بين ممرا والمريا |
خادم الرب د. فايز فؤاد
بين ممرا والمريا
السجود في معناه الصحيح هو أن ننسى ذواتنا واحتياجاتنا (الصلاة)، والبركات التي صارت لنا (الشكر)، ونتحوَّل إلى الله نفسه، لنتأمل في صفاته وسجاياه، وجمال نعمته، وعظم ة كل ما هو عليه من سمو، وما هو بالنسبة لنا كما هو مُعلَن في الرب يسوع المسيح. وإذ ننقاد بالروح القدس، ونسمو فوق ذواتنا، ونتأمل في كل سجاياه المتنوعة وأمجاده المختلفة، ونستعرض قداسته وعظمته، وجلاله ومحبته، ورحمته ونعمته، لا يسعنا إلا أن تلتهب قلوبنا فننحني عند قدميه، مُقدِّمين له - في ربنا يسوع المسيح - تعبُّد وولاء قلوبنا، وهو ما يُفرح ويُشبع قلبه «لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ» (يو4: 23).ومما يتناسب مع جمال وكمال كلمة الله أن أول مثالين ذُكر فيهما السجود في الكتاب المقدس، وردا بالارتباط ب إبراهيم؛ أبي المؤمنين وخليل الله (تك18: 2؛ 22: 5)، ومنهما نتعلم بعض الحقائق والأمور التي يتوقف عليها السجود الحقيقي ولا يستقيم بدونها:1- السجود والإيمان 2- السجود والختان 3- السجود والشركة 4- السجود وسلوك الغريب 5- السجود والسلوك في النور 6- السجود والصليب 7- السجود والطاعة والخضوع 8 السجود والبذل والعطاء أولاً: السجود والإيمان:إن المؤمن الحقيقي فقط هو الذي يستطيع أن يُقدِّم لله سجودًا حقيقيًا. ويلفت أنظارنا أن كلمة «الإيمان» ترد لأول مرة في الكتاب المقدس بالارتباط بإبراهيم، أول مَنْ قَدَّمَ سجودًا للرب، إذ قبل أن يُقدِّم سجوده (تك 18: 2) قيل عنه في تكوين 15:6 إنه «آمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا». ومن المحال أن يُقدِّم غير المؤمن سجودًا مقبولاً لله، إذ إنه «بِدُونِ إيمانٍ لا يُمكنُ إرضاؤُهُ، لأنه يَجِبُ أن الذي يأتي إلى الله يُؤمِنُ بأنهُ مَوْجُودٌ وأنهُ يُجازِي الذينَ يَطلُبُونَهُ» (عب11: 6).وفي ظل العبادة الطقسية قديمًا لم يكن ممكنًا للكاهن أن يُقدِّم بخورًا على مذبح الذهب داخل القدس (السجود)، إن لم يكن مَرَّ أولاً على مذبح النحاس (إدانة الخطية والتطهير بالدم). وفى عبرانيين 10: 19-22 نقرأ عن وصفين لحالة الساجد الحقيقي: 1- ثقة الدخول إلى الأقداس بدم يسوع (ع 19) 2- التقدم بقلبٍ صادقٍ في يقين الإيمان (ع 22). فلا خوف ولا ظل للشك في كفاية دم المسيح وعمله، وهذا هو الإيمان الحقيقي الذي يجب توافره في القلب لممارسة السجود الحقيقي. ثانيًا: السجود والختا ن:قَبْلَ أن يُقدِّم إبراهيم سجوده المقبول لله (تك 18: 2؛ 22: 5)، كان الرب قد أعطاه أولاً عهد الختان (تك 17: 9-14). وما معنى هذه العملية؟ معناها وضع حكم الموت على الإنسان في الجسد؛ معناها موت الجسد قدام الله، والكفّ عن العمل بموجب استحسانات ومتطلبات الطبيعة البشرية. وكل عضو من عائلة الإيمان - بدون استثناء - كان يجب أن يحمل في جسمه سمة ذلك العهد (تك17: 12، 13). وهكذا كان الختان «خَتْمًا» لِبرِّ الإيمان لإبراهيم (رو4: 11)، أما الختم الموضوع على المؤمن الآن فليس مجرد علامة خارجية في الجسد، بل «رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ» (أف4: 30 أنظر أيضًا أف1: 13، 14؛ 2كو1: 21، 22). والختان الحقيقي هو «َخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ ... الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللهِ» (رو2: 28، 29). وهذا الخَتم مؤسَّس على اتحاد المؤمن بالمسيح في الموت والقيامة «خِتَانًا غيرَ مَصنُوعٍ بيدٍ، بِخَلع جِسْمِ (خطايا) البَشَرِيَّة، بِخِتَانِ المَسِيحِ (أي بموت المسيح)» (كو2: 11). فكل مؤمن حقيقي بالمسيح هو من الختان روحيًا.وفى رسالة فيلبي3: 3 يقول الرسول «لأَنَّنَا نَحْنُ الْخِتَانَ (أي المؤمنين الحقيقيين)، الَّذِينَ نَعْبُدُ اللهَ بِالرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى الْجَسَدِ». وهكذا يعرض الرسول بولس ثلاث خصائص للذين يشكلون الختان الحقيقي: (1) «نَعبُدُ اللهَ بالرُّوحِ» أو «نسجد بروح الله» أي أن عندنا القوة للسجود الحقيقي؛ روح الله: والسجود بالروح ليس هو عبادة تقوم على النطق بعبارات مخصوصة أو تكرار طقوس معينة، فهي ليست شكلية ولا جسدية، فالسجود الحقيقي يفيض من ذاته في القلب، من التـأمل البهيج في المسيح، حين يأخذ الروح القدس مما له ويُخبرنا، فتنشغل قلوبنا بشخصه، وتفيض منها ينابيع المدح والتسبيح. إن الروح القدس هو القوة والنشاط والمصدر الحيّ الوحيد لكل سجود صحيح وعبادة حقيقية، وحيث أن المؤمنين وحدهم - وليس سواهم - هم الذين لهم روح الله (رو8: 9؛ 14-16)، فهم وحدهم الذين يستطيعون أن يسجدوا في الروح أو بروح الله (في 3: 3). وهكذا أيضًا فإن سجودنا يتأثر إلى حد كبير بما يُحزن الروح القدس من سلوك مستهتر غير مدقق (أف4: 30)، أو بما يُطفئ الروح القدس من سلوك بحسب النظام والاستحسان البشري (1تس5: 19). (2) «ونَفْتَخِرُ في المسيح يسوعَ» أي أن لنا غرض السجود الروحي، المسيح يسوع: إن الختان الحقيقي يفتخرون في المسيح يسوع، فهو وحده محط اعتزازهم. إنهم لا يتباهون بإنجازاتهم الشخصية، ولا بخلفيتهم الثقافية، ولا بأمانتهم في حفظ الفرائض والطقوس الدينية (في3: 4-11)، إنهم لا يفتخرون إلا بشخص الرب يسوع المجيد. والنعمة والحق اللذان أضاءا في تواضعه لمّا كان على الأرض، يتحدان مع مجد رفعته الفائق الآن في السماء، فتخرّ كل نفس عند قدميه ساجدة متعبِّدة لذاك المجيد الحاضر في وسطنا ليتقبل سجودنا وحمدنا. (3) «لا نتَّكِلُ على الجَسَد» أي أننا لا ننسى أن فينا عائقًا يعوق عبادتنا بالروح والحق، أعني به الجسد الذي هو ضد الروح القدس (غل 5: 17): فنشاط الجسد يعوق العبادة والسجود. وأعمال الجسد ومشاعره وأفكاره في عبادة الرب تهدم قبولها لديه. ورائحة الموت الكريهة تنبعث من كل ما يصدر عن الإنسان الطبيعي، ولذلك يجب أن يكون «لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ الْمَوْتِ، لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى اللهِ الَّذِي يُقِيمُ الأَمْوَاتَ» (2كو1: 9). وهكذا يجب أن نتخلى عن كل ثقة في الذات والجسد حتى لا يُعاق قبول سجودنا. ثالثًا: السجود والشركة :لقد قدَّم إبراهيم السجود للرب لأول مرة عندما كان ساكنًا عند بَلُّوطَاتِ مَمْرَا التي في حَبرُونَ، حيث بنى هناك مذبحًا للرب (تك13: 18؛ 18: 1, 2). و«حبرون» كلمة عبرية تعني "الشركة"، و«مَمْرَا» تعني "دسم" أو "شِبَع". ولا يوجد، على هذه الأرض ما يمكن أن يُشبعنا روحيًا غير الشركة مع الآب، ومع ابنه يسوع المسيح (مز16: 11). وفى هذا المكان، «حبرون»، مكان الشركة، قَبِلَ الرب ضيافة إبراهيم: أكل وشرب معه، جلس وتكلَّم إليه، وهذه هي المرة الوحيدة الفريدة التي حدثت في العهد القديم، أن يأكل الرب مع أي شخص، وهو ما يحدثنا عن الشركة. وفى هذا المناخ العطر والجو العبق، نقرأ عن السجود لأول مرة في الكتاب المقدس. وعندما يرتفع قلب المؤمن عن كل شيء حواليه أو داخله، ليمارس في حرية وسعادة الشركة مع الآب ومع الابن، فيشارك الآب في شبعه وسروره بالابن، ويشارك الابن في التمتع بنفس الحب الذي للابن من الآب، وبالتالي طاعة الابن وخضوعه وتكريسه ومحبته للآب، وإذ يفيض القلب بفرح شبعه بالآب والابن؛ هنا لا يمكن إلا أن تفيض الكأس رَيَّا في سجود التغني بما هو الآب والابن. وهكذا فإنه من المستحيل أن يُقدِّم السجود الحقيقي إلا المؤمن المتمتع بالشركة مع الرب. لقد جلست مريم أولاً عند قدمي الرب في شركة حميمة معه (لو10)، فقدّمت له السجود الحقيقي المُشبع لقلبه (يوحنا12). رابعًا: السجود وسلوك الغريب: لقد قدَّم إبراهيم السجود للرب أولاً عند باب الخيمة، عندما «ظَهَرَ له الرَّبٌ.. وهو جَالسٌ في باب الخيمة ... فلما نَظَرَ رَكَضَ ... من بَابِ الخَيمَةِ وسَجَدَ إلى الأرضِ» (تك18: 1، 2). والخيمة رمز للغربة، لأنه ليس لها أساس في الأرض. ولقد تحلَّى إبراهيم بصفات الغريب السائح، فكانت له هذه الأرض التي سكن فيها كمدينة غريبة، وكان هو نفسه غريبًا ساكنًا في خيامٍ (تك23: 4؛ عب11: 9، 13). ولقد ارتبطت الخيمة في حياة إبراهيم أيضًا بالمذبح (تك13: 18). والخيمة والمذبح يشيران إلى صفتين متلازمتين امتاز بهما إبراهيم: ففي الخيمة إقرار بأنه كان على الأرض غريبًا ونزيلاً... وفى المذبح الدليل على أنه كان ساجدًا لله...وفى الخيمة اعتراف بأن لا شيء له على الأرض... وفى المذبح البرهان على أنه يمتلك كل شيء في الله...فإن كان الله لم يُعطه ولا وطأة قدم في هذه الأرض، لكن الله - تبارك اسمه - كان هو نصيبه، وفى ذلك كل الكفاية له. كانت قدماه على الأرض، وكان قلبه غريبًا عن الأرض، متعلِّقًا بالرب وبأموره، وهذا ما كان يستحضر في داخله حاسيات السجود، ولذلك فعندما «ظهر له الرب... وهو جالسٌ في باب الخيمة ... ركض ... من باب الخيمة وسجد»! أوَ ليس إبراهيم في مركزه هذا مثالاً وأبًا لجميع الذين يؤمنون (رو4: 11، 12)؟ أ لسنا نحن أيضًا «غرباء ونزلاء» في هذا العالم (1بط2: 11)؟ أ ليس هذا هو المركز الحقيقي للمؤمن المسيحي اليوم (يو17: 14، 16)؟ فعلى قدر ما نحيا كغرباء ونزلاء في هذا العالم، منتظرين المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله (عب11: 10)، على قدر ما نسمو فوق ما حولنا من إغراءات وملذات، من آلام واضطهادات، وعلى قدر ما نتمتع بالشركة مع الله، وبهذا نستطيع أن نُقدِّم له السجود الحقيقي الذي يستحقه. خامسًا: السجود والسلوك في النور: إنّ تمتّع إبراهيم بالشركة مع الرب والسجود له للمرة الأولى، كان «وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ» (تك18: 1)، أي في الظهر، في النور. والوقت الذي نتمتع فيه بدسم الشركة مع الرب وامتياز تقديم السجود له، هو عندما نكون سالكين في نور محضر الله «اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ. إِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي الظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ الْحَقَّ» (1يو1: 5, 6) ولا يمكن التمتع بالرب إلا في نور معرفته والسلوك بنور كلمته «سراجٌ لِرِجْلِي كلاَمُكَ ونُورٌ لِسَبِيلِي» (مز119: 105). ولذلك يجب علينا أن نسلك في النور «كما هو في النور» (1يو1: 7) «جميعُكُم أبناءُ نُورٍ وأبنَاءُ نَهَارٍ. لسنا من ليلٍ ولا ظُلمَةٍ» (1تس5: 5). والسلوك في النور معناه طرح الخطية وإدانتها أمام الله باستمرار، بل واستحضار العجز والنقص باستمرار أمام الله، وبالإجمال: هو أن نعيش كل يوم، وكل اليوم، في حضرة الله. وفي حالة وجود شيء على الضمير، فإنه لا يمكن ممارسة السجود، وإلا فإننا نكون في عبادتنا كمن «يَذْبَحُ للسَّيِّدِ عَائبًا» (ملا1: 14)، وهو ما لا يمكن أن يقبله الرب. ومن ثم كانت الحاجة الدائمة إلى فحص وإدانة الذات أولاً بأول في محضر الله، حتى لا يبقى ما يُعطِّل الشركة والسجود للرب. سادسًا: السجود والصليب؛ أو المسيح في حياته وموته: في مشهد تكوين 18 سجد إبراهيم أمام الرب، ثم عبَّر عما في قلبه من تعبد وولاء بأن أسرع لاستحضار وتقديم ما يُشبع الرب. وماذا كانت المواد التي تألفت منها المائدة؟ ثلاثِ كيْلاتٍ دَقِيقًا سَمِيذًا صُنِعَتْ خُبْزَ مَلّةٍ، وعِجْلاً رَخْصًا وجَيَّدًا، وزُبْدًا ولَبَنًا (تك18: 6-8). وكل هذا يُكلِّمنا عن المسيح! المسيح في مجد شخصه! المسيح في موته! المسيح في نتائج عمله الكفاري! - «ثلاثِ كيْلاتٍ دَقِيقً» تُرينا ناسوت ربنا يسوع المسيح الذي فيه سُرَّ أن يَحِلَّ كُلُّ مِلءِ اللاهوتِ جَسَدِيًّا (لا2؛ كو1: 19؛ 2: 9). فالدقيق هو «خبز الحياة»، وعدد 3 هو عدد الثالوث أو الملء الإلهي. - «عِجْلاً رَخْصًا وجَيَّدًا» يمثِّل خدمة المسيح الكاملة لله، وفى ذبحه يشير إلى موت المسيح وذبيحته الكاملة الكافية (لو15: 23،27). - «زُبْدًا ولَبَنًا» يمثِّلان البركات التي صارت لنا في شخصه الكريم المجيد. وهكذا فإن شخص المسيح وموته هما أساس كل شركة حقيقية وكل سجود حقيقي، لأن إستعلان كل ما هو الله في ذاته، وما هو الله بالنسبة لنا، مُعلن في شخص الرب يسوع، ومرتبط بعمله على الصليب (يو1: 18؛ عب1: 1، 2). وعلى أساس كمال شخصه المجيد، وكفاية ذبيحته الفريدة، لنا أن ندخل إلى محضر الله، وأصبح في مقدورنا أن نتمتع بالله ذاته الذي أصبح نصيبنا بحسب محبته غير المحدودة في المسيح، وهذا هو أساس السجود. وعلى قدر ما في موت المسيح من إعلان عن الله؛ عن جلاله وعن قداسته، وعن حقه ونعمته، وعن رحمته ومحبته، وعن طريق التأمل في تلك الذبيحة العجيبة، تُقاد قلوبنا، بعمل الروح القدس، إلى الانسكاب تعبّدًا وسجودًا. وهكذا فإن السجود الحقيقي الآن يتميز بتذكار المسيح في موته الذي نمارسه في عشاء الرب، ويرتبط بمائدة الرب ارتباطًا خاصًا. ومن المستحيل أن نفصل بين السجود الروحي الحقيقي والشركة الحقيقية، وبين ذبيحة المسيح الكاملة الكافية. ومما يؤكد هذا الفكر أن المرة الثانية التي ذُكر فيها السجود في الكتاب المقدس، وردت في تكوين 22: 5 حيث نقرأ القصة التي وإن كانت تدور حول تضحية إبراهيم وطاعة إسحاق، غير أن الرائحة الذكية التي تفوح منها هي رائحة الكفارة والفداء والموت النيابي؛ رائحة الصليب. ففي هذه القصة نرى رمزًا مزدوجًا، لأن إسحاق والكبش المُمْسَك في الغَابَةِ بِِقَرْنَيْهِ، كليهما يرمزان إلى المسيح في الجلجثة؛ الابن الوحيد الحبيب الذي لم يُمسكه أبوه عن أن يُقدِّمهُ، والكبش الفدية التي أوجدها الله نفسه لنفسه (تك22: 7، 8؛ يو1: 29، 36). سابعًا: السجود والطاعة والخضوع: إن السجود الحقيقي لا بد أن يقترن بالخضوع القلبي الكامل لمشيئة الله الصالحة، بلا تذمر في القلب، وبلا احتجاج في الفم، بلا دمدمة ولا مجادلة، بل وفي ثقة كاملة في محبته التي لا تتغير، وفى حكمته التي لا تخطيء. ففي مشهد تكوين 22، لم يُطلب من إبراهيم ببساطة أن يخضع بطريقة سلبية لمشيئة الله، بل طُلب منه أن يعمل عملاً مخالفًا كل المخالفة للطبيعة الإنسانية، بل وشديد الوطأة على العواطف الأبوية، بما يؤلم ويسحق قلب الأب. لقد قال له الله: «يا إبراهيم!... خُذ ابنَكَ وَحِيدَكَ الذي تُحِبُّهُ إسحَاق، واذهبْ إلى أرض المُرِيَّا واصعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً على أَحَدِ الجبالِ الذي أقُولُ لَكَ» (تك 22: 1،2). فيا لصعوبة الامتحان! ويالثقل التجربة! إن الله يقول له: "يا إبراهيم!.. اعطني.. أنت.. بيدك.. ابنك مذبوحًا!". ويا لروعة تصرف إبراهيم! فلقد أطاع إبراهيم وخضع ونجح في هذا الامتحان. وفي هدوء تام، قام في الصباح الباكر وشَدَّ على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه، وشَقَّقَ حَطَبًا لِمُحرَقَةٍ، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله، وبنى هناك إبراهيم المذبح ورتَّبَ الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب! وبيد ثابتة، وقلب خاضع مغمور بالثقة في الرب، «مَدَّ إبراهيم يَدَهُ وأَخَذَ السِّكِّينَ لِيذْبَحَ ابنَه»، وكاد فعلاً يهوي بالسكين على فلذة كبده ليذبحه، لولا صوت السماء: «إبراهيم! إبراهيم!... لا تَمُدَّ يَدَكَ إلى الغُلاَمِ ولا تَفْعَل بِهِ شيئًا، لأني الآن عَلِمتُ أنك خائفٌ الله، فلم تُمسِكِ ابنكَ وَحِيدَكَ عَنِّي». إن غرض إبراهيم من الخضوع للرب وتقديم إسحاق مُحْرَقَةً كان هو السجود (تك 22: 5). ولكن لنلاحظ أن إبراهيم لم يذهب فقط لتقديم ابنه محرقة، بل كان من المهم جدًا أيضًا أن يُصعده في «الموضع الذي قال له الله» (ع3، 9). على الجبل الذي اختاره الله، جبل المُرِيَّا (ع2). وكلمة «المُرِيَّا» تعني "مرارة الله" وتعني أيضًا "مختار من الله". والواقع أن السجود في المكان الذي يختاره الناس لا يمكن أن يُرضي أو يُشبع قلب الله. فلا غرابة أن الهيكل الذي بناه سليمان كان في جبل المُرِيَّا (2أخ3: 1). وسجودنا اليوم هو سجود بالروح (بحسب طبيعة الله الذي هو روح)، وبالحق (بحسب إعلان الله عن ذاته في الكلمة)، فلسنا نسجد بعد في مكان معين (يو4: 21)، ولكن مبدأ الله يظل قائمًا «المكان الذي اخترته لأجل وضع اسمي فيه» (1مل9: 3؛ تث12: 5-15). وأين هو هذا المكان الآن؟ إنه - كما قال الرب يسوع نفسه - «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثةٌ باسمي (أو إلى اسمي) فهناك أكونُ في وَسْطِهِمْ» (مت18: 20). وعبثًا نُقدِّم سجودًا جماعيًا - صحيحًا كتابيًا - يكون مقبولاً عند الرب إلا في الاجتماع إلى اسم الرب، حيث لا رئيس للمتكإ إلا شخصه المجيد الحاضر في الوسط، ولا قائد منظور، بل الروح القدس الساكن في جميع المؤمنين هو الذي يرشد المؤمنين كل واحد بمفرده كما يشاء (أي كما يشاء الروح القدس - 1كو12: 11). ثامنًا: السجود والبذل والعطاء: إن السجود الحقيقي لا يعني مجرَّد تقديم بعض كلمات جميلة، أو عبارات منمّقة، أو ترنيمات شجية، أو ممارسة طقوس معينة، أو التقيد بنظام وقوانين. لكن السجود الحقيقي هو أسلوب معيشة، وتوجُّه حياة معناه تكريس قلبي كامل وتقديس أسمى لذواتنا وكل ما لنا لخدمة «رَبِّي وإِلهِي» في هذه الأرض، وأن ننظر بكل احترام إلى كل ما يتعلق بمجد الرب وكرامة اسمه وعظمة خدمته كأنها أمور حيوية وهامة وأساسية في حياتنا. والسجود الحقيقي يتضمن كل شيء له مساس بحياتنا الشخصية والبيتية، ويتناول كل تفاصيل الحياة العملية واليومية. كما أن السجود الحقيقي لا يتضمن العبادة العقلية فقط، بل أيضًا تقديم الثمين والغالي للرب، فالعطاء والبذل مرتبطان بالسجود (عب13: 16). ونحن نذكر أن داود في يومه، صعد - كما أمر الرب - ليبني مذبحًا في بَيْدَرِ أَرُوَنَةَ اليَبُوسِيّ، في جبل المُرِيَّا. وقد أظهر «أَرُوَنَةَ» رغبة صادقة في تقديم البيدر وكل ما يحتاجه إصعاد المحرقة من بقر وحطب مجانًا وبدون ثمن، ولكن داود رفض أن يُصعد للرب مُحرَقَاتٍ مَجَّانِيَّةً، واشترى البيدر والحقل والبقر بِفِضَّةٍ كَامِلَةٍ. وبنى داود هناك مذبحًا للرب، وأَصْعَدَ مُحرَقَاتٍ وذبائح سلامةٍ (2صم24: 18-25؛ 1أخ21: 18-26). وكان داود مُحِقًا في موقفه، فالذبيحة التي لا تكلِّف مُقَدِّمها شيئًا ليست ذبيحة. وفى مشهد تكوين18 سجد إبراهيم للرب، وماذا بعد؟ هل اكتفى بهذا؟ لقد عبَّر عما في قلبه من تعبد وولاء بأن أسرع لاستحضار وتقديم ما يُشبع ويُنعش الرب، وأسرع وأشرك معه سارة وغلامه في خدمة إشباع وإنعاش الرب. فأصبح بيت إبراهيم كله مشغولاً بإكرام الرب والتعبد والسجود له، وكأن لسان حال إبراهيم «وأما أنا وبيتي فَنَعبُدُ الربَّ» (يش24: 15). وفى مشهد تكوين 22 يلزمنا أن نرقب إبراهيم صاعدًا إلى جبل المُرِيَّا لكي نتعلم ماذا كان فكره من جهة السجود؟ هل كان إبراهيم صاعدًا ليأخذ شيئًا أم ليعطي؟ هل كان صاعدًا ليشاهد ويتأمل ويتكلَّم، أم كان صاعدًا ليُقدِّم ويبذل ويضحي؟ لقد كان صاعدًا لكي يُقدِّم أغلى وأفضل ما عنده لله «بالإيمانِ قَدَّمَ إبراهيمُ إسحاقَ» (عب 11: 17). كان صاعدًا لكي يسكب قلبه وأغلى ما يُحبُّه القلب أمام الرب، وهذا هو جوهر السجود؛ العطاء لا الأخذ. وهل كان ممكنًا لإبراهيم أن يُقدِّم لله أغلى مما قَدَّم؟ لقد كان إبراهيم غنيًّا جدًّا (تك13: 2؛ 24: 35)، ولكن ما قيمة بَقَره وغَنَمه وفضَّته وذَّهَبه، بدون إسحاق، ابنه وَحِيدَهُ، الذي يُحِبُّهُ؟ إذًا، عندما وضع إبراهيم ابنه إسحاق على المذبح ليُقدِّمه مُحْرَقَةً، إنما كان يقدِّم لله كل شيء، وهذا هو معنى السجود. لقد كانت النية في قلب إبراهيم حاسمة من جهة تقديم إسحاق، فذهب وفى يده الحطب والنار والسكين. ولكن ماذا عن إسحاق؟ لقد كان إسحاق أيضًا صاعدًا ليسجد (تك22: 5)، فماذا قَدَّم إسحاق على جبل المُرِيَّا؟ وماذا أعطى؟ لقد كانت الطاعة المطلقة عميقة في قلب إسحاق؛ فَقَدَّمَ نفسه لله، في تسليم كامل، وبكل خضوع. لقد «ذهبا كلاهما معًا» (تك 22: 6،8) إبراهيم ليُقدِّم ابنَه وَحِيدَهُ الذي يُجِبُّهُ... وإسحاق ليُقدِّم نَفْسَهُ... فيا لعظمة سجودهما! ويا لروعة ما قدَّما وبذلا! أيها الأحباء: إن السجود يتضمن كل أعمال التكريس التي تستوجب التضحية والبذل والعطاء، فنحن في السجود لا نأخذ بل نعطي. ولقد جاءت كلمة «السجود» لأول مرة في العهد الجديد مؤيِّدة هذا المعنى. فقد جاء المجوس إلى بيت لحم «ورأوا الصَّبيَّ مع مريم أُمِّهِ فَخَرُّوا وسَجَدُوا لهُ. ثم فَتَحُوا كُنُوزَهُم وقَدَّمُوا لَهُ ذَهَبًا ولُبَانًا ومُرًّا» (مت2: 11). فهل لنا أن نتعلم أن نُقَدِّم لله الآن كل ما يطلبه منا، وأن نضع على مذبح السجود أفضل ما نملك في المكان الذي يريده؟ ويا ليتنا - كمجوس المشرق - نفتح كنوز قلوبنا في محضره المبارك، وكما يقودنا الروح القدس، نُقدِّم سجودنا وتعبدنا بالروح والحق. فايز فؤاد |
جميع الحقوق محفوظة © لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.