لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

أيوب وأصحابه

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

بقلم

تشارلس ماكينتوش

2001

هل جعلت قلبك على عبدي أيوب ؟

(أيوب 8:1)

 تمهيد

يشغل سفر أيوب مركزاً سامياً في الكتاب المقدس، وله ميزة خاصة لا يشاركه فيها أي سفر آخر، فهو يلقي علينا دروساً لا يتسنى لنا أن نجدها في غيره. وليس غرضنا هنا بأي حال من الأحوال أن نبحث في صحته، أو أن ندلي بالأدلة على صدق الوحي به، فإننا نعتبر أن هذه قضية لا جدال فيها ولا غبار عليها، كما أننا نعتقد أن كل ما جاء بهذا السفر إنما هو حقائق ثابتة لذلك نترك البراهين عليها لمن هو أكفأ منا، وإننا لنقبل سفر أيوب كجزء من الكتاب المقدس المُعطَى من الله لفائدة وبركة شعبه، ولست في حاجة لأي برهان على ذلك، كما أننا لا نحاول أن نقدم للقراء أي برهان من هذا القبيل.

زد على ذلك أنه ليس في فكرنا مطلقاً أن نلج باب البحث والاستقراء فيما يتعلق بوضع هذا الكتاب، ومهما يكن هذا الأمر جليلاً ونافعاً في حد ذاته، فإننا نعتبره أمراً ثانوياً ويكفينا أن نأخذ السفر من الله. ثم إننا نقرر بكل ثقة أنه سفر موحى به، وليس من شأننا أن نبحث عن كاتبه أو عن زمان ومكان كتابته. وقصارى القول إننا نقصد بمعونة الله أن نُبسِّط للقراء بعض ملاحظات اختبارية عن سفر نرى ضرورة قراءته بإمعان وروية، حتى تنجلي غوامضه، ويُفهَم فَهمَاً تاماً. ليت الروح الأزلي الذي كتب هذا السفر يشرحه لنا ويطبقه على نفوسنا.

***

1

يُفتَتَح هذا السفر الجليل بمنظر نرى فيه أيوب تَحفُّ به جميع الوسائل التي قد تجعل العالم ساراً له، مبهجاً لقلبه، كما تجعله عظيماً يشار إليه بالبنان:

«كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب. وكان هذا الرجل كاملاً ومستقيماً، يتقي الله ويحيد عن الشر» (1:1)

وفي هذا ما يكفي للدلالة على ما كان عليه أيوب. والآن دعنا نرى ماذا كان عنده:

«وولد له سبعة بنين وثلاث بنات. وكانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف جمل، وخمس مئة فدان بقر، وخمس مئة أتان، وخدمه كثيرين جداً. فكان هذا الرجل أعظم كل بني المشرق. وكان بنوه يذهبون ويعملون وليمة في بيت كل واحد منهم في يومه، ويرسلون ويستدعون أخواتهم الثلاث ليأكلن ويشربن معهم» (3:1، 4).

ولكي تكون عندنا صورة كاملة له نرى أن الوحي يسرد لنا ما عمل:

«وكان لما دارت أيام الوليمة، أن أيوب أرسل فقدسهم، وبكَّر في الغد وأصعد محرقات على عددهم كلهم لأن أيوب قال: ربما أخطأ بنيَّ وجدَّفوا على الله في قلوبهم. هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام» (ع 5).

وهنا نجد مثال رجل منقطع القرين، فلقد كان كاملاً ومستقيماً يتقي الله ويحيد عن الشر، وفضلاً عن ذلك، فإن يد الله سيّجَت حوله وأغدقت عليه وابلاً من النِّعَم حتى كان عنده كل ما يتمناه القلب، أولاد، وغنى جزيل، شرف ومقام عالٍ يميزه عمن حوله. ومجمل القول كانت كأسه ريَّا بالبركات الأرضية.

على أن أيوب كان في حاجة للامتحان. فلقد تأصلت في أعماق قلبه جذور البر الذاتي، التي كان لزاماً أن تخرج وتُكشَف وتُفحَص فحصاً دقيقاً. وإننا لنرى هذه الجذور ظاهرة في نفس الكلمات التي فاه بها إذ يقول: «ربما أخطأ بنيَّ». وهنا خير شاهد على أنه لا يحسب حساباً لإمكان سقوطه هو نفسه في الخطية، إذ من المعلوم أن النفس التي حكمت على الذات، النفس المنحنية أمام الله، الشاعرة بحالتها وأميالها وما هي عليه، هذه النفس لا بد أن تفكِّر في خطيتها، وحاجتها إلى تقديم مُحْرَقة عنها.

والآن ليكن القارئ على بينة من أن أيوب كان مؤمناً حقيقياً، له حياة أبدية، فهذا لا يحتاج إلى شرح مُسهَب، لأن أيوب كان رجل الله، كما في الأصحاح الأول هكذا في الأصحاح الثاني والأربعين. وإذا لم ندرك هذه الحقيقة فعندئذ نفقد درساً من الدروس المهمة التي ينطوي عليها هذا السفر. وإننا لنجد في العدد الثامن من الأصحاح الأول ما يؤيّد هذا الأمر ويدحض كل اعتراض في هذا الصدد إذ يقول:

«فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأن ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر» (ع 8)

ولكن مع كل هذا نجد أن أيوب لم يسبر غور قلبه ولم يعرف ذاته تماماً. استعصى عليه إدراك حقيقة خرابه الكلي وفساده الكامل. لم يتعلم أن يقول: «فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح» (رو 18:7) هذه الحقيقة هامة إذا لم ندركها تعذَّر علينا أن نفهم سفر أيوب. كذلك إذا لم نعرف أن ضمير أيوب لم يكن أمام الحضرة الإلهية، وأنه لم يرَ نفسه في النور الإلهي. لم يقسها على المقياس الرباني، ولم يزنها في موازين المقادس السماوية. أقول إننا إذا لم نصل إلى استيعاب هذه الحقائق فمن المُحال أن نفقه كُنه الغرض الذي لأجله جاز أيوب في كل هذه الاختبارات العميقة والامتحانات المؤلمة.

ولو رجع القارئ إلى الأصحاح التاسع والعشرين لرأى برهاناً ساطعاً لما نقول، إذ يُشاهَد جلياً جذور البر الذاتي والافتخار بمحاسن النفس نامية في قلب عبد الرب العزيز المشهور، كما أنه ينظر كيف أن البركات الأرضية التي زوّده بها الله قد آلت إلى زيادة نمو هذه الجذور. على أن هذا الفصل هو رثاء مؤثر ونحيب مؤلم على تلك الأيام التي خبا ضياؤها وانطفأ نورها، ويتضح من عباراته ونغماته كيف كان من الضروري أن يُجرَّد أيوب من كل شيء كي يدرك ذاته في نور الحضرة الإلهية. والآن لنَعِر أذناً صاغية لما يقول:

«يا ليتني كما في الشهور السالفة وكالأيام التي حفظني الله فيها، حين أضاء سراجه على رأسي، وبنوره سلكت الظلمة. كما كنت في أيام خريفي، ورضا الله على خيمتي، والقدير بعد معي وحولي غلماني، إذ غسلت خطواتي باللبن، والصخر سكب لي جداول زيت. حين كنت أخرج إلى الباب في القرية، وأهيئ في الساحة مجلسي. رآني الغلمان فاختبأوا، والأشياخ قاموا ووقفوا. العظماء أمسكوا عن الكلام، ووضعوا أيديهم على أفواههم. صوت الشرفاء اختفى، ولصقت ألسنتهم بأحناكهم. لأن الأذن سمعت فطوبتني، والعين رأت فشهدت لي، لأني أنقذت المسكين المستغيث واليتيم ولا معين له. بركة الهالك حلّت علىَّ، وجعلت قلب الأرملة يُسَرُّ. لبست البر فكساني. كجنة وعمامة كان عدلي. كنت عيوناً للعمي، وأرجلاً للعُرج. أب أنا للفقراء، ودعوى لم أعرفها فحصت عنها. هشمت أضراس الظالم، ومن بين أسنانه خطفت الفريسة. فقلت: إني في وكري أُسلِّم الروح، ومثل السمندل (الرمل) أُكثِّر أياماً. أصلي كان منبسطاً إلى المياه، والطل بات على أغصاني. كرامتي بقيت حديثة عندي، وقوسي تجددت في يدي. لي سمعوا وانتظروا، ونصتوا عند مشورتي. بعد كلامي لم يثنوا، وقولي قطر عليهم. وانتظروني مثل المطر، وفغروا أفواههم كما للمطر المتأخر. إن ضحكت عليهم لم يصدقوا، ونور وجهي لم يعبسوا. كنت أختار طريقهم وأجلس رأساً، وأسكن كملك في جيش، كمن يعزي النائحين. وأما الآن فقد ضحك عليَّ أصاغري أياماً، الذين كنت أستنكف من أن أجعل آباءهم مع كلاب غنمي» (أي 2:29 -25، 1:30).

هذه أقوال بالغة، بلا شك، الحد الأقصى من العظمة، وإننا نلتمس عبثاً العثور فيها على أي أثر للروح المنسحقة المنكسرة، كما أنه ليس هنالك أية إشارة تشعر بعدم الثقة بالنفس أو التقزز من الذات. ويتعذر علينا أيضاً أن نجد عبارة واحدة تنبئ عن الشعور بالضعف والإحساس بالفراغ، بل بالعكس نشاهد خلال هذا الأصحاح أن أيوب يشير إلى نفسه أكثر من أربعين مرة في حين أنه يشير إلى الله خمس مرات فقط وهذا يعيد إلى ذاكراتنا الأصحاح السابع من الرسالة إلى أهل رومية حيث نجد كلمة «أنا» يغلب ذكرها ولكن شتّان بين الاثنتين فـ «أنا» في تلك الرسالة هو شخص يقر أنه إنسان مسكين ضعيف لا حول له ولا قوة غير نافع بالمرة. خليقة محتقرة أمام ناموس الله المقدس. بينما «أنا» في أيوب أصحاح 29 هي كناية عن شخص ينبئ عن نفسه أنه ذو نفوذ وجاه يُعجب به الجميع، ويكاد الكل أن يخروا له سُجَّداً.

من هذا نجد أن تجريد أيوب من كل ما كان عنده كان أمراً ضرورياً. ولو راجعنا الأصحاحين التاسع والعشرين والثلاثين لرأينا كيف كانت عملية التجريد مُرّة ومؤلمة ولذا لا غرابة إذا وجدنا أيوب يضع نبرات حادة على الكلمتين «وأما الآن»، فهو يعمل مقارنة بينة بين ماضيه وحاضره ومع أنه لا يزال في الأصحاح الثلاثين مشغولاً بنفسه ولا يفتأ يقول «أنا» ولكن ما أعظم الفرق بين هذه وتلك الواردة في الأصحاح التاسع والعشرين، فالناس الذين كانوا يتملقونه ويصيغون له عقوداً من المديح والثناء أيام سعادته ورفاهته أصبحوا يحتقرونه في أيام ضيقته ومحنته. وهذا هو الحال دائماً أبداً مع هذه الدنيا الدنيئة الخادعة، وما أجمل التحقق من ذلك لنعلم أن كل واحد - طال الزمان أو قصر - لا بد أن يظهر له نفاق هذا العالم وغدره وتقلب الذين نراهم اليوم يصيحون ملء أفواههم «أوصنا. أوصنا» وإذا بهم في الغد ينادون «اصلبه. اصلبه». حقاً إن الإنسان لا يوثق به ولا يُتكل عليه. كل شيء حسن وجميل ما دامت الشمس تسطع بأشعتها الذهبية، ولكن إذا ما هبّت عواصف الشتاء القارسة عندئذ ترى الطبيعة اللطيفة الوادعة قد تغيرت وتنكرت. هكذا كان حال الابن الضال (لو 15)، إذ لما صارت لديه أموال طائلة وجد كثيرين يشاركونه فيها، ولكن لما نضب ما عنده وبدأ يحتاج «لم يعطه أحد».

هكذا كان الحال مع أيوب، كما يُرى في الأصحاح الثلاثين، ولكن لنذكر أن هناك أموراً هي أكثر لزوماً من تجريد الذات ومعرفة زوال الدنيا وغرورها، إذ قد يمر الإنسان خلال هذه الأدوار كلها فلا تكونالنتيجة غير الوقوع بين مخالب الهموم وبراثن الأحزان والاستسلام للفشل. ولا مندوحة من ذلك ما لم يصل الإنسان إلى رؤية الله ومعرفته. ولنثق أنه إذا لم يجد القلب شبعه ونصيبه في الله فإن تبدّل الحال من غنى إلى فقر أو ما أشبه يملأه بالقنوط واليأس، كما أن عجم عيدان الناس ومعرفة تقلباتهم وفراغهم يزيده مرارة وحزناً وهذا هو السبب الذي حدا بأيوب لأن ينطق بهذه العبارة: «أما الآن فقد ضحك علىَّ أصاغري أياماً، الذين كنت أستنكف من أن أجعل آباءهم مع كلاب غنمي». أكان هذا روح المسيح؟ أنطق أيوب بمثل هذا الكلام في آخر السفر؟ كلا أيها القارئ العزيز، إذ عندما اقترب أيوب إلى الله، تلاشى ما هنالك من العُجب والكبرياء الذي نراه في الأصحاح التاسع والعشرين، كما انتهت المرارة المجسمة في أصحاح ثلاثين.

ولكن اسمع أيضاً ما يدلي به أيوب:

«أبناء الحماقة، بل أبناء أناس بلا اسم، سيطوا من الأرض. أما الآن فصرت أغنيتهم، وأصبحت لهم مثلاً! يكرهونني. يبتعدون عني، وأمام وجهي لم يمسكوا عن البسق. لأنه أطلق العنان وقهرني، فنزعوا الزمام قدامي. عن اليمين الفروخ يقومون يزيحون رجلي، ويعدون عليَّ طرقهم للبوار. أفسدوا سبلي. أعانوا على سقوطي، لا مساعد عليهم. يأتون كصدعٍ عريض. تحت الهَدَّة يتدحرجون» (أي 8:30 -14).

والآن يمكننا أن نقرر بحق أن هذه الأقوال لم تُصب المرمى، وهي بعيدة عن الغرض، ومُحال أن تجر مَغنماً، فرثاء المجد الدارس وتوجيه قوارص التعبيرات وقذائف السباب ضد رفاقنا لا يجدي القلب نفعاً ولا يُظهِر شيئاً من روح وفكر المسيح، كما أنه لا يعود بالمجد على اسمه القدوس. ولو اتجهت أنظارنا إلى الرب يسوع المبارك حينما كان على الأرض لرأينا ما يخالف هذا اختلافاً تاماً، فإن ذلك الوديع المتواضع قابل مقاومة العالم له ورفضه إياه، وكل إخفاق وسط شعب إسرائيل، وشكوك تلاميذه وجهالتهم، كل هذا قابله بقوله: «نعم أيها الآب، لأنه هكذا صارت المسرة أمامك» (مت 26:11). واستطاع أن يبتعد عن مقاومات البشر ويكون في الشركة مع الله حيث مصدر كل بركة، وعندئذ ينطق بتلك الكلمات الزكية التي يفوق عبيرها نشر الخزامى: «تعالوا إليَّ .. وأنا أريحكم». وإن ذلك المخلِّص المُمَجَّد، الذي نزل من السماء إلى هذه الأرض الملعونة، ليُظهِر محبة الله الكاملة للناس، ذلك الذي سار في جهاده وخدمته رغماً عن عداوة الناس المستحكمة، ذلك المُخلِّص لم يَبدُ عليه أدنى سخط أو مرارة، ولم ينبس بتعبير أو قدح أو أمر ينم عن القساوة والخشونة.

أما أفاضل الناس وأحسنهم إذا قسناهم على المقياس الكامل لحياة الرب يسوع فعندئذ يظهر عجزهم الكلي وقصورهم المتناهي، لأن نور مجده الأبدي يُظهِر عيوب ونقائص أعظم الناس كمالاً «لكي يكون هو متقدماً في كل شيء» وهو مثال بعيد المنال حتى أنه ليتعذر علينا إجراء مقارنة بينه وبين أيوب أو إرميا في صبره وخضوعه لاحتمال كل ما كان عليه أن يمر فيه. فأيوب خرّ صريعاً تحت عبء تجاربه الشديدة الوطأة، ولم يمطر رفاقه وابلاً من التعبيرات والمذمات فقط، بل حدا به الأمر لأن يلعن اليوم الذي ولد فيه:

«بعد هذا فتح أيوب فاه وسبّ يومه، وأخذ أيوب يتكلم فقال: ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه، والليل الذي قال: قد حُبل برجل» (أي 1:3 - 3).

وهذا هو عين الحال مع إرميا رجل الله المبارك، فلقد سقط هو أيضاً مجندلاً تحت ثقل أحزانه العديدة المتراكمة، فبرزت نفثات عواطفه وزفرات مشاعره في كلماته المُرّة: «ملعون اليوم الذي ولدت فيه! اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكن مباركاً! ملعون الإنسان الذي بشر أبي قائلاً: قد وُلِد لك ابن، مفرِّحاً إياه فرحاً. وليكن ذلك الإنسان كالمدن التي قلبها الرب ولم يندم، فيسمع صياحاً في الصباح وجلبة في وقت الظهيرة. لأنه لم يقتلني من الرحم، فكانت لي أمي قبري ورحمها حبلي إلى الأبد. لماذا خرجت من الرحم، لأرى تعباً وحزناً فتفنى بالخزي أيامي؟» (إر 14:20 - 18).

أية لغة هذه !! تأمل في لعنته للإنسان الذي بشَّر بولادته، إذ يلعنه لأنه لم يقتله !! حقاً ما أبعد البون بين ما أظهره النبي إرميا وأيوب وبين ما أبداه ذلك الوديع المتواضع يسوع الناصري، فلقد مر ذلك الحَمَل الذي لا عيب فيه في أحزان أكثر عدداً وأعمق غوراً من كل أحزان خدامه معاً، ومع ذلك لم تخرج مطلقاً كلمة تذمر من بين شفتيه بل احتملها كلها بصبر وأناة، وقابل الساعة الرهيبة في حياته بالقول: «الكأس التي أعطاني إياها الآب ألا أشربها؟» ليتبارك اسمك، أيها الرب يسوع ابن الله، فأنت مستحق منا كل سجود وعبادة. إننا لنَخِر عند قدميك خشعاً سجداً تائهين في إعجابنا ومحبتنا ومديحنا ومعترفين بك رباً للجميع. أنت هو حقاً المُعلَم بين رِبوة، وكلك مشتهيات!

ولا يوجد موضوع نستطيع أن نجني منه فوائد جمّة ونقطف منه أثماراً يانعة أفضل من هذا الذي نعالجه الآن في سجل معاملات الله مع النفوس، فهو حافل بالفوائد، مُفعم بالتعليم والإرشاد، وأهم غرض يرمي إليه الله في معاملاته هذه هو أن ينشئ فينا روح الانكسار والتواضع ويجردنا من كل بر كاذب ويفرغنا من كل ثقة بالذات ويعلمنا الاتكال التام على المسيح، ولا بد أن يجوز كل مؤمن فيما يمكن أن يسمى "عملية التجريد والتفريغ". ولقد تتقدم هذه العملية الولادة الجديدة أو الإيمان عند البعض، وقد تليها وتعقبها عند البعض الآخر، فكثيرون يأتون إلى المسيح بعد أن تمر قلوبهم وضمائرهم في سلسلة تدريبات وإجراءات مؤلمة - إجراءات قد تستغرق سنين طويلة، وأحياناً تستمر كل حياتهم، وبالعكس يأتي آخرون إلى الله بإجراءات بسيطة جداً فهم يقبلون سريعاً الأخبار المفرحة - أخبار غفران خطاياهم بواسطة موت المسيح الكفاري وبذا يبتهجون وينعمون ولكن تأتي بعد ذلك عملية "التجريد والتفريغ"، وكثيراً ما تجعل النفس تتزعزع ويداخلها الشك حتى في أمر إيمانها.

ولا شك أن في هذا غضاضة الصاب ومرارة العلقم، ولكنه ضروري جداً إذ يجب أن يدرك الإنسان ذاته ويحكم عليها، إن آجلاً أو عاجلاً، فإن لم يعرف الإنسان ذاته بالشركة مع الله تحتّم عليه أن يعرفها بالاختبار المؤلم أثناء سقطاته وتقصيراته «لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه». ويجب أن نتأكد ضعفنا الكلي في سائر الأشياء حتى يتسنى لنا أن نذوق الحلاوة والتعزية التي لنا في معرفتنا ذلك الحق المبارك، وهو أن المسيح قد «صار لنا من الله حكمة وبراً وقداسة وفداء». ليتنا ندرك هذه الحقيقة الخطيرة الهامة ألا وهي أن الله يريد الأواني المنكسرة «لأنه هكذا قال العلي المرتفع، ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأُحيي روح المتواضعين ولأُحيي قلب المنسحقين» (إش 15:57)، وأيضاً «هكذا قال الرب: السماوات كرسيَّ، والأرض موطئ قدميّ. أين البيت الذي تبنون لي؟ وأين مكان راحتي؟ وكل هذه صنعتها يدي، فكانت كل هذه، يقول الرب. وإلى هذا أنظر: إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي» (إش 1:66، 2).

هذه كلمات نحن أحوج ما نكون إليها في أيامنا الحاضرة. الأيام التي أهم ما ينقصها إنما هي الروح المنسحقة. فتسعة أعشار ما نلاقيه من مشاكل وصعاب يرجع سببه إلى هذا النقص - وما أجمل وأبهى ما تكون عليه حياتنا من يوم لآخر وسط عائلاتنا وفي اجتماعاتنا وبين أهل العالم وبالجملة في كل حياتنا العملية بمجرد أن تكون الذات في حالة الخضوع والانكسار.

وكم من الأشياء التي قد تظهر في ذاتها أنها أقوى وأشد من أن تتحملها قلوبنا، نعتبرها كلا شيء، ولا نعيرها أي التفات عندما تكون نفوسنا في حالة الانسحاق الصحيح، إذ نستطيع ونحن في حالة كهذه أن نتغاضى عما يصيبنا من توبيخ وإهانات ونغض الطرف عن الهفوات والإساءات وندوس على ما فينا من خيلاء وعُجب أو أَميال وتعصّب ونسالم جميع الناس ما دام الأمر لا يتناول عقيدة من العقائد الهامة مستعدين تمام الاستعداد لكل عمل صالح، مُظهرين اتساع قـلب صحيح في كل معاملاتنا ومرونة في كل تصرفاتنا الأدبية التي تؤول كلها لتزيين تعاليم الله مخلصنا - ولكن يا للأسف، إذ كم من المرات لا تكون هذه حالتنا فنُظهِر الخشونة وروح المقاومة ونقف مدافعين عن حقوقنا محافظين على مصالحنا ناظرين لما هو لنا، ومقاومين كل من يعارضنا في آرائنا - ولا شك أن كل هذه الأمور تدل دلالة واضحة على أننا لسنا مواظبين على قياس نفوسنا بمقاييس الله، وغير حاكمين عليها في نور حضرته المباركة.

ولكننا نعود فنكرر بكل ثقة ويقين أن الله لا بد أن يوجِد لنفسه أواني منكسرة - إن محبته لنا لهي أشد من أن تتركنا في تصلفنـا وعدم خضوعنـا، ومن ثـم يرى أنه من اللازم جـداً جداً أن يُجيزنا في مختلف التدريبات لكي يُوجِدنا في حالة روحية يستطيع معها أن يستخدمنا لمجد اسمه - فالإرادة لا بد أن تنكسر، والثقة بالذات والارتياح إليها والاعتداد بها لا بد أن تُنزع كلها من أصولها، والله يستخدم المشاهد والظروف التي نمر بها والناس الذين نتصل بهم في حياتنا اليومية لتدريب قلوبنا وإخضاع إرادتنا، والأكثر من ذلك، أنه هو بنفسه يعالج حالتنا لكي يصل بنا إلى النتائج العملية العظيمة التي يريدها.

كل هذه الأمور تظهر جلية واضحة وبصورة بارزة ومؤثرة في سفر أيوب، حتى أنها لتخلع على صفحاته ثوباً قشيباً ذا روعة غريبة وجاذبية مدهشة. إنه لأمر واضح أن أيوب كان في حاجة إلى غربال عنيف، ولولا حاجته إلى هذا الغربال، لمَا أجازه فيه الله الكلي الرحمة والمحبة، الذي بكل تأكيد، ما كان ليطلق الشيطان على عبده ما لم يكن له غرض سام في ذلك، لا بل يمكننا القول بكل تأكيد وثقة إنه ما من شيء سوى الضرورة القصوى هي التي جعلت الرب يستعمل مثل هذه الطريقة. إن الله أحب أيوب بمحبة كاملة، ولكنها في الوقت نفسه محبة حكيمة وأمينة محبة تفحص كل شيء - وإذ نظر الله إلى ما دون الظواهر استطاع أن يرى جذور البر الذاتي المتأصلة في أعماق قلب عبده - الجذور التي كانت مخفية تماماً عن أعين أيوب، ولذا لم يحكم عليها ويدينها - فيا لها من رحمة واسعة أن يكون أمرنا مع إله كهذا، وأن نكون في يدي ذاك الذي يستعمل كل الوسائط لإخضاع كل شيء فينا لا يوافق رغباته، لكي يخلق فينا صورة تماثل صورته المباركة!

ولكن ألا ترى أيها القارئ المحبوب، أنه من الأمور المفرحة والمعزية أن الله يستخدم الشيطان نفسه كآلة في سبيل تدريب شعبه؟ إننا نرى هذه الحقيقة المفرحة في معاملات الرب مع الرسول بطرس كما نراها في حالة أيوب تماماً. فالغربال كان لازماً لبطرس وقد استخدم الرب الشيطان لتتميم العمل، «سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة!» (لو 31:22)، هنا أيضاً الغربال لازماً وضرورياً. فقد كانت جذور الثقة بالذات متأصلة في أعماق قلب بطرس، وكان لزاماً أن تصل السكين إلى الجذور فتقطعها من أصولها، وهكذا رأى الرب الأمين أن يجيز عبده بطرس في عملية مؤلمة للغاية لكي يريه هذه الجذور فيحكم عليها، ولذلك سمح للشيطان أن يغربله تماماً، وبكل دقة، حتى لا يعود بطرس فيما بعد يثق بذاته بل يسير متمهلاً كل أيامه. فالله لا بد أن يكون له أواني منكسرة سواء أكانت هذه الأواني رسلاً أم آباء. الكل يجب أن يُسحقوا حتى بذلك ينفسح المجال للمجد الإلهي بأن يسطع بأشعة لامعة وضياء لا حد له.

لو كان أيوب عرف هذا المبدأ الهام - ولو كان أدرك الغرض الإلهي لكننا بلا شك رأينا منه تصرفاً يغاير تمام المغايرة ما نقرأ عنه الآن. ولكنه مثلنا تماماً كان عليه أن يتعلم الدرس، وقد ترك لنا الروح القدس سجلاً يتضمن الطريقة التي ألقى بها هذا الدرس لكي نتعظ بها نحن ونستفيد منها لحياتنا.

*

دعنا نتتبع الرواية:

«وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضاً في وسطهم. فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض، ومن التمشِّي فيها. فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر. فأجاب الشيطان الرب وقال: هل مجاناً يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيّجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية؟ باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض. ولكن ابسط يدك الآن ومَسّ كل ما له، فإنه في وجهك يجدِّف عليك» (أي 6:1 - 11).

يا لها من شهادة قوية نراها في هذه الكلمات للدلالة على حقد الشيطان وغِلِّه! ويا له من دليل بارز يدلنا على الطريقة التي بها يراقب الشيطان طرق شعب الله وأعمالهم، وما له من النظر الثاقب في أخلاق البشر وطبيعتهم! ويا لها من معرفة تحليلية دقيقة لتركيب الإنسان العقلي والخلقي! لا بل يا له من أمر مُريع أن يقع الإنسان في أيدي الشيطان! فهو دائماً في ترقب وانتظار، ودائماً على استعداد أن ينفث بكل سمومه وغِلِّه وحقده ضد المؤمن المسيحي، بمجرد أن يسمح له الله بذلك.

إن هذه الملاحظة لهي في منتهى الخطورة ومن شأنها أن تقودنا إلى السير بكل تواضع وتحفظ في وسط مشهد هذا العالم المتسلِّط عليه إبليس فهو ليس له أية قوة البتة على نفس تسكن في مكان الاتكال والطاعة، كما أنه أيضاً، تبارك اسم إلهنا، لا يستطيع بأي حال أن يتخطى قيد أُنملة الحد الذي يرسمه له الأمر الإلهي. لهذا نقرأ في حالة أيوب:

«فقال الرب للشيطان هوذا كل ما له في يدك. وإنما إليه لا تمد يدك» (ع 12).

هنا نرى انه قد صُرِّحَ للشيطان أن يضع يده على ممتلكات أيوب، أن يحرمه من أولاده ويجرِّده من كل ثروته. وحقاً إنه لم يفقد أي وقت في القيام بشغلته، بل بسرعة مدهشة، تمم مأموريته فالضربة تتلو الضربة، وكلها تنصب بتتابع سريع على رأس أيوب المخلص، فبالكاد كان يصل الرسول حاملاً الأخبار المحزنة، إلا ويصل الآخر بأخبار هي أشد شؤماً وأكثر فظاعة من سابقتها، وهكذا استمرت الصواعق مُرعِدة إلى أن:

«قام أيوب ومزّق جبته، وجزّ شعر رأسه، وخرّ على الأرض وسجد، وقال: عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً. في كل هذا لم يخطئ أيوب ولم ينسب لله جهالة» (20:1- 22).

يا له من منظر مؤثر! وحقاً لو نظرنا إلى المسألة بالمنظار الإنساني لقلنا إن هذا يكفي لأن يجعل العقل يحار - كيف أنه، في لحظة، قد انقلبت حالة أيوب، فيفقد بنيه العشرة، ويصبح في حالة الفقر المدقع بعد الثروة الهائلة؟ ويا له من تباين عظيم بين الصورة في مستهل الأصحاح الأول والصورة في ختامه! ففي الأولى نرى أيوب تحف به أسرة عديدة الأفراد، متمتعاً بممتلكات واسعة وغنية، ولكن في الثانية نراه وقد أصبح وحيداً وفقيراً وعرياناً. يا للعجب! الله يسمح للشيطان - لا بل الله يكلِّف الشيطان أن يُسبِّب كل هذا الخراب والدمار! ولِمَ؟ الجواب: لفائدة عبده أيوب، وحفظ نفسه الثمينة الغالية، حفظاً أبدياً وأكيداً. فقد رأى الله أن عبده في حاجة إلى أن يتعلَّم درساً، لا بل، إنه لم تكن هناك أية طريقة أو أية واسطة تستطيع أن تُفهِّم أيوب هذا الدرس تفهيماً جيداً، سوى إجازته في هذا الامتحان المُرّ، الذي مُجرَّد ذِكره يملأ القلب رعباً وخوفاً. ولكن هكذا الله يعلِّم أولاده حتى ولو بتجريدهم من كل ما تتعلق به قلوبهم في هذا العالم.

ومع ذلك فقد بقي علينا أن نتبع أيوب فنراه وقد هاج عليه الغمر بأكثر عنف مما سبق:

«وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضاً في وسطهم ليمثل أمام الرب. فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض ومن التمشّي فيها. فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر. وإلى الآن هو متمسك بكماله، وقد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سبب. فأجاب الشيطان الرب وقال: جلد بجلد، وكل ما للإنسان يعطيه لأجل نفسه. ولكن ابسط الآن يدك ومس عظمه ولحمه، فإنه في وجهك يجدِّف عليك. فقال الرب للشيطان: ها هو في يدك، ولكن احفظ نفسه. فخرج الشيطان من حضرة الرب، وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته. فأخذ لنفسه شقفة ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته: أنت متمسّك بعد بكمالك؟ بارك الله ومت! فقال لها: تتكلمين كلاماً كإحدى الجاهلات! أألخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل؟ في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه» (أي 1:2 - 10).

هذا فصل هام للغاية إذ يبين لنا مركز الشيطان فيما يتعلق بسياسة الله، فهو لا يزيد عن مجرد كونه آلة، وهو وإن كان على استعداد تام وفي كل حين، أن يشتكي ضد شعب الرب، إلا أنه لا يستطيع أن يعمل إلا ما يسمح له به الله. ففيما يتعلق بأيوب ذاته قد خابت في النهاية كل مجهودات الشيطان الذي بعد أن عمل أقصى ما يمكن عمله، نراه ينسحب من الميدان ولا نعود نسمع شيئاً عن أعماله مهما كانت المحاربات الداخلية - التي لا شك كان يشنها في الخفاء على أيوب - نعم قد فشلت كل محاولاته تماماً لأن أيوب استمر متمسكاً بكماله. ولكن لو كانت الأمور وقفت عند هذا الحد لمَا كانت النتيجة سوى ازدياد ثقة أيوب في بره الذاتي والرضاء بحالة نفسه، والرسول يعقوب يقول في هذا الصدد «قد سمعتم بصبر أيوب (وماذا أيضاً؟) ورأيتم عاقبة الرب. لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف» فلو أن المسألة وقفت فقط عند صبر أيوب لكان في هذا أساس جديد للثقة بالذات ولمَا بقي «لعاقبة الرب» أي مكان. لأنه يجب أن نتذكر دائماً أن رحمة الرب ورأفته لا يذوقهما إلا القلب المنكسر والتائب تماماً، وهذه لم تكن حالة أيوب حتى إلى هذه اللحظة التي كان فيها نائماً وسط الرماد، فلم يكن بعد قد انسحق تماماً أمام الله، بل كان لا يزال الرجل العظيم - العظيم أيام نحسه وبؤسه، كما كان في أيام عِزّه وسُؤدده - العظيم وسط عواصف الشتاء وصواعق الشتاء، كما كان أيام الخريف متمتعاً بنوره وضوء شمسه الساطع وهكذا لم تصل العملية بعد إلى أعماق قلبه، ولم يكن في إمكانه حتى الآن أن يصرخ قائلاً «ها أنا حقير» ولم يتعلم بعد أن «يرفض ويندم في التراب والرماد».

إننا نشتاق أن يفهم القارئ العزيز هذه النقطة جيداً، فهي إلى حد كبير مفتاح سفر أيوب بأجمعه. فالغرض الإلهي إنما كان ليطلع أيوب على مخبئات قلبه، لكي بذلك، يتعلم كيف يجد لذته وسرور نفسه في نعمة الله ورحمته، وليس في صلاحه هو، الذي لم يكن إلا كغيمة الصباح التي تتبدد سراعاً أو كالندى المبكِّر الذي يتبخر فلا يبقى له أثر. نعم إن أيوب كان من قديسي الله الحقيقيين، وكل شكايات الشيطان قد ضرب بها عرض وجهه، ولكن رغماً عن كل ذلك، لم يكن أيوب الإناء المنكسر وبالتبعية لم يكن للآن مستعداً لنوال «عاقبة الرب». تلك العاقبة المباركة التي هي نصيب كل قلب منسحق. تلك العاقبة التي تلازمها «الرحمة والرأفة». إن إلهنا، ليتبارك وليتمجد اسمه، لا يحب أن يرى الشيطان مُتهِماً إيانا ومشتكياً ضدنا، ولكن في الوقت نفسه يريد أن يعلن لنا ذواتنا حتى نحكم عليها ولا نعود نثق في قلوبنا بل نتعلم أن نستريح ونطمئن في نعمته الثابتة إلى الأبد.

وهكذا، للآن نرى أيوب «متمسكاً بكماله»، ويقابل بثبات وهدوء كل المصائب المؤلمة والصدمات العنيفة التي كان مصرحاً للشيطان بأن يأتي بها عليه. والأكثر من ذلك يرفض نصيحة امرأته ويعتبرها نصيحة جاهلة. وقصارى القول، نراه وهو يتقبل كل شيء كما من يد الله، ويحني رأسه إجلالاً أمام تدبيراته الغريبة وأعمال عنايته العجيبة.

***

2

كل هذا حسن، ولكن وصول أصحاب أيوب الثلاثة قد أوجد تغييراً مدهشاً، فمجرد حضورهم ومجرد رؤيتهم بأعينهم ما حلَّ عليه من مصائب وويلات قد أثر فيه تأثيراً غريباً:

«فلما سمع أصحاب أيوب الثلاثة بكل الشر الذي أتى عليه، جاءوا كل واحد من مكانه: أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعماني، وتواعدوا أن يأتوا ليرثوا له ويعزوه. ورفعوا أعينهم من بعيد ولم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم وبكوا، ومزَّق كل واحد جبته، وذرَّوا تراباً فوق رؤوسهم نحو السماء، وقعدوا معه على الأرض سبعة أيام وسبع ليال، ولم يكلمه أحد بكلمة، لأنهم رأوا أن كآبته كانت عظيمة جداً» (أي 11:2 - 13).

من هذا يمكننا أن نؤكد أن هؤلاء الرجال الثلاثة كانوا مسوقين بعامل الشفقة والشعور الحساس من نحو صديقهم أيوب، ولم تكن بالتضحية الهينة من جانبهم أن يتركوا بيوتهم ويأتوا ليشاركوا صديقهم في حزنه وآلامه.

كل هذا يمكننا أن نتصوره بكل سهولة ولكن هناك أمراً في غاية الجلاء والوضوح، وهو أن حضورهم قد حرّك مكامن أيوب وأيقظ ما كان قد نام في قلبه وعقله من احساسات وأفكار - فقد رأيناه يحتمل بصبر وخضوع فقدان أولاده العشرة، وضياع ممتلكاته، وصحته، حتى أن الشيطان قد انسحب من الميدان وهو يتعثر في ذيل الخيبة والفشل، ورأيناه أيضاً يرفض نصيحة امرأته، ولكن حضور هؤلاء الأصحاب كان عليه حملاً ثقيلاً ناء تحته تماماً.

*

«بعد هذا فتح أيوب فاه وسب يومه» (أي 1:3).

هذه نقطة في غاية الأهمية وتستدعي كل التفات، أننا لم نسمع أحد هؤلاء الأصحاب يفوه ببنت شفة للآن، بل نراهم وقد جلسوا صامتين بجببهم المُمزقة والتراب فوق رؤوسهم ينظرون إلى أيوب فيرون فيه كآبة لا يمكن لكلماتهم أن تصل إلى أعماقها. وهكذا كان أيوب أول من قاطع هذا الصمت العميق الذي كان مخيماً عليهم، وفاض بعبارات النحيب المُرّ والرثاء المُحزن التي نراها تملأ الأصحاح الثالث كله والتي تزيح الستار عن روح لم تنسحق بعد. إنه يمكننا أن نؤكد، بلا تردد، أنه يستحيل على نفس قد تعلمت ولو إلى حد ضئيل أن تقول «لتكن مشيئتك». نقول لا يمكن لنفس كهذه أن تسب يومها بحال من الأحوال أو أن تنطق باللغة التي فاه بها أيوب في الأصحاح الثالث.

على أنه يمكن أن يقال بلا شك "إنه من السهل على أولئك الذين لم يختبروا مصائب أيوب أن يتكلموا". هذا صحيح ويمكن أن نزيد عليه قائلين: إنه ما من شخص كان يمكنه أن يتصرف ولو مقدار ذرة أحسن من أيوب لو وُجد في ظروف كظروفه. كل هذا نفهمه جيداً ولكنه على كل حال، لا يمس مطلقاً ذلك المبدأ الأدبي العظيم الذي ينطوي عليه سفر أيوب. المبدأ الذي من حظنا نحن أن نتعلمه ونتمسك به - كان أيوب قديساً لله، ولكن كان عليه أن يعرف نفسه - وهكذا نحن أيضاً. كان عليه أن تنكشف لبصيرته أصول كيانه الأدبي حتى بذلك يرفض نفسه بالتمام ويندم في التراب والرماد. وأكثر من ذلك، كان عليه أن يعرف معرفة أكيدة وصادقة مَن هو الله حتى بذلك يلقي بنفسه عليه ويبرره في كل الظروف والأحوال.

ولكن عبثاً نحاول العثور على ما يدل على وجود هذه الروح في أيوب عندما نقرأ كلماته الافتتاحية:

«وأخذ أيوب يتكلم فقال: ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه، والليل الذي قال: قد حُبل برجل .. لِمَ لم أمت من الرحم؟».

هذه ليست نبرات الروح المنسحقة ولا هي أيضاً لغة مَن تعلَّم أن يقول: «هكذا شاءت المسرة أمامك أيها الآب». إنها لنقطة هامة جداً في تاريخ النفس تلك التي عندها يستطيع الإنسان أن ينحني تواضعاً تحت يد أبينا، وأمام كل تدبيراته، فالإرادة المنكسرة إنما هي هبة ثمينة ونادرة الوجود، إنها لدرجة عالية تصل إليها النفس في مدرسة المسيح عندما يمكنها أن تقول «تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه» (في 11:4).

فبولس كان عليه أن يتعلَّم هذه الحقيقة فهي لم تكن شيئاً غريزياً فيه، ولا شك أيضاً أنه لم يتعلمها عند قدمي غمالائيل، فما كان لشاول الطرسوسي أن يقنع بأسمى الدرجات في هذا العالم، ولهذا كان عليه أولاً أن ينكسر تماماً عند قدمي يسوع الناصري قبل أن يمكنه أن يفوه بالقول: «تعلمت أن أكون مكتفياً» كان عليه أولاً أن يتأمل جيداً في معنى الكلمات «تكفيك نعمتي» حتى بذلك يستطيع أن يقول «أُسر بالضعفات».

إن الشخص الذي استطاع أن ينطق بهذه الكلمات ليقف تماماً على طرفي نقيض مع ذاك الذي يسب يومه ويقول «لِمَ لم أمت من الرحم؟». فقط تأمل في قديس من قديسي الله، ووارث من ورثة المجد، ينطق بالقول «لِمَ لم أمت من الرحم؟».

نعم لو كان أيوب في مقادس الله لَمَا نَطق بمثل هذه الكلمات ولكَان عرف تماماً السبب الذي لأجله لم يمت، ولوُجد فيه روح الرضا التام بكل ما أعده الله له، ولكان برر الله في كل أعماله.

ولكن الواقع أن أيوب لم يكن في حضرة الله، بل كان في حضرة أصحابه، الذين برهنوا تماماً على أنهم لا يعرفون لا كثيراً ولا قليلاً عن صفات الله ولا عن غرضه الحقيقي في معاملاته مع عبده العزيز أيوب.

إنه ليس غرضنا مطلقاً أن نخوض غمار البحث التفصيلي في كل المناقشة الطويلة التي دارت بين أيوب وأصحابه والتي تشغل تسعة وعشرين أصحاحاً بل سنكتفي باقتباس بضع عبارات من الخطابات الافتتاحية التي فاه بها هؤلاء الأصحاب والتي ستمكن القارئ من أن يكوِّن لنفسه صورة جلية عن المركز الصحيح الذي يشغله هؤلاء الناس الذين ركبوا متن الشطط في كل ما ذهبوا إليه.

***

3

كان أليفاز التيماني أول من تكلم.

«فأجاب أليفاز التيماني وقال: إن امتحن أحد كلمة معك، فهل تستاء؟ ولكن مَن يستطيع الامتناع عن الكلام؟ ها أنت قد أرشدت كثيرين، وشددت أيادي مرتخية. قد أقام كلامك العاثر، وثبت الركب المرتعشة! والآن إذ جاء عليك ضجرت، إذ مسَّك ارتعت. أليست تقواك هي معتمدك، ورجاؤك كمال طرقك؟ اذكر: مَن هلك وهو بريء، وأين أُبيد المستقيمون؟ كما قد رأيت: أن الحارثين إثماً، والزارعين شقاوة يحصدونها .. (إلى أن قال) .. إني رأيت الغبي يتأصَّل وبغتةً لَعنت مربضه» (أي 1:4 - 8، 3:5، انظر أيضاً 17:15).

من هذه الكلمات يظهر جلياً أن أليفاز كان من نوع الأفراد الذين يُعززون حُججهم ويستندون في أقاويلهم على اختبارهم الشخصي. فشعاره كان «كما قد رأيت». ولكن لنعلم جيداً أن كل ما قد رأيناه ربما يكون نافعاً فيما يختص بذواتنا ولكنه من الغلط الفاحش أن نبني نظريات وقواعد عامة على أساس اختبارنا الشخصي ومع ذلك فهذه غلطة يقع فيها الكثيرون. فمثلاً أية علاقة كانت بين ما رآه أليفاز وبين حالة أيوب؟ ربما لم يرَ في حياته مطلقاً حالة مثيل هذه بالتمام، ومتى كان هناك أي اختلاف بين الحالتين في أي وجه من الوجوه سقطت حجته المؤسسة على الاختبار وأصبحت لا قيمة لها ولا وزن. وهذا عين ما حصل، إذ لم يكد أليفاز ينتهي من خطابه إلا وأخذ أيوب، بدون أقل التفات إلى كلام صديقه، يعدد مصائبه وأحزانه معلناً براءة نفسه وشاكياً مُرّ الشكوى ضد المعاملات الإلهية (7:6).

***

4

جاء بعد ذلك دور بلدد الشوحي.

فنجده وقد اتخذ لنفسه ناحية تغاير ناحية أليفاز تماماً، فلم يُشِر ولو مرة واحة إلى اختباره الشخصي أو إلى ما وقع تحت حسه وملاحظته، ولكنه لجأ إلى تقاليد الأباء وآثار العصور الغابرة:

«اسأل القرون الأولى وتأكد مباحث آبائهم، لأننا نحن من أمس ولا نعلم، لأن أيامنا على الأرض ظل. فهلا يعلمونك؟ يقولون لك، ومن قلوبهم يخرجون أقوالاً» (أي 8:8 - 10).

هنا لا بد أن نعترف أن بلدد يقودنا إلى ميدان أوسع من الذي قادنا إليه أليفاز، فشهادة عدد من «الآباء» لا شك أن لها قيمة واعتبار أكثر من شهادة تقوم على اختبار شخص واحد. زد على ذلك أنه من باب التواضع أن يسترشد الإنسان بصوت عدد من الأفراد الحكماء المحنكين بدلاً من انقياده وراء شعاع واحد يأتيه من ناحية فرد واحد كل حجته قائمة على اختباره الشخصي. ولكن الواقع أنه لا الاختبار ولا التقليد يكفيان. فالأول ربما يكون صحيحاً فيما يختص بصاحبه، ولكن قلما تجد اتفاقاً بين شخصين مختلفين، وما الثاني إلا كمية من الآراء المضطربة، لأن الآباء يختلف الواحد منهم عن الآخر ولا يوجد سبيل أشد وعورة وأكثر مزالق من سبيل التقاليد التي تقوم على شهادة الآباء.

من هذا، وكما هو المنتظر، لم يكن كلام بلدد في نظر أيوب بأكثر قيمة أو وزن من كلام زميله أليفاز. فالاثنان على حد سواء قد ضلا سواء السبيل، ولو أنهما التجأ إلى الإعلانات الإلهية لكانت النتيجة على عكس ذلك تماماً، فسلطة حق الله هي السلطة العليا الوحيدة وعلى هذا الحق يجب أن يقاس كل شيء وله سوف يخضع كل شيء إن آجلاً أو عاجلاً. فليس لأي فرد الحق في أن يضع اختباره الشخصي كنبراس يهتدي به رفقاؤه، وإن كان هذا ليس من حق الفرد فهو ليس من حق الجماعة أيضاً، وبعبارة أخرى يجب أن يكون صوت الله وليس صوت الناس هو الذي يقودنا ويرشدنا كلنا فليس الاختبار أو التقليد هو الذي سيدين في اليوم الأخير ولكن هي كلمة الله وحدها. ما أخطر هذا الحق ويا ليتنا نتأمل فيه كلنا. لو كانت هذه النقطة الجوهرية معروفة عند بلدد أو أليفاز لكان لكلامهما قيمة عظيمة في نظر صديقهم المتألم.

***

5

والآن دعنا نتأمل باختصار في كلمات صوفر النعماتي الافتتاحية؟ قال:

«ولكن يا ليت الله يتكلم ويفتح شفتيه معك؟ ويعلن لك خفيات الحكمة! إنها مضاعفة الفهم؟ فتعلم أن الله يغرمك بأقل من إثمك .. (إلى أن قال) .. إن أعددت أنت قلبك؟ وبسطت إليه يديك. إن أبعدت الإثم الذي في يدك؟ ولا يسكن الظلم في خيمتك؟ حينئذ ترفع وجهك بلا عيب؟ وتكون ثابتاً ولا تخاف» (أي 5:11؟ 6؟ 13 - 15).

يُشْتَمّ من هذه الكلمات روح القضاء والناموس؟ وهي تدل صريحاً على أن صوفر كان يجهل تماماً صفات الله؟ ولم يكن له به أية معرفة؟ إذ كل شخص له معرفة صحيحة بصفات الله لا يمكن أن يقول عنه إنه يفتح شفتيه ضد شخص خاطئ متألم مسكين؟ أو إنه يغرم مخلوقاً بائساً محتاجاً. فالله؟ تبارك اسمه إلى الأبد؟ ليس علينا ولكنه لنا؟ وهو ليس الآخذ بالقضاء والناموس؟ ولكنه المُعطي بالسخاء والكرم.

ثم يقول صوفر أيضاً «إن أعددت أنت قلبك»؟ وإذا لم يُعدّه؟ ماذا يحصل يا ترى؟ صحيح أن الإنسان يجب عليه أن يُعِدَّ قلبه؟ وهو لا شك يفعل ذلك عن طيب خاطر لو كان باراً ولكن الواقع أنه ليس باراً؟ ولهذا عندما يبتدئ في إعداد قلبه لا يجد هناك سوى الشر الكامن؟ يجد نفسه عديم القوة؟ وماذا يفعل في هذه الحالة؟ صوفر لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال. نعم لا يستطيع هو ولا أي واحد ممن يتبعون مبدأه؟ وكيف يمكنهم وهم لا يعرفون الله إلا كالمُطالِب الصارِم؟ أو كالذي يفتح شفتيه فلا يمكنه إلا أن يتكلم ضد الخاطئ.

فهل نعجب بعد هذا إذا رأينا صوفر يفشل في إقناع أيوب - كما فشل صاحباه؟ ليس هناك أي عجب؟ فالثلاثة كانوا مخطئين فالقضاء؟ والتقليد؟ والاختبار؟ كلها أحكام ناقصة ذات وجه واحد وفاسدة. ولا يمكن لأي واحد منها أو ثلاثتها مجتمعة أن تعالج حالة أيوب؟ وما كانت نصيحة هؤلاء الأفراد إلا مجرد كلام خلو من كل معرفة؟ وما من واحد فيهم عرف داء أيوب؟ لا بل أكثر من ذلك أنهم لم يعرفوا صفات الله أو غرضه في معاملاته مع عبده المحبوب. لهذا كانوا على خطأ مبين في كل أقوالهم؟ فلم يعرفوا كيف يصورون الله لأيوب؟ وبالتبعية لم يعرفوا كيف يقودون ضمير أيوب إلى حضرة الله؟ وبدلاً من قيادته إلى الحكم على الذات جعلوه يتشبث بتبريرها. إنهم فاهوا ببعض حقائق؟ ولكنهم لم يفوهوا بالحق عينه؟ فقد جاءوا بالاختبار والتقليد والقضاء؟ أما الحق فلم يعرفوه.

*

وهكذا فشل الثلاثة في إرضاء أيوب. فخدمتهم كانت ذات وجه واحد؟ وبدلاً من إسكات أيوب جعلوه يدخل في مناقشة طويلة يكاد لا يكون لها آخر. فهو يجيبهم كلمة بكلمة؟ لا بل أكثر من ذلك يقول لهم:_

«صحيح أنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة! غير أنه لي فهم مثلكم. لست أنا دونكم. ومن ليس عنده مثل هذه؟» (أي 1:12 - 3)؟ «هذا .. ما تعرفونه عرفته أنا أيضاً. لست دونكم .. أما أنتم فملفقو كذب. أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتاً. يكون ذلك لكم حكمة» ( أي 1:13 - 5)؟ «قد سمعت كثيراً مثل هذا. معزون متعبون كلكم! هل من نهاية لكلام فارغ؟ أو ماذا يهيجك حتى تجاوب؟ أنا أيضاً أستطيع أن أتكلم مثلكم؟ لو كانت أنفسكم مكان نفسي؟ وأن أسرد عليكم أقوالاً وأنغِض رأسي إليكم» (أي 1:16 - 4)؟ «حتى متى تعذبون نفسي وتسحقونني بالكلام؟ هذه عشر مرات أخزيتموني. لم تخجلوا من أن تحكروني .. تراءفوا؟ تراءفوا أنتم عليَّ يا أصحابي؟ لأن يد الله قد مستني» (أي 1:19 - 3؟ 21).

كل هذه العبارات تدل على مقدار بُعد أيوب عن روح الانكسار والخضوع التي تظهر في كل نفس تكون في حضرة الله. صحيح أن أصحاب أيوب كانوا مخطئين - مخطئين في أفكارهم من جهة الله؟ ومخطئين في طريقتهم التي عاملوا بها أيوب. ولكن خطأهم هذا لم يوجده هو في حالة الصواب. ولا شك أنه لو كان في حضرة الله لمَا أجاب بأي كلمة عن كل ما فاه به أصحابه حتى ولو كانوا مخطئين وقاسين في معاملتهم إياه عشرة أضعاف مما كانوا. إنه كان يخفض رأسه تواضعاً؟ سامحاً لتيارات التوبيخ والاتهام تمر عليه دون أن يعيرها أي التفات؟ بل لكَان حوّل نفس هذه القسوة لفائدة نفسه حاسباً إياها كدرس نافع لتدريب قلبه. ولكن هذا لم يكن. فأيوب لم يزل بعيداً عن معرفة نفسه. كان مملوءاً من البر الذاتي. مملوءاً من الحقد ضد أصحابه؟ ومن الأفكار المخطئة من نحو الله؟ ولهذا كان محتاجاً إلى علاج آخر يريه ذاته ويوجده في الحالة المطلوبة.

وعلى قدر ما نُنعِم النظر في المناقشات الطويلة التي دارت بين أيوب وأصحابه؟ على قدر ما يظهر جلياً أنه ما كان ممكناً لهم البتة الوصول إلى اتفاق أو تفاهم؟ فهو عاملٌ ومصرٌ على تبرير ذاته؟ وهم مصرون على عكس ذلك. هو لم يكن في حالة الخضوع والانكسار؟ وهم لم يزيدوه؟ بطريقتهم التي اتبعوها؟ إلا تمسكاً بهذه الحالة. لو تبادلوا الموقف لكانوا وصلوا إلى نتيجة تخالف هذه تماماً. إذ لو كان أيوب قد دان نفسه وتواضع وحَسِب نفسه أنه لا شيء؟ لمَا ترك لأصحابه أي شيء ليقولوه. ومن جهة أخرى لو كانوا هم تكلموا بلين وشفقة واجتهدوا في تفريج كربه لأمكنهم بأكثر سهولة أن يُوجِدُوه في حالة الانسحاق والخضوع.

أمَا وقد كانوا على عكس ذلك؟ فلم يكن هناك أي أمل في وصولهم إلى نتيجة مرضية؟ فلم يكن مستطاعاً لأيوب أن يرى أي نقص في نفسه كما لم يكن مستطاعاً لهم أن يروا فيه شيئاً صالحاً؟ كان هو مصمماً على التمسك بكماله؟ ولم يكونوا هم أقل تصميماً منه على إظهار عيوبه ونقائصه فلم يكن بين الطرفين أي نقطة تماس يمكنهم أن يستخدموها كأساس للوصول إلى تفاهم بينهم. لم يروا فيه تأوهات الندم والتوبة كما هو لم يرَ فيهم روح العطف والشفقة. فكل من الطرفين كان يسير في جهة مضادة؟ وما كان ممكناً لهما أن يتقابلا. وقصارى القول؟ كانت الحالة تتطلب علاجاً يختلف عن هذا تمام الاختلاف؟ وهذا العلاج أو هذه الخدمة نراها في شخص أليهو.

***

6

«فكف هؤلاء الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب لكونه باراً في عيني نفسه. فحمى غضب أليهو بن برخئيل البوزي من عشيرة رام. على أيوب حمي غضبه لأنه حسب نفسه أبرَّ من الله. وعلى أصحابه الثلاثة حمي غضبه؟ لأنهم لم يجدوا جواباً واستذنبوا أيوب» (أي 1:32 - 3).

هنا يتناول أليهو بقوة عجيبة ووضوح غريب أساس الموضوع فهو يلخص في جملتين مختصرتين تلك المناقشة الطويلة المتشعبة الأطراف التي استغرقت تسعة وعشرين أصحاحاً. فأيوب برر ذاته بدلاً من تبرير الله؟ وأصحابه استذنبوه بدلاً من جعله يستذنب نفسه.

وإنه لدرس خطير ومهم للغاية أن نعرف أنه كلما بررنا ذواتنا فكأننا نستذنب الله؟ ومن الجهة الأخرى كلما استذنبنا ذواتنا فإنما نحن نبرر الله. «الحكمة تبررت من جميع بنيها». هذه نقطة هامة والنفس المنكسرة والقلب المنسحق لا بد أن يبرر الله مهما كانت الظروف والأحوال «ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً. كما هو مكتوب: لكي تتبرر في كلامك؟ وتغلب متى حُوكمت» (رو 4:3). فالله لا بد أن يكون له الغلبة في النهاية. فمن الحكمة إذن أن نعطيه الغلبة من الآن.

وفي نفس اللحظة التي تنكسر فيها النفس في طريق الحكم الصحيح على الذات؟ هناك يظهر الله بكل جلال رحمته كالمُبرِّر. ولكن طالما نحن متمسكون ببرنا الذاتي والرضاء بحالة نفوسنا فنحن نكون بعيدين كل البعد عن غبطة ذلك الرجل الذي لا يحسب له الرب خطية. وإنه لمن الجهالة العظمى أن يبرر الإنسان ذاته إذ أن الله في هذه الحالة لا بد أن يحسب له خطيته ولكن الحكمة الصحيحة هي أن الإنسان يدين نفسه تماماً لأن الله عندئذ يصبح هو المُبرِّر.

ولكن أيوب لم يكن للآن قد تعلّم أن يسلك هذا السبيل المبارك؟ بل كان لم يزل مستنداً على صلاحه الذاتي ولم يزل لابساً ثوب بره الشخصي راضياً تمام الرضاء بحالة نفسه ولهذا اتقد غضب أليهو ضده.

والواقع أن الغضب لا بد أن يتقد ضد كل بر ذاتي ولا مفر من ذلك. فالمركز الصحيح الذي يجب أن يشغله الخاطئ إنما هو مركز التوبة والندم؟ وفي هذه الحالة لا يكون هناك سوى نعمة الله الغنية المقدسة التي تملك بالبر بيسوع المسيح ربنا. هذه هي القاعدة التي لن يدخل عليها تغيير أو تبديل. فالغضب ولا سواه هو نصيب كل بر ذاتي؟ كما أن النعمة ولا سواها هي نصيب التوبة والحكم على الذات.

تذكر هذا أيها القارئ العزيز. قف قليلاً وتأمل ملياً. على أي أساس أنت واقف الآن؟ هل انحنيت أمام الله في حالة الندم والتوبة الصحيحة؟ هل من مرة قِست نفسك على مقياس حضرته المقدسة؟ أم أنت لم تزل مستنداً على أساس برك الذاتي وتبرير نفسك والرضاء بحالتك؟ نحن نضرع إليك؟ ونلتمس منك؟ أن تزن هذه الأسئلة تماماً. لا تضعها جانباً. إننا نشتاق أن نرى كلامنا هذا يمس ضمير القارئ وقلبه إذ نحن لا نكتب لمجرد إنارة الأذهان والعقول. صحيح أنه حسن أن نسعى في إنارة الأذهان بواسطة كلمة الله؟ ولكنه حقاً يكون من دواعي أسفنا الشديد إن كانت خدمتنا تقف عند هذا الحد إذ توجد غاية هي أبعد من كل ذلك. فالله يريد أن يعمل في القلب؟ في النفس؟ في الإنسان الباطن. إنه يريد أن يوجدنا أمامه في حالتنا الحقيقية وما من فائدة البتة في أن نستند على ما نظنه نحن في ذواتنا لأن كل شيء من هذا القبيل سوف ينهار ولا ينفع ويوم الرب سيكون ضد كل شيء مرتفع ومتعالٍ؟ ولهذا السبب كان من الحكمة أن نُخضع نفوسنا الآن ونكسرها كسراً؟ لأنه في مكان الاتضاع والخضوع يمكننا أن نعرف الله جيداً ونرى خلاصه العجيب.

يا ليت الروح القدس يقود القارئ العزيز ليدرك هذا الأمر جيداً ويا ليتنا نتذكر كلنا أن الله يسر بالقلب المنكسر والروح المنسحق ويسير مع كل نفس متضعة؟ وأما المستكبرون فيقاومهم.

من هذا يتضح لنا لماذا اتقد غضب أليهو على أيوب فقد كان في جانب الله؟ وأما أيوب فلم يكن. إننا لا نسمع شيئاً عن أليهو إلا عند وصولنا الأصحاح الثاني والثلاثين؟ مع أنه واضح جداً أنه كان موجوداً ومصغياً لكل المناقشة؟ وقد سمع الطرفين بكل صبر وطول أناة؟ وحَكَم في النهاية على أن كليهما كان على ضلال مبين. فأيوب كان مخطئاً في الدفاع عن نفسه؟ وأصحابه كانوا مخطئين في محاولتهم إدانته.

ولكن ما أكثر الأحايين التي تكون فيها مناقشاتنا ومحاولاتنا على هذا النمط المغلوط؟ وما أسوأ النتائج التي نصل إليها في النهاية؟ فتسعة وتسعون في المائة من حالات كهذه تنتهي بالنتيجة التي انتهت بها مناقشة أيوب وأصحابه؟ مع أنه لو وجد قليل من الخضوع في جانب وقليل من اللين في الجانب الآخر لقصر حبل المشادة وحُلَّ الإشكال بأكثر سرعة.

نحن نتكلم هنا طبعاً عن الحالات التي لا يكون فيها موضوع المناقشة خاصاً بكلمة الله وحقه؟ إذ في هذه الحالة يجب على كل مؤمن أن يكون ثابتاً متمسكاً بالحق لا يعرف فيه ليناً ولا هوادة؟ فالاستسلام فيما يختص بحق الله أو مجد المسيح ما هو إلا خيانة عظمى؟ لذاك الذي نَدين له بكل شيء. فالثبات الراسخ والتمسك الشديد إنما هما الصفتان اللائقتان بنا في كل الحالات التي تمس مطالب ذاك الذي؟ تبارك اسمه؟ إذ رأى أن الأمر يتعلق بصالحنا؟ تخلَّى عن كل شيء؟ حتى عن نفسه؟ لكي يربح لنا القضية. حاشا لنا أن نسطِّر جملة أو نكتب كلمة يكون من وراءها التهاون في الحق وعدم التمسك به للنهاية أو تفتير حميتنا في دفاعنا عن الإيمان المُسلَّم مرة للقديسين. لا؟ أيها القارئ العزيز؟ ليس هذا الوقت الذي فيه نحلّ مناطقنا أو نُلقي أسلحتنا أو نُخفِض رايتنا. نقيض ذلك تماماً؟ فما من وقت كانت فيه الحالة أحوج إلى الأحقاء الممنطقة بالحق والثبات على أساس راسخ ورفع راية المبدأ الإلهي بكل حذافيره أكثر من وقتنا الحضر.

نحن نكتب هذا الكلام ولنا قصد فيه. نقوله بمناسبة المحاولات العديدة التي يقوم بها العدو لتحويلنا عن مركز الحق وجعلنا ننظر إلى أولئك الذين فشلوا في التمسك بالمبادئ الصحيحة. نعم نقول إنه يوجد هناك فشل؟ ويا للأسف الشديد؟ إذ هو فشل مخزي ومعيب. نحن لا ننكر ذلك. ومن يستطيع أن ينكره وهو أمر واضح وملموس وأضخم من أن يفوتنا إدراكه. إن القلب ليدمَى عندما نفكر في هذا الأمر. فالإنسان دائماً يلازمه الفشل في كل زمان ومكان؟ وتاريخه من جنة عدن إلى وقتنا الحاضر؟ موصوم بوصمة الفشل والسقوط.

هذا أمر لا يمكن أن يُنَكَر. ولكن تبارك اسم إلهنا؟ فأساسه راسخ؟ ولا يمكن لسقوط الإنسان أن يؤثر فيه. الله أمين؟ ويعرف من هم له؟ وكل من يسمي باسم المسيح عليه أن يهرب من كل نجاسة. إننا لم نتعلم بعد؟ ولن نتعلم؟ أنه يمكننا تحسين حالتنا الأدبية بواسطة تخفيضنا لمقياس حق الله. إننا لا نصدق؟ ولا يمكن أن نصدق أمراً كهذا؟ لا بل إننا نفضل بالأولى؟ أن نُنكس رؤوسنا خجلاً أمام سقوطنا وفشلنا من أن نفرط في ذرة واحدة من حق الله الثمين.

ولكن كل هذا إنما هو شرود عن الموضوع؟ قد سمحنا لأنفسنا بأن ننساق إليه؟ حتى لا يتطرق إلى ذهن القارئ أننا نقصد بواسطة حثه على التزين بروح الخضوع والاستسلام أنه يتنازل عن ذرة واحدة من الإعلان الإلهي؟ وإذ وثقنا الآن من ذلك فلنعد إلى موضوعنا.

***

7

إن خدمة أليهو تمتاز بميزة خاصة، وتختلف تمام الاختلاف عن خدمة الأصحاب الثلاثة. إن اسمه معناه: "الله هو". ولا شك أنه يمكننا أن ننظر إليه كمثال عجيب لربنا يسوع المسيح. إنه يُدخِل الله في الأمر ويضع حداً نهائياً للمجادلة بين أيوب وأصحابه، فهو لا يحاجج على أساس الاختبار، ولا يستند على التقاليد القديمة، ولا ينطق بنبرات الناموس والقضاء، ولكنه يُحضِر الله. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء كل مجادلة وإسكات كل فم وإبطال كل حرب كلامية. دعنا الآن نسمع ماذا يقول هذا الشخص العجيب:

«وكان أليهو قد صبر على أيوب بالكلام، لأنهم أكثر منه أياماً. فلما رأى أليهو أنه لا جواب في أفواه الرجال الثلاثة حمي غضبه» (أي 4:32، 5).

لاحظ القول: «أنه لا جواب». ففي كل حججهم وبراهينهم وفي كل إشاراتهم إلى الاختبار والتقليد والقضاء لم يكن هناك من جواب. هذه نقطة ملأي بالتعليم والإرشاد، فأصحاب أيوب قد طرقوا كل باب وجالوا في كل ميدان. قالوا أشياء حقيقية كثيرة وجربوا أجوبة عديدة ولكنهم مع ذلك لم يجدوا جواباً! نعم لا يوجد في دائرة الأرض أو الطبيعة أي جواب للقلب المتمسك ببره الذاتي. الله وحده يستطيع الإجابة على قلب كهذا وسنرى ذلك في النتيجة. والقلب غير المنكسر يستطيع أن يجد جواباً حاضراً لكل من يتكلم معه ما عدا الله - هذا أمر نجده ظاهراً في غاية الوضوح في التاريخ الذي نتأمل فيه الآن. أصحاب أيوب لم يجدوا جواباً:

«فأجاب أليهو بن برخئيل البوزي وقال: أنا صغير في الأيام وأنتم شيوخ، لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكم رأيي. قلت: الأيام تتكلم (ولكن يا للأسف فهي إما أن لا تتكلم مطلقاً وإما أن تتكلم جهلاً وغباءً!) وكثرة السنين تظهر حكمة. ولكن في الناس روحاً، ونسمة القدير تعقِّلهم» (أي 6:32 - 8).

هنا ابتدأ النور الإلهي، أو بالحري نور الوحي ينبثق ويلقي شعاعه على المسرح ويبدد تلك الغيوم الكثيفة التي سببتها مجادلة الألسنة ونحن نشعر بما هنالك من قوة أدبية جديدة في عين اللحظة التي ابتدأ فيها هذا الخادم المبارك يفتح شفتيه، لا بل نشعر أننا نسمع رجلاً يتكلم كما بأقوال الله. رجلاً يعرف تماماً أنه واقف في حضرة الله، رجلاً لا يستمد وحيه من مخزن اختباره الحقير الصغير ذي الوجه الواحد كما أنه ليس بالرجل الذي يستشهد بالآثار التالدة الغالية أو بالتقاليد المشوشة المربكة أو بأصوات الآباء المتضاربة. كلا فأمامنا رجل يقودنا تواً إلى حيث «نسمة القدير» نفسه.

هذه هي السلطة الصحيحة والمقياس الذي لا يخطئ:

«ليس الكثيرو الأيام حكماء، ولا الشيوخ يفهمون الحق. لذلك قلت: اسمعوني. أنا أيضاً أبدي رأيي. هأنذا قد صبرت لكلامكم أصغيت إلى حججكم حتى فحصتم الأقوال. فتأملت فيكم وإذ ليس من حجَّ أيوب، ولا جواب منكم لكلامه. فلا تقولوا: قد وجدنا حكمة. الله يغلبه لا الإنسان. فإنه لم يوجه إلىَّ كلامه ولا أرد عليه أنا بكلامكم. تحيروا. لم يجيبوا بعد. انتزع عنهم الكلام» (أي 9:32 - 15).

ها هو الاختبار والتقليد والناموس يُكسحون بعيداً ليتركوا مكاناً «لنسمة القدير» ولحكم روح الله وخدمته المباشرة النافذة المفعول.

إن خدمة أليهو تتجه بقوة غريبة وكمال عجيب إلى النفس مباشرة. وهي تتناقض تماماً مع خدمة الأصحاب الثلاثة الناقصة وذات الوجه الواحد. والحق يقال إننا نتنفس الصعداء إذ نصل إلى نهاية مناقشة طويلة يظهر أنها كانت مزمعة على أن لا يكون لها نهاية. مناقشة بين بر الذات من جانب، والاختبار والتقليد والقضاء من جانب آخر - مناقشة قد خلت من كل فائدة فيما يختص بأيوب نفسه بينما هي قد تركتهم جميعاً وهم حيث كانوا في البداية لم يتقدموا شبراً واحداً.

ومع كلٍ فهذه المناقشة لا تخلو من فائدة لنا نحن. فهي تعلمنا بطريقة واضحة جلية أنه عندما يدخل طرفان في مباحثة فليس من الممكن البتة أن يصلا إلى تفاهم ما لم يوجد قليل من التواضع والخضوع في طرف منهما. وهذا درس ثمين جداً نحتاج كلنا أن ننتبه إليه انتباهاً خاصاً، إذ يوجد كثير من التصلّف والأفكار المتشامخة ليس فقط في العالم ولكن أيضاً في الكنيسة. كثير من المشغولية بالذات وكثير من "أنا. أنا. أنا" وهذه الروح تظهر أيضاً حتى حيث لا نحسب لها وجوداً، وفي الغالب حيث تكون مندسة بصورة خفية أو بعبارة أخرى في الأمور المتعلقة بخدمة المسيح المقدسة. ونحن نؤكد بلا أي تردد أن محبة الذات تكون أكره ما يكون عندما تظهر نفسها في طريق خدمة ذاك القدوس المبارك الذي لم يجعل لنفسه أي صيت أو جاه والذي كانت حياته كلها حياة إخلاء النفس من البداية للنهاية ولم يقصد مجده الذاتي في أي عمل من أعماله ولم يجرِ قط وراء مصلحته الذاتية أو إرضاء مطاليبه الشخصية.

ولكن ألا ترى مع كل ذلك أيها القارئ العزيز كم من الأنانية ومظاهر الذات تتجلى على مسرح المسيحية الاسمية والخدمة المسيحية؟ إننا بكل أسف لا يمكنا أن ننكر هذا الأمر، ومع كل ذلك تأخذنا الدهشة عندما يقع نظرنا على المناقشة الغريبة التي دارت بين أيوب واصحابه. نعجب كل العجب عندما نرى ما يقرب من مائة مرة فيها يشير أيوب إلى نفسه في الأصحاحات 29 - 31 وحدها، أو بالاختصار، عندما نرى كلمة "أنا" تملأ المشهد من أوله لآخره.

ولكن دعنا ننظر إلى أنفسنا. دعنا نحكم على قلوبنا ونفحص ما في أعماقها. دعنا نمتحن طرقنا في نور الحضرة الإلهية. دعنا نُحضِر كل أعمالنا وخدماتنا ونزنها في موازين مقادس العلي. عندئذ ينكشف لنا كم من الذات وروح الأنانية الممقوتة مندسة في كل أعمالنا كخيوط سوداء نجسة تشوه جمال نسيج خدمتنا وحياتنا المسيحية. نرى مثلاً كيف أننا في مرات عديدة أخذتنا الحمية عندما مُست كرامتنا ولو بصورة خفية. ألم نُظهِر الضجر وعدم الصبر أمام صوت الإنذار والتوبيخ، مهما أتانا في ثوب التواضع واللطف والمحبة؟ لِمَ نغضب ونستاء من أقل إهانة تمس ذواتنا؟ ولِمَ فوق كل ذلك نرى عواطفنا وإحساساتنا وأميالنا تتجه بصورة خاصة نحو الذين يظنون بنا حسناً ويقدرون خدمتنا ويشاركوننا في آرائنا ويتمسكون بأهدابنا؟

ألا يوجد هناك شيء تدلنا عليه كل هذه الأمور؟ أليس الأصوب أنه بدلاً من أن نجلس كقضاة نحكم على ما في أيوب من الأنانية، علينا أولاً أن نتخلص من كثير مما هو فينا؟ صحيح أن أيوب لم يكن محقاً ولكن نحن في الوقت نفسه أكثر منه خطأ. إننا إن كنا ندهش من أيوب لسقوطه في شرك المشغولية بالذات، وهو ذلك الرجل الذي كان يعيش في ظلام عصر الآباء البعيد، فكم يجب أن تكون دهشتنا أشد لوقوعنا نحن في نفس الشرك بينما نعيش في نور المسيحية الوهّاج. فالمسيح لم يكن قد جاء بعد، لا بل لم يكن قد وصل للأذن أي صوت من صوت الأنبياء، وحتى الناموس لم يكن قد أُعطى بعد، عندما كان أيوب عائشاً وعندما تكلم وأبدى أفكاره. نحن يمكننا أن نصوِّر لأنفسنا ذلك الشعاع الضئيل الذي كان الناس يهتدون به في أيام أيوب، ولكن نحن قد صار لنا هذا الامتياز السامي المقرون بالمسئولية المقدسة، ألا وهو امتياز السير في رائعة نهار المسيحية ونور شمسها الوهّاج. فالمسيح قد أتى، وعاش، ومات، وقام، وصعد إلى السماء، وأرسل الروح القدس ليسكن في قلوبنا كشاهد لمجده وكختم الفداء الأبدي وعربون الميراث. قد تم الكتاب وأُقفل باب الإعلانات، وكلمة الله قد صارت في تمام ملئها وعندنا تاريخ ذاك الذي أخلى نفسه وجال يصنع خيراً - عندنا السجل العجيب لكل شيء عمله وكيف عمله. كل ما قاله وكيف قاله، مَن هو وكيف كان هو، نعلم أنه مات من أجل خطايانا كما هو مكتوب في الكتب، أنه دان الخطية وأبعدها بعيداً. إن طبيعتنا القديمة - تلك الطبيعة الممقوتة المسماة بالذات والخطية والجسد - قد صُلبت ودُفنت بعيداً عن وجه الله - انتهت إلى الأبد فيما يختص بقوتها علينا، زيادة على ذلك قد صرنا شركاء الطبيعة الإلهية، لنا الروح القدس الساكن فينا. أعضاء جسد المسيح من لحمه ومن عظامه. مطالبون أن نسير كما سار هو - ورثة المجد - ورثة الله وشركاء مع المسيح.

أي شيء كان يعرفه أيوب من هذه الأمور كلها؟ لا شيء. ومن أين كان له أن يعرف شيئاً لم يعلن إلا بعد نيف وخمسة عشر قرناً من جيله؟ إن كل ما كان يعرفه أيوب قد بسطه أمامنا في تلك الكلمات الحماسية القليلة التي نجدها في ختام الأصحاح التاسع عشر:

«ليت كلماتي الآن تكتب. يا ليتها رسمت في سفر، ونقرت إلى الأبد في الصخر بقلم حديد وبرصاص. أما أنا فقد علمت أن وليي (فادي) حي، والآخِر على الأرض يقوم، وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله. الذي أراه أنا لنفسي، وعيناي تنظران وليس آخر. إلى ذلك تتوق كليتاي في جوفي» (أي 23:19 - 27).

هذه هي كل معرفة أيوب وهذه عقيدته. نعم إنها في ذاتها تتضمن شيئاً كثيراً، ولكن هذا الشيء يعتبر قليلاً جداً بالمقابلة مع دائرة الحقائق التي من امتيازنا نحن أن نعيش في وسطها. قد تطلع أيوب من خلال نور الغسق الضئيل في أن شيئاً كان مزمعاً أن يتم في المستقبل البعيد بالنسبة له، ولكننا نحن نتطلع من وسط نور الإعلانات الإلهية الكامل فنرى شيئاً قد تم فعلاً. استطاع أيوب أن يقول عن وليه: «الآخِر على الأرض يقوم» ولكن نحن نعلم أن ولينا جالس الآن عن يمين العظمة في الأعالي بعد أن عاش وعمل ومات على الأرض.

وبالاختصار نقول: إن نصيب أيوب من النور والامتياز لا يمكن أن يقارَن بما نتمتع به نحن، ولهذا عذرنا أضعف لسقوطنا في شرك الذات والمشغولية بها بصورها المختلفة، لأنه يجب أن يكون إنكارنا لذواتنا بنسبة ما عندنا من نور وامتياز روحي. ولكن يا للأسف إذ هذا ليس حالنا. نحن نتمسك بأسمى الحقائق ولكننا لا نجعلها تسود على سيرتنا وتكيّف أخلاقنا. نتكلم عن الدعوة السماوية ولكن كل طرقنا أرضية جسدية أو ربما أردأ من ذلك. نحن نعترف بأننا متمتعون بأسمى نسبة ولكن حالتنا لا تتفق مع اعترافنا، ومركزنا الحقيقي لا يتمشى مع مركزنا الادعائي. أفكارنا متشامخة. سريعو التأثر وصلبو الرأي. سريعو الغضب، ولسنا أقل استعداداً من أيوب للدخول في مضمار تبرير ذواتنا كما فعل هو. ومن الجهة الأخرى كم من الشدة والخشونة والقساوة نستخدمها مع مَن نشعر أننا مدعوون لإسماعه صوت التوبيخ والإنذار؟ ما أقلاللين والاحساسات الرقيقة! وما أقل العطف والشفقة، وما أقل «الدهن الطيب»، لا بل وما أندر القلب المنكسر والعين الدامعة! وما أضعف مقدرتنا على قيادة أخينا الساقط إلى حالة الانسحاق ووضع الوجه في التراب! لِمَ كل ذلك؟ فقط لأننا نحن أنفسنا لسنا معتادين على حالة الوجود في التراب. إذا كنا نشعر من الجهة الواحدة أننا لسنا أقل من أيوب في مسألة المشغولية بالذات وتبرير النفس، فنحن من الجهة الأخرى، لسنا أكثر كفاءة من أصحاب أيوب للوصول بأخينا إلى حالة الحكم على الذات. فكم من المرات مثلاً نُصفّ حوادث اختبارنا الماضي كما فعل أليفاز أو نظهر روح القضاء كما فعل صوفر أو نستند على سلطة بشرية كما فعل بلدد! ما أقل ما يظهر فينا من روح المسيح وفكره! ما أقل ما نستخدمه من قوة الروح القدس أو سلطان كلمة الله!

إنه ليس من الأمور المُسِرّة أن نكتب هكذا، ولكن الواقع هو بخلاف ذلك تماماً، لأننا نرى أنفسنا ملزمين أن نقرر هذه الأمور لأننا نشعر شعوراً حقيقياً بحالة التراخي وعدم الاكتراث السائدة في أيامنا هذه، فإنه يوجد فرق مخيف بين ما ندعيه وبين سلوكنا العملي، وأننا نعلن أسمى الحقائق بينما نحن غارقون إلى ذقوننا في أمورنا العالمية والمشغولية بذواتنا، لا بل يظهر في بعض الحالات وكأنه بمقدار ما تكون المبادئ سامية بمقدار ما يكون السلوك مُنحطاً. فالحقائق كثيرة بيننا ولكن أين قوتها. فيضان من النور يغمر أذهاننا ولكن أين تدريب القلب والضمير في حضرة الله. نتمسك بحرفية المكتوب ولكن أين النتيجة العملية الحقّة. نتمسك بالحرف ولكن أين الروح. عندنا صورة التعليم ولكن أين التطبيق العملي.

أيُفهم من كلامنا هذا أننا لا نقدِّر المبادئ الصحيحة ودقة المكتوب أو أننا نُقلل من قيمة انتشار الحق الثمين في أسمى وأكمل مستواه؟ كلا وألف كلا. فإن اللغة البشرية لتعجز تمام العجز عن تصوير ما لهذه الأمور كلها من مكانة في قلوبنا. حاشا لله أن يسمح لنا البتة أن نسطر كلمة واحد يكون من شأنها أن نحقِّر، في نظر القارئ، القيمة التي لا يُعبَّر عنها والأهمية العظمى للتعليم الصحيح والحق في أسمى مقياس له لأننا نعتقد تمام الاعتقاد أنه لا يمكننا ولن يمكننا تحسين حالتنا الأدبية بواسطة تخفيضنا، ولو قيد شعرة، لمقياس المبدأ الصحيح.

ولكن أيها القارئ المسيحي دعنا نسألك هذا السؤال بكل وداعة ولطف، ولكن بصورة جدية، ألا ترى أنه يوجد في وسطنا نقص كبير ومُحزِن للغاية فيما يختص بالضمير الحي والقلب المتدرب؟ أتقوانا العملية تتمشى مع ما ندعيه لأنفسنا من مبادئ سامية؟ أمنسوب سلوكنا متساوٍ مع منسوب مبادئنا؟

آه! إننا نتوقع الرد من القارئ العزيز المتأمِّل جدياً في الأمر. إننا نعرف تماماً أنه سيتفق معنا في الجواب لأنه من الواضح جداً أن الحق ليس له سلطان على ضمائرنا ونور المبدأ الصحيح والتعليم المستقيم لا يضيء في حياتنا وأن سلوكنا العملي لا يتفق مع ادعائنا اللفظي.

إننا نكتب هذه الكلمات لأنفسنا، والله نفسه شاهد، أننا ندوِّن هذه السطور في حضرته بروح الحكم على الذات، وأن شهوة قلوبنا هي أن تخترق السكين حُجب النفس وتصل إلى أعماق القلب فتستأصل ما هنالك من جذور ردية. الرب نفسه يعلم كم نحن نفضِّل أن نضع الفأس على أصل الذات ونتركه هناك يعمل عمله. ولكننا في الوقت نفسه نشعر أن علينا واجباً، من نحو القارئ بصفة خاصة، وكنيسة الله بصفة عامة، وأن هذا الواجب لا يمكنا تتميمه بجلوسنا فقط لنكتب ما هو ثمين وجميل وحق. إننا نعتقد تمام الاعتقاد أن الله لا يريد فقط أننا نحن ندرب قلوبنا وضمائرنا ولكنه أيضاً يريدنا أن نعمل على تدريب قلوب وضمائر إخوتنا.

إننا نعلم تمام العلم ذلك الحق الذي كثيراً ما يُذكَر، وكثيراً ما تبرهن عليه الظروف، ألا وهو أن العيشة العالمية والسلوك الجسدي والانغماس في شهوات النفس على كافة أصنافها من ملبس ومأكل وخدم وحشم وأزياء وتقليد وطيش وكبرياء وافتخار بالنسب والحسب وتشامخ الأفكار والتظاهر بالغنى والجاه، نقول إننا نعلم تمام العلم أن هذه الأمور كلها لا يمكن أن نغلبها أو نُحقِّر من شأنها بواسطة الكلام أو الكتابة أو المحاضرات. ولكن أليس من واجبنا أن نخاطب الضمائر؟ ألا يجب أن يرن في الأذن صوت الإنذار المقدس؟ هل نصبر على حالة الاستهانة والاستخفاف والفتور اللاودكي الذي يمهّد الطريق لانتشار الشك والإلحاد والكفر العملي ونقف مكتوفي الأيدي لا نُحرِّك ساكناً ولا نُنهِض ضمائرنا وضمائر مَن هم حولنا؟ حاشا لله أن يسمح بذلك. صحيح أنه لا يوجد شك في أن أحسن وأنجح طريقة إنما هي إبعاد الشر بعمل الخير، وإخضاع الجسد بالروح، وإبدال الذات بالمسيح، ومحبة العالم بمحبة الآب. كل هذا نعرفه جيداً ونعترف به صريحاً، ولكن مع معرفتنا واعترافنا بكل هذا يجب علينا أن نقرر أمام ضمائرنا وضمائر القراء ضرورة التأمل في حالتنا وفحص قلوبنا فحصاً عميقاً في حضرة الله السرية والحكم على ذواتنا حكماً تاماً فيما يختص بكل طرقنا. وشكراً لإلهنا لأننا نستطيع أن نفعل كل ذلك ونجوز في هذه التدريبات أمام عرش النعمة - كرسي الرحمة الثمين. مكتوب «لتملك النعمة»، ويا لها من جملة تملأ القلب فرحاً وتعزية، أهذه النعمة تمنعنا من تدريب نفوسنا؟ كلا، بل إنها تجعله أكثر لزوماً وأعظم قيمة. إننا نقيم في النعمة الغالية المالكة، ليس لكي نستسلم لأهواء نفوسنا، بل لكي نُخضِعها ونُذلها بأكثر شدة وقوة.

ليت الرب يجعلنا متواضعين حقيقياً وهكذا مخلصين ومكرسين حياتنا له. ويا ليت نبضات القلب العميقة وأناته - قلب الكاتب والقارئ - تكون دائماً: "أبي المبارك. إني لك. لك وحدك. لك بجملتي. لك إلى الأبد!".

قد يعتبر البعض أن هذا شرود عن موضوعنا، ولكنا نحن نرجو من جانبنا أن لا يكون هذا الشرود بلا جدوى، بل يكون بنعمة الله سبب بركة وفائدة لقلب وضمير الكاتب والقارئ معاً، وعندئذ يمكنا فهم خدمة أليهو وتقدير قيمتها التي نعود الآن إليها معتمدين في تأملنا على الإرشاد الإلهي دون سواه.

لا يفوت القارئ أن يلاحظ التأثير المزدوج الذي لهذه الخدمة - تأثيرها على أيوب، وتأثيرها على أصحابه. هذا ما ننتظره فقد رأينا أليهو يصغي بكل صبر وطول أناة إلى حجج الطرفين ورأيناه يستمع لكل ما كان عندهما ليقولاه. سمح لهما أن يذهبا إلى أبعد ما في استطاعتهما، وأن يقولا كل ما كان ممكناً لهما قوله. «وكان أليهو قد صبر على أيوب بالكلام، لأنهم أكثر منه أياماً» (4:32). هذا منتهى الذوق والأدب وفيه ترتيب أدبي بديع، ولا شك أنه كان ترتيب روح الله. حقاً إن التواضع في الشاب لهو زينة جميلة، ويا ليتنا نرى في وسطنا كثيرين من هذا النوع. فلا شيء أكثر جاذبية في الشاب من روح الهدوء والوداعة، وما أقوى هذه الجاذبية وأشدها بنوع خاص في الشخص الذي يضم نفساً سامية تحت ثوب الوداعة والتواضع الخارجي فإن القلب لينجذب رغماً عنه إلى شخص مثل هذا. ولكن من الجهة الأخرى لا يوجد شيء أشد مكرهة للنفس وتنفيراً لها من روح التهجم والثقة بالذات والغرور الذي يظهر في كثير من الشبان في وقتنا الحاضر وهؤلاء حسناً يفعلون إن هم تأملوا في كلمات أليهو الافتتاحية واتخذوه هو مثالاً لهم.

***

8

«فأجاب أليهو بن برخئيل البوزي وقال :أنا صغير في الأيام وأنتم شيوخ، لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكم رأيي. قلت: الأيام تتكلم وكثرة السنين تظهر حكمة» (أي 6:32، 7).

هذا هو النظام الطبيعي. فنحن ننتظر من الرؤوس المُكللة بالشيب أن تكون محتوية على كثير من الحكمة، ومن ثم كان من اللائق واللازم أن يكون الشبان مُسرعين للاستماع مُبطئين في التكلم عندما يكونون في حضرة الشيوخ. ويمكنا أن نقرر كمبدأ يكاد يكون ثابتاً أن كل شاب مُتهجِّم ومُتسرِّع إنما هو غير منقاد بروح الله، وأنه لم يسبق له أن قاس نفسه في الحضرة الإلهية، وأنه لم ينسحق تماماً أمام الله.

لا شك أنه كثيراً ما يحدث، كما في مسألة أيوب وأصحابه، أن الشيوخ يفوهون بأشياء هي في منتهى الغباوة، فالشيب والحكمة ليس من الضروري أن يسيرا دائماً معاً. وكثيراً ما يحصل أن يعتمد الشيوخ على مجرد تقدمهم في الأيام ويأخذون لأنفسهم مركزاً ليس لهم فيه أي نصيب من الكفاءة سواء أكان من الوجهة الأدبية أم العقلية أم الروحية. كل هذا صحيح ويجب أن يتأمل فيه كل من يخصهم الأمر. ولكن كل هذا لا يمس البتة جمال ذلك الشعور الرقيق الذي تتضمنه كلمات أليهو الافتتاحية:

«أنا صغير في الأيام وأنتم شيوخ، لأجل ذلك خِفت وخشيت أن أبدي لكم رأيي» (أي 6:32).

هذا دائماً حق، فإنه يليق بالصغير في الأيام أن يخاف من إبداء رأيه. وإننا نثق تمام الثقة أن الرجل الذي يملك قوة أدبية في نفسه، أو بالحري من في رأيه فائدة، لايتسرع البتة بل يتمهل، وإذا ما تقدم للكلام وجد آذاناً صاغية بكل انتباه واحتراما، ذلك لأن الوداعة إذا اقترنت بالقوة الأدبية أكسبت النفس فتنة وجمالاً، وجعلتا منها سحراً، بينما صورة الثقة بالذات تقف دائماً عقبة كؤود حتى في سبيل أعظم الكفاءات.

يستمر أليهو قائلاً:

«ولكن في الناس روحاً، ونسمة القدير تعقلهم» (ع 8)

هذا يأتي بعنصر جديد على الإطلاق ففي اللحظة التي فيها يدخل المشهد روح الله لا تبقى المسألة بعد مسألة صغير أو كبير، إذ الروح يستطيع أن يتكلم بالصغير وبالكبير على السواء «لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي يقول رب الجنود» (زك6:4) هذا حق على الدوام، حق للآباء، حق للأنبياء، حق للرسل، حق لنا وحق للجميع، فليس بالقوة أو القدرة الإنسانية بل بالروح الأزلي.

هنا نجد السر العميق في قوة أليهو الهادئة، كان ممتلئاً بالروح ومن هنا ننسى في الحال حداثة سنه بينما نميل لنستمع لكلمات القوة الروحية والحكمة السماوية الخارجة من فمه، وإنه ليذكرنا بذاك الذي كان يتكلم كمن له سلطان وليس كالكتبة. هناك فرق كبير بين إنسان يتكلم كما بأقوال الله وبين آخر يتكلم على سبيل الواجب المفروض عليه فرضاً، بين إنسان يتكلم من القلب بمسحة الروح القدس وبين آخر يتكلم من العقل بسلطان بشري. مَن يستطيع أن يقدِّر الفرق بين هذين الاثنين؟ لا أحد سوى أولئك الذين لهم فكر المسيح ويمارسونه عملياً.

*

ولكن دعنا نتتبع خطاب أليهو. إنه يخبرنا:

«ليس الكثيرو الأيام حكماء - يا له مـن قولٍ صائب - ولا الشيوخ يفهمون الحق. لذلك قلت: اسمعوني. أنا أيضاً أبدي رأيي. هأنذا قد صبرت لكلامكم. أصغيت إلى حججكم حتى فحصتم الأقوال. فتأملت فيكم وإذ ليس من حجَّ أيوب ولا جواب منكم لكلامه» (أي 9:32 - 12).

لنلاحظ هذا القول بصفة خاصة. «ليس من حج أيوب» هذا كان في غاية الوضوح. فأيوب كان بعيداً عن الاقتناع في ختام المناقشة، كما كان في بدئها تماماً. لا بل في الواقع نستطيع أن نقول إن كل حجة جديدة جئ بها من كنز الاختبار أو التقليد أو القضاء لم تكن إلا لتثير شيئاً جديداً في أعماق طبيعة أيوب غير المدانة، غير المخضعة، غير المُماتة. هذا حق أدبي خطير نراه موضحاً في كل صفحة من صفحات السفر المفتوح الآن أمامنا.

وما أمجد السبب لكل هذا وما أكثر ما نجده فيه من تعليم.

«فلا تقولوا: قد وجدنا حكمة. الله يغلبه لا الإنسان» (ع 13).

لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمام الله. قد يفتخر بنفسه في الخارج، قد يقدم ادعاءاته ويفتخر في موارده وينتفخ بجلائل أعماله ما دام الله ليس في فكره. ولكن فقط أَدخِل الله في المشهد فلا بد أن يتبدد في لحظة كل افتخار كاذب واعتداد فارغ ومجد باطل وادعاء متشامخ.

أيها القارئ العزيز، دعنا نتذكر القول: «أين الافتخار؟ قد انتفى» أي نعم. كل افتخار - افتخار أيوب - افتخار أصحابه. إذا كان أيوب قد نجح في تثبيت قضيته، كان له أن يفتخر، وإذا كان أصحابه من الجهة الأخرى قد نجحوا في إسكاته، كان لهم أيضاً أن يفتخروا، ولكن كلا «الله يغلبه لا الإنسان».

هذا ما كان، وهذا هو الكائن، وهذا ما لا بد أن يكون إلى أبد الآبدين. الله يعرف كيف يُخضِع القلب المتكبِّر ويكسر الإرادة العنيدة العاصية. من العبث المطلق أن يحاول أي إنسان أن يرفع نفسه، إذ يمكننا أن نستريح واثقين أن كل نفس ترتفع لا بد، إن آجلاً أو عاجلاً، أن تنخفض. هكذا قد عينت ورسمت سياسة الله الأدبية أن كل عالٍ ومرتفع لا بد أن ينخفض. هذا حق نافع لنا جميعاً، ولكن خاصة بالشبان المتحمسين الطامحين. حسن أن يبقى الإنسان في الظل لأنه من هناك يمكنه أن يتمتع أكثر بضوء الشمس الوضاح. هذا قد يبدو لغزاً ولكنه للإيمان في غاية الوضوح، فالطريق المتواضع، المتواري، المغطى بالظل، هو بلا شك أأمن وأسعد وأحسن طريق. فيا ليتنا كلنا نوجد سالكينه إلى أن نصل إلى ذلك المشهد البهي المنير المبارك حيث لا وجود للكبرياء ولا للمطامع إذ هي غريبة عنه وغير معروفة فيه.

كان لكلمات أليهو الافتتاحية وقع شديد على أصحاب أيوب الثلاثة:

«تحيروا. لم يجيبوا بعد. انتزع عنهم الكلام. فانتظرت لأنهم لم يتكلموا. لأنهم وقفوا، لم يجيبوا بعد. فأجيب أنا أيضاً حصتي، وأُبدي أنا أيضاً رأيي - ولئلا يظن أحد أنه كان ينطق بكلماته الخاصة يقول: لأني ملآن أقوالاً. روح باطني تضايقني» (أي 15:32 - 18).

هذا هو النبع الصحيح والقوة لكل خدمة في كل العصور والأجيال. يجب أن يكون «وحي القدير» وإلا لكانت الخدمة باطلة لا تستحق شيئاً على الإطلاق.

إننا نكرر القول: إن هذا هو النبع الوحيد الصحيح لكل خدمة في كل زمان وفي كل مكان، وإننا إذ نقول هذا، لا ننسى أن تغييراً عظيماً قد حدث عندما صعد المسيح ربنا إلى السماء وجلس عن يمين الله على أساس عمله الفدائي الكامل. إننا كثيراً ما أشرنا إلى هذا الحق المجيد في مجلتنا "المراعي الخضراء" ولهذا لن نسمح لأنفسنا الآن التوسع فيه والتنبير عليه، وإنما فقط نُلمّح إليه في هذا المكان لئلا يتبادر إلى ذهن القارئ أننا عندما نتكلم عن نبع الخدمة الصحيح في كل العصور ننسى ما تمتاز به كنيسة الله في الوقت الحاضر كنتيجة لموت وقيامة المسيح وحضور وسكنى الروح القدس في كل فرد من المؤمنين، وفي الكنيسة كمجموع التي هي جسد المسيح على الأرض. حاشا لنا أن ننسى هذا الأمر بل شكراً ومديحاً لله لأنه أوجد فينا حاسة عميقة لتقدير قيمة هذا الحق الخطير المجيد وأهميته العملية بحيث أنه لا يمكننا أن نتغاضى عنه لحظة واحدة. وفي الواقع أن هذا الشعور العميق فينا، مضافاً إليه تذكرنا محاولات الشيطان المتواصلة ليجعل الناس يتجاهلون حق حضور الروح القدس في الكنيسة، هو الذي يقودنا لتدوين هذه الفقرة التحذيرية.

على أن مبدأ أليهو يجب أن يستمر حقاً نافذ المفعول، إن أراد أحد أن يقول بقوة وتأثير فعلي، عليه أن يكون قادراً على أن يقول على نوع ما:

«لأني ملآن أقوالاً. روح باطني تضايقني. هوذا بطني كخمرٍ لم تفتح. كالزقاق الجديدة يكاد ينشق. أتكلم فأخرج. أفتح شفتي وأجيب» (أي 18:32 - 20).

هذا ما يجب أن يكون دائماً، بقدرٍ ما على الأقل، مع كل شخص يريد أن يتكلم بقوة حقيقية وتأثير عملي، إلى قلوب وضمائر سامعيه. إن كلمات أليهو الجذابة لتذكرنا رغماً عنا بذلك الفصل المشهور الوارد في الأصحاح السابع من إنجيل يوحنا «مَن آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي». صحيح أن أليهو لم يكن يعرف الحق المجيد المتضمن في كلمات ربنا هذه إذ لم تكن قد تحققت إلا بعد مضي خمسة عشر قرناً من جيله. ولكنه على أي حال قد عرف المبدأ - كان عنده البذرة لما كان مزمعاً أن يكون بعد ذلك شجرة يانعة ومثمرة ثمراً غنياً. عرف أن الإنسان إذا أراد أن يتكلم بدقة وتأثير وقوة وجب عليه أن يتكلم بوحي القدير. قد أصغى حتى تعب لأناس كانوا يتكلمون بكلام لا قوة فيه، ناطقين ببعض حقائق مستمدين إياها من اختبارهم الشخصي أو من مخازن التقليد البشري. أصغَى حتى كاد أن ينفجر من كلامهم، ولكنه وقف بقوة الروح النشيط، وأخذ يخاطب سامعيه كشخص يتكلم كما بأقوال الله.

هنا يوجد السر العميق المبارك لكل خدمة قوية ناجحة. يقول بطرس «إن كان أحد يتكلم فكأقوال الله» لنلاحظ جيداً أن المسألة ليست مجرد الكلام بحسب المكتوب - الأمر الكلي الأهمية والأساسي بلا نزاع - ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك. قد يقف إنسان ويخاطب سامعيه ساعة من الزمن ولا ينطق من أول خطابه إلى آخره بكلمة أو جملة تتنافى مع المكتوب، ومع ذلك فقد لا يكون متكلماً كما بأقوال الله في تلك الساعة المعينة، وقد لا يكون عاملاً كبوق الله أو كالمُعلِن لفكره تعالى للنفوس المحيطة به.

هذا مبدأ خطير للغاية، ويتطلب انتباهاً جدياً من كل الذين يشعرون بأنهم مدعوون لفتح شفاههم وسط شعب الله، فلا يجوز أن تنطق بشيء معين من الحق وشيء آخر تهمله.

***

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.