لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

المسيح المتألم

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

3

آلام المسيح

نوعا الألم في الجلجثة

يجدر بنا قبل الخوض في تفاصيل هذا المزمور العظيم أن نفهم هذه الحقيقة الأولية؛ أن المسيح على الصليب تألم من مصدرين؛ من الله ومن البشر. ويمكن أن نضيف مصدراً ثالثاً، لكننا سنعتبر الشيطان والناس فريقاً واحداً.

لقد ظل المسيح على الصليب ست ساعات، من الساعة التاسعة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر حسب توقيتنا الحاضر. ولقد كان في الثلاث ساعات الأولى نور، بينما غطى الكون الظلام في الساعات الثلاث التالية. والمسيح تكلم في أثناء ساعات النهار بثلاث عبارات؛ صلاة إلى الآب، ثم توصية وتسليم ليوحنا الحبيب وللمطوبة مريم، وأخيراً وعد وتعزية للص التائب. لكن من الساعة 12 (نصف النهار) حتى الساعة 3 بعد الظهر عندما كانت ظلمة على وجه كل الأرض، فإن المسيح لم ينطق في هذه الفترة بأية كلمة، وبعدما مرت تلك الساعات، نطق الرب بأربع عبارات في تتابع سريع، قبل أن يسلم الروح في يدي الآب.

والفارق كبير بين آلام المسيح في هاتين الفترتين.

l فالمسيح تألم في الفترة الأولى من يد البشر؛ وبالتالي فإنه تألم كشهيد. وهو إن كان له النصيب الأوفر من هذه الآلام، لكن كان نوع آلامه التي تحملها من يد الإنسان هي من ذات نوع آلام باقي الشهداء. فبطرس مات مصلوباً، وكثير من الشهداء ماتوا ميتات بشعة. وهكذا المسيح تألم من يد البشر كشهيد. لكن ليست هذه الآلام هي التي خلصتنا، بل الآلام التي احتملها المسيح من يد الله.

l ولقد كان ما احتمله المسيح من يد البشر ظلماً فاضحاً. أليس عجيباً حقاً أن يقول بيلاطس لم أجد فيه علة واحدة، ثم يستطرد قائلا: فأنا أؤدبه وأطلقه (لو23: 14،15)! فإن كان لا يوجد فيه علة واحدة فعلام يؤدبه؟! ثم لما لم تنجح محاولة تخليصه من أيدي الشاكين الحاسدين قال: «إني برئ من دم هذا البار» .. ثم «أسلمه ليصلب» (مت27: 24-26)! ومرة أخرى نقول: أي عدل هذا أن يُصلب البار؟!

لكن على الجانب الآخر فإن ما احتمله المسيح من الآلام من الله الديان كان بالعدل. لقد كان المسيح في ساعات الظلام يسدد ديناً علينا، كان من المحتم سداده. نتذكر أن الرسول بولس كان قد تعهد أمام فليمون من جهة العبد أنسيمس قائلاً «أنا أوفي». والأرجح أن بولس لم يعوض فليمون بشيء إذ كان سجيناً ولا يمتلك شيئاً، أما المسيح فكما نقول في ترنيمتنا الجميلة

قد وفي ديني
حينما مات لذا

 

كله الحمل
قال قد كمل

وكأنه من فوق الصليب قال لله: إن ما ظلموك به والدين الذي لك عليهم، احسبه على، وأنا أوفي. وهذا ما نجده في أمثال 8: 20،21 حيث يقول المسيح «في طريق العدل أتمشى في وسط سبل الحق، فأورث محبيَّ رزقاً وأملأ خزائنهم».

ثم إن المسيح في ساعات النهار كان يتألم كشهيد من أجل البر. فكما قتل قايين أخاه هابيل لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة، هكذا أيضاً اليهود الأشرار أبغضوا المسيح البار «هذه هي الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة» (يو3: 19). أما في ساعات الظلام فكان المسيح يتألم بسبب الخطية، لا بسبب البر؛ لا الخطية التي عملها هو له المجد، حاشا، بل الخطية التي أدخلها الإنسان إلى العالم، والخطايا التي ارتكبها المؤمنون جميعا! وما أرهبها من آلام!!

عن هذه الآلام يقول النبي «والرب وضع عليه إثم جميعنا»، وأيضا «أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم» (إش53: 6، 10) ومن كان يستطيع أن يفعل ذلك سوى الرب نفسه؟!

كانت هناك معركة غير منظورة في الجلجثة. والمسيح فيها سحق رأس الحية (إبليس)، ولو أنه في هذه المعركة تم سحق عقب المسيح. ولقد قال أحدهم في ذلك إن كلمة «يسحقه بالحزن» الواردة في إشعياء 53: 10 تختلف عن «وأنت تسحقين عقبه» المذكورة في كلام الرب للحية في تكوين 3: 15، فالكلمتان في الأصل العبري مختلفتان، وهي في إشعياء 53 أشد وأقسى. الله في ساعات الظلمة سحق المسيح إذ جعل نفسه ذبيحة إثم. ومع أن المسيح لم يصرخ صرخة واحدة عندما كان يعاني على أيدي البشر القساة، ولم يفعل مثل يوسف الذي استرحم إخوته، فهو كان يعلم بكل ما يأتي عليه، ولو أراد لطلب إلى أبيه فأرسل إليه إثني عشر جيشاً من الملائكة، لكن ذاك الذي احتمل كل العذابات من أيدي البشر صرخ من سيف رب الجنود الذي استيقظ عليه ليضربه، وبهذا العمل تم سحق رأس الحية، ولو أن الشيطان استخدم الأشرار لسحق عقب المسيح.

l وعندما كان المسيح في ساعات النهار يتألم كشهيد من أجل البر، عندما كان يتألم من البشر بالظلم، فإنه كان في ذلك قدوة ومثالاً لنا. إنه بحق الرائد في طريق سلكه قبله وبعده الملايين من البشر. في هذا يقول الرسول بطرس «فإن المسيح أيضا تألم لأجلنا، تاركاً لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته» (1بط 2: 21). دعنا لا ننسى هذا الأمر أنه مطلوب منا أن نسير في ذات الدرب وراء المسيح. وعندما يتركنا الأصدقاء ويتفرق عنا الخلان كما حدث مع الرسول بولس في آخر أيامه (2تي4: 16) ليتنا لا ننسى أن المسيح اختبر هذه الآلام أيضاً. أما الآلام الكفارية فلقد سار سيدنا وحده في «سبيل لم يعرفه كاسر، ولم تبصره عين باشق، ولم تدسه أجراء السبع، ولم يعده الزائر» (أي28: 7،8).

l لكن ليس هذا فقط، بل هناك نتيجتان مختلفتان لهذين النوعين من الآلام. الآلام التي احتملها بالظلم من يد البشر نتيجتها دينونة مروعة سوف تنصب عن قريب على العالم. فالمسيح كان فيها يسلم لمن يقضي بعدل (1بط2: 23)، والرب ينظر ويطالب (2أخ24: 22). وما أخطر هذا؛ فالله سيطالب ليس فقط بدم زكريا النبي قائل هذه العبارة، بل بداية من أول شهيد، كقول الرب له المجد «لكي يأتي عليكم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا ابن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح» (مت 24 : 35). وإن كان دم الشهداء لن يمر بدون انتقام، فكم بالأحرى دم المسيح ؟! «كم عقاباً أشر تظنون يحسب مستحقاً من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنساً، وازدرى بروح النعمة» (عب10: 29).

هذا الأمر نراه في مزمور 69 والذي يصور لنا آلام المسيح بالظلم من يد البشر. لهذا يقول «لتصر مائدتهم قدامهم فخاً وللآمنين شركاً، لتظلم عيونهم عن البصر وقلقل متونهم دائماً، صب عليهم سخطك وليدركهم حمو غضبك، لتصر دارهم خراباً وفي خيامهم لا يكن ساكن، لأن الذي ضربته أنت هم طردوه» (مز69: 22-28). إن الذي يقضي بالعدل لن يسكت إلى الأبد على ظلم البار، وسيجلب قضاءه الرهيب على هذا العالم، ولو أن كل تائب مؤمن سيعفي من تحمل هذا الوزر الثقيل، وذلك نتيجة صلاة المسيح للآب أن يغفر لهم. وأما المتهاونون والمحتقرون فياويلهم حقاً!!

أما الآلام التي احتملها المسيح من يد الله فلن يعاقب عليها أحد. فمن ذا الذي يعاقب لأن المسيح أخذ الكأس من يد الآب؟ لكن ليس فقط لا عقوبة، بل إن هذه الآلام تجلب البركة غير المحدودة للإنسان. وهو ما سنراه في القسم الثاني من المزمور.

الآلام التي خلصتنا

دعنا نلاحظ في البداية أن آلام المسيح من يد البشر كانت خاتمة لطريق طويل من عدائهم نحوه، بدأ من أول وصول خبر مولده لهيرودس (مت2)، واستمر ملازماً له كل حياته. أما آلامه من يد الله فكانت شيئاً غريباً تماماً، على عكس ما اعتاده طول حياته، ولهذا فإنه صرخ من هول تلك الآلام.

ثم أن المسيح لم يجبر على تحمل الألم، ولو أراد أن يستعفي من الصليب ما كان أسهل ذلك عليه، لكنه قبله لأنه أحبنا «من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب (تحت غضب العدل الإلهي) مستهيناً بالخزي (من يد البشر)» (عب12: 2).

وإذا أردنا أن نعقد مقارنة بين نوعي الآلام التي احتملها المسيح في الصليب، فإننا نقول إن المصدر مختلف (الله والناس) والنوع مختلف (العدل والظلم) والطابع مختلف (بسبب الخطية وبسبب البر) والتوقيت مختلف (ساعات الظلام وساعات النور) والنتيجة مختلفة (البركة والقضاء).

أو نتوسع قليلاً في هذه الاختلافات بحسب الجدول الآتي:

ساعات النور

ساعات الظلام

المسيح يتألم من يد البشر

المسيح يتألم من يد الله

المسيح يتألم بالظلم

المسيح يتألم بالعدل

المسيح يتألم كشهيد

المسيح يتألم كنائب

نرى المسيح باعتباره قدوة ومثـال

نرى المسيح كمخلص وفـادٍ

الحية تسحق عقب المسيح

المسيح يسحق رأس الحية

النتيجة قضاء رهيب على غير التـائبين

النتيجة بركة عظمى للمـؤمنين

ومرة أخرى نؤكد أن الآلام التي خلصتنا ليست تلك التي كانت من يد الإنسان، بل التي كانت من يد الله. فليس أن حمل المسيح للصليب وخروجه به خارج المحلة، وليس شربه الخل والمرار. نقول ولا حتى دق المسامير في يديه أو رجليه، ولا إكليل الشوك على رأسه، إن كل هذا لم يكن كي يعيدني المسيح إلى حماه فأحيا معه. كلا، ليست آلامه من يد البشر هي التي أعادتني، إنما الذي أعادني هو ساعات الترك من الله وما احتمله من آلام رهيبة في ساعات الظلمة الثلاث. بدون كفارة لا خلاص. والله وليس الإنسان هو الذي قدم المسيح كفارة (رو3: 24،25)، وهو الذي «جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه» (2كو5: 21).

إن الآلام القاسية التي من يد الإنسان كانت هي المدخل الذي دخل منه الرب إلى تنور الآلام الأقسى؛ أعني بها الآلام التي من يد الله . «والرب وضع عليه إثم جميعنا» «أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن أن جعل نفسه ذبيحة إثم». ولهذا فقد قال الله «استيقظ يا سيف على راعي ورجل رفقتي أضرب الراعي» (إش53: 6،10، زك13: 7).

الكفارة وضرورتها

هذا المزمور الذي يحدثنا عن موت المسيح على الصليب يشير في بدايته إلى قداسة الله (ع3) وفي نهايته إلى بر الله (ع31). الأمر الذي يدل على أن خلاص الإنسان الخاطئ كما هو معلن في الكتاب المقدس لم يكن على حساب قداسة الله وبره، بل على أساس قداسته وبره.

وقداسة الله تعتبر الخطية نجاسة يجب تغطيتها من عيني الله القدوس، فعينا الله أطهر من أن تنظرا الشر، (انظر حبقوق1: 12،13)، وبر الله يعتبر الخطية تعدياً، وكل تعد يجب أن ينال مجازاة عادلة (عب2: 2)، وعليه فإنه يستلزم ترضية عن التعدي الذي تم. وهذا هو المدلول المزدوج للكفارة؛ تغطية وترضية.

بر الله إذاً وقداسته استلزما الكفارة، فلا خلاص أو فداء بدونها، كقول المرنم «الأخ لن يفدى الإنسان فداء، ولا يعطى الله كفارة عنه» (مز49: 7). وحقاً من كان يستطيع أن يفدي أخاه والجميع خطاة ويحتاجون هم أنفسهم إلى من يفديهم. لهذا يستطرد المرنم في المزمور قائلاً «وكريمة هي فدية نفوسهم فغلقت إلى الدهر» (مز49: 8).

لكنها إذ أغلقت على البشر، فلا شيء يستغلق على الله (مز68: 20). ولما تساءل القديسون الأقدمون : كيف يتبرر الإنسان عند الله وكيف يزكو مولود المرأة ؟ (أي9: 2،3 – 25: 4)، ولم يعرفوا حلاً لهذه الأحجية، تقدم أليهو باقتراح لحل هذه العقدة فقال «إن وجد (عند الله) مرسل وسيط واحد من ألف، يعلن للإنسان استقامته، يتراءف عليه ويقول أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة؛ قد وجدت فدية» ( أي 33: 23). وكأن أليهو يريد أن يقول: لو رتب الله الكفارة من عنده، عندئذ فقط يمكن حل الأحجية.

لكن كيف يبرر الله الإنسان المذنب النجس؟ إن عدل الله يأبى تبرئة المذنب كقول الكتاب «الرب الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان.. . ولكنه لن يبرئ إبراء» (خر34: 6،7). وكقول الحكيم «مبرئ المذنب، ومذَنِّب البريء كلاهما مكرهة الرب» (أم17: 15). فكيف تغلب الله على هذه المشكلة؟؟

الحل هو في موت البديل البريء نيابة عن المذنب، «لأن أجرة الخطية هي موت» (رو6: 23). ولقد أتى المسيح بنفسه من السماء، وقبل الموت نيابة عنا. وبهذا الأسلوب الوحيد أمكن لله أن «يكون باراً ويبرر من هو من الإيمان» (رو3: 26)، لأن العدالة استوفت الحق كاملاً من المسيح على الصليب (انظر 2كو5: 21، غل3: 13، رو8: 3، عب9: 26، 1بط2: 24، 3: 18).

لقد كان من السهل على الله أن يقضي على العالم بأسره بكلمة، وهو ما سيفعله في المستقبل (2بط3: 7)، وكان من السهل عليه أيضاً أن يخلق عالماً جديداً كالعالم القديم الذي خلقه بكلمه (عب11: 2). نعم نقول إن هذا كان سهلاً أمام قدرة الله السرمدية. أما أن يبرر الخاطئ فلم يكن الأمر سهلاً، لأن الله لا يمكن أن يعمل بما يتعارض مع صفاته، ومكتوب إن «العدل والحق قاعدة كرسيه» (مز97: 2). هذا يعطي تفسيراً لمعنى القول «ليكون (الله) باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع» (رو3: 26). لقد كان الإنسان محتاجاً للتبرير، وما كان يمكن لله أن يبرر الأثيم إلا على أساس العدل، فمسائل العدالة لا تسيرها سوى العدالة. ومن هنا كانت حتمية الكفارة. وعن طريق الصليب الله تبرر والإنسان الخاطئ تبرر. لأنه ما أن تتقرر أمامنا هاتين الحقيقتين؛ شر الإنسان، وبر الله، حتى يصبح موت المسيح لا بديل عنه، إن كان الله يريد أن يخلص الإنسان. وفي صليب المسيح اجتمع من صفات الله ما قد يبدو للعيان متعارضاً «الرحمة والحق التقيا، البر والسلام تلاثما» (مز85: 10).

اعتراضات على الكفارة

يظن البعض أن الكفارة في المسيحية لها جذور وثنية، لأن العديد من الديانات الوثنية في العالم تتضمنها. لكن علينا أن نفهم جيداً أن فكرة الكفارة في المسيحية ليست مستمدة إطلاقاً من الفكر الوثني، بل هناك فارق كبير وجوهري بين الكفارة في الوثنية والكفارة في المسيحية، اختلاف في السبب والمصدر والطبيعة.

أولاً: سبب الكفارة: في الوثنية تقدم الكفارة للإله لأنه حاد الطبع متقلب المزاج، فتحاول الكفارة استرضاءه، أما في المسيحية فسبب الكفارة هو بر الله وقداسته.

ثانياً: طبيعة الكفارة: الوثنيون يقدمون أي شيء؛ أية هدية تصلح أن تقدم للإله لتكون كفارة. ومن لا يملك شيئاً فإنه بوسعه أن يعذب جسده! أما في المسيحية فإن الكفارة تقضي بموت بديل لأن «أجرة الخطية هي موت»، «وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (رو6: 23، عب9: 22). فكان يلزم ذبيحة طاهرة بلا عيب ولا دنس. وما كانت تصلح الذبائح الحيوانية، بل كان يلزم أن يكون الفادي إنساناً (1تي2: 5). فكم هى كريمة حقاً هذه الكفارة!

ثالثاً: مصدر الكفارة: في الوثنية مصدر الكفارة هو الإنسان وأعماله، أما في المسيحية فهو الله. الله الذي أرسل ابنه كفارة (1يو4: 10)، والذي قدم ابنه كفارة (رو3: 25). فإن كان بر الله وقداسته استلزما الكفارة، فإن محبة الله ونعمته جهزتاها. ولقد رأى الله في الأزل الحمل الذي يصلح له «حمل الله» (1بط1: 18، يو1: 29،35)، وفي ملء الزمان أرسله (غل4:4)، وهو بذل نفسه فدية عندما مات فوق الصليب (1تي2: 5،6، تي2: 13).

ويعترض البعض الآخر على فكرة الكفارة بالقول: هل من العدل أن البريء يضرب من أجل الأثمة؟ والإجابة طبعاً ليس هذا عدلاً لو كان البريء أجبر عليه، أما عندما يظهر المسيح استعداده الكامل طوعاً واختياراً بأن يدفع هذه الغرامة نيابة عني، فهذا لا يتعارض مع العدل في شيء. لقد قبل المسيح ذلك بسرور، إذ كان يعلم أن موته وحده فيه تمجيد الله وفيه خلاص الإنسان.

والمسيح في كل حياته على الأرض مجد الآب وهو يعمل الخير للإنسان، ثم مضى إلى الصليب ليموت هناك حتى يمجد الله أيضا كنائب عن الإنسان. في حياته مجد الآب بعمله الصلاح الذي لم يعمله الإنسان، وفي موته مجد الله بتحمله عقوبة الشر الذي لم يعمله هو، وفي الحالتين كان يفعل مشيئة الذي أرسله.

وبهذا العمل فإن الله استراح. نتذكر أنه في العهد القديم كثيراً ما أعلن الله غضبه على الخطية ودينونته الرهيبة عليها. حدث هذا في الجنة (تك3)، ثم تكرر بصورة أقسى في الطوفان (تك6-8)، ومرة أخرى تكرر بصورة أبشع في حريق سدوم وعمورة (تك18،19). وهذا هو الدرس الرئيسي الذي أراد الله أن يعلمه لشعبه في الذبائح المتكررة بغير نهاية والتي كانت النيران دائماً تلتهمها. لقد أراد الله أن يعلم شعبه القديم مقدار كراهيته للخطية، ولهذا ما كانت النار تطفأ مطلقاً من فوق المذبح حيث التهمت نار الله ما لا يحصى من الذبائح. لقد أتت النيران التي تمثل غضب الله ضد الخطية على كل الذبائح، ولم تخمد تلك النار مطلقاً، إذ لم تستطع تلك الذبائح الحيوانية أن تسكت غضب الله. حتى جاء المسيح، فاستطاع له المجد في ساعات الظلمة الرهيبة أن يحتمل دينونة الله الكاملة على الخطية، وأن يقول «قد أكمل»، وبذلك فقد سكن غضب الله إلى الأبد.

أمواجه هدأتها
إذ كنت عنا نائباً

 

إلى التمام يا قدير
على الصليب يا نصير

ماذا تم في الكفارة؟

مر بنا أن هناك معنى مزدوجاً للكفارة نفهمه من الكلمة العبرية في العهد القديم التي ترجمت كفارة، وهي "تغطية"، والكلمة اليونانية في العهد الجديد التي ترجمت أيضاً كفارة وهي "ترضية". فلقد تم تغطية الخطايا تماماً من نظر الله، ليس خطايانا فقط بل كل العالم أيضاً (1يو2: 2). ما أعجب هذا! وليس تغطيتها فحسب بل إن ذبيحة المسيح عملت ما هو أكثر؛ فالخطايا، أي الأفعال التي فعلناها والتي تهين الله رفعت «تعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا، وليس فيه خطية» (1يو3: 4). ثم إن النبع الفاسد الذي فينا أُدين، والكيان الفاسد تم صلبه في صليب المسيح (رو6: 6، 8: 3)، ولهذا يأتي القول «أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه» (عب9: 26).

عن هذه المشكلة المزدوجة تتحدث الرسالة إلى رومية، فهي تتحدث من أصحاح1 إلى 5: 11 عن الخطايا. ثم من أصحاح5: 12 إلى أصحاح8 تتحدث عن الخطية. وأسبق من رسالة رومية تحدث داود عن هذه المشكلة المزدوجة فقال «طوبى للذي غفر إثمه (الأفعال الخاطئة)، وسترت خطيته (أي الأصل الفاسد الذي فيه)» (مز1:32). وهو عين ما ذكره إشعياء في الرؤيا التي فيها رأى الملك رب الجنود عندما طار إليه واحد من السرافيم وبيده جمرة من على المذبح ومس بها شفتيه قائلاً له «هذه قد مُست شفتيك فانتزع إثمك (الخطايا الفعلية)، وكُفر عن خطيتك (الأصل الرديء)» (إش6:6،7).

لكن هناك جانباً آخر لموت المسيح لا علاقة مباشرة له بالخطية أو الخطايا؛ أعني به المحرقة. فالمسيح أتى من السماء ليس فقط ليعالج مشكلة الخطية (سلبياً)، بل لعمل ما فيه مجد الله قبل أي شيء آخر. هذا هو جانب المحرقة «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت» (مز40: 8). فالمحرقة لا تنظر إلى الموضوع السلبي لتعالجه، بل إلى الناحية الإيجابية ؛ ناحية الرضا، لتأتي به.

وعمل المسيح أزال كل ما هو سلبي وأتى بكل ما هو إيجابي. ونلاحظ أن فكرة الكفارة تتكرر في كل من المحرقة وذبيحة الخطية وذبيحة الإثم، مع هذا الفارق أنه في المحرقة يرد الجانب الإيجابي؛ جانب الرضا «يرضى عليه للتكفير عنه» (لا1: 4)، بينما ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم يذكر فيهما الجانب السلبي «يكفر عنه .. فيصفح عنه» (لا4: 26، 31، 35، 5: 16، 18،..). ويرتبط بهذا أن كلاً من ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم كانت إجبارية لا اختيارية، بعكس المحرقة التي كانت تطوعية. ولهذا فعندما نقرأ عن موت المسيح كذبيحة الخطية، نقرأ أن الله وضعه إلى تراب الموت، وأنه جعله خطية لأجلنا (2كو5: 21)، وأن الله جعل نفس المسيح ذبيحة (خطية) (إش53: 10). بينما عندما نقرأ عن موت المسيح كالمحرقة نقرأ أنه مضى للصلب بإرادته (يو19: 18)، ولم يجبر عليه إطلاقاً «ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي» (يو10: 18)، «ليفهم العالم أني أحب الآب وكما أوصاني هكذا أفعل» (يو14: 31)، «والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو10: 11)، «وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب» (في 2: 8).

ولأن هذا المزمور يحدثنا عن ذبيحة الخطية فإنه يشار فيه إلى أن الرب هو الذي وضعه إلى تراب الموت (ع15). وهذه العبارة تأخذ فكرنا إلى تكوين 3: 19 حيث يقول الرب لآدم «لأنك تراب وإلى تراب تعود». ونلاحظ أن المسيح لا علاقة له بالتراب لا أصلاً ولا مآلاً. إن آدم الإنسان الأول أصله تراب (1كو15: 47)، وإلى التراب عاد (تك3: 19). لكن المحبة قادت المسيح لهذا الموت النيابي والكفاري. فهو حقاً ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل إبراهيم (عب2: 16)، ولكي يمسكنا كان يجب أن يصل إلى حيث وصلنا؛ إلى تراب الموت!

هذا هو موضوع هذا المزمور؛ آلام المسيح. ونحتاج إلى نعمة كبيرة من الروح القدس لنكون في شركة مع ذلك المتألم الحبيب، ونحن ننظر الموضع من بعيد. هي ليست آلام شخص عادي، إنها آلام حبيبنا؛ آلام ابن الله الذي لأجلنا ربط، ولأجلنا صلب، ولأجلنا ضرب، ولأجلنا مات موت اللعنة!!

قاسى ربي كلَّ هذا
بل وسيفُ العدلِ جازَ

نكسَ الرأسَ أخيراً
فلك نجثو بحبٍ

 

وتحملَ العنا
فيه كي أنجو أنا

مائتاً عن الخطاهْ
أيها الربُ الإلهْ

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.