جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.

الصفحة الرئيسية : تفاسير : نشيد الأنشاد : ص 4، آية 3

خمائل الطيب: تفسير نشيد الأنشاد

ص 4، آية 3

3-"شفتاك كسلكة من القرمز وفمك حلو. خدك كفلقة رمانة تحت نقابك".

ان كانت أسنان العروس تشير إلى القدرة على التغذي بالطعام القوي كما سلفت الإشارة، أو بالحري إلى ما يدخل فينا من طعام فان شفتيها تشيران إلى ما يخرج منا، وما يخرج من شفاهنا هو بلا ريب ثمرة ما تناولناه من طعام، فالحياة الباطنية التي تتغذى بالطعام الروحي يظهر جمالها في كلامها الحلو "شفتاك كسلكة من القرمز وفمك (أي كلام فمك) حلو" فأنه بقدر ما يتغذى "الإنسان الداخل" بقدر ما يتغير المؤمن إلى صورة المسيح، وتكون الشفاه المرآة الظاهرة التي تعبر عن الكيان الداخلي "الإنسان الصالح من كنـز قلبه الصالح يخرج الصلاح. والإنسان الشرير من كنـز قلبه الشرير يخرج الشرور. فأنه من فضلة القلب يتكلم فمه"(لو6: 45)، ان أسنان العروس تعبر عن النضوج والقوة ولا علاقة لها بحالة الطفولة، فهي تدل على "الخبرة في كلام البر" وعلى "الحواس المدربة على التمييز بين الخير والشر" وان النفس قد أدركت غنى النعمة التي في المسيح السماوي المقام من الأموات (انظر عب5: 12-6: 3) ومتى تغذت النفس في الداخل بهذه الحقائق الجوهرية الغنية فان الشفاه تلهج بما امتلكته النفس في الباطن.

*     *      *

ان كل صفة من صفات الجمال التي للعروس هي مكتسبة من المسيح، لأنها _ أي العروس "من لحمه ومن عظامه" كما كانت حواء من آدم _ من لحمه ومن عظامه، وإذا تأملنا في شفتي العريس المبارك ربنا يسوع فأننا نرى كيف "انسكبت النعمة على شفتيه"(مزمور45: 2) وكيف تدفقت "كلمات النعمة الخارجة من فمه"(لو4: 22) وهو له المجد يريد ان نتمثل وتتشبه عروسه به فيكون كلامنا، بالنعمة كما كان هو له المجد "ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلحا بملح"(كو4: 6: "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم بل كل ما كان صالحا للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين"(أف4: 29) وكم هي جميلة هذه الصفة في عيني المسيح، فان جمال العروس الذي يتغنى به العريس هنا في هذه جمال عملي. أنه جمال روحي وأدبي لمسرة وشبع قلب سيدنا وربنا يسوع.

*      *     *

ويصف العريس شفتي العروس بأنهما كسلكة من "القرمز" والقرمز يشير إلى دم المسيح الذي به اغتسلنا، وكم هو جميلة ان يكون عمل المسيح فوق الصليب ودمه الكريم موضوع حديث القديس ولهجه في كل حين "لأني لم أعزم ان أعرف شيئا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبا"(1كو2: 2) ثم "حاشا لي ان افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم"(غل6: 14). لقد كانت شفاهنا دنسة ولكن تبارك اسم إلهنا فان ربنا يسوع قد صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا، لقد "غسلنا من خطايانا بدمه" فعوض الشفاه النجسة قد صارت الشفاه النقية القرمزية اللون _ شفاه المؤمن المغفور الأثم "وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا"(1كو6: 11).

عندما أظهر الرب مجده لأشعياء، رأى نفسه أدبيا كأبرص نجس فصرخ قائلا "ويل لي أني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" فطار إليه واحد من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح "الذي يشير إلى الصليب" ومس بها فمه وقال له "ان هذه قد مست شفتيك فانتزع أثمك وكفر عن خطيتك" (أش6).

قد كان هناك وقت فيه كان لسان حالنا "شفاهنا معنا (أي ملكنا). من هو سيد علينا؟"(مزمور12: 4) ولكن شكرا لإلهنا إذ قد انقضى ذلك الوقت عندما اعترفنا بأفواهنا بيسوع ربا (رو10: 9) وهذا معناه أننا قدسنا الرب إلهنا في قلوبنا وبالتالي قدسناه بشفاهنا.

*     *      *

كذلك يشير "القرمز" إلى سيادة الرب وحقوقه الملكية (انظر مت27: 28و29). عندما ربطت راحات "حبل القرمز في الكوة"(يش2: 21) كان ذلك اعترافا بإيمانها بالرب: (عب11: 31) كما كان صورة رمزية لاحتمائها في نعمته الغنية، فان كانت شفاهنا قد اعترفت بيسوع ربا فأنها وكل ما تنطق به يكون متوافقا مع اعترافنا هذا، فلا نستطيع ان نقول فيما بعد بان "شفاهنا معنا (أو ملكنا) وأنه ليس لنا سيد علينا" بل ان كل ما ننطق به يبرهن على ان لنا ربا وان شفاهنا هي لمدحه وحمده وخدمته وعندئذ تكون "كسلكة (أو خيط) من القرمز".

*     *     *

وان كانت شفاهنا قد استخدمت وتستخدم في التحدث بأمور روحية سامية فلا يليق ان تكون آلة للجسد، والرسول يعقوب ينهانا عن استخدام الفم الواحد في البركة واللعنة "من الفم الواحد تخرج بركة ولعنة؟ لا يصلح يا أخوتي ان تكون هذه الأمور هكذا"(يع3: 9-11) فإذا كنت بشفتي أبارك الرب والله الآب فينبغي ان يكون ما أتحدث به للناس أو لأخوتي المؤمنين متوافقا مع ذلك. لقد كانت شفتا الرب المبارك جميلتين في كل ما خرج منهما "هوذا شفتاي لم امنعهما أنت يا رب علمت. لم أكتم عدلك في وسط قلبي. تكلمت بأمانتك وخلاصك. لم أخف رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة"(مز40: 9و10) لقد كانت شفتاه الطاهرتان "كسلكة من القرمز" تتحدثان دائما في أمانة كاملة لله وفي نعمة فائقة للبشر، نعم لقد كانت شفتا الإنسان الكامل لمسرة قلب الله ولمجده، وهذا ما يجب ان تكون عليه  شفاهنا بنعمته تعالى، فنملأ قلبه سرورا بالأسلوب الذي يكون عليه حديثنا، ومتى كان هدفنا إرضاء ذاك الذي أحبنا والذي نحن نحبه فلا بد ان يكون لذلك تأثيره الدائم في قلوبنا وعلى أفواهنا "لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب صخرتي ووليي"(مز19: 14). ليتنا نقدم إليه "عجول شفاهنا"(هو14: 2).

"خدك كفلقة رمانة تحت نقابك" وهذه أيضا صورة أخرى من صور الجمال التي يتحدث بها العريس لعروسه، والمعروف عن الرمانة الفاكهة اللذيذة الطعم ان لونها من الداخل بعد كسرها هو مزيج من الحمرة والبياض، وإذ هي "تحت نقابها" ففي ذلك إشارة إلى الحشمة والحياء وإنكار النفس التي تجملنا في عيني المسيح. لقد كان ينطبق علينا ما قيل عن بيت يعقوب "أنك قاس وغضل من حديد عنقك وجبهتك نحاس"(أش48: 4) ولكن ما أعظم التغيير الذي فعلته النعمة! فها هو الرب يرى في حبيبته جمال الوداعة ونعمة التواضع.

*     *      *

يرى العريس خدي عروسه كفلقة (أو قطعة) رمانة "تحت نقابها" فالعروس لا تبغي ان تتباهى بشيء من جمالها، لأنه لا فضل لها فيه بل ان النعمة هي التي خلعته عليها. ان لون الرمان الأحمر والجميل كان على خدي العروس ولكنها وارته تحت نقابها، وهذه هي أسمى حالة روحية تليق بكل قديس، فان أعظم سمو في الحياة الروحية الباطنية هو لمدح ولمسرة قلب الله دون سواه، وفي اللحظة التي يبغي المؤمن فيها إظهار ذاته أمام الآخرين فأنه يفقد جمال تلك الحياة الروحية، فما ينشئه فينا الروح القدس من ثمار النعمة هو لشبع قلب الرب يسوع والله الآب، لا لإظهار ذواتنا أو الافتخار بها.

وما أجمل التوافق بين صفة الجمال هذه وبين كلمات الرب في الإصحاح السادس من إنجيل متى عن الصدقات والصلوات والاصوام، وهذه أمور جوهرية ولها أهميتها وجميلة في عيني الرب ولكن يجب ان تعمل تحت النقاب. يجب ان تمارس تحت نظر الآب وليس لكي "نمجد من الناس"، والعروس تقنع برضى تام بان يرى جمالها من هذه الناحية في عيني حبيبها.

ان عمل البر _ كالصدقات وغيرها هي من الأمور الواجبة واللائقة بالقديسين ولكن الرب يحذرنا بالقول "احترزوا من ان تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم" فليس الغرض من أعمال البر هو إظهار ذواتنا وإلا فأنها تفقد قيمتها وجمالها أمام الآب، كما أنه يليق بالقديسين ان يصلوا في كل حين وبلا انقطاع، ولكن يجب ان تكون هذه "في الخفاء" فان المخدع والباب المغلق لازمان جدا. صحيح ان للقديسين شركة في الصلاة معا، ولكن ذلك ليس لإظهار ذواتهم بين الناس، فان ذلك يؤول إلى انتفاخ الجسد المتدين أو الدين الجسدي. ان العريس هنا يعبر عن تقديره لعروسه ولجمالها الذي يراه "تحت النقاب" أنها في حجاله _ في حضرته أي في "الدخول إلى الأقداس" ترى بغير النقاب "بوجه مكشوف" أما في الخارج وأمام الغير فلا بد من "النقاب" وهذا يزيدها جمالا في عيني حبيبها. ان عمل النعمة ينشئ فينا سجايا ويكون فينا اختبارات سرية بيننا وبين الرب، وهذا ما يحفظنا من كل صور الرياء الديني. أنه يكسونا بجمال حقيقي وعملي في عيني الحبيب، وليس  هناك ما هو أجمل في عينيه من حياة التكريس الباطنية. أنه "يسر بالحق في الباطن".

حقا ما أجمل التوافق بين صفات العروس هنا وبين الجمال الروحي والأدبي المشار إليه في أقوال الرب المعرفة "بالموعظة على الجبل" ففي النشيد نرى عمل المسيح في نفوس خاصته بلغة شعرية سماوية وبأسلوب رمزي بينما في أقوال الرب الوعظية سالفة الذكر نرى ذلك عينه بأسلوب واضح وبسيط، ولغة سفر النشيد الرمزية يمكن تفسيرها وفهمها فهما صحيحا في نور العهد الجديد بواسطة أولئك الذين تميزوا بالتقوى العملية الحقيقية وبالمحبة القلبية الصادقة للمسيح.

*     *     *

صحيح ان أمامنا وجها آخر في كلمات الرب "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات"(مت5: 16) وهذه هي الناحية العلنية المتعلقة بشهادتنا أمام الآخرين، فكل ما لدينا من نور من الله يجب ان يضيء لا ان يخفى تحت المكيال، ولكن ذلك ليس لابرازنا أو إظهار ذواتنا _ الأمور الذي يتطلب منا سهرا مستمرا _ بل لمجد إلهنا وأبينا.

*     *     *