كهنوت مؤمني العهد الجديد |
الحجج التي يقال بورودها في الإنجيل، والرد عليها 1- (إن قول المسيح عن خبز العشاء الرباني: "هذا هو جسدي". وقوله عن خمره: "هذا هو دمي" (متى26، مرقس14، لوقا22). دليل على أن العشاء المذكور يتحول إلى ذات جسد المسيح ودمه، وتبعاً لذلك يكون ذبيحة. ومن ثم مع كون جميع المؤمنين الحقيقيين في العهد الجديد، هم كهنة الله بالمعنى الروحي، يجب أن يكون بينهم كهنة بالمعنى الحرفي لتقديم ذبيحة العشاء الرباني). الرد: إن العشاء الرباني لا يسيل منه دم، ومن ثم لا يكون ذبيحة. أما القول (بأن العشاء الرباني ذبيحة غير دموية، لكونه ذات ذبيحة الصليب التي سفك دمها مرة) فلا يجوز الأخذ به، لأن الذبيحة التي يسفك دمها مرة لا يجوز تقديمها هي بعينها لله مرة أخرى. فضلاً عن ذلك لا يجوز لنا تقديم المسيح ذبيحة لله، لأن هذا العمل خاص به وحده. وقد قام به له المجد بمحض إرادته عندما قدم نفسه كفارة على الصليب. وعلى هذا الأساس دخل بدم نفسه إلى الأقداس السماوية، فوجد فداء، ليس لفترة خاصة من الزمن، بل إلى الأبد الذي لا نهاية له (عبرانيين9: 12)، الأمر الذي لا يدع مجالاً ليقدم نفسه إلى الله، أو نقدمه نحن إليه تعالى (إن جاز حدوث ذلك) مرة أخرى في العشاء الرباني أو في غيره، وبالإضافة إلى ما تقدم نقول: (أ)-إن خبز العشاء الرباني وخمره لم يتحولا إلى جسد المسيح ودمه عند قوله عن الأول إنه جسده، وعن الثاني إنه دمه، بل ظلا خبزاً وخمراً عاديين كما كانا من قبل- وهذا دليل على أن حديث المسيح عنهما كان حديثاً مجازياً[1]، لأن الاستحالة إذا لم تكن فعلية، تكون حتماً مجازية أو بالحري معنوية. ومما يثبت ذلك أننا إذا رجعنا إلى اللغة اليونانية، التي هي اللغة الأصلية للعهد الجديد.، نرى أن كلمة "هذا" المشار بها إلى كل من خبز العشاء الرباني وخمره، هي "توتو"، التي تستعمل للجماد. ومن ثم لو كان العشاء الرباني يتحول فعلاً إلى ذات المسيح (كما يعتقد القائلون بالاستحالة)، لكان له المجد قد أشار إلى كل من خبز العشاء المذكور وخمره بكلمة "هذا"، التي تستعمل في اللغة اليونانية للعاقل، وهذه الكلمة هي "هوتوس". لأن العشاء المذكور لا يكون في هذه الحالة جماداً، بل يكون هو المسيح بعينه. وكل ما في الأمر، لا يكون (كما يقولون) مدركاً بالحواس الجسدية. (ب)-أما عن التساؤل (إذا كان حديث المسيح عن العشاء الرباني مجازياً، فلماذا لم يقل عن الخبز (مثلاً): هذا يشير إلى جسدي، أو يرمز إليه؟) فنقول: إذا رجعنا إلى اللغات القديمة بصفة عامة، نرى أن الاصطلاحات "يرمز إلى" و "يشير إلى" و "يدل على" و "يمثل" و "يشبه"، لم تكن مستعملة كثيراً في هذه اللغات. ولذلك فالقول: "هذا يشير إلى جسدي" (مثلاً)، كان يعبر عنه فقط بالقول: "هذا هو جسدي[2]"، كما هو الحال لدينا في اللغة العربية. فنحن نقول عن شخص شجاع "إنه أسد". ولا نقول "إنه يشبه الأسد" ومن ثم نرى العلماء الذين يميلون إلى الترجمة المعنوية ترجموا قول المسيح "هذا هو جسدي"، بما تعريبه: "هذا يشير إلى جسدي" كما فعلوا تماماً في ترجمة الآية: "والصخرة كانت المسيح" (1كورنثوس10: 4). فقد قالوا في ترجمتها ما تعريبه "والصخرة كانت تشير إلى المسيح" ذلك لأنها لم تكن عين ذاته- اقرأ مثلاً ترجمة دكتور "موفات" الإنجليزية، للعهد الجديد. (ج)-فضلاً عن ذلك فإن الاعتقاد بأن العشاء الرباني يتحول إلى ذات جسد المسيح ودمه، ليس هناك ما يؤيده في الكتاب المقدس، وذلك للأسباب الآتية: (أولاً) إن المسيح ليس طعاماً مادياً يستقبل بالفم، بل طعاماً روحياً يستقبل في النفس., فقد قال له المجد "من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً" (يوحنا6: 35).. ولو فرضنا جدلاً إمكانية أكل المسيح بالفم تحت أي شكل من الأشكال، لعادت الفائدة على أجسادنا دون أرواحنا، وهذا يتعارض مع الحق الكتابي كله. (ثانياً) إن تلاميذ المسيح كانوا يرونه، عند تقديم العشاء الرباني لهم، جالساً بينهم كما هو، دون أن ينقص منه شيء ومن ثم أكلوا خبز هذا العشاء وشربوا خمره دون تردد أو فحص، بل ودون أي نفور من مذاق أو طعم، الأمر الذي لم يكن من الممكن حدوثه لو كانوا يعتقدون أن العشاء المذكور قد تحول إلى ذات جسد المسيح ودمه. (ثالثاً) إن الذي بذل نيابة عنا لم يكن خبز العشاء الرباني، بل الجسد الذي كان المسيح يعيش فيه وقتئذ. والذي سفك نيابة عنا لم يكن خمر هذا العشاء، بل دم المسيح الذي كان يجري وقتئذ في جسده المذكور، وذلك عندما قدم له المجد نفسه كفارة على الصليب[3]ومن ثم فقول المسيح عن الخبز إنه جسده الذي يبذل، وعن الخمر إنها دمه الذي يسفك، هو مجرد إشارة إلى أنه سيصلب ويسفك دمه. (رابعاً) إن المسيح قال عن الخمر التي كانت في كأس العشاء الرباني، بعد ما شكر وقدمها لتلاميذه، إنها "نتاج الكرمة" (متى26: 29، مرقس14: 25)، كما قال تماماً عن كأس الفصح اليهودي (لوقا22: 18) وهذا دليل على أنه لم يكن هناك فرق بين خمر العشاء الرباني بعد الشكر، وبين خمر الفصح اليهودي العادية. (خامساً) إن المسيح وإن كان من الممكن أن يوجد بلاهوته في كل مكان في وقت واحد، لكن لا يمكن أن يوجد بناسوته في أكثر من مكان واحد في وقت واحد. (لأن ناسوته كان يتحيز بحيز خاص. فعندما كان له المجد بجسده على الصليب مثلاً، لم يكن في ذات الوقت بجسده في أريحا أو غيرها من البلاد كما أن المسيح بتجسده لم يتحول ناسوته إلى لاهوته غير المحدود، بل ظل كما هو (الناسوت المحدود)، ولذلك ليس هناك مجال للقول بتحول العشاء الرباني الذي عمله المسيح، والذي يعمله المسيحيون الآن في ملايين البلاد في وقت واحد إلى ذات جسده ودمه له المجد. وإذا كان الأمر كذلك فحديثه عن هذا العشاء، هو حديث مجازي محض، كما ذكرنا. (د)كما أننا إذا رجعنا إلى باقي حديث المسيح عن العشاء الرباني، نرى المجاز أيضاً واضحاً كل الوضوح. فقد قال عن الكأس إنها العهد الجديد بدمه، مع أن هذا العهد ليس هو ذات الكأس أو السائل الذي كان فيها. لأنه (أي العهد) ليس شيئاً مادياً بل معنوياً، إذ يراد به معاملة الله للمؤمنين الحقيقيين بالنعمة المجانية على أساس الدم الكريم، الذي سفك مرة على الصليب. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المسيح كان يكثر من استعمال المجاز في أقواله، وذلك لكي يبرر بعض المعاني الروحية بصورة واضحة يدركها الذين كان يتحدث إليهم حق الإدراك. فقد قال عن نفسه إنه خبز الحياة (يوحنا6: 35)، والماء الذي يروي العطاش (يوحنا7: 12)، والباب الذي يخلص كل من دخل بواسطته (يوحنا10: 9)، والطريق الذي يؤدي إلى الآب (يوحنا14: 6)، والراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يوحنا10: 11) والكرمة الحقيقية (يوحنا15: 1). كما قال عن هيرودس الملك إنه الثعلب (لوقا12: 32) وعن رياء الفريسين إنه الخمير (متى16: 6)، لا يبقى هناك مجال للاعتراض على أن حديث المسيح عن العشاء الرباني كان حديثاً مجازياً كما ذكرنا. (هـ) أخيراً نقول إن المسيح لم يعط العشاء الرباني لتلاميذه، لكي يقدموه بدورهم كذبيحة لله لأجل التكفير عن خطاياهم. حتى كان يجوز الظن بأنه يتحول إلى ذبيحته الكفارية التي قدمها مرة على الصليب (كما يقال) بل أعطاهم إياه لكي بالأكل والشرب منه، يتذكرون محبته الفائقة التي تجلت في ذبيحته هذه، حتى تطيب قلوبهم وتظل على ولائها له في كل حين، وذلك لأجل خيرهم وفائدتهم. فقد قال لهم "اصنعوا هذا لذكري" (لوقا22: 19). وإذا كان الأمر كذلك، فلا مجال للقول بأن العشاء الرباني يتطلب كهنة بالمعنى الحرفي، لكي يقدمونه لله. 2- (إن المسيح قال عن خبز العشاء الرباني إنه جسده الذي "يعطى لمغفرة الخطايا"، وهكذا الحال من جهة الخمر التي استعملها في هذا العشاء. فقد قال عنها إنها دمه الذي "يعطى لمغفرة الخطايا". ومن ثم يكون العشاء الرباني ذبيحة كفارية لغفران الخطايا، تتطلب وجود كهنة بالمعنى الحرفي). الرد: (أ) بمضاهاة هاتين العبارتين على ما جاء في الكتاب المقدس بشأنهما، نرى بهما تحريفاً ليس بالقليل. فقد سجل لوقا عن المسيح أنه أخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطى تلاميذه. ثم قال لهم "هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري" (لوقا22: 19). وسجل متى أن المسيح أخذ الكأس وشكر وأعطاها لهم، ثم قال: "اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (متى26: 27). ومعنى هاتين الآيتين ينحصر في أن جسد المسيح الذي بذل على الصليب، وأن دمه الذي سفك عليه، هما اللذان على أساسهما تغفر الخطايا. لكن العبارة الواردة في الحجة التي نحن بصددها، مقتبسة من "القداس". وقد أضاف كاتبه كلمة "يعطي"، قبل عبارة "لمغفرة الخطايا" الواردة في حديث المسيح عن الخمر. كما أضاف عبارة "يعطى لمغفرة الخطايا"بأكملها، إلى حديث المسيح عن الخبز، لكي يؤيد الاعتقاد السائد لديه، بأن التناول من العشاء الرباني يغفر الخطايا، وتبعاً لذلك يكون ذبيحة كفارية!! (ب) أما الثمن الوحيد للغفران الذي أعلنه الكتاب المقدس، فهو كفارة المسيح، لأنها هي التي وفت جميع مطالب العدل الإلهي من جهة خطايانا. ونظراً لأن الله في محبته التي لا حد لها قدم لنا هذا الغفران، بما يترتب عليه من تبرير، هبة مجانية (رومية3: 24)، فقد جعل السبيل الوحيد للتمتع به، هو الإيمان الحقيقي، لأنه هو الذي يهيئ النفس لقبول المسيح وخلاصه الثمين. فقد قال جميع الأنبياء عنه "إن كل من يؤمن به، ينال باسمه غفران الخطايا" (أعمال10: 43). كما قال المسيح عن الناس قاطبة "حتى ينالوا بالإيمان بي، غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين" (أعمال26: 18)- أما جعل التناول من العشاء الرباني هو السبيل للحصول على الغفران، ففضلاً عن عدم وجود أساس له في الكتاب المقدس كما ذكرنا فإنه يحول السبيل إلى الغفران من عمل روحاني في النفس بواسطة التوبة والإيمان الحقيقي، إلى عمل جسماني بواسطة الأكل والشرب الماديين، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ المسيحية جميعاً. (ج) وبالإضافة إلى ما تقدم نقول: (أولاً) إن الكتاب المقدس ينفي وجود أي قربان أو ذبيحة بعد كفارة المسيح، وذلك بسبب إيفائها لكل مطالب عدالة الله إلى الأبد كما ذكرنا. فقد قال: "وإنما حيث تكون مغفرة لهذه (الخطايا). لا يكون بعد قربان عن الخطية" (عبرانيين10: 18). (ثانياً) إن الرسل لم يعينوا كهنة للقيام بالعشاء الرباني، كما أنهم لم يسندوا القيام به إلى القسوس[4]الذين عينونهم (حتى كان يجوز الظن أنه من الواجب أن يضعوه مثلاً بين أيديهم وينالوا منه راغبي الاشتراك فيه)، بل أسندوه إلى المؤمنين عامة كما يتضح من (1كورنثوس11: 23) ولذلك فالعشاء الرباني لا يكون ذبيحة، وبالتبعية لا يستلزم لممارسته وجود كهنة بالمعنى الحرفي في العهد الجديد. 3- (إن المسيح قال لنا عن العشاء الرباني "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يوحنا6: 53- 54)، ولذلك فإن هذا العشاء هو ذبيحة كفارية تتطلب وجود كهنة بالمعنى الحرفي). الرد: (أ) إن السبيل إلى الحياة الأبدية الذي أعلنه الوحي في كل سفر من أسفاره بكل وضوح وجلاء، هو نفس السبيل إلى الغفران الذي ذكرناه فيما سلف، وهذا السبيل هو الإيمان الحقيقي بالمسيح. فقد قال له المجد "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا3: 16). وقال "إن كل من يرى الابن (بقلبه) ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يوحنا6: 40). وبما أنه لا يمكن أن يكون هناك سبيلان مختلفان للحصول على الحياة الأبدية الواحدة. أحدهما بواسطة الإيمان الحقيقي للمسيح. والثاني بواسطة الأكل من جسده والشرب من دمه بالفم. إذاً فالأكل من جسد المسيح والشرب من دمه الوارد في الحجة التي نحن بصددها، لا يراد به المعنى الحرفي بل الروحي. والمعنى الروحي له هو الإيمان الحقيقي بالمسيح (أو بالحري قبوله في النفس رباً ومخلصاً لأجل إحيائها، مثل قبول الطعام في الجوف للإبقاء على حياة الجسد). فقد قال المسيح بعبارة صريحة "من يقبل إلي (بقلبه)، فلا يجوع. ومن يؤمن بي (بقلبه) فلا يعطش أبداً" (يوحنا6: 35). كما ذكرنا. ولا غرابة في ذلك، فالاختبار العملي، إلى جانب الآيات التي ذكرناها يدل على أن الحياة الأبدية هي فقط بواسطة الإيمان الحقيقي. لأننا نرى أشخاصاً يواظبون على التناول من العشاء الرباني في كل أسبوع وفي كل يوم، ومع ذلك يحيون حياة بعيدة عن الله كل البعد، مما يدل على أنه ليست لهم حياة أبدية. بينما نرى المؤمنين الحقيقيين في كل الطوائف المسيحية دون استثناء، يحيون باستمرار حياة التقوى والقداسة، حتى إذا حالت أحياناً بينهم وبين الاشتراك في هذا العشاء عقبات (مثل المرض والسفر)، الأمر الذي يدل على أنهم بإيمانهم الحقيقي، لهم هذه الحياة. (ب)فضلاً عما تقدم نقول: (أولاً) إن المسيح لم يكن يتحدث قبل الآيات الواردة في الحجة التي نحن بصددها (إذا جاز أن تسمى حجة)، عن التناول من العشاء الرباني، حتى كان يجوز الظن بأنها خاصة به، بل كان يتحدث عن الإيمان بشخصه. فقد قال قبلها "هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله". كما قال "إن كل من يرى الابن (بقلبه) ويؤمن به، تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير". (يوحنا6: 29، 40) كما ذكرنا فيما سلف. (ثانياً) إن المسيح نطق بهذه الآيات في أوائل خدمته بين الناس، بينما أقام العشاء الرباني قبيل صلبه بساعات، وليس من المقول أنه كان يتحدث مع الناس في أوائل خدمته عن موضوع، لم يكن قد أعلن لهم شيئاً عنه بعد لكن المعقول أنه كان يتحدث معهم وقتئذ عن وجوب الإيمان به، لأن هذا الموضوع هو الذي يتناسب مع أوائل خدمته بينهم. (ثالثاً) إن معظم الذين وجه المسيح إليهم هذه الآيات، كانوا غير مؤمنين أو مؤمنين بالاسم (يوحنا6: 30و 41و 42)، وأمثال هؤلاء لا يتحدث المسيح معهم عن العشاء الرباني، بل عن الإيمان بشخصه- لأن ممارسة هذا العشاء خاصة بالمؤمنين الحقيقيين، إذ أن هؤلاء وحدهم هم الذين يقدرون عظمة كفارة المسيح ويعرفون فوائدها المتعددة- ولذلك لا جدال في أن الآيات المذكورة خاصة بالإيمان الحقيقي بشخصه، أو بالحري بقبوله رباً ومخلصاً في النفس لأجل إحيائها كما ذكرنا. (ج) هذا وقد أدرك علماء المسيحيين منذ القرون الأولى أن حديث المسيح عن التغذي بجسده ودمه الوارد في (يوحنا6)، يراد به المعنى المجازي أو بالحري الإيمان الحقيقي بشخصه، كما ذكرنا. فمن المأثور عن يوسابيوس أنه قال في شرحه للآية "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يوحنا6: 63) : "كأن المسيح يقول للتلاميذ، لا تظنوا إني أتكلم معكم عن الجسد الذي أنا حامله، كأن هذا يجب أن يؤكل. ولا تظنوا إني أقدم لكم دمي الطبيعي لكي تشربوه. لكن اعلموا أن الكلمات نفسها التي كلمتكم بها هي روح وحياة. حتى أن ذات كلامي (كأنه) لحم ودم، والذي يخصصه لنفسه كأنه يقتات بطعام سماوي، كما يكون شريكاً في الحياة السماوية ومن المأثور عن أوغسطينوس أنه قال: "إن حديث المسيح عن الأكل من جسده والشرب من دمه، لا يجوز فهمه حرفياً، لأن نعمته لا تقبل بالأسنان"ز وعن أثناسيوس أنه قال: "إن التناول من جسد المسيح ودمه لا يكون إلا روحياً[5]أي أن هذا التناول لا يكون بالفم مع الاعتقاد في النفس بأن الخبز والخمر هما ذات جسد المسيح ودمه (كما ذهب البعض)، بل يكون باستقبال النفس (وليس الفم) للمسيح، وذلك ليكون مخلصاً وحياة لها. 4- (إن المسيح قال "لأن جسدي مأكل حقيقي، ودمي مشرب حقيقي" (يوحنا6: 55)- وهذا دليل على أن خبز العشاء الرباني وخمره يتحولان إلى ذات جسد المسيح ودمه، ومن ثم يكون العشاء الرباني ذبيحة تتطلب كهنة بالمعنى الحرفي). الرد: فضلاً عن أن حديث المسيح هذا ليس خاصاً بالعشاء الرباني، بل بالإيمان الحقيقي بشخصه كما ذكرنا فيما سلف، نقول: إن الحقيقي ليس عكس الروحي بل عكس الوهمي. لأن الروحيات حقائق. وإذا كان الأمر كذلك، فحديث المسيح الذي نحن بصدده، يجب أن يفهم بالمعنى الروحي لأن أكل جسد المسيح وشرب دمه بالمعنى المادي (إذا جاز حدوث ذلك) فضلاً عن أنه ليس له أساس في الكتاب المقدس- لأن علاقتنا بالمسيح هي علاقة روحية لا مادية (2كورنثوس5: 16)- فإن أكل الأول وشرب الثاني بالمعنى الحرفي، لا يعود علينا بفائدة روحية، إذ لا سبيل إلى هذه الفائدة إلا بقبول المسيح في النفس بواسطة الإيمان الحقيقي، كما يتضح من الوحي والاختبار معاً. 5- (قال المسيح "فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك" (متى5: 23- 24)- فهذه الآية تدل على أن هناك قرباناً ومذبحاً في العهد الجديد. لأنه لا يمكن أن يكون القربان والمذبح هنا، هما القربان اليهودي والمذبح اليهودي، وذلك لسببين، (الأول) إن القربان اليهودي، والمذبح اليهودي انتهت مهمتهما بمجيء المسيح، وليس من المعقول أن يطلب المسيح منا أن نعمل عملاً انتهت المهمة الخاصة به. (الثاني) إن المسيح قال لليهود قبل هذه الآية "قد سمعتم أنه قيل للقدماء... وأما أنا فأقول لكم..."، أي أقول لكم أمراً جديداً لا علاقة له بالعهد القديم وذبائحه. وإذا كان الأمر كذلك، يكون القربان الوارد في هذه الآية هو العشاء الرباني. ويكون المذبح هو المذبح المسيحي، الذي يوضع عليه العشاء المذكور. وهذا دليل على وجود كهنة بالمعنى الحرفي). الرد: فضلاً عن أن العشاء الرباني ليس ذبيحة كما ذكرنا، فإن كل القرائن تدل على أن المذبح والقربان المذكورين في هذه الآية، هما "المذبح اليهودي" و "القربان اليهودي"، وذلك للأسباب الآتية: (أ) إن مجرد نظرة إلى هذه الآية (والآيات الموجودة قبلها وبعدها)، ترينا أن المسيح كان يتحدث مع اليهود عن عمل كانوا يمارسونه وقتئذ، وليس عن عمل كانوا عتيدين أن يمارسوه في المستقبل، إن كانوا سيؤمنون بشخصه. كما أن القربان اليهودي لم تنته مهمتهما بمجيء المسيح إلى الأرض، بل بتقديم نفسه على الصليب كفارة عن البشر. والدليل على ذلك أنه كان يوصي بتقديم القرابين والذبائح اليهودية في أثناء خدمته على الأرض. فمثلاً عندما شفى مرة رجلاً أبرص، قال له "اذهب. أر نفسك للكاهن، وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم" (متى8: 4)، مع أن هذا التصرف لا مجال له في العهد الجديد الذي نعيش فيه الآن. (ب)إن المسيح عندما نطق بهذه الآية، لم يكن قد قدم العشاء الرباني لتلاميذه، أو أعلن لأحد الناس شيئاً عنه بعد، ولذلك لا يعقل إطلاقاً أن يكون قد قدم الوصية الواردة بالآية المذكورة، عن هذا العشاء. لأن الوصية لا تكون عن أمر لا يعرف الناس عنه شيئاً. فإذا أضفنا إلى ذلك، أن المسيح لم يكن يخاطب وقتئذ أشخاصاً عينهم للقيام بالعشاء الرباني في المستقبل، بل كان يخاطب اليهود عامة، أدركنا أنه لا يراد بهذا القربان، إلا الذبائح الحيوانية التي كان هؤلاء يقدمونها لله في العهد القديم. (ج)فضلاً عما تقدم، فإن كلمة "قدام" في قول المسيح: "فاترك قربانك قدام المذبح"، تدل على أن المراد بالمذبح هنا، هو المذبح اليهودي أيضاً. إذ أن هذا المذبح هو الذي كان من الجائز أن تترك الحيوانات قدامه، في حالة ذهاب مقدمها لمصالحة أخيه. أما العشاء الرباني عند المؤمنين بالاستحالة إذا ترك في مثل هذه الحالة، فلا يترك قدام مذبحهم بل عليه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المسيح قال قبل الآية الواردة في الحجة التي نحن بصددها "ومن قال لأخيه رقا (أو بالحري: تافه أو فارغ العقل) يكون مستوجب المجمع" (متى5: 22). والمجمع الذي له سلطة الحكم على من قال لأخيه هذه الكلمة، لم يكن له وجود إلا في النظام اليهودي كما نعلم، اتضح لنا أن المذبح المذكور في هذه الآية هو المذبح اليهودي ولا شك. وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن قول المسيح لليهود "قد سمعتم أنه قيل للقدماء... وأما أنا فأقول لكم..."، لا يراد به إلا تصويب أفكار اليهود من جهة الطريقة التي كانوا يمارسون بها عبادتهم، وذلك بنقلها من الحالة الشكلية أو الآلية التي كانوا يمارسونها بها، إلى الحالة القلبية التي قصدها الله، حتى في العهد القديم. (د)أخيراً نقول: إن علماء الأرثوذكس عرفوا منذ القرون الأولى أن المذبح والقربان في الآية التي نحن بصددها، يراد بهما المذبح اليهودي والقربان اليهودي، وأن المؤمنين في العهد الجديد لا يفيدون من النصيحة (أو الوصية) الخاصة بهما، إلا من الناحية الروحية وحدها، ولذلك قالوا "قربان الله هو الصلاة والشكر (وليس هو العشاء الرباني، أو ذبيحة مادية للتكفير عن الخطية). فإذا كان بينك وبين أخيك وجد[6]، أو لأخيك عليك طلب، فصلاتك لا تستجاب قدام الله، ولا يقبل شكرك" (الدسقولية ص94). 37- أما وجه الشبه بين الخبز والخمر وبين جسد المسيح ودمه، فهو أن الخبز لم يصبح خبزاً إلا بعد أن اجتاز في النار، وأن الخمر لم يصبح خمراً إلا بعد أن انعصر العنب في المعصرة والمسيح له المجد لم يصبح كفارة إلا بعد أن اجتاز في نار دينونة عدالة الله وانعصر أو انسحق تحت تأثيرها (إشعياء53: 5). 38- عن (أ) The Secrament of Eucharist P. 27. (ب) Adam Clarke's Commentary-Mathew, Ch., 26. 39- أما القول (المسيح قدم نفسه كفارة في العشاء الرباني بطريقة سرية، لأنه أبى أن ينتظر حتى يقدمه اليهود كفارة على الصليب بطريقة منظورة) فلا يجوز الأخذ به. إذ فضلاً عن أن المسيح لم يمت عندما قدم هذا العشاء لتلاميذه عوضاً عنا، فإن اليهود لم يقدموه للصليب ككفارة بل كمذنب. وكل ما في الأمر أن المسيح انتهز كراهيتهم له على الصليب، وأظهر لهم كل محبة وعطف، فكفر عنهم وعن غيرهم من الناس. فضلاً عن ذلك لو فرضنا جدلاً أنه قدم نفسه كفارة بطريقة ما عند تقديم العشاء المذكور، لما كان قد قدمها كفارة بعد ذلك على الصليب، لأن العبرة ليست بما نراه ونعلمه نحن، بل بما يراه ويعلمه هو. 40-هناك فرق كبير بين الكهنة وبين القسوس، كما يتضح في الباب التالي. 41- عن (أ) نظام التعليم في علم اللاهوت القويم. (ب) ريحانة النفوس في أصل المعتقدات والطقوس. (ج) شرح كلمة Eucharist ومترادفاتها في دوائر المعارف الإنجليزية. 42- "الوجد"- بفتح الواو والجيم هو "الحزن". |
جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.