح الرب بانكسارهم وخزيهم، وتعلم يشوع كل ذلك بطريقة مؤلمة.

«قم قدِّس الشعب وقُلْ: تقدسوا للغد. لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: في وسطك حرام يا إسرائيل، فلا تتمكن للثبوت أمام أعدائك حتى تنزعوا الحرام من وسطكم، فتتقدمون في الغد بأسباطكم، ويكون أن السبط الذي يأْخذه الرب يتقدم بعشائره، والعشيرة التي يأخذها الرب تتقدم ببيوتها، والبيت الذي يأخذهُ الرب يتقدم برجالهِ، ويكون المأْخوذ بالحرام يحرق بالنار وكل ما لهُ؛ لأنهُ تعدى عهد الرب، ولأنهُ عمل قباحة في إسرائيل» (يشوع 13:7-15). إن الله أذلهم جميعاً كما تقدّم، ولكنهُ استعمل تلك الوسائط لإذلالهم لكي يكشف لهم المذنب ليحمل القصاص الواجب، وهكذا نحن إذا وقعنا في ظروف مكدرة في كنيسة الله لسبب عدم السهر، وعدم ممارسة الصلاة، فالله قادرٌ أن يكشف لنا المذنب الذي خيانتهُ سببت لنا الحزن والخزي مهما كانت زلتهُ مستترة، إذا تواضعنا أمامهُ تعالى واعترفنا جميعنا بالحال كما هي؛ لأن مجرد تواضعنا أمام الله يبرهن أننا لسنا مصادقين عَلَى الحادث الذي كدَّر وأهان قداستهُ، وحينئذٍ يمكنهُ أن يتخذ المسألة في يدهِ، وأنهُ سهل عليهِ أن يظهر من هو المتعدّي.

«فبَكر يشوع في الغد، وقدَّم إسرائيل بأسباطهِ، فأُخذ سبط يهوذا... فأخذ عخان بن كرمي» الخ (يشوع 16:7-18) فبكر يشوع إلى العمل لاكتشاف الشر، كما بك واجتهد عند أخذ أريحا، وبكل سهولة أظهر الله المذنب إذ كان يعرف ابن من هو، ومن أي سبط، وإذ ذاك لم يكن مدخل لوقوع أدنى غلط. «فقال يشوع لعخان يا ابني أعطِ الآن مجداً للرب واعترف لهُ واخبرني الآن ماذا عملت» (يشوع 19:7) فاعترف «فقال يشوع: كيف كدرتنا؟ يكدرك الرب في هذا اليوم! فرجمهُ جميع إسرائيل بالحجارة وأحرقوهم بالنار ورموهم بالحجارة» (يشوع 25:7) فألزمهم الله جميعهم بأن يشتركوا في إجراءِ القصاص عَلَى عخان وأهل بيتهِ، وهكذا أبرئوا أنفسهم. قابل عَلَى ذلك (كورنثوس الأولى 4:5و5) وأيضاً (أعمال1:5-11) فيبان من كل ذلك أن الله يريد أن شعبهُ في كل عهد يقطعون الشر الحادث بينهم غير اللائق بحضورهِ المقدس. لا حاجة لي أن أُذكر القارئ بما جرى في وسط إسرائيل بعد ذلك مما أهان حضور الله، فلم يقطعوا المذنبين حتى أصبحوا أخيراً مرفوضين من الله، وكذلك تاريخ الكنيسة المسيحية، كم وكم من أعضائها عملوا مثل حنانيا وسفيرة امرأتهِ، إذ تظاهرا بأنهما قدّما نفسيهما وكل ما لهما للرب، مع أن قلبهما لم يزل متعلقاً بهِ، وكم من التشويشات حدثت مثلما حدث في كنيسة كورنثوس وأكثر من ذلك أيضاً، وجماعة الله ساكتون عن إجراء القصاص الواجب، ولم تزل الحال هكذا إلى الآن.

«فقال الرب ليشوع: لا تخف ولا ترتعب، خذ معك جميع رجال الحرب وقم واصعد إلى عاي» (يشوع 1:8) فإذا كان الرب قد ردَّ نفوسهم كان ممكناً لهُ أن يذهب معهم للحرب وينصرهم عَلَى أعدائهم ولكن بطريقة ذكرتهم بثقتهم بذواتهم في المرة الأولى حين صعدوا إلى عاي بقوتهم ظانين أنهم يأْخذونها بكل سهولة؛ لكونها مدينة صغيرة، وقالوا حينئذٍ ليشوع: لا تكلف جميع الشعب إلى هناك لأنهم قليلون، وأما الآن فقال لهُ الرب: خذ معك جميع رجال الحرب واصعد إلى عاي، فالتزم أن يكلف كل الشعب إلى هناك وليس ذلك فقط بل أن يدبر كميناً ويتعب بأخذها تعباً بليغاً؛ لأنهُ لم يكن من الأمور الموافقة الآن أن تظهر قوة الله المقتدرة كما ظهرت في سقوط أسوار أريحا، التي سقطت بدون ضربة واحدة من أيدي إسرائيل. وإني موقن أنهُ يوجد في كل ذلك ما يفيدنا فائدة عظيمة إذا تأَملنا فيهِ بمقدار ما استفدنا عملياً من سقوط أريحا، غير أن هذا يختلف عن ذلك بحيث أننا رأَينا هناك ماذا استطاع الله ويستطيع أن يعمل إجابةً للإيمان البسيط المقترن مع الطاعة لكلمتهِ، وأما هنا فنرى أن الغلبة بعد الانكسار الناتج من الثقة بذواتنا أصعب علينا وإن كان الله معنا؛ لأنهُ إذ الحال هكذا يقودنا بطريقة تذلنا وتذكرنا بما أهان مجدهُ وأحزننا أمام أعدائنا. «فقام يشوع وجميع رجال الحرب للصعود إلى عاي، وانتخب يشوع ثلاثين ألف رجل جبابرة البأس وأرسلهم ليلاً، وأوصاهم قائلاً: انظروا أنتم تكمنون للمدينة من وراءِ المدينة» الخ (يشوع3:8-14) فحسب قول الرب عملوا كميناً وتدابير مدققة لا يمكن إجراؤُها إن لم ينتبهوا إلى كلمة الرب كل الانتباه، فبدون شك كانوا يشعرون كل خطوة أنهُ إن كان الرب ليس معهم سينهزمون كالمرة الأولى، فسعوا بمخافة الرب عارفين أن قوتهم وحكمتهم وجبروتهم لا تنفعهم شيئاً.

وأما من الجهة الأخرى فنرى أن افتخار أعدائهم كان وقتياً وأوقعهم في الشبكة التي نصبها لهم الرب، وهكذا أعداء الرب دائماً نراهم أكثر افتخاراً قبل هلاكهم؛ «لأنهُ حينما يقولون سلام وأمان، حينئذٍ يفاجئهم هلاك بغتةً كالمخاض للحبلى فلا ينجون» (تسالونيكي الأولى 3:5) فلما تظاهر رجال إسرائيل بانكسار ظن أهل عاي أنهم هربوا كالمرة الأولى، «فألقى الصوت عَلَى جميع الشعب الذين في المدينة للسعي وراءَهم، فسعوا وراء يشوع وانجذبوا عن المدينة ولم يبقَ في عاي أو في بيت إيل رجل لم يخرج وراء إسرائيل، فتركوا المدينة مفتوحة وسعوا وراءَ إسرائيل» (يشوع 16:8و17) فهكذا في كل حين قادر الله أن يخفض تشامخ الإنسان ويخجل وجههُ في نفس ساعة أعظم افتخارهِ. «فقال الرب ليشوع: مدَّ المزراق الذي بيدك نحو عاي لأني بيدك أدفعها، فمدَّ يشوع المزراق الذي بيدهِ نحو المدينة، فقام الكمين بسرعة من مكانهِ، وركضوا عندما مدَّ يدهُ، ودخلوا المدينة وأخذوها وأحرقوها بالنار» الخ (يشوع 18:8-25) يظهر هنا عَلَى أوّل وهلة أن الكمين نظروا المزراق الممدود بيد يشوع، ولكن إذا تمعنا في العبارة يبان الأمر ليس كذلك؛ لأنهم كانوا بعيدين عن يشوع ومختبئين بالتمام، فإذا كان الله هو العامل في الكل ولما أمر يشوع أن يمدّ المزراق حرّك الكمين أيضاً للقيام بسرعة. ومما يستحق الاعتبار هنا أننا لا نسمع عن تابوت العهد ولا عن الكهنة كما رأينا عند أخذ أريحا، إذ تقدم تابوت العهد محمولاً من سبعة كهنة، وغيرهم ضربوا بالأبواق، وجرى كل شئ مكشوفاً حتى لأعين سكان المدينة، بل نرى عمل تدابير مستترة ومدققة مع أنهم التزموا بالطاعة الكاملة عَلَى الحالتين، فكان الله العامل في الكل مختبئاً عن النظر نوعاً في أخذ عاي ، ولكنهُ لم يكن أقلَّ فعلاً، بل جعل كل الأشياء تعمل معاً لتتميم مقصدهِ بكامل الإتقان.

وهكذا الآن في انتشار الإنجيل وخدمة الكلمة إن كنا نتكل عليهِ تاركين حكمتنا وتدابيرنا يكون معنا ليجري مقاصدهُ الجميلة، وما علينا إلاَّ أن يقوم كل واحد بما هو واجب عليهِ بمفردهِ، ولكن إذا استعملنا حكمتنا نكون قد عكسنا أمورنا بأيدينا نحن لا العدو، ذلك و‘ن كانت نيتنا مخلصة ونحن قاصدون مجد الرب؛ لأن الرب لا يرتضي بنا مع ثقتنا بذواتنا التي تحملنا دائماً إلى الاتكال عَلَى اجتهادنا أكثر من الخضوع لكلمتهِ وعملهِ، فإنهُ يريد أن يكون معنا عند مجاهدتنا مع العدو، فالاتكال التام عليهِ والثقة في حضوره هما من أعظم حكمتنا؛ لأننا لا ننجح إلاَّ بهذا الطريق، وكلما أنعم علينا بمعرفة مقامنا السامي وامتيازاتنا وبركاتنا أكثر صرنا مجبورين بطاعتهِ أكثر؛ لأن عدونا العظيم لا ينعس ولا ينام، بل يستعمل كل الوسائط إسقاطنا وتعطيل خدمتنا، وماذا حكمتنا مع حيلهِ المتنوعة؟ لربما نشرع بنوع من خدم الرب وهو حسب الظاهر بطاقة أيدينا ولكن بعد تعبٍ وكدّ ليس بقليل لا نرى نتائج حسنة بالنسبة إلى ما تكلفنا، فالسبب ما هو إلاَّ لأننا تقدمنا لذلك بحكمتنا نظير إسرائيل أمام عاي المرة الأولى، فتعلّموا غصباً عنهم حينئذٍ احتياجهم إلى الله في الأمور الصغيرة كما في الكبيرة أيضاً، ليس بإنكسارهم المؤْلم أولاً بل بانتصارهم المُفرح بعد ذلك.

«ويشوع لم يردّ يدهُ التي مدّها بالمزراق حتى حرّم جميع سكان عاي» (يشوع26:8) فهذا مما يبين أنهُ لم يمد المزراق للكمين؛ لأنهُ لو مدَّها لأجل ذلك لما لزم أنهُ يبقى ماداً إياها كل المدة، بل كان قد ردها مرة فقط ثم أرجعها. وعَلَى أي وجهٍ كما نرى أن أخذهم عاي أكد لهم أن الله معهم ما داموا يعتبرون حضورهُ ويعطونهُ المقام الوحيد اللائق بجلالهِ، أي المقام الأول. نحن نظير إسرائيل نبادر غالباً للقيام بواجباتنا الزوجية مفتكرين أن الله يكون معنا ويكلل مشروعنا بالنجاح بحيث أن نيتنا جيدة ومخلصة، ولكن ذلك مع أنهُ جيد في محلهِ ليس هو الكل؛ لأنهُ ينبغي لنا أيضاً أن نسلك بالطاعة للكلمة، ولا يوجد سفر آخر من الكتاب المقدس يحث شعب الله عَلَى الطاعة أكثر من سفر يشوع. قال الرسول من جهة خدمتهِ والصعوبات المقترنة معها: «فإننا لا نريد أن تجهلوا أيها الاخوة من جهة ضيقتنا التي أصابتنا في آسيا أننا تثقلنا جداً فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة أيضاً لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين عَلَى أنفسنا بل عَلَى الله الذي يقيم الأموات» (كورنثوس الثانية 8:1و9) فهكذا صار مع إسرائيل بالأول ثم بعدما نجحوا لم يكن موضع للافتخار لا بقوتهم ولا بحسن تدابيرهم ونشاطهم في إجرائها؛ لأنهُ من أين لهم افتخار بسبب أخذهم مدينة صغيرة بتعب جزيل هكذا، حتى أن انتصارهم ذكّرهم بالانكسار الأول المرّ وتذللوا غاية التذلل لما تذكروا ما سببتهُ ثقتهم بذواتهم، إن الله قاصد أن لا يفتخر كل ذي جسد أمامهُ، وذلك حسن وحق؛ لأنهُ لماذا يفتخر الإنسان الذي ليس هو إلاَّ دوداً أمام خالقهِ؟ وبينما كان يذكرهم بزلتهم بذلك الترتيب المتعب أظهر لهم أهمية الكلمة والاتكال عليهِ تعالى في كل خطوة، نعم الكلمة بذاتها هي عظيمة الأهمية ولكنها ليست الكل لأننا نحتاج إلى إله الكلمة كما إلى الكلمة أيضاً.

لو أخذنا كلمة الله بحكمتنا (وذلك من الممكن) فماذا نحن إن لم يكن الله معنا؟ فلا ننظر حينئذٍ إلاَّ ضعف الإنسان وحماقتهُ، ولكن إن كان هو معنا حسب كلمتهِ فانتصارنا مؤَكد كما تعلمنا من انكسار إسرائيل وغلبتهم، نعم ليس أحد إلاَّ الله كان يعرف بخيانة عخان، وبدون شك كان قد كشفها لهم لو اصطبروا لهُ قليلاً؛ لأنهُ لم يسرَّ بالخزي لشعبهِ والإهانة اللاحقة لاسمهِ، ولكنهم استعجلوا بالصعود إلى عاي كأَن الله يريد هلاك أعدائهِ أكثر من قداسة شعبهِ فانكسروا؛ لأن الله يريد أن شعبهُ يطلبونهُ، وإن تغافلوا عن ذلك فلا يكون السبب إلاَّ ثقتهم بأنفسهم، فينبغي إذ ذاك أن يوقظهم من حالة التغافل ليتعلموا منهُ نفس الشيء الذي تغافلوا عنهُ والذي كان هو يعلمهم إياه لو سأَلوه؛ لأن ذلك متعلق بمجدهِ حيث أنهُ ساكن في وسطهم. إن أخذ عاي صار حينئذٍ تعليماً مفيداً لشعب الله في كل حين؛ لأننا نحن نظير إسرائيل نود لو أمكن أن ننجح في طرق الله بواسطة قوتنا وحكمتنا، مع أن ذلك مما يغيظهُ دائماً وأبداً. «فإن لرب الجنود يوماً عَلَى كل متعظم وعالٍ وعَلَى كل مرتفع فيوضع كفُّوا عن الإنسان الذي في أنفه نسمة لأنهُ ماذا يحسب؟» (أشعياء 12:2-22)

«لكن البهائم وغنيمة تلك المدينة نهبها إسرائيل لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر بهِ يشوع» (يشوع 27:8) فهنا أخذوا ثروة عاي حسب قول الرب لا من طمع قلوبهم، عندما أخذوا أريحا امتحنهم إذ لم يسمح لهم بشيءٍ وأما هنا فاغتنموا عاي لذواتهم.

«وملك عاي علقهُ عَلَى الخشبة إلى وقت المساءِ وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثتهُ عن الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة وأقاموا عليهِ رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم» (يشوع 29:8) ففكرهم الله بشريعتهِ بخصوص أمر كهذا لأجل إفادتهم وإفادتنا أيضاً، إذ نبه ضمير يشوع ليتحفظ تحفظاً عَلَى إرادة الله، فعملوا ليس حسب وصية حديثة بل بما وضعهُ الله في عبر الأردن، فتذكروا الآن بواسطة الظروف التي أوجبتْ العمل بهكذا أمور  ماذا أوصى موسى من جهة حفظ أرضهم من الأسباب المدنسة. كانت الأرض خاصة الرب وإذ ذاك كان ينبغي أن لا ينجسوها، بل يتصرفوا فيها كما يليق بحقوق الله وقداستهِ، كان الأمر لهم أن لا يتركوا جثة معلقة عَلَى الخشبة إلى غروب الشمس فلم يتغافلوا بعد أخذهم عاي عما يليق بالرب وبأرضهِ. فكم يجب علينا الآن أن نغار عَلَى ما يتعلق بطهارة كنيسة الله مسكنهِ الخاص وجميع حقوق الله فيها. وعَلَى ذلك أيضاً نسمع أن يشوع بادر إلى بناءِ مذبح «حينئذٍ بنى يشوع مذبحاً للرب إله إسرائيل في جبل عيبال كما أمر موسى عبد الرب بني إسرائيل، كما هو مكتوب في سفر توراة موسى، مذبح حجارة صحيحة لم يرفع عليهِ أحد حديداً، وأصعدوا عليهِ محرقات للرب وذبحوا ذبائح سلامة، وكتب هناك عَلَى الحجارة نسخة توراة موسى التي كتبها أمام بني إسرائيل» (يشوع 30:8-32) فمن كل ذلك يبان تمرين ضمائرهم وشعورهم وقتئذٍ بما يليق بمجد الرب حسب نصوص كلمتهِ. يشير هنا إلى (خروج 25:20و26) حيث أوصاهم الله كيف يجب أن يكون بناء مذبح لهُ، ونهاهم نهياً مشدداً عن عمل شيءٍ ما في عبادتهِ أولاً عن عمل بشر وثانياً عن ترتيب بشر. «إذا وضعت عليهِ إزميلك تدنسهُ، ولا تصعد بدرج عَلَى مذبحي كيلا تنكشف عورتك عليه» فلم يزل عملنا وترتيبنا كلاهما ممنوعين بنسبة واحدة في عبادة الله إذا رفعنا إزميلنا عَلَى مذبح الله ندنسهُ، وإذا بادرنا إلى عبادتنا صاعدين بدرج أي بترتيب رتبناهُ نحن إنما تنكشف عورتنا أمام الله لا غير. وهكذا صار مع شعب الله المسيحي كما لا يخفى، فكم من المذابح ترتيب لعبادتهِ حسب حكمة البشر؟ وكم من الأزاميل رفعوها عليها ظانين أنهم يزينونها؟ ونتيجة كل ذلك كشفوا عورتهم أمام الله ودنسوا عبادتهُ. ليت شعب الله الإسرائيلي والمسيحي أيضاً تحفظوا دائماً وأبداً عَلَى إجراءِ عبادتهِ حسب كلمتهِ كما فعل يشوع والشعب بعد أخذهم مدينة عاي، «ثم بعدما بنى يشوع المذبح جمع الشعب ووقفهم أمام الجبلين حسب أمر الله، وبعد ذلك قرأَ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب كل ما كُتب في سفر التوراة، لم تكن كلمة من كل ما أمر بهِ موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم» (يشوع  34:8و35) فقرأ كل كلمة ليس للبالغين من الرجال بل للنساء والأطفال نعم والغرباء الساكنين بينهم؛ لأن سلطان الله أحاط بهم جميعاً، فكان من اللائق أن الجميع يسمعونها حتى الغريب أيضاً، مع أنهُ لم يمكنهُ أن يشترك في جميع امتيازات نسل إبراهيم، ولكنه كان عَلَى الأقل ملتزماً بالطاعة لله.

قد انتهى كلامي الآن عن هذا الموضوع. قد رأينا أولاً أسباب الانتصار وثانياً أسباب الانكسار وثالثاً كيف كان رد نفوس إسرائيل ورابعاً بعض الفوائد الأدبية الناتجة من كل ذلك، ليعطينا الرب يا اخوتي أن نطالع كل كلمة من هذا الكلام بالنظر إلى كونها إعلان طرق الله الحي ومعاملاتهِ لنا، متذكرين أنهُ يعاملنا دائماً حسب النور الذي أنعم علينا بهِ إن أدَّبنا أو باركنا فبحسب هذا القانون البسيط المرسوم من سيدنا لهُ المجد إذ قال «فكل من أُعطي كثيراً يُطلب منهُ كثير ومن يودعونهُ كثيراً يطالبونهُ بأكثر» (لوقا 48:12) .

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.