لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير سفر القضاة

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب وليم كيلي

 تفسير سفر القضاة

الفصل الأول

(الإصحاح الأول إلى الثامن)

قد ظهرت قوة الرب في سفر يشوع إذ أدخل شعبهُ إلى أرضهم وأسكنهم هناك رغماً عن مقاومة الكنعانيين، ومع أن بني إسرائيل تراخوا عن الحرب قبل إفناءِ جميع أعدائهم، وسمحوا لجانب كبير منهم أن يسكن في وسطهم، لم يتركوا الرب بل استمروا عَلَى عبادتهِ وحدهُ، فكان معهم كل أيام يشوع وبعد موتهِ أيضاً مدة من الزمان. فالأخبار إذ ذاك المتضمنة في سفر يشوع مفرحة عَلَى الإطلاق، وأما المتضمنة في هذا السفر فمحزنة؛ لأنهُ يوضح أولاً تقصير إسرائيل عن امتلاك الأرض كلها، ثم عجزهم عن إبقاءِ ما امتلكوه منها تحت تسلطهم، ثم ابتعادهم عن الرب وانحطاطهم في عبادة الأصنام وتعبدهم للكنعانيين قصاصاً لهم.

«وكان بعد موت يشوع أن بني إسرائيل سألوا الرب قائلين: من منا يصعد إلى الكنعانيين أولاً لمحاربتهم؟ فقال الرب: يهوذا يصعد، هوذا قد دفعت الأرض ليدهِ. فقال يهوذا لشمعون أخيهِ: اصعد معي في قرعتي لكي نحارب الكنعانيين فأصعد أنا أيضاً معك في قرعتك، فذهب شمعون معهُ، فصعد يهوذا ودفع الرب الكنعانيين والفرزّيين بيدهم، فضربوا منهم في بازق عشرة آلاف رجل، ووجدوا أدوني بازق في بازق فحاربوه وضربوا الكنعانيين والفرزّيين، فهرب أدوني بازق فتبعوهُ وأمسكوهُ وقطعوا أباهم يديهِ ورجليهِ، فقال أدوني بازق: سبعون ملكاً مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانوا يلتقطون تحت مائدتي، كما فعلت كذلك جازاني الله، وأتوا بهِ إلى أورشليم فمات هناك» ( قضاة 1:1-7) فتحركت غيرتهم مؤقتاً ولكنها لم تكن شديدة؛ لأن الغيرة الحقيقية من ثمر الإيمان المتنشط والطاعة لكلمة الله، فالتي ليست كذلك إنما هي كلهيب فتيلة المصباح الفارغ من الزيت الذي يلتهب بسرعة وينطفئ كذلك. يظهر من قصة الملك أدوني بازق أولاً حال الكنعانيين أدبياًّ كيف أنهم كانوا يتصرفون بكل قساوة بعضهم نحو البعض، وثانياً نقمة الرب الذي جازاه كما كان قد فعل.

«وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار الخ» (قضاة 8:1-21) فكان المقام الأول لبني يهوذا في هذا الجهاد الجديد، غير أنهم لم ينجحوا فيهِ نجاحاً كاملاً، إذ «لم يطرد سكان الوادي؛ لأن لهم مركبات حديد» (قضاة 19:1) نعم أنهم حاربوا، ولكن ليس بالإيمان؛ لأنهم نظروا إلى قوة أعدائهم وإذ ذاك خافوا من الذين هم أقوى منهم حسب الظاهر.

«وصعد بيت يوسف أيضاً إلى بيت إيل والرب معهم إلى الخ» (قضاة 22:1-29) وهؤلاءِ أيضاً لم ينجحوا إلاَّ إلى درجة معلومة.

 «زبولون لم يطرد سكان قطرون الخ » (قضاة 30:1-39) فلا يوجد هنا ذكر للأسباط الآخرين، فإن الغيرة الوقتية أخذت تبرد وعند ذلك كفوا عن الجهاد وارتضوا ببقاءِ الكنعانيين في وسطهم، وصارت غلبة عظيمة للعدو. ومثل إسرائيل هذا مثل الكنيسة المسيحية التي أقامها الله عَلَى الأرض في مقام معين، وباركها بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع، ولكنها لم تستمرّ عَلَى امتيازاتها بل انحرفت سريعاً كقوس مخطئة. وكما أن سفر يشوع يتضمن رموزاً أو تشبيهات تناسب أحوال الكنيسة بالنظر إلى كونها شهادة لله في العالم وحائزة عَلَى امتيازات سامية، هكذا سفر القضاة يتضمن ما يوافق انحطاطها أيضاً، وهذا ليس من التفاسير الغامضة التي يمكن اختلاف الرأي فيها بوجهٍ صوابي؛ لأنهُ قد ورد في العهد الجديد شواهد عديدة جدًّا عَلَى ذلك وصريحة أيضاً بهذا المقدار، حتى أنهُ يُعدّ من الأمور الغريبة وجود مسيحي واحد يستغرب كلامنا هذا؛ لأنهُ قبل وفاة الرسل وأصحاب الوحي امتدت الخيانة بين المسيحيين، واستولى عليهم سلطان الظلمة إلى درجة بليغة، وإذ ذاك أُدرجت بالوحي أقوال كثيرة في العهد الجديد من جهة انحطاط الكنيسة وازدياد الفساد فيها من سوء التعليم وسوءِ السلوك إلى أن يتقياها الرب من فمهِ. وليس علينا إلاَّ أن نراجع رسائل بولس وبطرس ويهوذا وسفر الرؤيا فنتأَكد ذلك كل التأكيد، ليس بأوهام بشرية بل بأقوال الله، فلا ينكر ذلك إلاَّ من يرفض الكتاب أو يهملهُ إهمالاً كلياً، وعَلَى الحالين ليس لهُ عذر؛ لأنهُ كلما مضت الأجيال تزايدت الشرور تحت اسم المسيح، ولكن عوضاً عن أن يعثرنا ذلك ويلقينا في الشك من جهة الوحي، إنما يقوي إيماننا لأننا نرى في كتابنا أخباراً مفصلة عن جميع أنواع الشر الحاصلة، ونعرف أيضاً نهايتها، ولولا ذلك لكنا في ارتباكات وشكوك لا تحتمل، لذلك يثبت إيماننا بالوحي الكامل من الجهتين، أعني من جهة الخير العظيم للمتكلين عَلَى المسيح حق الاتكال، ومن جهة الشر العظيم الحاصل تحت اسمهِ أيضاً، فإذاً انحطاط الكنيسة لا يضعف إيماننا البتة، بل يجعلنا نسأل: كيف يجب أن نتصرف في أيام خِرَب كهذه؟

«وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم وقال: قد أصعدتكم من مصر، وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت لا أنكث عهدي معكم إلى الأبد، وأنتم فلا تقطعوا عهداً مع سكان هذه الأرض، اهدموا مذابحهم، ولم تسمعوا لصوتي، فماذا عملتم؟ فقلت أيضاً لا أطردهم من أمامكم بل يكونون لكم مضايقين وتكون آلهتهم لكم شركاً. وكان لما تكلم ملاك الرب بهذا الكلام إلى جميع بني إسرائيل أن الشعب رفعوا صوتهم وبكوا، فدعوا اسم ذلك المكان بوكيم، وذبحوا هناك للرب» (قضاة 1:2-5) فصعود ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم يدل عَلَى تغيير عظيم في معاملات الله مع بني إسرائيل، نظراً لعدم أمانتهم؛ لأن الجلجال كان موضع الاختتان المرموز بهِ روحياً إلى الحكم عَلَى الذات أمام الله، وما دامت محلتهم هناك كان الرب يمكنهم أن يخرجوا لمحاربة أعدائهم، ثم يرجعوا إلى محضر ملاك الرب الذي لم يزل باقياً هناك، وإذ ذاك كان من الأمور اللائقة أن يحفظوا محلتهم طاهرة لنظر الرب ولو كان غير منظور. ويجب علينا نحن كذلك أن نعرف أن نقيم روحياًّ في موضع الحكم على ذواتنا، ولا ندع شيئاً في وسطنا أو في نفوسنا لا يليق بقداسة الرب، وإلاَّ فلا يرافقنا بقوتهِ بالروح القدس الذي إذا أحزناهُ لا ينصرنا عَلَى أعدائنا بل يخجلنا ويبكينا (بوكيم) لفظة عبرانية ترجمتها باكون أو باكين، جمع باكٍ، فجعلوها اسماً للموضع الذي بكى فيهِ الشعب. كان سفر يشوع ممتازاً بإقامة ملاك الرب في الجلجال موضع القوة، وأما سفر القضاة فيمتاز بصعودهِ من هناك إلى موضع البكاءِ. ليتنا عرفنا معنى ذلك كما يجب في نفوسنا. كان بنو إسرائيل قد تغافلوا مهملين حضور الرب والتصرُّف اللائق بذلك، فتأنَّى عليهم زماناً طويلاً، ولم يمتنع عن أن يرافقهم ما دام فيهم إيمان ولو كان ضعيفاً، ولكن لما ظهر عدم إيمانهم كما ظهر في الإصحاح الأول ترك الجلجال وأخذ يعاتبهم عَلَى خيانتهم مصرحاً أنهُ لا يعود يطرد سكان كنعان من أمامهم بل يتركهم قصاصاً وامتحاناً لهم، فيوافقهم البكاء الآن. ومثلهم مثلنا؛ لأن شعب الله عموماً قد تغافل عن حضورهِ بالروح القدس بينهم، وأصبح لا في مكان القوة بل في مكان الضعف والبكاء، وإن كنا نحن من الأتقياءِ فلا يليق بنا أن نظهر القساوة وعدم الاكتراث والحال هكذا مع جماعة الله، بكوا وذبحوا هناك للرب، وكان تواضعهم عَلَى هذا المنوال حسناً وفي محلهِ.

«وصرف يشوع الشعب فذهب بنو إسرائيل كل واحد إلى ملكهِ لأجل امتلاك الأرضالخ» (قضاة 6:2-10) أي كان يشوع قد صرف الشعب لأن الوحي يراجع هنا تاريخ إسرائيل في آخر حياة يشوع؛ لكي يوضح ارتدادهم وانحطاطهم في الوقت الحاضر. «وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم، وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم، وسجدوا لها وأغاظوا الرب. تركوا الرب وعبدوا البعل وعشتاروث، فحمي غضب الرب عَلَى إسرائيل، فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم، ولم يقدروا بعد عَلَى الوقوف أمام أعدائهم، حيثما خرجوا كانت يد الرب عليهم للشر كما تكلم الرب وكما أقسم الرب لهم، فضاق بهم الأمر جدّاً، وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم، ولقضاتهم أيضاً لم يسمعوا، بل زنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها، حادوا سريعاً عن الطريق التي سار بها آباؤهم لسمع وصايا الرب، لم يفعلوا هكذا، وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي وخلصهم من يد أعدائهم كل أيام القاضي، لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مضايقيهم وزاحميهم، وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراءِ آلهة أخرى ليعبدوها ويسجدوا لها، لم يكفوا عن أفعالهم وطريقهم القاسية، فحمي غضب الرب عَلَى إسرائيل وقال من أجل أن هذا الشعب قد تعدُّوا عهدي الذي أوصيت بهِ آبائَهم ولم يسمعوا لصوتي، فأنا أيضاً لا أعود أطرد إنساناً من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موتهِ؛ لكي أمتحن بهم إسرائيل أيحفظون طريق الرب ليسلكوا بها كما حفظها آباؤُهم أم لا، فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعاً ولم يدفعهم بيد يشوع» (قضاة 11:2-23) فلم يكن بكاؤهم وتواضعهم وسجودهم المارّ ذكرها إلاَّ وقتياً كما يبان من هذا الفصل المحزن، 

الذي يوضح بالاختصار انحطاطهم ومعاملات الرب معهم قصاصاً لهم، لم يكن الآن أنهم انهزموا مرة أو مرتين أمام أعدائهم ثم عادوا وكسروهم، بل حمي غضب الرب عليهم فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم، وباعهم بيد أعدائهم حولهم ولم يقدروا بعد عَلَى الوقوف أمام أعدائهم، نعم أنهُ لم يزل يحبهم، ولكن اقتضى الأمر أنهُ يعرفهم ما هؤلاءِ الكنعانيين الذين كانوا قد تقاعدوا عن طردهم من أرض الرب، واختلطوا معهم فذاقوا المر بسببهم. كذلك نحن إذا تغافلنا عن قوة الشيطان في العالم، وعاشرنا العالميين ننحطّ روحياً بدون شك، وليس ذلك فقط بل يسود علينا إبليس ونختبر سلطانهُ بطرق كثيرة تأْديباً لنا إلى أن ننتبه ونصرخ إلى الرب، فلما ضاق بهم الأمر جدّاً ولم يكن لهم ملجأً سوى الرب، تحنن عليهم وأقام لهم قضاةً، فخلصوهم من يد ناهبيهم؛ لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مضايقيهم ومزاحميهم. ما أطول أناتهُ! وما أحنّ قلبهُ! إن تأملنا في معاملاتهِ مع شعبهِ القديم نتعلم ما هو إلهنا الذي أمرُنا معهُ، ويتقوى إيماننا، وإذ ذاك نستمد منهُ المعونة لأنفسنا ولاخوتنا أيضاً؛ لأنهُ لا يسر بمذلة شعبهِ. ولكن ما أقسى قلب الإنسان! لأنهُ يحيد عن الرب بكل سرعة مهما أظهر لهُ من اللطف وطول الأناة.

إننا نتعجب من سرعة حيدان إسرائيل عن الرب بعد إنقاذه إياهم من الضيق الشديد، عَلَى أن قصتهم ليست إلاَّ صورة قلوبنا نحن العديمة الثبات والسريعة الرجوع عن الرب، وبعد موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراءَ آلهة أخرى ليعبدوها ويسجدوا لها. لم يكفوا عن أفعالهم وطرقهم القاسية، كل من ينظر إلى حال النصارى عموماً ويقابلها مع كلمة الله يزداد تعجباً من هذا المنظر، وإن كان من الروحيين يحزن بقلبهِ حزناً شديداً بسبب تباعد شعب الله عن إلههم، وسلطة إله هذا الدهر عليهم من كل الجهات. وقدر ما كانت الكنيسة الروحية أعلى من دعوة بني إسرائيل بهذا المقدار كان انحطاطها أعظم، عَلَى أننا لا نقدر أن ندرك ذلك إن لم نكن سالكين مع الرب بالانفصال عن العالم؛ لأن القصاص الذي صار عَلَى الكنيسة هو أدبيّ لا ماديّ كما صار عَلَى إسرائيل، ولكنهُ ليس أقل حقيقة لكونهِ هكذا، والضربات المهولة المزمعة أن تنسكب عَلَى العالم خصوصاً العالم المسيحي تبرهن في وقتها أن غضب الله ليس أقل حموًّا الآن مما كان في الزمان القديم. فالويل ثم الويل للذين يحتقرون طول أناتهِ.

«فهؤلاء هم الأمم الذين تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل، كل الذين لم يعرفوا جميع حروب كنعان، إنما لمعرفة أجيال بني إسرائيل لتعليمهم الحرب، الذين لم يعرفوها من قبل، أقطاب الفلسطينيين الخمسة وجميع الكنعانيين والصيدونيين والحوّيين سكان جبل لبنان من جبل بعل حرمون إلى مدخل حماة، كانوا لامتحان إسرائيل بهم؛ لكي يعلم هل يسمعون وصايا الرب التي أوصى بها آبائَهم عن يد موسى» (قضاة 1:3-4) إذا قابلنا هذا الكلام مع الكلام في آخر الإصحاح الثاني يظهر أنهما متخالفان؛ لأنهُ يقال هناك أن الرب ترك الأمم المذكورين قصاصاً لبني إسرائيل وأما هنا فيقال أنهُ تركهم لتعليمهم الحرب. فالأول خلاف الثاني لكنهُ لا يناقضهُ فلا اعتراض عَلَى ذلك؛ لأنهُ يمكن لله أن يستعمل حادثة واحدة لإتمام مقصد أو مقصدين أو أكثر من ذلك إذا شاء، نعم ترك هؤلاءِ الأمم قصاصاً لإسرائيل لعدم أمانتهم، ولما كان الأمر هكذا شاءَ أن يستعملهم لإتمام المقصد المذكور هنا، أي لتعليم أولاد الإسرائيليين الحرب؛ لأنهُ لم يزل يعاملهم كشعبهِ مع أنهم ارتخوا وجلبوا هذا القصاص عليهم. يجب عَلَى القارئ المسيحي أنهُ يلاحظ هذه الملاحظة لسد أفواه المعترضين في أيامنا الذين ينتهزون كل فرصة لينكتوا عَلَى كلام الوحي، وإن ظهرت لهم مناقضة بين قولين يفرحون كمن وجد كنزاً ثميناً، ويبادرون إلى أن يقلبوا إيمان البسطاءِ بينما لا يظهرون إلاَّ بغضهم لكلمة الله وعدم التفاتهم إليها كما هي. الكاف وقح بقدر ما هو جاهل ولا يدرس كلمة الله قاصداً الإفادة، ولا يقرأ إلاَّ بعض العبارات التي بلغهُ عنها لأن فيها مناقضات.

«فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين واليبوسيين، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساءً، وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم، فعمل بنو إسرائيل الشرَّ في عيني الرب، ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسواري، فحمي غضب الرب عَلَى إسرائيل، فباعهم بيد كوشان رشعتايم ملك آرام النهرين، فعبد بنو إسرائيل كوشان رشعتايم ثماني سنين، وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام الرب مخلصاً لبني إسرائيل، فخلصهم عثنيئيل بن قناز أخا كالب الأصغر، فكان عليهِ روح الرب وقضى لإسرائيل وخرج للحرب، فدفع الرب ليدهِ كوشان رشعتايم ملك أرام واعتزت يدهُ عَلَى كوشان رشعتايم، واستراحت الأرض أربعين سنة، ومت عثنيئيل بن قناز» ( قضاة 5:3-11)

تقدم في الإصحاح (11:2-20) تاريخ إسرائيل بالاختصار كل مدة القضاة التي كانت نحو أربع مائة وخمسين سنة (أعمال الرسل 20:13) وأما هنا فيبتدئ تاريخهم مفصلاً. فأول القضاة المذكورين عثنيئيل بن قناز أخا كالب الأصغر، واستراحت الأرض تحت حكمهِ أربعين سنة.

«وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فشدد الرب عجلون ملك موآب عَلَى إسرائيل؛ لأنهم عملوا الشر في عيني الرب، فجمع إليهِ بنو عمون وعماليق وسار وضرب إسرائيل وامتلكوا مدينة النخل، فعبد بنو إسرائيل عجلون ملك موآب ثماني عشر سنة. وصرخ بني إسرائيل إلى الرب فأقام لهم الرب مخلصاً أهود بن جيرا البنياميني رجلاً أعسر الخ»  (قضاة 12:3-30) لا شك أن أهود هذا استعمل وسائط لخلاص إسرائيل لا يجوز عَلَى بالنا أن نستعمل مثلها، فإنهُ قتل ملك موآب سرّاً، ولكن مع ذلك كان الرب معهُ لينقذ إسرائيل من يد الموآبيين. شاء الله في ذلك الوقت أن يقيم لنفسهِ شعباً أرضياً، وكان معهم في إجراءِ معاملات تناسب العدل الأرضي خلاف ما هو آخذاٌ الآن بعملهِ، فإنهُ آتٍ الآن بشعب خاص إلى المجد الأبدي. علينا إذاً حفظ هذا في بالنا عند مطالعتنا التوراة، فلا نستغرب حينئذٍ من كون الرب مع بعض أشخاص في عملهم عملاً ما لا يجوز لنا نحن أن نعملهُ بتةً.

«وكان بعدهُ شمجر بن عناة، فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر، وهو أيضاً خلص إسرائيل» (قضاة 31:3)

كان في كلٍّ من الثلاثة المخلصين المار ذكرهم شيء من النقائص والعيوب الطبيعية، إذ كان الأول الأخ الأصغر من العائلة، والثاني رجلاً أعسر، والثالث ضرب العدو لا بسيف بل بمنساس البقر، فلم يكن يُظنّ أن إسرائيل يخلصون بيد أمثال هؤلاءِ، ومع أنهم عملوا عمل الله كان فرق عظيم بينهم وبين موسى ويشوع الذين أستخدمهما الله في بداءَة تاريخ إسرائيل، وهنا نرى ما تمتاز بهِ معاملات الله مع شعبهِ في بداءَة إقامتهم وهم في نظام وترتيب حسن ليست كالآلات التي يستعملها بعد ارتدادهم وانحطاطهم، لأنهُ لا يغض النظر عن سوءِ حالهم، ولابدّ أن يظهر عدم مصادقتهِ عَلَى ذلك، ولكن ليس بامتناعهِ عن مساعدتهم، بل بكيفية المساعدة بحيث أن الأشخاص الذين يختارهم آلات خدمتهِ يكونون بالموافقة مع حالة الشعب لو أقام لإسرائيل قضاة مثل موسى أو يشوع لم يكونوا موافقين لظروف إسرائيل وحالتهم أدبياً. وكذلك تصرُّفهُ تعالى مع الكنيسة؛ لأن أولئك الناس الذين استخدمهم لتأسيسها وتنظيمها يختلفون اختلافاً عظيماً عن الذين يستخدمهم من بعد ارتدادها وانحطاطها. فإنها لما تأسستْ كانت في حالةٍ مرضية وسماؤُها ناقية لا غيمَ فيها ولا شيء آخر مما يكدر نقاوتها، وكان الله حينئذٍ آخذاً بالعمل بالروح القدس عَلَى الأرض حسب مجد المسيح في السماءِ مبرهناً حقيقة انتصارهِ كإنسان عَلَى الشيطان ومظهراً اعتناؤه التام بجسدهِ الذي هو الكنيسة، ولكن بعدما قصرت عن كونها شاهدة أمينة لمجد ربها، اقتضى الحال تغيير معاملات الله لها، إذ لم يلبس خدَّامهُ قوةً ظاهرةً كما في البدائة بل إنما أقام لها معينين من وقت إلى آخر إجابةً لصراخها لهُ من ضيقها الشديد، وكان في كلٍّ منهم شيء من النقائص والعيوب الظاهرة، كما لا يخفى عن الذي طالع تاريخها. يجب علينا أن نشكر الله لأجل إقامتهِ رجالاً مثل أثناسيوس وغيرهِ من الذين دافعوا عن لاهوت المسيح ربنا؛ لأنهُ لولا إقامتهم وأمانتهم وغيرتهم لكانت الكنيسة قد فقدت الإيمان الحقيقي أصالةً، ولكننا مع كل ذلك نقرُّ بوجود فرق عظيم بين المشار إليهم وبين الرسل والخدام الأولين. وكذلك إذا راجعنا تاريخ الكنيسة من برهة ثلاث أو أربع مائة سنة أي من وقت الإصلاح نرى صفات الآلات التي استحسن الله أن يستعملها. كانت الكنيسة وقتئذٍ قد أمست في حالة الظلمة التي لا مزيد عليها، فأقام الله رجالاً معينين لها وظهر فيهم جانب من القوة مع قصورات عديدة ظاهرة، كان فيهم نشاط وغيرة، وأنتجت أتعابهم نتائج سريعة وعظيمة، فلا يليق بنا أبداً أن ننسى ذلك أو نستخف بهِ لأن إلهنا نظر إلى ضيقة كنيستهِ وعمل بروحهِ إذ أقام رجالاً قد خاطروا بحياتهم وزعزعوا ممالك وبدَّدوا كثيراً من الظلام الدامس الذي كان مستولياً عَلَى كل العالم حينئذٍ، ورجَّعوا لنا كلمة الله منتشرة انتشاراً عظيماً، ومع ذلك إن كنا نقبل بدون فحص كلما نطقوا بهِ ونكرّس كل أعمالهم نغلط بذلك غلطاً عظيماً، نعم إنهم كانوا آنية مختارة لخدمة الله، ولكن آنية خزفية ظهرت بها عيوب ليست بقليلة، ولكننا لا نقيم عليهم حجة بسبب نقائصهم ونرفض نتائج أتعابهم الحسنة بل نشكر الله لأجل رحمتهِ متذكرين أنهُ من حكمتهِ يستخدم آلات موافقة لأحوال شعبهِ، مع أنهُ لا يغضُّ نظرهُ عن انحطاطهم من مقامهم الأصلي. إذا التفتنا إلى بولس وبطرس ويوحنا مثلاً نرى آلات مغبوطة بالنعمة، ومع أنهم كانوا بشراً كالآخرين ارتفعوا فوق الأغراض الطبيعية إلى درجة عظيمة، حتى أننا لا نقدر أن ننكت عليهم بشيءٍ. لست أعني أن الله لم يرَ فيهم عيوباً أو أنهم لم يروا في أنفسهم ما يستحق الحكم عليهِ؛ لأننا عرفنا من ذات كتابتهم أنهم غلطوا أوقاتاً بسلوكهم لا بكتاباتهم، ولكن زلاتهم المذكورة ليست بشيء بالقابلة مع كثير من أعمال لوثيروس وكلفينس وغيرهما من الذين شاءَ الله أن يستعملهم لبركة شعبهِ؛ لأننا لا نقدر أن ننكر أن هؤلاءِ تصرفوا أوقاتاً كثيرة عَلَى حسب الأغراض البشرية تماماً ولم يعثروا كثيرين وقتئذٍ فقط بل تركوا قدوة غير حسنة للأجيال الأخرى. الحاصل أنهم بمناسبة قضاة إسرائيل الموصوفين في هذا السفر، لا شك أن الله استعملهم للقيام بمقاصدهِ الخيرية ولكن بطريق أظهر فضل نعمتهِ تعالى مع كثير من سقطاتهم الشخصية.

وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب بعد موت أهود، فباعهم الرب بيد يابين ملك كنعان الذي ملك في حاصور، ورئيس جيشهِ سيسرا وهو ساكن في حروشة الأمم. فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب لأنهُ كان لهُ تسع مائة مركبة من حديد وهو ضايق بني إسرائيل بشدَّة عشرين سنة.

«ودبورة امرأَة نبية زوجة لفيدوت، هي قاضية إسرائيل في ذلك الوقت، وهي جالسة تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إيل في جبل أفرايم، وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها للقضاء، فأرسلت ودعت باراق بن أبينوعم من قادش نفتالي، وقالت لهُ: ألم يأمر الرب إله إسرائيل اذهب وازحف إلى جبل تابور وخذ معك عشرة آلاف رجل من بني نفتالي ومن بني زبولون، فأجذب إليك إلى نهر قيشون سيسرا رئيس جيش يابين بمركباتهِ وجمهورهِ وأدفعهُ ليدك؟ فقال لها باراق: إن ذهبتِ معي أذهب وإن لم تذهبي معي فلا أذهب. فقالت: إني أذهب معك، غير أنهُ لا يكون لك فخر في الطريق التي أنت سائر فيها؛ لأن الرب يبيع سيسرا بيد امرأَة، فقامت دبورة وذهبت مع باراق إلى قادش» (قضاة 1:4-9)

فيذكر هنا مخلصاً آخر لإسرائيل ويتضح مما قيل عنهُ أن مقصد الوحي هو أن يثبت لنا مبدأَ معاملات الله المارّ ذكرهُ. كان باراق من رجال الإيمان بدون شك. أنظر (عبرانيين 32:11) ولكنهُ عمل تحت قيادة امرأَة، ولم يكن ذلك من الأمور اللائقة لو كان إسرائيل عَلَى الحال المرتبة كما يجب؛ لأنهُ ليس من ترتيب الله قط أن الامرأة تتسلط عَلَى الرجل مهما كانت تقية، ولكن تنازل الله من لطفهِ سبحانهُ وتعالى وعمل لخلاص شعبهِ، عَلَى أنهُ عمل بطريق ليوبخ بهِ رجال إسرائيل، فإنهُ خلصهم بقيادة دبورة النبية، ولم يدفع الملك المقتدر ظالم إسرائيل بيد باراق بل بيد امرأة، وكان إذ ذاك يجب عَلَى رجال إسرائيل أن يشكروا الله لأجل الخلاص ويخجلوا أمامهُ أيضاً بسبب سوء ترتيبهم. كان باراق جبار بأس ومؤمناً أيضاً، ولكنهُ لم يجترأ أن ينزل وحدهُ عَلَى سيسرا ظالمهم القوي الذي كان لهُ تسع مائة مركبة من حديد، فذهبت معهُ دبورة حسب طلبهِ قائلة لهُ: لا يكون لك فخر في الطريق التي أنت سائر فيها؛ لأن الرب يبيع سيسرا بيد امرأَة، أي امرأَة أُخرى غير دبورة وهي ياعيل امرأة حابر.

ثم نرى من عدد (10-24) أخباراً مفصلة عن انكسار سيسرا وموته وغيرة ياعيل ممدوحة؛ لأنها أظهرت محبتها لإسرائيل وقتلت عدوهم الأكبر عندما أوقعه الله بيدها.

«فترنمت دبورة وباراق بن أبينوعم في ذلك اليوم الخ»( قضاة 5) لا نقدر أن ندرج هذه الترنيمة حباً بالاختصار، وعَلَى القارئ أن يراجعها في محلها، وإنما نقدم عليها بعض ملاحظات فنقول: قد استصعب كثيرون مضمون هذه الترنيمة قائلين: كيف يمكن لروح الله القدوس أن يلهم أناساً لينطقوا بترنيمة كهذه بحيث أنها افتخار بسفك دم الأعداء والانتصار عليهم؟ وذلك لأنهم يرون أمراً كهذا غير موافق إلهام الروح، فإنهم تصوروا بأفكارهم كيف يليق بالروح أن يعمل ثم يقيسون أعمالهُ عَلَى أوهامهم السقيمة، فأقول إني مسلم كل التسليم أن ترنيمة دبورة لا تناسب الإنسان المسيحي، ولكنهُ لا ينتج من ذلك أنها ليست من بالوحي الكامل وبغاية المناسبة في محلها الخاص، من ذا الذي يتجاسر ويقول أنهُ لا يليق بالوحي أن ينطق إلاَّ بالأقوال المناسبة لمقام المسيحي ودعوتهُ الخاصة؟ نعم إن قلنا بذلك يجب أن نرفض هذهِ الترنيمة وأكثر التوراة أيضاً، ولا يبقى لنا منها سوى بعض النبوات الدالة عَلَى مجيء الرب يسوع وإظهار نعمة الله بهِ. فيجب إذاً أن نقرأ التوراة مميزين بين مبداها الخاص وبين الإنجيل، وبقدر ما نستطيع أن نفهم الإنجيل متمتعين بامتيازاتنا المسيحية، بهذا المقدار نستفيد من مطالعة أسفار التوراة، وكل من يجلس بعدم إيمانهِ منكتاً عَلَى التوراة ليس لهُ قدرة عَلَى فهم الإنجيل، والذي يتفوه بشيء ضد ترنيمة دبورة لا يدرك أقوال الروح من جهة ما هي الكنيسة ودعوتها الآن؛ لأن ما يزرعهُ بعدم إيمانهِ بالعهد القديم يحصدهُ أيضاً عند مطالعتهِ العهد الجديد. إنك لا ترى أحداً من المعترضين عَلَى التوراة يدرك شيئاً كما يجب من كتابات بولس وبطرس ويوحنا. متى اقتنعنا بقصر معرفتنا واقتربنا من كلمة الله خاضعين لها كل الخضوع يتضح لنا أكثر فأكثر كمالها وجمالها، حتى أن عباراتها الغامضة لنا في الأول تُفهم تدريجياً وتفيض عَلَى نفوسنا سيولاً من النور والبركة والقوة، فلا نيأَس إذا وإن كنا نشعر بوجود مواضيع وعبارات لا بل أسفار من الكتاب المقدس لم نفهمها بعد كما يجب؛ لأن إلهنا الذي أنعم علينا بكلمتهِ لا يمتنع عن تعليمنا إياها إن كنا متواضعين آخذين بمنزلة تلاميذ لا ناقدين.

«وعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين، فاعتزت يد مديان عَلَى إسرائيل، بسبب المديانيين عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال والمغاير والحصون، وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق يصعدون عليهم ويتلفون غلة الأرض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوة الحياة ولا غنماً ولا بقراً ولا حميراً؛ لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لهم ولجمالهم عدد، ودخلوا الأرض لكي يخربوها، فذلّ إسرائيل جدّاً من قبل المديانيين، وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب» (قضاة 1:6-6) فلم يكن إسرائيل قبلاً قد وصلوا إلى مذلةٍ كهذه حتى أنهم هاجروا بيوتهم وصاروا تائهين في أرضهم مختبئين في الكهوف والمغائر. إهانة لا مزيد عليها لشعب الرب المختار، ولكن ليس بالصدفة صاروا بهذه الحالة بل تأديباً ضرورياً لأنهم كانوا قد تركوا الله وتعبدوا للبعل أكثر، ولكنهم صرخوا لله، كنا نظن أنهُ لا يعود يسمع لهم من بعد كل ما سمعنا عن ارتدادهم وتذللوا وصرخوا لله فأنقذهم، ألا يكون صبرهُ قد كلَّ أو فرغ؟ حاشا وكلاَّ؛ لأنهُ الله لا إنسان تبارك اسمهُ وتعالى.

«وكان لما صرخ بنو إسرائيل إلى الرب بسبب المديانيين أن الرب أرسل رجلاً نبياً إلى بني إسرائيل فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل: إني قد أصعدتكم من مصر وأخرجتكم من بيت العبودية، وأنقذتكم من يد المصريين ومن يد جميع مضايقيكم، وطردتهم من أمامكم وأعطيتكم أرضهم، وقلت لكم أنا الرب إلهكم لا تخافوا آلهة الأموريين الذين أنتم ساكنون أرضهم، ولم تسمعوا لصوتي» (قضاة 7:6-10) .

فأرسل لهم الرب نبياً قبل المخلص ليوبخهم عَلَى خطاياهم، ولكنهُ بادر أيضاً إلى إجابة صراخهم؛ لأنهُ مع توبيخه إيانا لا يبعدنا عنهُ، وإن أدَّبنا لا يتباعد عن صراخنا، فلا ننسى هذه الحقيقة الجميلة.

«وأتى ملاك الرب وجلس تحت البُطْمَة التي في عفرة التي ليوآش الأبيعزري وابنهُ جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين، فظهر لهُ ملاك الرب وقال لهُ: الرب معك يا جبَّار البأس، فقال لهُ جدعون: أسألك يا سيدي إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين كل عجائبهِ التي أخبرنا بها آباؤُنا قائلين أَلم يصعدنا الرب من مصر؟ والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان، فالتفت إليهِ الرب وقال: اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان، أَما أرسلتك؟ فقال له: أسألك يا سيدي بماذا أخلّص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذُلى في منسى، وأنا الأصغر في بيت أبي. فقال لهُ الرب: إني أكون معك وستضرب المديانيين كرجل واحد. فقال لهُ: إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك، فاصنع معي علامة أنك أنت تكلمني، لا تبرح من ههنا حتى آتي إليك وأخرج تقدمتي وأضعها أمامك. فقال: إني أبقى حتى ترجع. فدخل جدعون وعمل جدي معزى وأيفة دقيق فطيراً، أما اللحم فوضعهُ في سلٍّ، وأما المرق فوضعهُ في قدرٍ وخرج بها إليهِ إلى تحت البطمة وقدَّمها، فقال لهُ ملاك الرب: خذ اللحمة والفطير وضعهما عَلَى تلك الصخرة واسكب المرق. ففعل كذلك، فمدَّ ملاك الرب طرف العكاز الذي بيدهِ، ومسَّ اللحم والفطير، فصعدت نارٌ من الصخرة وأكلت اللحم والفطير. وذهب ملاك الرب عن عينيهِ، فرأى جدعون أنهُ ملاك الرب فقال: آه يا سيدي الرب لأني قد رأيت ملاك الرب وجهاً لوجه. فقال لهُ الرب: السلام لك لا تخف، لا تموت. فبنى جدعون هناك مذبحاً للرب ودعاه يهوة شلوم. إلى هذا اليوم لم يزل في عفرة الأبيعزريين» (قضاة 11:6-24)

جدعون هو المخلّص الذي أقامهُ الرب، ولكنهُ وُجد في ظروف لم يكن ينتظر إقامة جبار بأس فيها؛ لأن ملاك الرب وجدهُ وهو يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين، وحالتهُ هذه المذلة كانت تدلّ عَلَى سوء حالة إسرائيل عموماً، إذ لم يقدر رجل إسرائيلي أن يعمل أشغالهُ المعتادة إلاَّ وهو بغاية الخوف والرعب من أولئك الظالمين المقتدرين، فظهر لهُ ملاك الرب وقال لهُ: الرب معك يا جبار البأْس. قوة الرب تصاحب كلمتهُ تشجيعاً للذين يختارهم لخدمتهِ، فقال لهُ جدعون: أسألك يا سيدي إذا كان الرب معنا، فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين كل العجائب التي أخبرنا بها آباؤُنا قائلين ألم يصعدنا الرب من مصر؟ والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان. يبان من جواب جدعون للملاك أنهُ كان مفتكراً في ذلّ إسرائيل من قبل، متعجباً في نفسهِ بسبب الفرق العظيم بين حالهم القديمة ومذلتهم الحاضرة، ولا يقول إن كان الرب معي بل إن كان الرب معنا؛ لأنهُ كان مفتكراً في شعب الرب مقرًّا بأن الرب الذي كان قد أصعدهم من مصر جعلهم في كف مديان أيضاً، الذي باركهم أدبهم أيضاً. لا شك أنهُ أمرٌ محزن أن الرب نفسهُ دفعهم في يد أعدائهم، ولكن هذا الأمر نفسهُ مما يعطي رجاء بخلاصهم؛ لأنهُ واضح أن الذي سلمهم قادر أيضاً أن يخلصهم، وبهذه الحقيقة تعلق إيمان جدعون.لما كان جدعون مختاراً بعدُ ولا يعلم ماذا يقول أو يعمل التفت إليه الرب وقال: اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان، أما أرسلتك؟ دعاهُ الرب دعوة حقيقية لخدمتهِ، وإذ ذاك ابتدأ يشعر بالصعوبات المتعلقة بها.

الإنسان الذي يتبرع ويبادر إلى خدمة الرب بدون دعوة خصوصية منهُ تعالى، هذا الإنسان يكو واثقاً بذاته ولا يدري بالصعوبات، فيباشر الخدمة بنفسه بدون انتباه وبئس النهاية! أما الرب فلا يستخدمنا ما لم نعرف ضعفنا ونقرّ بهِ كما جدعون فإنهُ أخذ يعترف بعدم استحقاقهِ وعدم قدرتهِ إذ قال: بماذا أخلص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذُلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي، ثم طلب علامة وجاوبهُ الرب حسب طلبهِ، كان لهُ إيمان ، ولكنهُ كان ضعيفاً فتنازل الرب إلى أن يقويه، وأما نحن فلا يجوز لنا أن نطلب علامة لأجل تقوية إيماننا؛ لأن لنا كلمة الله الكاملة، وإن كنا نحاول العمل مثل جدعون نهين كلمة الله ونضعف إيماننا، فلما رأى جدعون أنهُ ملاك الرب اختبر رداءَتهُ وخاف من الموت وصرخ: آه يا سيدي الرب لأني قد رأيت ملاك الرب وجهاً لوجه، فقال لهُ الرب: السلام لك، لا تخف، لا تموت. كان منظر الرب دائماً يفعل فعلاً كهذا في المؤْمنين القدماءِ؛ لأن الله لم يكن قد أعلن ذاتهُ إعلاناً تاماً بالنعمة، فتمسك جدعون بكلمة السلام وبنى مذبحاً للرب، ودعاهُ يهوة شلوم، واتضح من ذلك مبدأ عظيم لإفادتنا من جهة خدمة الرب وهو أنهُ ينبغي لنا أن نحصل عَلَى السلام مع الله قبل أن نبتدئ بخدمتهِ بين الناس.

«وكان في تلك الليلة أن الرب قال لهُ: خذ ثور البقر الذي لأبيك وثوراً ثانياً ابن سبع سنين، واهدم مذبح البعل الذي لأبيك واقطع السارية التي عندهُ، وابنِ مذبحاً للرب إلهك عَلَى رأْس هذا الحصن الخ» (قضاة 25:6-32) ثم نرى شيئاً آخر فإنهُ

كان ينبغي لجدعون أن يبادر إلى إصلاح بيتهِ قبل أن يبتدئ بخدمتهِ للآخرين؛ لأن الله لا يستعملنا في إصلاح بيوت الآخرين ما لم نصلح بيوتنا أولاً، فليضع كل خادم إنجيلي هذه الحقيقة في قلبهِ. لم يكن قدام جدعون سوى انتظار الموت من إجرائهِ هذا العمل، ولكنهُ لم يتردّد فكان الرب معهُ وخلصهُ من يد أهل بلدهِ بطريقٍ غير منتظر، ولم يكن عمله هذا من التكبر بل من التواضع، لأن الطاعة إنما تصدر من عظم التواضع لأنها مبنية عَلَى الإيمان الثابت الذي يعطي الله مقامهُ الحقيقي، فإذ ذاك فالمؤْمن المطيع متواضع كما أنهُ ثابت أيضاً، وأما الثقة بالذات أو الإرادة الذاتية ليست ثابتة ولا تمتاز بالتواضع، ومهما ظهر منها من الغيرة والنشاط والاجتهاد لا يدوم؛ لأنها تتلف نفسها من فرط الغيرة وتمضي سريعاً كالغثاء عَلَى وجه الماء. البرهان الأعظم الدال عَلَى صحة إيماننا هو أنَّا نأْتي بثمر بالصبر. من يفعل مشيئة الله يثبت إلى الأبد.

ذهب جدعون إلى خدمتهِ بقوتهِ هذه أي القوة المعطاة لهُ بكلمة الرب وعملهِ فيهِ، ولكنهُ أظهرها أولاً في بيت أبيهِ واكتسب اسماً جديداً بانتصاره عَلَى الإله الكاذب المعبود هناك قبل ما نزل ليضرب المديانيين.

«واجتمع جميع المديانيين والعمالقة وبني المشرق معاً وعبروا ونزلوا في وادي يزرعيل الخ» (قضاة 33:6-40) كيف حدث أن أعداء إسرائيل تهيجوا حالاً وبادروا إلى الاجتماع معاً؟ من أخبرهم بما كان الله آخذاً بعمله مع رجل إسرائيلي من عشيرة أذلّ العشائر من منسى؟ وذلك بالخفاءِ ولم يكن قد ظهر منه سوى أمانته في بيته إن للجنود المذكورين رئيساً خبيراً بأمور البشر خصوصاً بأحوال شعب الله وهو إبليس، وإذ كان الله يهيئ مخلصاً لإسرائيل بادر إبليس أيضاً لجمع جنوده ليس المديانيين فقط بل العمالقة وبني المشرق أيضاً، وسمح الله بذلك لأنهُ كان مزمعاً أن يظهر قوتهُ بملاشاتهم. وهكذا الأمر في كل وقت، فإنه إن كان روح الله عاملاً في رجل واحد وقتاً ما ليجعلهُ آلة مناسبة للرب لخلاص شعبهِ من كف مديان لا يلبث إبليس أن يجمع جيوشه للمقاومة فلا نخفه مهما أظهر من القوة، فقط نحترز من الاعتماد عَلَى قوتنا وحكمتنا. ثم نرى لطف الله لعبدهِ حين طلب منهُ آية أُخرى لتقوية إيمانهِ وأعطاهُ إياها كما ذُكر في قصة جزَّة الصوف، فلم يبقَ عليه الآن إلاَّ أن يقصد الأعداء.

«فبكر يربعل أي جدعون وكل الشعب الذي معه ونزلوا عَلَى عين حرود، وكان جيش المديانيين شماليهم عند تل مورة في الوادي. وقال الرب لجدعون: إن الشعب الذي معك كثير عليَّ لأدفع المديانيين بيدهم، لئلا يفتخر علىَّ إسرائيل قائلاً يدي خلصتنيالخ» (قضاة 1:7-8) اجتمع بعض أسباط إسرائيل وراء جدعون، ولكن الرب لم يشأ أن يستعملهم جميعهم بل صفَّاهم بالوسائط التي استنسبها، أولاً أمر جدعون بأن ينادي في آذان الشعب قائلاً من كان خائفاً ومرتعداً فليرجع وينصرف، فرجع جانب كبير منهم لأنهم كانوا بلا إيمان، وبقي عندهُ عشرة آلاف، ثم نزل بهم إلى الماء فظهر أن الأكثرين كانوا فاترين وبلا غيرة، إذ جثوا عَلَى ركبهم لشرب الماء، فالواضح أن هؤلاء لا يصلحون للحرب المتعلقة بالإيمان الحارّ. فأرجعهم جدعون حسب أمر الرب ولم يبقَ معهُ سوى ثلاث مائة مناسبين لهذه الخدمة، إذ ظهر فيهم نفس الروح الذي كان في قائدهم. لاحظ جيداً أن جميع الذين اجتمعوا إلى جدعون في الأول حسبوا أنفسهم أهلاً للخدمة المطلوبة، ولم يكن عندهم علم بأن الرب يمتحنهم، لأنهم لو عرفوا ذلك لكان يمكنهم أن يتظاهروا بغيرة ليست فيهم. وهكذا الآن يمتحنا الرب بوسائط بسيطة حسب الظاهر لا نعرف في وقتهِ أنها لامتحاننا، ولكننا نُظهر بها هل فينا إيمان حارّ أم لا؟ كان أصل ارتداد إسرائيل قلة اعتبارهم للأرض التي أعطاهم الله إياها، وإذ ذاك لم يريدوا أن يجاهدوا لامتلاكها كما قد رأَينا، ثم لما تراخوا وتعودوا الفتور والكسل تورطوا في شرور الكنعانيين، وعندما امتحن الرب جيش جدعون استعمل الوسائط التي أظهرت من هم الذين قد انتبهوا مثل جدعون إلى سوء حالة شعب الله، اقتضى أن يكون فيهم إيمان لا حب الوطن فقط أو شيء آخر من الأغراض البشرية. إن كنا مجاهدين في حروب الرب لا يليق أن نطلب كثرة العدد بل الذين فيهم الإيمان الحار الذي يحملهم إلى الطاعة وإن كانوا قليلين، كلما كثر الناس معنا إنما يعيقوننا ويضعفوننا إن كانوا بلا إيمان، وليس ذلك فقط بل نصبح في تجربة أن ننظر إلى قوتنا الظاهرة لا إلى الرب وحدهُ، إن كان هو معنا فليست المسألة بعد من جهة ما عندنا من أسماء البشر ولوازم الحرب؛ لأن الرب لا يجنّد الذين يطلبون راحتهم وشرفهم وصوالحهم، بل الذين يعلقون قلوبهم بخير شعبهِ ومجد اسمهِ فقط. فقال الرب لجدعون: بالثلاث مائة رجل الذين ولغوا الماء أخلصكم وأدفع المديانيين ليدك، وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانهِ، فكل من يتوانى مفتكراً في راحتهِ لا يناسب لخدمة الرب، وعَلَى ذلك قد وردت شواهد كثيرة في العهد الجديد.

«وكان في تلك الليلة أن الرب قال لهُ: قم انزل إلى المحلة لأني قد دفعتها إلى يدك. وإن كنت خائفاً من النزول فانزل أنت وفورة غلامك إلى المحلة وتسمع ما يتكلمون بهِ وبعد تتشدد يداك وتنزل إلى المحلة. فنزل هو وفورة غلامهُ إلى آخر المتجهزين الذين في المحلة، وكان المديانيين والعمالقة وكل بني المشرق حالّين في الوادي كالجراد في الكثرة، وجمالهم لا عدد لها كالرمل الذي عَلَى شاطئ البحر في الكثرة. وجاء جدعون فإذا رجل يخبر صاحبهُ بحلمٍ ويقول: هوذا قد حلمت حلماً وإذا رغيف خبز شعير يتدحرج في محلة المديانيين، وجاءَ إلى الخيمة وضربها فسقطت وقلبها إلى فوق فسقطت الخيمة. فأجاب صاحبهُ وقال: ليس ذلك إلاَّ سيف جدعون بن يوآش رجل إسرائيل قد دفع الله إلى يدهِ المديانيين وكل الجيش» (قضاة 9:7-14)

لا يوجد كتاب في العالم مثل الكتاب المقدس بحيث أن الله يذكر خوف عبدهِ بكل وضوح كما يذكر شجاعتهُ أيضاً، لا يستر الأول ولا يبالغ في الثاني، فإنهُ قادر أن يزيل الأول كما أنهُ المصدر الحقيقي للثاني. كان قد قاد عبدهُ الأمين في ظروف من شأنها أن تملأَه خوفاً؛ لأن ماذا جدعون والثلاث مائة رجل بالنسبة إلى هذا الجيش الغفير المقتدر؟ وما أجمل حكمة الله الظاهرة فيما أمره بعملهِ! من كان يظن أنهُ يتقوى من سماع حلم نفر واحد من هذا الجيش وتفسيرهُ من واحد آخر؟ ولكن هكذا رتَّب الرب ومكَّن ليس إيمان جدعون فقط بل إيماننا أيضاً إذ نرى أن كل الأمور في يدهِ ليستخدمها لإجراءِ مقاصدهِ، نعم لم يكن جدعون حسب هذا الحلم سوى رغيف خبز شعير، وهو من أحقر الأشياء المفيدة للإنسان، فليكن كذلك إن كان الرب يستعملهُ لكسر الأعداء.

«وكان لما سمع جدعون خبر الحلم وتفسيره أنهُ سجد ورجع إلى محلة إسرائيل وقال قوموا لأن الرب قد دفع إلى يدكم جيش المديانيينالخ» (قضاة 15:7-18) فكما أنهم كانوا بذواتهم ليسوا سوى رغيف خبز شعير كذلك كانت أسلحتهم أيضاً  حقيرة لأنهم أخذوا جراراً فارغة ومصابيح، فإن الله يخلص لا بقوة الإنسان أو حكمتهِ بل بروحهِ العامل في آلات ضعيفة.

«فجاءَ جدعون والمائة رجل الذين معهُ إلى طرف المحلة في أول الهزيع الأوسط، وكانوا إذ ذاك قد أقاموا الحرّاس فضربوا بالأبواق وكسروا الجرار وأمسكوا المصابيح بأيديهم اليسرى والأبواق بأيديهم اليمنى ليضربوا بها، وصرخوا: سيف للرب ولجدعون، ووقفوا كل واحد في مكانهِ حول المحلة، فركض كل الجيش وصرخوا وهربوا، وضرب الثلاث المئين بالأبواق وجعل الرب سيف كل واحد بصاحبهِ وبكل الجيش» (قضاة 19:7-23) كان جدعون من الذين «بالإيمان قهروا ممالك صنعوا برّاً نالوا مواعيد سدوا أفواه أسود أطفئوا قوة النار نجوا من حد السيف تقوُّوا من ضعفٍ صاروا أشدّاء في الحرب هزموا جيوش غرباء» (عبرانيين 33:11و34) قال الرسول عن محاربتنا المسيحية: «لأننا وإن كنا نسلك في الجسد لسنا حسب الجسد نحارب؛ إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله عَلَى هدم حصون، هادمين كل ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح» (كورنثوس الثانية 3:10-5) إننا آنية خزفية مثل تلك الجرار التي حملها جدعون وجيشهُ الصغير، ويجب أن يكون النور فينا أولاً ثم يضيء للآخرين عَلَى قدر ما نحن آنية ضعيفة حسب الظاهر ومكسورة أيضاً. راجع كلام الرسول عَلَى ذلك (كورنثوس الثانية 1:4) الخ. ما دمنا نودّ أن نحسب شيئاً في العالم لا يستطيع الرب أن يظهر قوَّتهُ بنا كقولهِ لجدعون: أن الشعب الذي معك كثير عليَّ لأدفع المديانيين بيدهم لئلا يفتخر عليَّ إسرائيل قائلاً يدي خلصتني. لكي يكون فضل القوة لله لا منا فإننا طبعاً نودّ أن نرى أتباعاً كثيرين ووسائط مادّية ظاهرة، و‘ذ ذاك نستند عَلَى قوتنا لا عَلَى الله. نعم نقول لا نقصد هذه الأشياء لكي نتكل عليها، ولكننا بالجهد نعرف قلوبنا. إن كان الرب يقلل عدد أتباعنا ويحرمنا كل الوسائط التي كانت عندنا، فكيف تكون أفكارنا واحساساتنا إذ ذاك؟ هل نبادر إلى الحرب مثل جدعون واثقين بالرب وحدهُ أم لا؟ كسروا الجرار فأضاءَ النور وصرخوا سيفٌ للرب ولجدعون، فانهزم جيوش المديانيين وبني المشرق، ولم تنفعهم كثرتهم بل بالعكس جعل الرب سيف كل واحد عَلَى صاحبهِ ثم اجتمع كثيرون من أسباط إسرائيل متشجعين مما  صار ولحقوا أعدائَهم الهاربين، وتم انكسارهم.

«وقال لهُ رجال أفرايم: ما هذا الأمر الذي فعلت بنا إذ لم تدعنا عند ذهابك لمحاربة المديانيين؟ وخاصموهُ بشدَّة. فقال لهم ماذا فعلت الآن نظيركم؟ أليس خصاصة أفرايم أحسن من قطاف أبيعزر؟ ليدكم دفع الله أميرَي المديانيين غراباً وذئباً، وماذا قدرت أن أعمل نظيركم؟ حينئذٍ ارتخت روحهم عنهُ عندما تكلم بهذا الكلام» (قضاة 1:8-3) فكسر بجوابه اللين غضب اخوتهِ، كان أولاً قد ضرب البوق لأجل جميع إسرائيل لو شاءوا أن يسمعوا، ولكن أكثرهم خافوا أن يجتمعوا وراء جدعون ما دام المديانيون موجودين بكثرة كرمل البحر، ثم كان سهلاً عليهم أن يبادروا لمطاردة المديانيين بعدما هزمهم جدعون والثلاث مائة رجل الذين تجرئوا أن يرافقوه للحرب بينما كانت قوة أعدائهم عظيمة جداً حسب الظاهر، فلم يذكر جدعون ذلك بل سكن هيجان اخوته ذاكراً ما كانوا قد عملوه مادحاً إياهم المدح اللازم ساكتاً عما كان قد عملهُ هو. كانوا قد ساعدوا في كسر أعداء الله ولم يشأ جدعون أن يكدر خاطرهم، بل جاوبهم بلطافةٍ واستمرَّ يطارد الأعداء ولم يصرف الوقت في مخاصمة اخوته. وعلينا نحن أن نستفيد من قدوتهِ الجميلة هذه ولا نضيع وقتنا بمذمة اخوتنا ولو تجبروا علينا ناسبين لنا ما ليس فينا من جهة خدمة الرب. يكفينا أنهم خدموا عَلَى قدر الإمكان، يعرف الرب من خدم أكثرهم أو نحن والأحسن أن نسكت عن خدمتنا، وإذا لزم نمدح الآخرين لا أنفسنا.

«وجاء جدعون إلى الأردن وعبر هو والثلاث مائة الرجل الذين معهُ معيين ومطاردين» (قضاة 4:8) فيظهر هنا الفرق بين جدعون وأهل أفرايم، مع أنهم مع كل غيرتهم نسوا المديانيين بكل سرعة، والأرجح أنهم رجعوا للنهب، وأما جدعون والذين معهُ فكان فيهم الإيمان الحار الذي حملهم إلى أن يعبروا الأردن لكي يلاشوا ما بقي من قوة العدوّ، كانوا معيين ولكنهم لم يبالوا بالتعب بل استمروا عَلَى مطاردة المديانيين إلى أن أبادوهم كما يبان من (عدد 10-13) وكان لنا قدوة في كل ذلك لكي نسعى إلى ما هو قدام في سعينا المسيحي غير مبالين بالتعب. أنظر قول الرب من جهة مواظبة الصلاة (لوقا 1:18-8) وكلام الرسول عن الاجتهاد في سيرتنا المسيحية (فيلبي 7:3-21) وما أجمل قوله! خصوصاً في عدد 13و14 إذ قال: ولكني أفعل شيئاً واحداً، إذ أنسى ما هو وراء وأمتدُ إلى ما هو قدام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع، نراهُ هنا معيياً ومع ذلك مطارداً، كان الرب قد دعاهُ إلى المجد، وكانت أعداءٌ وموانع كثيرة تقاومهُ، ولكنهُ استمرّ يجاهد بعزمٍ ثابت بينما كان قلبهُ ونظره متعلقين بما فوق.

«فقال لأهل سكوت: أعطوا أرغفة خبز للقوم الذين معي لأنهم معيون وأنا ساعٍ وراء زبح وصلمناع ملكي مديان، فقال رؤساءُ سكوت: هل أيدي زبح وصلمناع بيدك الآن حتى نعطي جندك خبزاً؟ فقال جدعون: لذلك عندما يدفع الرب زبح وصلمناع بيدي أدرس لحمكم مع أشواك البرية بالنوارج، وصعد من هناك إلى فنوئيل وكلمهم هكذا. فأجابهُ أهل فنوئيل كما أجاب أهل سكوت، فكلم أيضاً أهل فنوئيل قائلاً: عند رجوعي بسلام أهدم هذا البرج» (قضاة 5:8-9). كان هؤلاء إسرائيليين وكان يجب عليهم أن يقدموا مساعدة لجدعون، وإن لم يكن فيهم إيمان ليتركوا معهُ في الحرب ولكنهم كانوا خائنين وغير مصدقين أنهُ يمكن لجدعون أن يكسر ما بقي لمديان من القوة. وتهددهم جدعون أنهُ يقاصّهم عند رجوعهِ بسلام، وعمل كذلك كما نرى في عدد 13-18 . فإنهم كانوا مستحقين هذا القصاص . كان الفرق عظيم بين أهل أفرايم والمذكورين هنا، فإنهُ كان لأولئك قلب لمحاربة أعدائهم فقاموا للمساعدة مدعين بأكثر مما كان لهم من الشجاعة والغيرة، وأما هؤلاءِ فلم يكن فيهم لا قلب للحرب ولا غيرة ولا حب الوطن، بل كانوا بالحقيقة مع الأعداءِ، إذ صدق عليهم القول "من ليس معي فهو عليَّ" ويصدق علينا هذا المبدأَ أيضاً في محاربتنا المسيحية. فلا نحسب الذي يلتصق بأعداء المسيح مسيحياً البتة، لأن كل من ينحاز إلى الذين ينكرون لاهوتهُ أو عمل الفداء أو الوحي الكامل فهو مثلهم، ومع أننا لا نقدر ولا نريد أن نقاصهُ قصاصاً جسدياً لا يجوز لنا أن نعاشرهُ أو نعاملهُ كأنهُ من قوم المسيح، أنظر خصوصاً (يوحنا الثانية 8-11) توجد عداوة بين الله وبين العالم، وإن كنا نجد وراء المجد الأبدي فالعالم لا يساعدنا بذلك بل يعيرنا حاسباً إيانا جُهالاً لكوننا منتظرين الغلبة عَلَى العدو وامتلاك النصيب الجيد الأبدي.

«وقال رجال إسرائيل لجدعون: تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك؛ لأنك قد خلصتنا من يد مديان، فقال لهم جدعون: لا أتسلط عليكم ولا يتسلط ابني عليكم، الرب يتسلط عليكم» (قضاة 22:8و23) فنسى إسرائيل الله سريعاً حسب عادتهم، وطلبوا من جدعون أن يملك عليهم، فأبى قائلاً: الرب يتسلط عليكم، وأصاب بقوله هذا، ويا ليت خدمتهُ الشهيرة كانت قد انتهت هنا، ولكنهُ حسب دأب البشر سقط وجعل فخاً لشعب الله كما سنرى.

«ثم قال لهم جدعون: أطلب منكم طلبة أن تعطوني أقراط كل واحدٍ أقراط غنيمتهِ، لأنهُ كان لهم أقراط ذهب لأنهم اسماعيليون فقالوا: إننا نعطي، وفرشوا رداءاً وطرحوا عليهِ كل واحد أقراط غنيمتهِ، فصنع جدعون منها افوداً وجعلهُ في مدينتهِ في عفرة، وزنى كل إسرائيل وراءهُ هناك، فكان ذلك لجدعون وبيتهِ فخاً» (قضاة 24:8-28) لا شك أنهُ صنع الأفود تذكاراً للغلبة العظيمة التي كان مقرّاً ومتأكداً أنها من الرب، ولكنهُ استعمل حكمتهُ وأسقطهُ الشيطان في غلطٍ أنتج ثمراً ردياً لهُ ولبيتهِ ولكل إسرائيل أيضاً. ومثلهُ مثلنا بحيث نطلب دائماً أن نصنع تذكاراً للبركة التي يكون الله نفسهُ  قد صنعها في الكنيسة، ظانين أننا نديمها بوسائط نرتبها حسب حكمتنا، ولكننا إنما نظهر بذلك التواءِ قلوبنا وعدم اتكالنا عَلَى الله وحدهُ القادر أن يبارك في كل حين، ولكن حسب إرادتهِ وكلمتهِ لا حسب ترتيباتنا البشرية. إذا صار انتباه لكلمة الله بين الناس وقتاً ما وبارك الله نفوساً كثيرة بواسطة خدمتنا، لا يلبث أن يُسمع هذا السؤال من كثيرين، نعم قد صارت بركة، ولكن ماذا يتكفَّل بدوامها؟ وعَلَى أي شيءٍ تستندون ليديمها لكم؟ فنجيب: ليس عندنا كفالة ولا شيء مطلقاً يؤَكد لنا ذلك سوى حضور الروح القدس معنا، وإن حدنا عن كلمة الله نحزنهُ ولا يصادق حينئذٍ عَلَى ترتيباتنا، لا بل هي نفسها تصير فخاً لنا إذ ننسى الله بعد قليل وننهمك بما رتبناهُ من حكمتنا. ماذا ينفعنا إن وضعنا قوانين ومبادئ ولو كانت حسنة بذاتها وحافظنا عليها غاية المحافظة بدون الروح القدس؟ ألا تكون صورة فارغة أو جثة بلا حياة؟ كم مرة حصلت انتباهات في كنيسة الله من فعل الروح القدس وامتلأَ خدام المسيح غيرة ومحبة للبشر، وقالوا: قد صارت بركة عظيمة، ويجب أن نبذل جهدنا لكي نثبتها ونديمها للأجيال الأخرى، ونظموا نظامات مختلفة وعديدة ولم ينتج منها إلا الشرّ؛ لأننا لا نقدر أن نحفظ الحق ونديم بركة الله بواسطة ترتيباتنا، وربما نصنعها من احساسات تقوية مثلما فعل جدعون، ولكن ذلك يحاكي قلة الاتكال عَلَى الله. كان الروح القدس قد عمل في جدعون وصار خلاصاً عظيماً لإسرائيل عن يدهِ، ولكنهُ هو نفسهُ أيضاً هيأ الطريق لارتداد إسرائيل.

«ومات جدعون بن يوآش بشيبة صالحة ودفن في قبر يوآش أبيهِ في عفرة أبيعزر. وكان بعد موت جدعون أن بني إسرائيل رجعوا وزنوا وراء البعليم، وجعلوا لهم بعل بريث إلهاً، ولم يذكر بني إسرائيل الرب إلههم الذي أنقذهم من يد جميع أعدائهم من حولهم، ولم يعملوا معروفاً مع بيت يربعل جدعون نظير كل الخير الذي عمل مع إسرائيل» (قضاة 32:8-35) ماذا نفعهم افود جدعون الآن؟ لم ينفعهم شيئاً بل ربما كان من الأسباب التي أسرعت بهم إلى عبادة الأصنام. كذلك نحن لا يوجد شيء يحفظنا في طريق الحق إلاَّ حضور الروح القدس معنا وعدم وجود الأشياء التي تحزنهُ؛ لأنهُ دائماً يقاوم الجسد فينا ويقهرهُ ويجعلنا ننظر إلى الرب ومجدهِ كغرضنا الوحيد. إن صنعنا افوداً فيصير ذلك غرضنا بعد تبريد المحبة الأولى، ونذهب روائَهُ لا وراء الرب. انحطَّت الكنيسة قبل موت الرسل، فكتب بولس المغبوط قبل موته ما يأتي: «إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح» (فيلبي 21:2) مهما قصدنا دون مجد المسيح سواءٌ كان الافتخار العالمي أو افوداً دينيّاً فلا ينفعنا ذلك ولا يحفظنا من فخاخ إبليس. «أيها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام. آمين» (يوحنا الأولى 21:5)

الفصل الثاني

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.