لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

سفر يشوع

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب وليم كيلي

  تفسير سفر يشوع

*الفصل الأول*

(من الإصحاح الأول إلى الرابع)

 إن سفر يشوع يعقب خمسة أسفار موسى مقترناً معها اقتراناً طبيعياً بينًا قد يظهر للقارئ من أول وهلة معطوفاً عليها بواو العطف، فإن الروح القدس مع أنهُ كتبهُ عَلَى يد خادم آخر، كان يعلن تعليماً موافقاً لشعب اللّه حينئذٍ، وكان سفر التثنية قد أعدَّ الطريق لإظهار هذا التعليم، بحيث أن موسى النبي نطق بمضمون ذلك السفر لإسرائيل وهم علَى الاستعداد لعبور الأردن ودخول أرض كنعَان، وهذا السفر يوضح ما حدث بُعيد ذلك. ففي درسنا إياهُ ينبغي أن ندرك أولاً ما هو مقصد روح الوحي بهِ، ثم نلتفت إلى تفاصيلهِ.فلذلك أقدم بعض ملاحظات عمومية.

طالما سمعنا أن معنى عبور الأردن بالنظر إلى كونهِ رمزاً يشير إلى مفارقاتنا هذا العالم وانطلاقنا إلى السماء عند الموت، مع أن معناهُ الحقيقي ليس كذلك، عَلَى أن استعدادنا للموت إن شاء اللّه مهمُّ في محلهِ وكثير النفع لنفوسنا، إني أقول أن اللّه أعطانا هذا الرمز الجميل لإفادتنا بخصوص سلوكنا عَلَى الأرض وليس من جهة دخولنا السماءِ وإذا حوَّلناهُ عن ذلك، نفقد ما قصد اللّه أن يفيدنا إياهُ ونحن في هذا العالم. ولا يصح أيضاً استعمالهُ عَلَى الجهتين، أعني عَلَى حالتنا في العالم وموتنا معاً كما سنرى.

مع أنهُ توجد في جميع أسفار الوحي فوائد عامة سواءٌ كانت لإرشادنا الآن أو لتعزيتنا عند الموت، حتى أن الذين يفسرون عبور الأردن كناية عن مفارقتنا هذا العالم يستخرجون فوائد روحية للوقت الحاضر من ذلك نفسهِ، كقصة راحاب مثلا بالنظر إلى كونها مثالاً لطريق خلاص النفس بالإيمان.

وأما من جهة معنى عبور الأردن فأقول أنهُ رمز إلى حالتنا المسيحية بحيث أننا انفصلنا عن العالم أدبياً، وصرنا نتمتع بمقامنا في المسيح، وذلك حال كوننا قد متنا وقمنا معهُ، ويتضح هذا المعنى جلياً إذا سأَلنا: ماذا فعل بنو إسرائيل بعد أن عبروا هذا النهر؟ هل حصلوا عَلَى الراحة؟ كلاَّ- فإنهم لم يزالوا في تعب لا بل باشروا جهاداً عظيماً مع أعدائهم وجُرّب إيمانهم بذلك أكثر مما جُرّب إيمانهم بعناء المسير في البرية. نعم أن اللّه كان قد امتحن قلوب شعبهِ في البرية التي كانت موافقة لذلك لكونها خالية من الخيرات الأرضية، وكان هو معهم كنصيبهم وإن لم يكتفوا بهِ فما لهم شئ خلافهُ ليتمتعوا بهِ. وكان اللّه يُجرّبهم هل يلتصقون بهِ أم لا ويعلمهم ما في قلوبهم وما هو قلبهُ هو تعالى لنحوهم، وهذه هي غاية معاملاتهِ المتنوعة معهم مدة سيرهم أربعين سنة ولم يمنحهم بركاتهم الخاصة الموعود بها، وقد اتضح كل ذلك في بعض الأسفار السالفة. وأما في سفر يشوع فنرى ما أُعطي لإسرائيل بحسب مواعيد اللّه لآبائهم إذ أدخلهم أرض كنعان بيد قوية، فابتدئوا يحاربون سكانها لكي يمتلكوها، فهذا السفر يحتوي أخبار حروبهم، فيُبان من ذلك عينه ما هي الفوائد التي نستفيدها منهُ عَلَى سبيل الرموز فإنه أمر واضح بعد انطلاقنا لنكون مع الرب لا نشتبك بحروب. ثم إذا بحثنا عما يدل عليهِ عبور إسرائيل البحر الأحمر عند خروجهم من نرى قرينة بين ذلك وعبورهم الأردن قبل دخولهم أرض كنعان. لا شك أن كلتا الحادثتين تدلان عَلَى موت المسيح وقيامتهِ وموتنا وقيامتنا معه رمزياً، ولكن يوجد هذا الفرق بينهما الأول_ يشير إلى اتحادنا مع المسيح بموتهِ وقيامتهِ بحيث يفصلنا ذلك عن العالم أدبياً ويصيرنا سياحاً فيهِ، وأما الثاني_ أي عبور الأردن فيشير إلى ما هو أعظم من ذلك، أعني معرفتنا بما نتج لنا من موت المسيح وقيامتهِ،ومقامنا فيهِ حتى يمكننا الآن أن نتمتع ببركاتنا الخاصة السماوية، وإن كنا لسنا في السماءِ بعد؛ لأننا بموجب الروح المعطى لنا بعد موت المسيح وصعودهِ إلى السماءِ نتحقق اتحادنا معهُ ومقامنا فيهِ مع أننا مجاهدون ضد أعدائنا الروحية، التي تقاومنا لكي تمنعنا عن التمتع بكل ذلك. فإذاً من الجهة الواحدة عبور البحر الأحمر يشير إلى كوننا أمواتاً مع المسيح ولكن أحياء للّه ومنقذين من العبودية للعالم لأن مصر هي رمز للعالم كونهُ موضع العبودية لشعب اللّه، ومن الجهة الأُخرى عبور الأُردن يشير إلى تمتعنا «بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع» (أفسس 3:1). وبناءً عَلَى ذلك يجب أن «نهتم بما فوق لا بما عَلَى الأرض»(كولوسي 2:3). «بالإيمان نسلك لا بالعيان» ولكن تمتعنا بتلك البركات ليس أقل حقيقة من كونهِ بالإيمان فقط.إنه لم يستولِ عَلَى عقل البشر ضلال أعظم من الظن بأن الأمور المنظورة هي حقيقة، والأمور المعروفة بالإيمان ليست كذلك فإنهُ لا يوجد شئ أكثر حقيقة من الإيمان؛ لأنهُ مسند عَلَى كلمة اللّه الثابتة إلى الأبد، إننا قابلون في يسوع المسيح ربنا ملكوتاً لا يتزعزع، ونصيباً أفضل جداً مما يُرى. نعم ينبغي لنا أن نتكل عليهِ بالإيمان إذ ليس لنا الآن ما يظهر لعين البشر، ولكن والحالة هذه هل نحن أفقر؟ كلا بل نحن أغنى مما كنا لو كانت بركاتنا ظاهرة عياناً؛ لأننا متعلمون بالإيمان أن نستند عَلَى نظر اللّه لأجلنا لا عَلَى نظرنا نحن لأجل أنفسنا، وذلك من عمل الإيمان؛ فالإيمان إذاً لا يُضيق دائرة نظرنا بل يوسعها جداً إذ بهِ نعاين ما أُعطي لنا من اللّه على حسب ما نظرهُ اللّه لأجلنا. إننا قليلو الإيمان، ولا ندرك نصيبنا الجيد كما يجب، ولكن الروح القدس أتى من سيدنا بعد صعودهِ إلى العلا لكي يعلن لنا «ما لم ترَهُ عينٌ ولم تسمع أذن ولم يخطر عَلَى بال إنسان ما أعدَّهُ اللّه للذين يحبونهُ»(كورنثوس الأولى 9:2-10). وإن قال أحدٌ هذا الكلام لا يصدق إلا عَلَى تمتعنا بمجد السماءِ بعد الموت! فأقول:-كلا-لأن الرسول يقول:«فأعلنهُ اللّه لنا بروحهِ» فكلما قبلنا ما أعلنهُ لنا في كتابهِ كلما ننمو كلما ننمو إلى قياس قامة ملء المسيح ونبلغ غاية دعوتنا المسيحية. شاء اللّه من لطفهِ لنحونا أن يجعلنا نعرف يقيناً ونتمتع بمقامنا المرتفع ليس عند موتنا فعلاً بل ونحن بعد في العالم حين نتحقق موتنا وقيامتنا مع ابنهِ، وأننا بواسطة ذلك قد انفصلنا عن العالم وتحررنا من عبودية الشيطان ومتنا روحياً عن جميع الأشياء التي كنا نعيش لها قبل، حتى عن ذواتنا أيضاً. ولا شك أنهُ ليس بممكن أن نتمتع بما هو لنا في المسيح إن لم نعرف موتنا عن ذواتنا، وإلى ذلك يشير إختتان إسرائيل حالاً بعد عبورهم الأردن؛ لأنهم لم يمارسوا طقس الختان كل سيرهم في البرّية، ومع أنهُ كان من واجباتهم حسب شريعة موسى، فلم يعاتبهم اللّه عَلَى إهمالهم إياه حتى عبروا الأردن، وحينئذٍ أوجب عليهم إجراءِ الختان بلا مهلة، فمعنى الختان إذا أُخذ رمزياً هو موتنا لذواتنا بواسطة موت المسيح، أُنظر (كولوسي 11:2) ويجب أن نعرف ذلك ونتصرف كالذين ماتوا وقاموا، ولا يمكن ذلك إن لم يصر فينا ختان المسيح الذي هو خلع الذات. وإن كان ذلك كذلك فلا يليق بنا أن نكتفي بمجرَّد الفكر بأن لنا كل شئ في المسيح، بل نسعى لكي نتمتع بهِ فعلاً بواسطة الروح القدس العامل فينا، أُنظر (أفسس 15:1-23) إن اللَّه يشاء أننا نعرف ماذا نلنا منهُ كأولادهِ؛ لأنهُ أعطانا نصيباً جيداً جديراً بمحبته لنا، ولكن يقتضي لنا اجتهاد الإيمان لكي نتعلم منهُ كل حين ولا نتغافل، فإنهُ لم يمنع عنا شئ من الخير، وإن كنا لا نجتهد كل الاجتهاد لكي نعرف الأشياءَ الموهوبة لنا منهُ فقد أهنا محبتهُ، ولا بد لنا من الجهاد.

فسفر يشوع هذا ممتاز ليس بأخباره عن خروج بني إسرائيل من بيت العبودية ليسيروا في برّية خالية مقفرة بل بدخولهم إلى ميراثهم الموعود بهِ. فلنتأّمل قليلاً في إصحاحاته الأولى بالتفصيل .

موسى عبد الرب قد مات وقام يشوع مقامهُ، فيرْمز بكليهما إلى المسيح بحيث موسى بوظيفته رمز إلى المسيح حال كونه يُخرج شعبهُ من العالم ويقودهم في العالم كما أن يشوع رمز إليهِ حال كونِه رئيس خلاصنا؛ ليدخلنا إلى ميراثنا الروحي، وينصرنا عَلَى أجناد الشر التي تضادنا، وذلك جارٍ فينا بينما نحن في هذا العالم. فإذاً يشوع رمز إلى المسيح ليس عند مجيئهِ ثانيةً لكي يقبلنا إلى مجدهِ، بل بحالة ارتفاعهِ الآن إذ يقودنا بواسطة الروح القدس، ويخولنا المعرفة الأكيدة بمقامنا السامي لنقبل ونتحقق امتيازاتنا الفائقة، ثم نرى أيضاً في هذا السفر أن اللّه أعطى شعبهُ ميراثاً عطية مؤكدة، وبعد ذلك أمرهم بأن يجاهدوا لامتلاكه ضد موانع وصعوبات عديدة، وسنرى الإيضاح عن كل ذلك عند مطالعاتنا إصحاحات السفر. فلنتعلم مما يتضح لنا من الإصحاح الأول إلى الإصحاح الثاني عشر، إنهُ يقتضي لنا محاربة عنيفة؛ لكي نمتلك امتيازاتنا السماوية، مع أنها قد وهُبتْ لنا،  ثم في ما بقي من السفر من إصحاح 13 إلى آخرهِ نرى بعض المتاعب والصعوبات التي نتجت لهم من كونهم في الأرض، والتي من شأُنها أن تخدعهم أو تمنعهم عن التمتع بما كان لهم، وذلك رمز إلى الطرق المختلفة التي يستعملها الشيطان الآن ليضللنا أو يجعلنا نحيد عن الحق بعد معرفتنا إياهُ، «فالآن قم واعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم» أي لبني إسرائيل.«كل موضع تدوسهُ بطون أقدامكم لكم أعطيتهُ كما كلمت موسى» (عدد 2و3)، فالأرض التي أعطاهم اللّه إياها اضطروا بأن يكتسبوها بسيفهم ولم يستطيعوا أن يمتلكوا موضعاً منها إن لم يغتصبوه من يد العدو، ثم قولهُ:من البّرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات الخ (عدد 4) يرى حدود الملك المعطى لإسرائيل، إنهُ كان أوسع جداً من أرض كنعان بحصر اللفظ، ففي ذلك رمز جميل إلى مضمون رسالة أفسس الموضحة امتيازاتنا وبركاتنا الخاصة بالنظر إلى كوننا قديسين ومختارين في المسيح قبل تأَسيس العالم أولاً- أن اللّه قد منحنا نصيباً جيداً «إذ قد باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع» (أفسس 3:1) ولكنهُ علّق تمتعنا بذلك عَلَى تميزنا الروحي (أفسس 17:1-19) ونشاطنا في المصارعة الروحية (أفسس 10:6-19) فلا نمتلك إلاََّ مقدار ما نغتصب من يد العدو. ثانياً-نرى في نفس هذه الرسالة ما يوافق قولهُ من البرّية ولبنا هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، لأن إلهنا يعطينا بركات دائرتها ممتدة أوسع جدّاً مما نمتلك فعلاً الآن. إن إله ربنا يسوع المسيح وأباهُ قد باركنا في ابن محبتهِ، ومن حيث أنهُ «جعلهُ رأساً فوق كل شئ للكنيسة التي هي جسدهُ ملء الذي يملأ الكل في الكل(أفسس 22:1و23) عرَّفنا أن رأسنا المجيد لا يملك عَلَى كل شئٍ ما لم تشترك معه أعضاءُ جسدهِ. فإذاً نرى في هذا الرمز الجميل الذي نحن في صددهِ نصيبنا الحاضر الذي يقابل أرض كنعان التي كان يجب عَلَى إسرائيل أن يغتصبوها وقتئذٍ من يد العدو وعدا ذلك أراضي وسعة ممتدة إلى النهر الكبير نهر الفرات التي وُهبتْ لهم لكنها لم تكن في سلطتهم في ذلك الوقت. أَلا يعلمنا كل ذلك أن الله إذا أعطى يعطي بطريقة موافقة لذاتهِ، وأنهُ عندما يتمم مواعيد لا يقصر عما يليق بجلالهِ. وأننا مزمعون أن نتحقق كل ذلك في اليوم الذي ننتظره حين نتمتع ليس بما هو خاص بنا فقط، بل بما هو خاص بالمسيح رأَسنا أيضاً، وسيظهر حينئذٍ أن الله لم يترك شيئاً غير خاضع لذلك الذي قبِل الإهانة والرفض في العالم لكي يتمجد الله فيهِ.

«لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك، كما كنت مع موسى أكون معك، لا أهملك ولا أتركك، تشدد وتشجع» (عدد5و6). فكانت الصعوبات في طريقهم عظيمة جداً فأعطاهم الله تعزيةً ويقيناً عَلَى حسب الحاجة، وكرر في الإصحاح الأول هاتين الكلمتين: تشدد وتشجع. نعم أن الله قد دعانا بدعوة عظيمة جداً، والصعوبات التي قدامنا كثيرة جداً؛ وإذ ذاك نحتاج إلى تعزية كلمتهِ والشجاعة الروحية. فاسأل اخوتي المسيحيين هل أدركوا ما هي دعوتنا؟ وما يلزمنا من الإيمان لكي نتقدم إلى قدام؟ إن كثيرين قد غلطوا إذ ظنوا أن كلاماً كهذا إنما هو عَلَى سبيل المبالغة، وأن الإيمان بدعوتنا العليا وبركاتنا الخاصة ليس إلاَّ ادعاءً وتجاسراً ملوماً في الأمور الروحية. وبذلك لم يميزوا الإيمان المبني عَلَى كلمة الله الصريحة عن الادعاء الذي هو أدنى شهوات الجسد وأشرّها، بحيث أن الإنسان الذي يتجاسر في أمور الله مخالفا لكلمتهِ إنما يعمل حسب أهوائهِ وأوهام ذهنهِ المنتفخ، ولا يوجد فيهِ شئٌ من التواضع والاتكال عَلَى الرب، الناتجين عن الخضوع لكلمتهِ. ليحفظنا الله جميعاً من الادعاءِ. ولكن من الجهة الأُخرى نطلب أن لا يُعدَم أحد من أولادهِ الاتكال التام عليهِ، والشجاعة الروحية الضرورية لامتلاكنا ما وُهب لنا، وإن سأَل أحدٌ: ما هو الفرق بين الإيمان ولادعاء؟ وكيف نميز بينهما؟ قلنا: أن الادعاءَ هو شجاعة الإنسان المتعاطي أمور الله متكلاً عَلَى قوتهِ البشرية وحكمته القاصرة، وأما الإيمان فهو ضد ذلك تماماً؛ لأنهُ مبني عَلَى كلمة الله التي تعلِّمنا أن حكمة الإنسان وقوته مرفوضتان في أمور الله. وإذ ذاك قوة المؤمن وشجاعتهُ مسندتان عَلَى المسيح وحدهُ. فإذاً الفرق بينهما عظيم جداً، والتمييز بينهما ليس بعسر عَلَى من كانت كلمة الله بين يديهِ. علينا أن نتشدد لامتلاك ما هو لنا في المسيح، ولا يمكن أن نتشجع فوق اللازم ما دام المسيح مصدر قوتنا وكلمتهُ الدستور الوحيد لإرشادنا، من الجهة الواحدة يجب أن نسهر ونصحو ضد مكايد العدو وحيلهِ، ومن الجهة الأخرى نحتاج إلى من يحثنا عَلَى الجراءة المقدسة والتقدم إلى قدام غير خائفين من الشيطان إن زمجر علينا كأَسد، أو احتال علينا كحية. كما قال الرب ليشوع تشدد وتشجع، ولم يقل ذلك ليشوع وحدهُ بمعزل عن إسرائيل، بل بالنظر إلى كونهِ متحداً مع شعب الله اتحاداً كاملاً وقائداً لهم، فإذاً كلام كهذا عزَّى وشجَّع القائد والمنقادين بالسوية. وهكذا يا أحبائي الله قد باركنا في المسيح يسوع واضعاً جميع أولاده فيهِ، ولا يريد أن يبني البعض ويهمل البعض، بل يريد أن يعزيهم جميعاً ويمتعهم بما أعطاهم في المسيح. وقد اتضح مما مضى أن أعز بركاتنا الروحية هي لنا حال كوننا في المسيح، وأعضاء جسده. قد ظهر في أيامنا أمر يستحق الأسف، وهو أن قليلين من أعضاءِ المسيح يصدقون ببركاتهم الخاصة، مع أن الله ابتدأَ ينبهنا ويجعلنا نسأل عن مقامنا الحقيقي في المسيح، كالذين اختارهم فيهِ قبل تأْسيس العالم ودعاهم إلى ملكوتهِ ومجدهِ، وإن كنا نحن من الذين انتبهوا علينا بتأْدية الشكر إليهِ ولا نفتكر أن ما فهمناهُ وتعزينا بهِ هو لنا وحدنا، بل لجميع الذين لهُ أيضاً، وذلك إن كان جانب عظيم منهم متغافلين غير راضين بأن يمدوا يد الإيمان؛ ليمتلكوا ما وُهب لهم ون الله.

وهذا ما يبرهن خراب النظام المسيحي في العالم؛ لأن الكنيسة التي وُضعتْ في العالم لكي تكون نوراً فيهِ وشاهدة أمينة ضدهُ، أصبحت عَلَى حالٍ خلاف ذلك، فنرى المسيحيين من عدم إيمانهم رافضين بركات الله الثمينة، وسالكين مع العالم لا بل يسبقونهُ في أعمال لا تليق بالنور المسيحي. وقد صار العالم والحال هكذا بلا من يوبخه ويشهد عليهِ أن أعمالهُ شريرة، وليس ذلك فقط بل يوجد أيضاً أُناس من أولاد الله حقيقةً ممتزجين مع العالم، ولكونهم لم يميزوا ذواتهم وأحوالهم بنور الله بعد؛لم يدركوا عطايا محبتهِ لهم. كل ذلك لأمرٌ محزن ويجعلنا نشعر بعظم الخراب الذي صار في النظام المسيحي، عَلَى أننا نرى أيضاً ما هو الله لنحو أولادهِ جميعاً رغماً عن أحوالهم التعيسة، وإن كنا نشتهي خير اخوتنا وتقَدُّمهم في معرفة مقامهم، فعلينا قبل كل شئٍ أن نجتهد في نمو أنفسنا في الحياة الروحية؛ لأنهُ لا يوجد شئٌ يؤول لبركة الآخرين أكثر من تمتعنا بما أُنعم علينا لأنفسنا، وحينئذٍ نشدد ونقوي اخوتنا كما تقوَّ يشوع بما سمع من فم الرب إذ قال:«تشدد وتشجع؛ لأنك أنتَ تقسم لهذا الشعب الأرض التي حلفت لآبائهم أن أعطيهم، إنما كن متشدداً وتشجع جدّاً» نعم رئيسنا العظيم المرموز إليهِ بيشوع لا يقصّر في عمله ولا يخيبنا أبداً ولا يحتاج إلى من يحثهُ عَلَى السهر والاجتهاد ولا إلى من يوبخهُ عَلَى القصور كما كان الأمر مع يشوع؛ لأن كل سلطان في السماء والأرض قد دُفع في يديهِ لأجل كنيسته التي يقودها بواسطة الروح القدس حسب كلمتهِ الصادقة.

وهنا نرى شيئاً آخر، أعني أهمية كلمة الله (عدد 8) حيث يقول «لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيهِ نهاراً وليلاً؛لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيهِ؛ لأنك حينئذٍ تصلح طريقك وحينئذٍ تفلح» فإذاً عندما نبتدئُ أن نعرف ونتمتع ببركاتنا الخاصة بقوة الروح القدس، يزداد احتياجنا إلى كلمة الله. ونعم نعرف قيمة كل كلمة من الكتاب المقدس ولا يكفينا أن نفهم جزءاً منهُ، أعني مقداراً كافياً ليؤكد لنا خلاص أنفسنا من الغضب الآتي، فقط كما هو حال كثيرين لا يرغبون أكثر من معرفة خلاصهم المستقبل فلا يشعرون بالاحتياج إلى درس الكتاب بالتفصيل والاجتهاد؛ لأنهم يكتفون بمعرفة جزئية، وكثيراً ما يقولون كفاهم أن يعرفوا المسيح وإياهُ مصلوباً، ولكن عندما ننتبه إلى الحقائق التي توضح عن المسيح المرتفع ومقام القديسين السامي ونرغب أن ندرك حق الإدراك نصيبنا الخاص في المسيح في السماءِ قبل دخولنا إليها فيما بعد، نحتاج إذ ذاك إلى كل كلمة تخرج من فم إلهنا، والروح القدس لا يمتنع عن تعليمنا، وإن كان يفحصنا ويمتحن طرقنا عَلَى منوال يسحقنا ويذلّنا فنقبل ذلك حاسبين أنهُ خير لنا مما لو اقتصرنا عَلَى مجرد معرفة المسيح بالنظر إلى كونهِ واسطة لخلاص نفوسنا وقت الموت وليس ككونهِ جالساً في السماوات قائداً مقتدراً لشعب منصور حتى الآن في غربتهم. لا شك أن كلمتهُ التي تنصرنا عَلَى الشيطان تذللنا نحن أيضاً، ولا تترك موضعاً للافتخار بالإنسان.

«أما أمرتك، تشدد وتشجع لا ترهب ولا ترتعب؛ لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب»(عدد 9) يشوع وإسرائيل لم يحتاجوا إلى كلمة الله فقط، بل إلى حضور الله ذاتهِ معهم أيضاً وكذلك نحن أيضاً؛ لأن كلمتهُ لا تغنينا عن حضورهِ وإن كنا نتغاضى عن حضوره معنا كل يوم فلا يدوم فرحنا بكلمتهُ إلاَّ إلى حين. لربما نسرّ جدًّا أول ما نسمع الحقائق الجديدة ولكن إن كان الله ليس معنا وحضوره مصدر أفراحنا، يأتي وقت فيه يسقط زهر الحق الجميل الذي فرحنا بهِ، ويصير الحق ذاتهُ كشيءٍ عتيق عندنا لا يمكن أن يفرح قلوبنا، وحينئذٍ ماذا يعضدنا؟ ولكن إن كان حضور إلهنا معروفاً نعم وعزيزاً لنا نتشجع عالمين أن القدوس والكامل الحكمة هو معنا، ومهما صادفنا من التجارب والصعوبات المضادَّة لطبيعتنا، فشعورنا بحضوره يغنينا عن كل ما فقدنا من اللذات الجسدية، ويسهل الطريق أمامنا. فماذا يعوزنا ما دام إلهنا المحب معنا ليعتني بنا حسب محبتهِ الكاملة؟ إنهُ أمرٌ أن التأكيد بحضور الله مع شعبهِ المذكور هنا وقت دخولهم إلى ميراثهم الخاص هو مشحون من التعليم والتعزية لأنفسنا؛ لأنهُ كما كان حضور الله ضرورياً لهم هكذا هو ضرورياً لنا أيضاً ولا نستطيع أن نستغني عنهُ؛ إذ لا يدوم شئٌ غيرهُ.

ثم نرى من العدد10 إلى آخر الإصحاح أن يشوع باشر العمل حسب ما أُمر بهِ، حتى السبطان ونصف السبط اللذين لم يريدوا أن يستوطنوا في أرض كنعان، أخذوا يشجعونهُ، غير أننا كنا نظن أن الأليق بهم أن يصمتوا؛ لأنهم بالنظر إلى صوالحهم الزمنية والمرعى الحسن لقطعانهم ومواشيهم، اختاروا السكن في عبر الأردن شرقاً، ومع أن رجالهم اجتازوا الأردن مجنَّدين مع اخوتهم، فبعد الحرب رجعوا إلى مسكنهم في عبر الأردن، كما أننا رأينا جانباً عظيماً من المسيحيين عائشين دون المعرفة بموتهم وقيامتهم مع المسيح وذلك بالنظر إلى صوالحهم الزمنية، ولكنهُ كان خير لهم لو استوطنوا كنعان بحصر اللفظ؛ لأنهم فيما بعد سقطوا في يد العدو قبل اخوتهم.

الإصحاح الثاني: هذا الإصحاح يتضمن القصة الجميلة عن معاملة الله راحاب الامرأة الأممية ومع أنهُ كان آخذاً بإدخال شعبهِ من نسل إبراهيم إلى أرضهم، لكنهُ أظهر نعمتهُ المطلقة لنحو هذهِ الامرأة غير المستحقة لذلك، سواءٌ أن اعتبرنا جنسيتها أو سواء آدابها، ولم يُذكر شئٌ من هذا القبيل بعد عبور إسرائيل البحر الأحمر، ولكنهُ مذكور هنا بغاية المناسبة حيث شعب الله مزمع أن يمتلك بركاتهُ وأرضهُ الخاصة فأبان الله عدم نفع الجسد، وأن نفس النعمة العاملة لإسرائيل قادرة أن تخلص الأمم أيضاً، ومثل ذلك ما ورد لنا برسالة أفسس خصوصاً الإصحاح الثاني حيث يُظهر الرسول حالة اليهود والأمم جميعاً؛ لأن اليهود كانوا أبناء الغضب كالباقين أيضاً، والأمم بدون المسيح أجنبيين عن رعوية إسرائيل وغرباءَ عن عهود الموعد لا رجاء لهم وبلا إله في العالم، ولكن النعمة التي خلَّصت اليهود خلَّصت الأمم أيضاً وقربتهم جميعاً إلى الله وأعطتهم نسبة جديدة لم يوجد لها نظير قبلاً، وكما كانت النعمة عظيمة كذلك كانت البركات التي فاز بها المؤمنون من الفريقين، وبطُل كل أثر الجنسية ولم يبق موضع للاستحقاق البشري. رأينا في سفر يشوع الرمز الجميل، وأما هنا  فنرى المرموز إليهِ، فظهرت حكمة الله العجيبة بدعوة راحاب التي لم تكن أجنبية الجنس فقط، بل أيضاً كانت مختارة بالنعمة من صفوف الساقطين، إذ كانت معروفة زانية ومن المعلوم لا يوجد حال من سوء الآداب أشرّ للنساء من ذلك، قد زعم البعض أن اللفظة المترجمة بزانية تحتمل معنى صاحبة فندق أو خان عَلَى ظنهم الباطل أن كونها زانية يحسب عاراً عَلَى كلمة الله، ولكنهم سعوا باطلاً؛ لأن كتاب الله لا يحتاج إلى من يحامي عنهُ أو يلطف ألفاظهُ خوفاً من وقوع العار عليهِ والأحسن بنا أن نقبله كما هو بالبساطة. كل بشر كعشب ويستدّ كل فم أمام الله وأحسن أشخاص وأنجسهم عَلَى حد سوى أمام تلك النعمة المطلقة الوصف الضرورية لأجل خلاص نفس واحدة من البشر، وبالحقيقة قصة راحاب الزانية واقعة بغاية الموافقة هنا؛ لأنهُ إن كان الله في ذلك الوقت آخذاً من نعمتهِ بإدخال نسل إبراهيم إلى أرضهم، فلماذا لا يظهر لهم ماهية تلك النعمة وعظمها بخلاص واحدة توغلت بالرداءة بهذا المقدار حتى أنهُ ما كان يُظن أن خلاصها ممكن، فمن حسب عملاً كهذا غير لائق بمجد الله حينما يرفع خاصتهُ إلى أعلى درجة من الامتيازات، إنما يفعل ذلك بموجب النعمة التي تبلغ حتى من كان عَلَى أوطى درجة من الفساد. فإذاً عوضاً عن أن نستصعب ما قيل عن حالة راحاب، نراهُ بغاية اللياقة، وإن من أراد تغييره فقد فقدَ جانبا عظيماً من الفوائد التي لنا بهذه القصة العجيبة. يا اخوتي، ليس السؤال الآن ماذا كنا؟ بل ماذا قد صرنا بنعمة الله. أنظر (كورنثوس الأولى 9:6-11).

لا حاجة إلى طول الشرح حول هذا الموضوع، غير أنهُ يوافق المبشر كل الموافقة إذ يقصد أن ينبه السامعين، ويبرهن حقيقة نعمة الله لكي يجتذبهم إلى المسيح، ولا أبحث مدققاً في كل الكلام . يكفينا أن نلاحظ أن راحاب بالمناسبة إلى ما كان الله آخذاً بإجرائه وقتئذٍ، إذ صدقت الأخبار التي تواترت إلى مدينتها من جهة عجائبه وأعماله ومقاصدهِ في إسرائيل، وبناءً عَلَى ذلك أظهرت معروفاً للجاسوسين.

وبلا شك نرى بعض تصرفاتها بعد إيمانها غير لائقة لأنها كذبت حسب عوائدها القديمة حالاً بعد تصديقها الحق، ولربما ظنت كذبها ضرورياً لأجل عمل صالح، عَلَى أني لا أصدق أنهُ جائز لأحد أن يكذب أو يحتال لأي علة كانت، وقد ذُكر في العهد العتيق مثل ذلك في القديسين ولكن الوحي لا يبرئهم، إنما يذكر ما عملوا بدون أن يصادق عليهِ، رأينا فيهم كما في راحاب قصورات الجسد الفاسد، مع أن الله أنعم عليهم ببركات نعمتهِ. ولا يجب أن نستغرب عملاً كهذا من تلك الامرأة المدعوة حديثاً من الظلمة الوثنية كما نستغربهُ في إبراهيم واسحق ويعقوب وداود أيضاً، وغيرهم من القديسين القدماءِ الذين كان عندهم مقدار أعظم من النور الإلهي، وكل ذلك يُظهر لنا جلياً ما هو الإنسان وما أوسع هوة الفساد التي تجتازها نعمة إلهنا حتى تبلغ إلى أُناس مثلنا،   

يبان من كلام راحاب أنها آمنت بالله متأكدة أنه مع إسرائيل شعبهِ قبل أن امتلكوا شيئاً من كنعان، وعَلَى ذلك ألقت قرعتها معهم وحسبت أهل وطنها محكوماً عليهم، إذ هم أعداء لإله السماء، وخانت وطنها، واتحدت مع شعب غريب، تعلق قلبها مع الله وشعبه أيضاً، وكذلك يجب علينا نحن أيضاً أن نجعل قلوبنا ليس مع الله فقط، بل مع شعبه المختار أيضاً حال كونهم خاصته في وسط هذا العالم المضادّ له ولهم، ولا يليق أن نستخف بالنسبة الحقيقية التي بين الله وشعبهُ، لربما لو قال أحد أني مقتصر بالله وحده فبمعزل عن شعبه الكثير القصورات، لظهر كلامه هذا من العلامات الدالة عَلَى كونه روحانياً بأقصى درجة، ولكنه بخلاف ذلك، لأن الله لا ينفصل عن شعبه الخاص ولا يكفُّ عن أن يحبهم رغماً عن أحوالهم، ونحبهم نحن أيضاً بقدر ما تكون لنا شركة معه، منقادين من الروح القدس، وإذ ذاك قصوراتهم لا تنقص محبتنا؛ لأن المحبة التي تبرد بسبب حدوث قصورات في المحبوب ليست محبة، ومن نحن حتى نسرع إلى التنديد والتنكيت عَلَى اخوتنا؟ هل نحن ملائكة بالمقابلة معهم؟ ألا يوجد فينا ما نعترف بهِ بالحزن؟ ألم يخطر ببالنا أن نفس روح التنكيت هذا هو سبب حزن وتجربة للآخرين، ولعلهُ قد أعثر البعض؟ فلنتعلم بالأحرى أن نحكم عَلَى أنفسنا حاسبين اخوتنا أفضل منا. ولست أقول هذا مستخفّاً بسوءِ الآداب أو لكي أُبرّر الاشتراك مع اخوتنا فيما يهين مجد الرب، حاشا؛ لأن المحبة نفسها تحملنا عَلَى أن نجتهد لخلاص الأخ الساقط، ولكن بالصبر والوداعة الناتجين من قلب محب، وإن جرَّبنا إصلاحه بخلاف ذلك إنما نقسّي قلبهُ ونمكنه في طرقهِ، فالمقصود بكلامي هذا أن نضم صوالحنا مع شعب الله، وننظر إليهم بعين المحبة كما ينظر إليهم الله. هكذا عملت راحاب بعد إيمانها إذ قبلت الجاسوسين وخبأتهما تحت عيدان كتان، ثم صرفتهما بطريق آخر، وبذلك أظهرت إيمانها أقوى وأصحّ مما لو قالت: "إني آمنت" وتركتهما لحالهما. لا شك أن الله كان قادراً أن يحفظهما بدون حيلتها، ولكنهُ شاءَ أن يقدم لها فرصة مناسبة لإظهار صحة إيمانها، فلم تقصر والحالة هذه عن أن تظهر إيمانها بأعمالها، وأحبّتْ ليس إله إسرائيل فقط بل إسرائيل الله أيضا، وحصلت عَلَى ذكر حميد إلى الأبد، ولما أتاها أمر من ملك أريحا الذي كانت ملتزمة أن تطيعهُ في ظروفٍ أُخرى، لم تطعهُ لأنها كانت قد انضمت بالإيمان إلى شعب الله، فخاطرت بحياتها مسلّمة أمرها في يديهِ، فصار ملتزماً بحفظها فحفظها ويعمل هكذا كل حين مع المتكلين عليهِ. إنه كان من الممكن أنها تُقتل بسبب خيانتها لوطنها؛ لأنها ارتكبت حسب الظاهر أعظم الجنايات الممكن للرعايا ارتكابها، ولكنها عملت ذلك بالإيمان حاسبة الله أعلَى من الكل، وأن صوالح شعبهِ أفضل عندها من وطنها وملكها، وهذا المبدأ نفسهُ يطلق علينا في سلوكنا كل يوم، لست أتكلم من جهة خيانة الوطن، بل من جهة تقديم الطاعة المطلقة لله تحت كل الظروف ولو مهما خسرنا، وتفضيل خير اخوتنا عَلَى خير أنفسنا لا بل عَلَى حياتنا أيضاً، فنحن ينبغي لنا أن«نضع نفوسنا لأجل الاخوة» (يوحنا الأولى 16:3) إن كان إيماننا صحيحاً ونشيطاً يجعلنا نخاطر بكل شئٍ طاعة لله وحباً للذين هم لهُ.

قالت للرجلين:«علمتُ أن الرب قد أعطاكم الأرض، وأن رعبكم قد وقع علينا، وان جميع سكان الأرض ذابوا من أجلكم.لأن الرب إلهكم هو الله في السماءِ من فوق وعَلَى الأرض من تحت» الخ (عدد6-12)، فإذا كان سكان كنعان اضطربوا من أخبار إسرائيل ولم يؤمنوا بإله السماء والأرض، بل سعوا في محاربة شعبهِ، وأما تلك الزانية فآمنت وخلصت هي وأهل بيتها، وكان خلاصها ليس حفظ حياتها فقط بل تبريرها أيضاً، قابل (عبرانيين 31:11)، و(يعقوب 25:2)، وبعد انضمامها إلى إسرائيل صارت من أسلاف المسيح حسب الجسد (متى 5:1).

«فبكر يشوع في الغد وارتحلوا من شطيم وأتوا إلى الأردن هو وكل بني إسرائيل، وباتوا هناك قبل أن عبروا ( يشوع 1:3-4). فنرى فرقاً عظيماً بين ظروف عبورهم الأردن وعبورهم البحر الأحمر، بحيث أنهم كانوا هناك برعبٍ شديد هاربين وأعدائهم يطاردونهم، وأما هنا فيستعدون للعبور بغاية الهدوءِ والطمأنينة، وكان تابوت الرب مزمعاً أن يتقدمهم محمولاً من الكهنة واللاويين. قلنا سابقاً أن الحادثتين تشيران إلى شئٍ واحدٍ، أي موت المسيح، وقيامتهِ، واتحاد شعبهِ معهُ في كل ذلك، غير أن عبورهم البحر الأحمر يفيد انفصالنا عن العالم، ونجاتنا من قوة رئيسهِ بواسطة اقترابنا مع المسيح، وأما عبورهم الأردن فيشير إلى اشتراكنا معهُ ببركاتنا الخاصة السامية بقوة الروح القدس، هناك خرجنا مما كنا مستعبدين لهُ، هنا ندخل إلى ما نريد أن نتمتع بهِ الآن فصاعداً، هناك قال موسى للشعب «لا تخافوا، قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعهُ لكم اليوم، فإنهُ كما رأيتم المصريين اليوم لا تعودون ترونهم أيضاً إلى الأبد، الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون» (خروج13:14و14) فصار كذلك لأنهُ مدَّ عصا اله التي هي علامة السلطان الإلهي عَلَى مياه البحر- البحر مستعمل مجازاً عن الموت- فسلطان الله الذي قاتل عن إسرائيل خلصهم بذات الشيء الذي صار هلاكاً لأعدائهم، فصعدوا من المياه كأنهم قاموا من الأموات، ومثلهم مثلنا عندما نعرف حقيقة موت المسيح تحت حكم الله العادل، وإذ ذاك نتحقق أن نفس الدينونة التي وقعت عليه جعلت لنا طريقاً للنجاة من عبودية العالم ومن يد رئيسهِ ودينونتهِ. قابل (يوحنا 31:12 و8:16)، ومن ثم نصير نزلاء مع الله في البرية. وأما عند عبورهم الأردن فلا نرى عصا الله ممدودة، بل نرى الأردن ممتلئاً إلى جميع شطوطهِ، إذ كان بوقت الحصاد؛ لأن الموت أظهر جميع أهوالهِ لرئيس الحياة يوم عبر لججهُ وتابوت عهد الله وهو عبارة عن ذات المسيح- نزل أولاً في تلك المياه المريعة، ونشفها لجيش الله، وكانت المسافة معينة بينهُ وبينهم كما أن المسيح تقدم إلى الموت ولو مهما عظمت أهوالهُ وتألم وحدهُ وشرب كأس الغضب حتى لم يبقِ لشعبهِ سوى كأس الخلاص والمجد الأبدي، فعبر إسرائيل عَلَى اليابسة وصعدوا من الأردن ووجدوا أنفسهم في كنعان، تلك الأرض الجيدة التي تفيض لبناً وعسلاً، وفي كل ذلك رمز جميل مفيد إلى ما نتج لنا من موت المسيح وقيامتهِ، «أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموتهِ، فدفنّا معهُ بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة» (رومية 3:6و4)

وكان لما انتهى جميع الشعب من العبور (يشوع 1:4-3) فهنا نرى أنهم أخذوا بأمر الله اثني عشر حجراً من وسط الأردن من موقف أرجل الكهنة وعبّروها معهم إلى المبيت ووضعوها هناك، وفي العدد 9 نرى أن يشوع نفسهُ نصب اثني عشر حجراً في وسط الأردن تحت موقف أرجل الكهنة، وكان كل ذلك تذكاراً لعبورهم في وسط النهر، وعبورهم منهُ، أي الموت والقيامة التي تعقبهُ، وكون عدد الحجارة اثني عشر بالموافقة لعدد أسباط إسرائيل، يقابل اشتراكنا مع الذي مات وقام. الحجارة المنصوبة في مسيل النهر شهادة عَلَى أن الشعب اجتازوا من هناك في نفس الطريق الذي اجتاز فيهِ تابوت عهد الرب، وكانت لعين الله الذي ينظر كل شئٍ، وأما الحجارة الموضوعة في المبيت فكانت شهادة للشعب لتذكرهم دائماً بأنهم لم يتمتعوا بكنعان حتى بعد خروجهم من الأردن. إن المسيح بواسطة موتهِ أكمل كل شئٍ لمجد الله، ومع أنهُ من أعلَى واجباتنا أن نتذكرهُ أكثر لأنهُ تمجد بهِ تمجيداً تاماً، ولا يمكن أنهُ ينساهُ إلى الأبد، وابتدأ أن يمجد ابنهُ بمجد جديد عظيم، حال كونهِ إنساناً مقاماً من الأموات إذ رجع إلى المجد الذي كان لهُ مع الآب قبل إنشاءِ العالم، ولكنهُ رجع عَلَى صورة جديدة لم تكن لهث قبل إذ لم يزل عَلَى هيئة إنسان، تجعلهُ مناسباً ليكون رأْساً مجيداً لكنيستهِ وملكاً مطلق السلطان لجميع الكون. أنظر (يوحنا 30:13-32 و1:17-5) و(أفسس 1و8:4-11) و(فيلبي 5:2-11) و(رؤية 9:5و10). فيبان من مراجعة هذه الشواهد وخلافها أن المسيح بعد آلامهِ أخذ يتمتع بملكوت عظيم لا يتزعزع لأنهُ تأسس عَلَى عمل الفداء، ويحتوي عَلَى أمجاد متنوعة لائقة بقيمة ذلك العمل ومجد الذات الذي أكملهُ لمجد الله. ومما يخص الموضوع الذي نحن بصددهِ الآن هو اشتراكنا معهُ في تلك الأمجاد؛ لأنهُ إن كان شعبهُ مقترناً معهُ في موتهِ يومَ عبر الأردن وهو ممتلئ إلى جميع شطوطهِ، فلا ينفصل عنهم في يوم مجدهِ، غير أننا لا نستطيع أن نتمتع بذلك الآن إلا بواسطة الروح القدس، حاسبين أنفسنا أمواتاً للعالم وللخطية وللناموس «لأنهُ إن كنا قد صرنا متحدين معهُ بشبه موتهِ، نصير أيضاً بقيامتهِ، عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معهُ ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية» (رومية 5:6و6). إن المسيح لا يخرجنا مما هو فاسد وزائل فقط، بل يدخلنا إلى ما هو مجيد ومؤبد أيضاً، واهتمامنا بما فوق يفصلنا روحياً عن محبة أمجاد هذا العالم الكاذبة الاسم؛ حتى نتركها جميعها وراءَنا في عبر الأردن شرقاً، وندوس تحت أقدامنا كل ما يشغل قلوب البشر ويلهيها عن التأمل في الميراث المجيد الدائم. كيف ذلك؟ أبواسطة اجتهادنا؟ كلا، بل بواسطة تصديقنا الحق الذي في المسيح يسوع؛ لأن الله أعطانا إياهُ بموتهِ وقيامتهِ وجلوسهِ في المجد الأعلى وربطنا معهُ الآن وإلى الأبد.

أخيراً أقول أن الموت مرٌ للجسد؛ لأن الإنسان يحب كل ما يوافق حياتهُ الموروثة من آدم الذي ترك الله لأجل التمتعات الحاضرة، ومن المستحيل علينا ان نحسب أنفسنا أمواتاً ونسلك سلوكاً موافقاً لذلك إن لم يعمل فينا الله «بعظمة قدرتهِ الفائقة حسب عمل شدة قوته الذي عملهُ في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسهُ عن يمينه في السماويات» (أفسس 19:1و20)، «لأنكم قد متمُّ وحياتكم مستترة مع المسيح في الله» (كولوسي 3:3). فإذاً موت المسيح هو ذو أهمية عظيمة ويستحق الذكر الأبدي، حتى الحادثة التي كانت رمزاً إليهِ كانت عظيمة الأهمية لإسرائيل بهذا المقدار، حتى أوصاهم الله أن يخبروا أولادهم بها جيلاً بعد آخر.

لا شك أن جانباً عظيماً من المؤمنين يقتصرون عَلَى عبورهم البحر الأحمر لكي يسيروا في البرية متجهين نحو كنعان، لا بل نرى الأكثرين كأنْهم في مصر بعد يئنون من العبودية القاسية، وقلما يفتكرون في شئٍ أعلَى من رش دم الفصح ليحفظهم من سيف المهلك. إننا نحتاج إلى معرفة جميع حقائق الله، فالمسيحي الذي لا يعتبر موت المسيح إلا بالنظر إلى كونهِ نظير دم الفصح ليحفظهُ من سيف الدينونة، هو تحت تجربة أن يترك نفسهُ مقيداً بسلاسل عبودية هذا الدهر، عَلَى أمل أن دم المسيح يخلصهُ وقت الموت، حين لا يعود ممكناً لهُ أن يلتذ بالأشياء الدنيوية بعد وقد نسى أن المسيح «بذل نفسهُ لأجل خطايانا لينقذنا من هذا العالم الحاضر الشرير حسب إرادة الله وأبينا» (غلاطية 4:1). وأما الذي ينظر إلى عبور البحر الأحمر فقط بدون أن يتحقق أن بركات كنعان هي لهُ الآن فهو في خطر دائماً أن يملَّ من مشقات البرية، ويفتكر في الخيرات التي تركها في مصر، مشتاقاً إليها أكثر من أثمار كنعان النفيسة، نعم إن كنا لا نهتم بما هو فوق ننهمك بما هو عَلَى الأرض، وإذ ذاك نجعل خلاص أنفسنا عند الموت أهمَّ شئٍ عندنا، لا العيشة لمجد الرب، ونصبح من اللذين يعيشون ينتظرون الموت في آخر حياتهم الدنيا، لا من الذين يموتون لكي يعيشوا فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام، فالذي لا يقبل صليب ربهِ الآن وحكم الموت في نفسهِ لا يعرف لذة العيشة المسيحية، بل تراهُ محصوراً بين الاثنين إذ لا يريد أن يفقد لذات هذا الدهر ويخاف لئلا يخسر نفسهُ في الدهر الآتي، وأما من جهة الاختبارات الحقيقية التي ينبغي أن تكون فينا فأقول: أننا من الجهة الواحدة نرى أنفسنا سائرين في البرية، حيث نحتاج إلى الصبر والعناءِ، ونأكل من المنّ النازل من السماءِ لأجلنا، ونشرب من الماء المنفجر من الصخرة المضروبة لأجلنا، وفي كليهما رمز إلى المسيح حال كونهِ يسدّ كل احتياج شعبهِ في غربتهم كيفما اشتدت مشقات البرية. ومن الجهة الأخرى نرى أنفسنا جالسين مع المسيح في السماويات متمتعين بخيرات السماءِ قبل دخولنا إليها بالفعل ومحاربين أجناد الشر الروحية التي تقاومنا كل المقاومة؛ لكي لا نلتذ الآن بما هو عتيد أن يكون لذتنا إلى الأبد.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.