كهنوت مؤمني العهد الجديد |
تطور العبادة عند القائلين بالكهنوت الحرفي 1- إن القسوس الذين نادوا بأنهم كهنة، بسبب اعتقادهم أن العشاء الرباني ذبيحة، أخذوا يقتبسون في أواخر القرن الثالث الكثير من طقوس (هـ) العبادة التي كانت تستعمل في الهيكل اليهودي قديماً[1]بعد صبغها بصبغة مسيحية، وبذلك يكون كهنوت هؤلاء القسوس تقليداً للكهنوت اليهودي (و) مع أن الكهنوت لم يكن إلا رمزاً إلى الكهنوت المسيحي. وبمجيء هذا الكهنوت أصبح ذاك بلا قيمة على الإطلاق. وبالإضافة إلى ذلك عملوا القداس رغبة منهم في توحيد العبادة في المسيحية كما هو متبع لدى الأديان الأخرى[2]، (غاضين النظر عن أن العبادة المسيحية لا تسير تبعاً لنظام بشرى مرسوم، بل تبعاً لإرشاد الروح القدس في كل مناسبة من المناسبات)، وقد وافقهم على ذلك معظم المتنصرين من اليهود، وذلك لتأثرهم مثل أجدادهم الذين عاشوا في العصر الرسولي بالأنظمة الموسوية التي ألفوها منذ نعومة أظفارهم. وقد أشار موسهيم إلى هذه الحقيقة فقال "لكن مع سطوة الرسل العظيمة، لم يكن ممكناً أن تستأصل بالكلية المحبة المتأصلة جذورها للناموس الموسوي من عقول اليهود المتنصرين، (ص40). 2- غير أن بعض المؤرخين يقولون[3]"إن الأساقفة عندما رأوا أن بساطة العبادة (أو بالحري روحانيتها وخلوها من المراسم والطقوس) التي كانوا يسيرون عليها حتى منتصف القرن الثالث، تثير تهكم الوثنيين واليهود ضدهم، وتجعلهم ينظرون إليهم نظرة الازدراء والاحتقار، عمل هؤلاء الأساقفة طقوساً للعبادة المسيحية، لكي يضعوا حداً لتهكم هؤلاء وأولئك. وهكذا دخلت الطقوس والمراسيم الدينية إلى بعض الجماعات المسيحية (كما يقول موسهيم) بدون اقتضاء أو رضى الناس الصالحين الراسخين، إذ أن السبب الأصلي في دخولها هو اعوجاج الجنس البشري، الذي يسر بالمظاهر الدينية أكثر من التقوى". وسواء أكان الرأي الأول هو الصواب، أم كان الثاني هو الصواب، فإن العبادة التي كانت في أول الأمر في منتهى البساطة، أخذت تحل محلها ابتداء من أواخر القرن الثالث، عبادة طقسية، يقوم بها الكثيرون بطريقة آلية، بعيدة كل البعد عن العلاقة الروحية مع الله. 3- ولما اعتنق المسيحية الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع، اتجهت الأنظار إلى اجتذاب معظم الملوك والأمراء إليها، فبذل بعض الأساقفة كل ما لديهم من جهد لإظهار العبادة المسيحية في أجمل مظهر يسر العيون والآذان، فشيدوا الكنائس الفخمة، وزينوها بالصور والتماثيل الجميلة، كما ارتدوا عند قيامهم بالصلاة ملابس خاصة مزركشة بخيوط ذهبية وأحجار كريمة. فضلاً عن ذلك، فقد استعملوا البخور (ز) والشموع (ح) كما جمعوا الكثير من الألحان الموسيقية، ووقعوا عليها الصلوات والتسابيح التي عملوها. وبعد ذلك أضافوا إلى الطقوس التي وصلت إليهم طقوساً أخرى تشد الحواس البشرية وتستهويها، فثار الروحانيون ضد الأساقفة المذكورين، وحاولوا العودة بالعبادة المسيحية إلى بساطتها الأولى، أو بالحري إلى روحانيتها الأولى، لكنهم لم يفلحوا كثيراً. لأن الأغلبية الساحقة من الناس في كل دين من الأديان، كانت (كما لا تزال) تجري وراء المظاهر الدينية، بما تحويه من أنظمة وحركات ونغمات جذابة. وقد وصف المؤرخون العبادة في هذا القرن، فقالوا إن الصلوات فقدت الكثير من بساطتها الأولى وصارت مفخفخة، أو بالحري ذات رونق جذاب. هذا هو تاريخ الكهنوت بالمعنى الحرفي أو التقليدي الذي صاغه بعض رجال الدين ابتداء من منتصف القرن الثالث. ولذلك فالقول (إن التاريخ الكنسي يثبت أن هناك فئة من المؤمنين كانت تدعى كهنة بالمعنى الحرفي منذ القرن الأول) لا نصيب له من الصواب. لأن كل المؤمنين الحقيقيين كانوا في القرن الأول يدعون كهنة بالمعنى الروحي، كما ذكرنا في القسم الأول. وفيما يلي جدول يوضح الفرق بين الكهنوت التقليدي أو الحرفي في العصر المسيحي، وبين الكهنوت اليهودي أو الرمزي، والكهنوت المسيحي أو الروحي، ليتجلى للقراء بسهولة الفرق بينه وبين هذين النوعين من الكهنوت.
مما تقدم يتضح لنا أن السبب الرئيسي في قيام الكهنوت بالمعنى الحرفي أو التقليدي لدى بعض المسيحيين، يرجع إلى اعتبارهم قول المسيح عن العشاء الرباني أنه جسده ودمه بالمعنى الحرفي، وذلك خشية أن ينحرفوا (حسب اعتقادهم) عن تعليمه. فغايتهم نبيلة ولكنهم في سبيل هذه الغاية، لم يلتفتوا إلى الاصطلاحات اللغوية، أو إلى حقيقة الخلاص بالإيمان الحقيقي دون سواه (أفسس2: 8)، أو إلى حقيقة اتصالنا بالمسيح في الوقت الحاضر بالروح، وليس بالجسد (2كورنثوس5: 16). كما اتضح لنا في الباب الأول. والغاية لا تبرر الواسطة. والحق إن موقف هؤلاء المسيحيين هو موقف الكثيرين في كل الأديان، فهناك من يعتقدون أنه نظراً لأن الله أعلن أن الفردوس الأبدي به أشجار ومياه، لا بد أن يكون فيها طعام وشراب ماديان. وهناك من يعتقدون أنه نظراً لأن الله يحاسب الناس على أعمالهم في الآخرة، لا بد أن يكون فيها ميزان كبير توضع السيئات في كفة منه والحسنات في كفة أخرى، غاضين الطرف عن أن عالم الروح لا أثر فيه للمادة على الإطلاق. أما من جهة الحالة الروحية للذين يشغلون مركز الكهنوت بالمعنى الحرفي لدى المسيحيين، وإن كان البحث فيها خارجاً عن نطاق دراستنا، لكن إحقاقاً للحق نقول إن هناك كثيرين بينهم يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً، ولهم تبعاً لذلك حياة أبدية. كما أنهم يتمسكون كل التمسك بالحقائق المسيحية الجوهرية ويدافعون عنها بكل قواهم. فضلاً عن ذلك فإنهم يقومون في عبادتهم الشخصية وحياتهم العملية، بالكهنوت المسيحي الروحي بدقة وإخلاص. كما يضحون في خدمتهم للرب بكل عزيز وغال لديهم، ولذلك يبارك الله خدمتهم هذه، فيجذب إليه كثيرين بواسطتها ويمتعهم بخلاصه الثمين. من ثم لا يسعنا إلا أن نرجو الله من أعماق قلوبنا أن يزيل كل العوائق التي أدت إلى انقسام المؤمنين الحقيقيين إلى طوائف متعددة، حتى يكونوا واحداً، وذلك تحقيقاً لغرضه الكريم المبارك (يوحنا17: 11)، وله المجد والإكرام إلى أبد الآباد. 67- ومما يثبت ذلك أنه جاء في سر "بخور البولس" الذي يرفع في أثناء القداس القول: "بخوراً روحياً تدخل به إلى الحجاب في موضع قدس أقداسك"- والحجاب وقدس الأقداس هما من مستلزمات الهيكل اليهودي. أما المسيحية (كما هي معلنة في الكتاب المقدس) فلا يوجد بها حجاب بيننا وبين الله، إذ أنه تعالى قد شقه من أعلى إلى أسفل عندما أكمل المسيح كفارته عنا على الصليب. وذلك للدلالة على كفاية هذه الكفارة، وترحيب الله بالخطاة التائبين في حضرته على أساسها. كما أنه لا يوجد بها قدس وقدس أقداس، بل يوجد بها أقداس فقط، وهذه الأقداس هي الأقداس السماوية، كما ذكرنا في القسم الأول. 68- ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن من أهم الأسباب التي جعلت القدماء يوحدون العبادة، هو وجود قسوس أميين وبعيدين عن الله كل البعد- وذلك لكي يحفظوا عن ظهر قلب عبارات العبادة المذكورة.. 69- عن المراجع الآتية (أ) تاريخ الكنيسة لموسهيم (ب)مختصر تاريخ الكنيسة لأندرو مولر (ج)ريحانة النفوس في أصل المعتقدات والطقوس. والمراجع التي سيشار إليها فيما بعد. |
جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.