لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

القداسة

الوهمية والحقيقية

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الجزء الثانى: القداسة من وجهة تعليمية

معنى التقديس

التقديس بالروح القدس : داخلياً

التقديس بدم المسيح : أبدياً

التقديس بواسطة كلمة اللّه ونتائجه الخارجية

تقديس الارتباط العائلى

الموت للخطية، والمحبة الكاملة

معمودية الروح القدس ونار

الكمال كما هو فى المكتوب

التطهير من كل خطية - والانقياء القلب

« كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية » أو طبيعتا المؤمن

ملاحظات ختامية عن «الحياة المسيحية الأسمَى»

الجزء الثانى

القداسة من وجهة تعليمية

معنى التقديس

إنه من الأهمية بمكان عند بدء بحث موضوع التقديس كما هو موضح فى الكتاب، أن يكون لدى القارىء والكاتب فهم واضح للمعنى الذى تحمله هذه الكلمة. لأنه إذا كان عند الكاتب فكر فى ذهنه عندما يستخدم هذا الاصطلاح بينما القارىء له فكر مختلف كل الاختلاف عندما يطالع هذا الكتاب؛ فلا يمكن الوصول إلى نتيجة مشتركة.

وإنى أرى، كبداية، أن ندع اللاهوتيين ومعلمى التقديس يحددون لنا معنى هذه الكلمة؛ وبعدئذ نرجع إلى المكتوب لنمتحن أقوالهم. ولنأخذ أمثلة من أقوالهم: "التقديس بالمعنى اللاهوتى هو: جعل النجس الخاطىء مقدساً تماماً. إنه عمل النعمة الإلهى التدريجى فى النفس المبررة بواسطة محبة المسيح. فالمؤمن يتطهر بالتدريج من فساد طبيعته، وفى النهاية يقف أمام مجده بلا عيب فى الابتهاج" هذه عبارة بسيطة توضح وجهة النظر العادية لكثيرين من اللاهوتيين وهى مأخوذة من قاموس الكتاب تأليف و.و.راند.

والقواميس اللغوية المتداولة تتفق غالباً فى أن "التقديس عمل نعمة الله الذى به تتطهر ميول الإنسان وتسمو"، وهذا التعريف، كما يُلاحظ، يتفق عملياً مع التعريف السابق. وكُتاب القداسة فى غاية الصراحة، وهم دائماً يوجهون الأنظار إلى مايظنونه من فرق بين التبرير والتقديس، وإنى سوف لا أقتبس من مراجعهم عن هذا الموضوع، ولكنى أضع التعليم فى لغتى الخاصة، كما كنت أُعلِّم به مراراً فى السنين الماضية، لكى أتيح الفرصة لأساتذة التقديس عندما يقرأون هذه الصفحات أن يحكموا لأنفسهم عن مبلغ وضوح هذا الأمر عندى لما كنت بينهم.

فالتبرير، كما كنت أظن وقتها، هو عمل نعمة؛ به يصبح الخطاة عند إتيانهم إلى المسيح مبررين ومتحررين من كل عاداتهم الشريرة. ولكن النفس المبررة مجرد تبرير يبقى فيها أصل فاسد، شجرة ردية أو «أصل مرارة» يميل دائماً إلى الخطية. فإذا خضع المؤمن لهذا التأثير وارتكب الشر بإرادته يتلاشى تبريره، ومن هنا تنشأ الرغبة فى استئصال هذا الأصل حتى يقل احتمال الأرتداد إلى حد كبير. واستئصال هذا الأصل الشرير هو التقديس. فالتقديس إذاً فى نظرهم هو تطهير الطبيعة من كل غرائز الخطية الأصلية بواسطة دم المسيح (عند تطبيقه بالإيمان فى حالة تكريس النفس تكريساً تاماً) وبواسطة نار الروح القدس المطهِّرة التى تحرق كل زغل عندما يوضع الكل على مذبح التكريس. هذا، وهذا فقط، هو التكريس الحقيقى، وهو عمل ثانى للنعمة متميز، ويتلو التبرير، وبدونه يصبح التبرير قابلاً للضياع!!

ولاشك أن الثقاة فى مدرسة التقديس سيقرون هذا لأنه يعبر تعبيراً صحيحاً عن تعليمهم.

والآن دعنا نمتحن هذه العبارات فى ضوء كلمة الله. ولكى نتمم ذلك بدقة، أريد أن نتأمل أولاً فى بعض الفصول فى كلا العهدين، لنرى إن كان فيها ما يثبت صحة التعاريف المشار إليها سابقاً، وإنى أحب أن أقول إن القداسة والتقديس كلمتان مترادفتان، وأن هاتين الكلمتين هما ترجمة لكلمة واحدة فى اللغتين اليونانية والعبرية ويكفى أن أورد هنا إثنى عشر فصلاً مشهوراً لإيضاح كيفية استخدام هذا التعبير فى الكتاب المقدس.

1- تقديس الأشياء التى ليس لها روح تعلمنا إياه كلمة الله بوضوح «وتمسح مذبح المحرقة وكل آنيته وتقدس المذبح ليكون المذبح قدس أقداس. وتمسح المرحضة وقاعدتها وتقدسها» (خر40: 10، 11). هل يمكن أن نظن أنه كان يحدث أى تغيير فى طبيعة هذه الأشياء؟ أو أنه كان يقتلع منها أى عنصر شرير؟ ونقرأ أيضاً فى خروج19 : 23 «أقم حدوداً للجبل وقدّسه» هل حدث أى تغيير فى تكوين الجبل عندما أعطى الله عليه الناموس؟ ليجب القارىء بكل أمانة، وإذ ذاك لابد وأن يعترف أن كلمة «تقديس» المذكورة، على الأقل لا ينطبق عليها التعاريف السابق ذكرها، وسنرى ماذا تعنى عندما نسمع الاثنى عشرة شهادة كلها.

2- يمكن للناس أن يقدسوا أنفسهم بدون أى تدخل للقوة الإلهية، وبدون أى عمل للنعمة يحدث فيهم «وليتقدس أيضاً الكهنة الذين يقتربون إلى الرب» (خر19: 22). هل كان على هؤلاء الكهنة أن يغيروا طبيعتهم من طبيعة شريرة إلى طبيعة صالحة؟ أو أن يلاشوا من داخلهم مبدأ الشر؟ إنى أحثكم مرة أخرى أن تحكموا فى هذا الأمر بكل حكمة. إنى إنما أورد الشواهد، ولابد أنها هى نفسها تأخذ مركز الحَكَم.

3- ممكن لإنسان أن يقدس الآخرين «قدّس لى كل بكر... إنه لى» (خر13: 2) وأيضاً «فقال الرب لموسى اذهب إلى الشعب وقدّسهم... وليغسلوا ثيابهم» (خر 19: 10). ما هو التغيير الداخلى أو التطهير الذى كان على موسى أن يعمله للبكر أو لجميع إسرائيل؟ إنه لم يكن يغير شيئاً من خطيتهم الأصلية (الغريزية) كما تشهد بذلك صراحة الأصحاحات التالية.

4- الأشخاص يستطيعون تقديس أنفسهم لفعل الشر «الذين يقدسون ويطهرون أنفسهم فى الجنات وراء واحد فى الوسط آكلين لحم الخنزير والرجس والجرذ، يفنون معاً يقول الرب» (إش66: 17). يا له من تقديس مرعب! ويا له من فكر سخيف أن نظن أنه يوجد هنا تطهير داخلى!

5- الآب قدس الابن. «فالذى قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدف لأنى قلت إنى ابن الله؟» (يو10: 36). إنهم هم وليس هو الذى جدف، ولا يكون أقل من ذلك تجديفاً أن يقول أى شخص أن تقديس المسيح تضمن اقتلاع طبيعة فاسدة أو تغيير إرادة عاصية حاشا وكلا. لقد كان على الدوام القدوس ... الذى يُدعى ابن الله (لو 1: 35).

6- الرب يسوع قدّس نفسه «ولأجلهم أقدِس أنا ذاتى، ليكونوا هم أيضاً مقدَسين فى الحق» (يو17: 19). فإذا كان لأى من التعاريف السابقة أن يقوم، فماذا نقول فى هذه الحقيقة إن ذاك الذى قدسه الآب قد قدس نفسه أيضاً بعد ذلك؟ أليس واضحاً أن هناك تناقضاً عظيماً بين اللاهوتيين والمعلمين بالكمال وبين الكتاب؟!

7- غيرالمؤمنين يقدَّسون أحياناً «لأن الرجل غير المؤمن مقدس فى المرأة، والمرأة غير المؤمنة مقدسة فى الرجل. وإلا فأولادكم نجسون وأما الآن فهم مقدسون» (1كو7: 14). هنا نجد لمؤمن (أو مؤمنة) شريك حياة غير مُخلَّص، ومع ذلك يقال عنه إنه مقدس، فهل مثل هذا الشخص خال من الخطية الأصلية؟ أو سائر فى طريق تغيير الطبيعة التدريجى؟ إذا كان ذلك فكراً سخيفاً للغاية، فالتقديس إذاً لا يمكن أن يعنى أى اختبار مما سبق ذكره.

8- المؤمنون الجسديون مقدسون «بولس المدعو رسولاً ليسوع المسيح ... وسوستانيس الأخ إلى كنيسة الله التى فى كورنثوس، المقدسين فى المسيح يسوع» «وأنا أيها الأخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين، كأطفال فى المسيح ... لأنكم بعد جسديون، فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر»؟ (1كو1: 1، 2و 3 : 1، 3). هل يمكن أن يُقال إنهم كانوا جسديين ومع ذلك خالون من الخطية الأصلية؟ إن هذا مستحيل! ومع ذلك فإن الذين أعلن الرسول عنهم فى الأصحاح الأول أنهم مقدسون، يقول عنهم فى الأصحاح الثالث أنهم جسديون؛ فبأى منطق سليم يمكن أن نقول إن الذين ذُكروا فى الأصحاح الثالث يختلفون عن المخاطَبين فى الأصحاح الأول؟

9- لقد طُلِب منا أن نتبع القداسة «اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التى بدونها لن يرى أحد الرب» (عب12: 14). فبأى معنى يمكن أن يتبع الناس تغيير الطبيعة، أوكيف يتبعون استبعاد الذهن الجسدى؟ إنى أتبع ماهو أمامى، أتبع ما لم أدركه تماماً بالمعنى العملى، كما يخبرنا الرسول بولس أنه قد فعل ذلك (فى3 : 13 - 16).

10- المؤمنون مدعوون أن يقدسوا الله «بل قدسوا الرب الإله فى قلوبكم مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذى فيكم بوداعة وخوف» (1بط3: 15). كيف نفهم نصيحة مثل هذه إذا كان التقديس يتضمن تطهيراً داخلياً، أو جعل النجس مقدساً؟! أليس من الواضح أن هذا التعريف هكذا يقود إلى مثل هذه السخافات الواضحة؟

11- الأشخاص الذين يُخاطَبون كقديسين يُحرَّضون بعد ذلك على أن يكونوا قديسين «بطرس رسول يسوع المسيح إلى المتغربين من شتات بنتس وغلاطية وكبدوكية وأسيا وبيثينية المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق فى تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح ... بل نظير القدوس الذى دعاكم كونوا أنتم أيضا قديسين فى كل سيرة. لأنه مكتوب كونوا قديسين لأنى أنا قدوس» (1بط1: 1، 2، 15، 16). فكِّر فى عدم التوافق هنا إذا كان التقديس والقداسة يشيران إلى عمل داخلى به نقتلع الخطية الأصلية من كيان الشخص. إن المقدَسين يُحرَضون على أن يكونوا قديسين، بدلاً من أن يخبروا بأنهم قد تقدسوا فعلاً بالتمام لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى مثل هذا التحريض.

12- القديسون يخاطَبون بأنهم قد كُمِّلوا إلى الأبد «لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين» (عب10: 14). مَنْ مِن بين الكماليين ممكن أن يشرح هذا شرحاً مقنِعاً؟ لا يوجد شىء أكثر شيوعاً بين معلمى هذه العقيدة من مبدأ إمكانية أن يسقط ويهلك نهائياً أولئك الذين قد سبق تبريرهم وتقديسهم، وقد تمتعوا بأعجب الاختبارات. ومع هذا يذكر الكتاب هنا أن المقدسين قد أُكملوا إلى الأبد. ونتيجة لذلك فلا يمكن أن يهلكوا أبداً ولا يمكن أن يفقدوا التقديس الذى كانوا موضوعه مرة.

بعد الاستماع بعناية إلى هذه الشواهد الاثنى عشر، أسأل قرائى: هل يمكن أن يستنتجوا من الاقتباسات الكثيرة السابقة لكلمة «تقديس» أية إشارة لتغيير الطبيعة فى المؤمن، أو إزالة الشر الساكن فيها؟ إنى أشعر بكل تأكيد أن كل مخلِص يجب أن يعترف بأن الكلمة لها معنى مختلف جداً، وإنى أريد الآن أن أبين هذا المعنى باختصار.

وأنا، متحرراً من كل نظريات اللاهوتيين، أقول: إن المعنى المجرد للفعل. «يقدس» هو «يعزل أو يخصص»، والمعنى الحرفى للاسم «تقديس» هو «فصل أو تخصيص». وهذا المفتاح البسيط يوضح كل عدد من الأعداد التى أوردناها، ويستحضر الكل فى اتفاق تام، بينما يبدو فى الظاهر أنه لا اتفاق بينها.

فأدوات خيمة الاجتماع كانت تُفصل وتخصص لخدمة الله.

كما قد خُصِص جبل سيناء ليهوه لإعطاء الناموس.

والكهنة أيضاً فى إسرائيل كانوا يفصلون أنفسهم من نجاساتهم.

وموسى أيضاً فصل الشعب من نجاسته. كما أنه كان يخصص البكر ليهوه.

ورافضوا الإيمان فى أيام أشعياء قد خصصوا أنفسهم، على العكس، لفعل الشر أمام عينى الله.

ثم نرى أن الآب خصص الابن ليكون مخلص الهالكين.

وفى نهاية حياته على الأرض إذ أكمل عمله، نجده هناك يفصل نفسه ويصعد إلى المجد لكى يكون غرض قلوب شعبه، لكى بذلك يفصلوا أنفسهم عن العالم الذى رفض وصلب فاديهم.

والمرأة غير المؤمنة إذا ارتبطت بشريكها المُخلَّص المنفصل لله تصبح بذلك فى علاقة خارجية بالرب بكل مزاياها ومسئولياتها، وكذا الأولاد يكونون أيضاً منفصلين عن أولئك الذين لم يأتوا مطلقاً تحت تأثير صوت الحق.

وكل المسيحيين مهما كانت حالتهم العملية، جسديين كانوا أو روحيين، قد فصلوا لله فى المسيح يسوع، ومن هذا تأتى مسئوليتهم لأن يعيشوا له.

وهذا الانفصال يجب أن يُتّبع يومياً، فالمؤمن يسعى لأن يصير أكثر فأكثر متغيراً إلى صورة المسيح، والأشخاص المعترفون بأنهم مسيحيون ولا يتبعون القداسة لا يرون الرب لأنهم مزيفون، وليست فيهم حياة الله.

والرب الإله يجب أن يتقدس فى قلوبنا إذا كانت شهادتنا لمجده.

وكل مؤمن هو مقدس لله فى المسيح، ومع ذلك يحتاج إلى التحريض على حياة الإنفصال العملى عن كل نجاسة ومحبة للعالم.

وأخيراً كل من تقدسوا هكذا هم فى نظر الله كاملون إلى الأبد من جهة الضمير، وذلك بواسطة ذبيحة المسيح الواحدة على الصليب، لأنهم مقبولون فى المحبوب ومرتبطون به أبدياً.

خذ المفتاح فتتبدد كل صعوبة. إن التقديس بالمعنى المسيحى هو إذاً مزدوج: تقديس مطلق وكامل، وتقديس تدريجى.

التقديس بالروح القدس : داخلياً

فى ختام الفصل السابق ذكرت أن التقديس نوعان : مطلق (أو كامل)، وتدريجى.

فالتقديس المطلق؛ هو بواسطة ذبيحة المسيح الواحدة على الصليب. إنه بدم المسيح، وهو أبدى. إنه ليس اختباراً بل هو مقام. وهو يتعلق بالمكان الجديد الذى يشغله المؤمن فى دائرة رضى الله، الرضى الأبدى. إنه وضع ثابت لايمكن تغييره، ولا يمكن أن يلصق به أى دنس فى نظر الله.

أما التقديس التدريجى فله وجهتان: بالروح القدس، وبالكلمة. على أن التقديس بالروح القدس داخلى وهو اختبار داخل المؤمن. أما التقديس بكلمة الله فهو خارجى، يتعلق بسلوك المؤمن وطرقه؛ إنه النتيجة الظاهرة للتقديس بالروح، ويستمر متدرجاً طول مدة الحياة.

وإنى أرغب فى أن أضم أربعة فصول كتابية بعضها إلى بعض وهى تشير إلى الوجهة المهمة المشار إليها أعلاه، أى التقديس التدريجى. صحيح أنه من الناحية التعليمية كان يجب أن أبدأ بالتقديس بالدم أولاً، ولكن اختبارياً يشعر المؤمن بعمل الروح القدس فيه قبل إدراكه لتقديسه الأبدى بالدم. ففى 1كورنثوس6: 9، 10 نقرأ عن أنواع من الخطاة لا يمكن أن يرثوا ملكوت الله، وبعد ذلك مباشرة نقرأ فى ع 11 «وهكذا كان أناس منكم، لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع و بروح إلهنا»

وأيضاً فى 2تسالونيكى2: 13 نقرأ «وأما نحن فينبغى لنا أن نشكر الله كل حين لأجلكم أيها الأخوة المحبوبون من الرب إن الله اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق».

ويرتبط بذلك ماورد فى 1بطرس 1: 2 ارتباطاً وثيقاً «المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق فى تقديس الروح للطاعة ورش دم يسوع المسيح».

والاقتباس الرابع والأخير هو رومية15: 16 «حتى أكون خادماً ليسوع المسيح لأجل الأمم مباشراً لإنجيل الله ككاهن ليكون قربان الأمم مقبولاً مقدساً بالروح القدس».

ولكى نفهم ماتتضمنه هذه الفصول الأربعة فهماً صحيحاً، من الأهمية بمكان أن نلاحظ أن التقديس بالروح القدس يُنظَر إليه كأول عمل إلهى فى نفوس الناس، الذى يقودهم إلى المعرفة الكاملة للتبرير بالإيمان برش دم يسوع المسيح. وهذا بعيد كل البعد عن فكرة كون التقديس بركة ثانية تتبع التبرير. ولكى يصبح ذلك واضحاً لفكر القارىء سأتناول بتحليل دقيق الأعداد السابق اقتباسها.

كان أهل كورنثوس متصفين بالخطايا الشائعة بين الناس، لقد كانوا مثل الأفسسيين، الذين كانوا يسلكون قبلاً «حسب دهر هذا العالم»، وكان يعمل فيهم «الروح الذى يعمل الآن فى أبناء المعصية» (أف2: 1 - 5)؛ ولكن حدث فيهم تغيير عظيم، فالعواطف والرغبات القديمة حلت محلها أشواق مقدسة جديدة، والحياة الشريرة تحولت إلى حياة أخرى تتميز بالسعى نحو التقوى. ما الذى أحدث هذا التغيير؟ ثلاثة تعبيرات تستخدم لتحمل إلينا المعنى كاملاً. يقول الرسول «لكن اغتسلتم، بل تقدستم، بل تبررتم»، وكل هذا «باسم الرب يسوع وبروح إلهنا»، فقد وُضِع الرب يسوع المسيح أمام هؤلاء المؤمنين فى شخصه وفى عمله كما هو موضح فى الإنجيل، إذ هو وحده مخلِّص الخطاة ولكن فى تطبيق هذا الخلاص على الناس لابد من غسلهم لأنهم نجسون بسبب الخطية.

إن كلمة الله موجهة للناس جميعاً، ولكن لا يحدث للجميع نفس التأثير. فالمسيح المصلوب قد يُكرَز به لمائة شخص لم يتقابلوا مع الله، ولكن قد لا يستفيد إلا شخص واحد إذ ينكسر قلبه على خطاياه ويطلب السلام مع الله، بينما التسعة والتسعون يذهبون فى طريقهم دون أن يتأثروا. لماذا هذا الاختلاف؟ لأن الروح القدس قد استخدم الكلمة بقوة فى أعماق ضمير هذا الشخص ففصله وعزله، بواسطة عمل إلهى فى داخله، عن كل الجمهور غير المبالى الذى كان هو واحداً منه. وهنا ينطبق تقديس الروح. قد يحدث له ذلك قبل أن يجد السلام التام مع الله، ولكنه على أى حال لن يكون فيما بعد خاطئاً غير مبالٍ. إن الروح القدس قد أمسك به للخلاص.

وهذا موضح بمنتهى الجمال فى الأعداد الأولى التى يُفتتح بها سفر التكوين؛ فالعالم الذى خُلق كاملاً (تك1: 1، إش45: 18) نراه فى العدد الثانى مباشرة موصوفاً بالكلمات «وكانت الأرض خربة، وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة»؛ يالها من صورة للإنسان الساقط البعيد عن الله؛ إن نفسه فى حالة خراب أدبى، وذهنه مظلم، وفكره وضميره مدنسان، وهو فى الواقع ميت «بالذنوب والخطايا» وعدو «فى الفكر والأعمال الشريرة»، كل هذا تحدثنا عنه الأرض الخربة. ولكن الله قد أعاد عمل هذه الأرض لتصير مكان سكن للإنسان، بيتاً يصلح له طول أجيال الزمن. وكيف عمل ذلك؟ كان العامل الأول الفعال هو الروح، والثانى هو الكلمة «روح الله يرف على وجه المياه». وعندما أخذ الروح يرف على مشهد الخراب هذا، بدأت كلمة القوة عملها «وقال الله ليكن نور، فكان نور».

وهكذا فى خلاص الإنسان، الروح والكلمة يجب أن يعملا. الروح يبدأ بالعمل فى النفس، ثم يحييها مستخدماً رسالة كلمة الخلاص بالكلمة. فهو يوقظ النفس وينشىء معها الشوق لمعرفة المسيح وللتخلص من سلطة الخطية والنجاة من عقابها، بعد هذا العمل أو كنتيجة له ينفتح القلب للإنجيل فى كماله. وإذ تؤمن النفس به يدخلها النور مبدداً الظلام «لأن الله الذى قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذى أشرق فى قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله فى وجه يسوع المسيح» (2 كورونثوس4: 6). لذلك نحن الذين آمنا لسنا أبناء ليل أو أبناء ظلمة، ولكننا أبناء نهار،.كنا قبلاً ظلمة وأما الآن فنحن نور فى الرب. ولكن قبل أن يضىء النور كان يجب أن يرف الروح. وهذا هو التقديس المشار إليه فى النصوص الأربعة السابق إيرادها. ولاحظ الترتيب فى 2تسالونيكى2: 13 «اختاركم... للخلاص بتقديس الروح» العامل الإلهى، «وتصديق الحق» كلمة الله المبددة للظلام والمدخلة النور لمعرفة الخلاص باسم الرب يسوع.

ونرى نفس هذا الأمر فى 1بطرس1: 2؛ أن المخلّصين مختارين، ولكن فى تقديس الروح الذى يقودهم إلى الطاعة «ورش دم يسوع المسيح». فمعرفة التبرير هى من حقى الآن، إذ أن الروح القدس يؤكد لى ذلك بواسطة رش دم يسوع. إن الإيمان بذلك الدم الثمين الذى يطهر نفسى من كل شائبة، هو الذى يمنحنى السلام. والروح القدس هو الذى يقودنى إلى ذلك، كما وإلى حياة الطاعة كما أطاع المسيح. وهذا هو التأثير العملى لتقديس الروح.

والآن من الأهمية بمكان أن نتحقق أن التبرير ليس فى ذاته حالة، ليس هو عملاً فى النفس، ولكنه عمل تم بواسطة آخر لأجلى فهو خارج عنى بالكلية إنه عمل بعيد كل البعد عن جميع أعمالى ومشاعرى، هو مقامى - كمؤمن - أولاً، ثم أختبره بعد أن أدرك ذلك المقام.

والفرق بين الاثنين ربما يوضح بالمثل الآتى:

قُدٌّم اثنان للمحاكمة أمام القضاء بتهمة ارتكابهما جريمة ما، وبعد تمام الفحص حكم القاضى بأنهما غير مذنبين، أصبحا حرين. أحدهما عند سماعه الحكم امتلأ بهجة، لأنه كان متوقعاً أن يحكم عليه، وكان يخشى النتائج المريرة، ولكنه الآن سعيد لأنه علم أنه قد تبرر. والآخر كان قلقاً ويائساً لدرجة أنه لم يستطع أن يتبين حكم المحكمة أنه "غير مذنب". لقد سمع الكلمة الأخيرة فقط "مذنب" وامتلأ رعباً. لقد كان بريئاً، لكن السجن المكروه كان ماثلاً أمامه، فأبتدأ يتفوه بكلمات اليأس إلى أن اقتنع بكل صعوبة بأنه أصبح بريئاً، وحينئذ امتلأ هو أيضاً سروراً.

إن الشخص الذى سمع وصدق صار سعيداً، والشخص الذى لم يفهم الحكم كان تعيساً، مع أن كليهما كان مبرراً. لقد كان حكم القاضى لصالحهما، وهذا هو التبرير؛ الله يبرر المذنبين عندما يؤمنون بشخص الرب يسوع الذى حمل دينونتهم على الصليب. إن الخلط بين المقام الشرعى وحالة نفس المؤمن معناه التشويش والارتباك.

ولكن يقول قائل: إنى لا أشعر بأنى مبرر، التبرير لا يتعامل مطلقاً مع المشاعر، ولكن السؤال المهم هو: هل تصدق أن الله قد اكتفى بابنه المحبوب كبديل لك على الصليب؟ وهل قبلت المسيح كبديل لك ومخلصك الشخصى؟ إذا كان هذا هو الأمر معك فالله يقول إنك مبرر، وهذا هو فصل الخطاب، لأنه لا يسحب كلامه مطلقاً. فبتصديق إعلان الإنجيل تتمتع النفس بالسلام مع الله، وهذا من جهة المقام. أما السير مع الله فيجلب السرور والابتهاج والنصرة على الخطية بكيفية عملية وهذه حالة وليست مقاماً.

إن الروح القدس، الذى يُحيى ويقدس النفس فى البداءة إذ يقودها إلى معرفة التبرير بالإيمان بما قاله الله عن رش دم يسوع المسيح، يسكن الآن فى كل مؤمن، ليكون قوة الحياة الجديدة وذلك للتقديس العملى يوماً بعد يوم.

وبهذه الوسيلة أصبح الأمم - الفقراء الأجنبيون المنقادون لعبادة الأوثان، الغرباء عن عهود الموعد - مقبولين عند الله إذ تقدسوا بالروح القدس فهو الذى يرافق الكرازة، خدمة المصالحة، ويفتح القلب للحق، مبكتاً على خطية وعلى بر وعلى دينونة، ويقود للإيمان الشخصى بابن الله.

والآن أصبح الأمر واضحاً لدى كل من تتبَّعنى باعتناء، من هذه الوجهة أن التقديس لا يعنى على الإطلاق "البركة الثانية" إنه على العكس بدء عمل الروح فى النفس، ويستمر الروح القدس عاملاً فى المؤمن طول حياته إلى أن يُستحضر عند مجىء الرب، فى جسده الممجد الخالى من الخطية، بلا لوم فى حضرة الله.

وهكذا فإن بطرس، بعد أن يخبر المسيحيين الذين يكتب إليهم أنهم مقدسون بالروح، من المناسب جداً أن يتقدم بعد ذلك محرضاً إياهم على أن يكونوا قديسين؛ لأن الذى خلصهم هو قدوس، وأنهم يمثلونه فى هذا العالم.

وكذلك بولس أيضاً بعد تأكيده تقديس التسالونيكيين، يطلب إليهم أن يتقدسوا بالتمام، وهذا بالطبع يكون بلا معنى إذا كان هذا التقديس قد تم عندما تقدسوا أولاً بالروح القدس. «وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجئ ربنا يسوع المسيح، آمين هو الذى يدعوكم الذى سيفعل أيضاً» (1تس5: 23، 24)، لا يوجد أى مجال للشك بالنسبة للنتيجة النهائية.

إن التقديس هو عمل الله، «قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد» (جا3: 14) وأيضاً «واثقاً بهذا عينه أن الذى ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسوع المسيح» (فى1: 6).

وعندما نسأل عن شاهد من الكتاب لتدعيم "البركة الثانية" يشير أصحاب هذا الرأى عادة إلى 2كورنثوس 1 : 15، هناك بولس يكتب للكورنثوسيين (الذين أعلن عنهم عدة مرات فى رسالته الأولى أنهم مقدسون) قائلاً «وبهذه الثقة كنت أشاء أن آتى إليكم أولاً لتكون لكم نعمة ثانية» وفى الهامش «بركة ثانية»، ومن هذا التعبير البسيط يستنتجون هذه النتيجة الغريبة فيقولون "إنه من المعلوم كنتيجة لزيارة بولس الأولى إلى كورنثوس أن كثيرين قد تبرروا، ولكن لأن الذهن الجسدى كان باقياً فيهم قد أظهروه بطرق مختلفة ولأجل ذلك وبخهم فى رسالته الأولى. والآن هو يشتاق إلى أن يأتى إليهم هذه المرة، لا لكى يكرز لهم بالإنجيل، بل الأولى ليعقد لهم اجتماعاً للقداسة لكى يكونوا قديسين".

إنها لنظرية تبدو كأنها حاذقة، ولكنها تنهار تماماً عندما يلاحظ دارس الكتاب أن القديسين الجسديين فى الرسالة الأولى كانوا مقدسين فى المسيح (ص1: 2)، وحصلوا على روح الله (ص2: 12)، وكانوا مسكناً له (ص3: 6)، وكما لاحظنا، بشىء من التطويل، كانوا مغتسلين، مقدسين ومبررين باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا (ص6: 11).

فماذا إذاً كانت البركة الثانية التى رغبها لهم الرسول بولس؟ نقول أولاً إنها لم تكن "البركة الثانية" بل "بركة ثانية". لقد تباركوا بواسطة خدمته بينهم فى الفرصة الأولى، كما قد تعلموا من شفتيه ورأوا فى طرقه حق الله. وكراعٍ صادق القلب، كان يشتاق لأن يزورهم ثانية ليخدم بينهم، لكى يحصلوا على بركة أو نعمة مرة ثانية. ماذا يكون أبسط من ذلك، لو أن العقل غير مرتبك بالتعليم الخطأ الذى تحت تأثيره يفسَّر المكتوب، بدلاً من قبول التعلم من المكتوب.

إن المؤمنين، من لحظة رجوعهم إلى الله يصبحون مباركين بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح يسوع (أ ف 1 : 3) والروح القدس قد أُعطَى لنا ليقودنا للأعمال الصالحة التى أُعدت لنسلك فيها. «كل الأشياء لكم» هذا مكتوب لأناس لم يكونوا كاملين فى طرقهم، بل إنه مكتوب لنفس الكورنثوسيين الذين كنا نتأمل فى حالتهم، وذلك قبل أن ينالوا، بواسطة الرسول، بركة ثانية.

التقديس بدم المسيح : أبدياً

إن الموضوع الرئيسى فى رسالة العبرانيين هو التقديس الكامل من ناحية المقام، لا كعمل عُمِل فى النفس بالروح القدس، ولكن كنتيجة مجيدة لعمل المسيح الكامل العجيب عندما قدم نفسه ذبيحة ليبطل الخطية على صليب الجلجثة. وبفضل هذه الذبيحة يصير المؤمن مفرزاً لله، ضميره مطهر، وهو نفسه قد تحول من خاطئ أثيم إلى عابد مقدس، وأصبح متمتعاً بالعلاقة المستمرة بشخص الرب يسوع المسيح، «لأن المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحى أن يدعوهم أخوة» (عب2: 11).

وطبقاً لما جاء فى 1كورنثوس1: 30، هم «منه... بالمسيح يسوع الذى صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة»، إنهم مقبولون فى المحبوب. الله يراهم فيه وينظر إليهم كما ينظر لابنه «لأنه كما هو فى هذا العالم هكذا نحن أيضاً» (1يو 4 : 17). هذا فيما يختص بالمقام لا الحالة، لأنه لم يوجد مؤمن يشابه الرب يسوع تماماً من الناحية العملية، إن أسمى وأفضل اختبار لم يصل إلى هذا. ولكن بالنسبة لمقامنا الجديد، قد حسبنا الله مثل ابنه المحبوب. والأساس لكل هذا هو دم مخلصنا المسفوك، والمرشوش «لذلك يسوع أيضاً لكى يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب» (عب 13 : 12). ولا توجد طريقة أخرى بها نتطهر من خطايانا ونُقدَّس لله.

إن الحجة الرئيسية فى هذه الرسالة نجدها موضحة تماماً فى الأصحاحات 8-10، هناك نجد العهدين فى تباين. العهد القديم يطلب من الإنسان ما لا يمكنه الحصول عليه بنفسه، وهو الطاعة التامة. أما العهد الجديد فيضمن كل بركة بعمل شخص آخر (المسيح)، وبمعرفة هذا تتولد الطاعة فيمن صار غرض هذه النعمة.

فى التدبير القديم كان هناك القدس الأرضى مرتبط بطقوس جسدية كانت ظلاً للخيرات العتيدة التى من امتيازنا الآن أن نتمتع بها. ولكن فى خيمة الاجتماع أغلق الله على نفسه بعيداً عن الإنسان الخاطئ، وسكن فى قدس الأقداس؛ والإنسان واقف بعيداً. وكان رئيس الكهنة يدخل إلى الله مرة واحدة فى السنة ممثلاً للإنسان، وذلك «ليس بلا دم»، وكان لابد من تكرار هذه الخدمة عينها سنوياً فى يوم الكفارة العظيم. ولكن كل الذبائح التى قُدِمت تحت الناموس لم تستطع أن تنزع الخطية، كما لم تستطع «من جهة الضمير أن تكمل الذى يخدم» (عب9: 9).

ولنلاحظ أن الكمال فى رسالة العبرانيين ليس هو كمال الأخلاق أو الاختبار، ولكنه كمال من جهة الضمير. وهذا هو السؤال الهام المطلوب الإجابة عنه، كيف يستطيع الخاطىء النجس الذى له ضمير مدنس أن يحصل على ضمير لا يشتكى عليه، بل يسمح له بالاقتراب من الله بلا عائق؟ إن دم العجول والتيوس لا يمكن أن يأتى بهذه النتيجة. أعمال الناموس لايمكن أن تهب مثل هذه الهبة الثمينة. وبرهان هذا نجده ظاهراً فى تاريخ الشعب القديم. فالذبائح المستمرة برهنت على أنه لم تقدم بعد ذبيحة كافية لتطهير الضمير «وإلا أفما زالت تقدم؟ من أجل أن الخادمين وهم مطهرون مرة لا يكون لهم أيضاً ضمير خطايا» (عب 10 : 2).

ما أقل ما يفهمه معلمو القداسة من كلمات مثل هذه «مطهرون مرة لا يكون لهم أيضاً ضمير خطايا» ما معنى هذه الكلمات؟ إنها تعنى شيئاً. نعم أيها القارئ العزيز؛ شيئاً لو فهمه المسيحيون عموماً لتحرروا من الشكوك والمخاوف.

إن الذبائح الطقسية لم تكن عظيمة القيمة للدرجة التى تجعلها تكفر عن الخطية، ولذلك أتى المسيح نفسه ليفعل مشيئة الله كما هو مكتوب عنه فى درج الكتاب. وفِعل هذه المشيئة معناه أن يقاسى آلام الموت ويسفك دمه لأجل خلاصنا «فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب10: 10). فنلاحظ إذاً أن قداستنا وذبيحة المسيح الواحدة، إما أن يقوما معاً أويسقطا معاً. إننا نؤمن بالمكتوب، والله يقول «نحن مقدسون» لا يوجد فى هذا الأمر نمو أو تقدم، وبكل تأكيد لا يوجد أى عمل آخر بعد ذلك. إنها حقيقة عظيمة وصادقة بالنسبة لكل المسيحيين الحقيقيين.

وهذا التقديس أبدى فى صفته لأن المسيح قد أكمل العمل تماماً، ولا يمكن تكراره كما تؤكد ذلك الكلمات التالية «لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين» (عب10: 14)، هل توجد كلمات أوضح من هذه؟ أو أية لغة لها تعبير أكثر من ذلك؟ إن الذى يشك يُرى كأنه خائف من أن يستريح على هذا الحق الثابت. إن الذبيحة الواحدة الحقيقية كافية لتطهير الضمير مرة واحدة ولذا فالمؤمن له الآن أن يبتهج فى التأكيد بأنه قد تطهر إلى الأبد من كل إثم ودنس بواسطة رش دم يسوع المسيح، ولهذا فقط المقدسون كاملون إلى الأبد، هذا من جهة الضمير.

ويوجد إيضاح بسيط يمكن أن يساعد أولئك الذين لا تزال أمامهم صعوبة بالنسبة لهذا التعبير الوارد فى الرسالة إلى العبرانيين، وهو «ضمير مطهر». كان رجل مديناً لآخر، وقد طالبه الدائن المرة بعد الأخرى بدفع الدين، ولأنه كان عاجزاً عن الدفع لأنه بدد ممتلكاته بدون حكمة، والدائن كان يعلم بذلك، لهذا كان يشعر بحزن فى حضرة الدائن وكانت تتملكه رغبة ملحة فى البعد عن محضره وتجنب الوجود معه. لقد كان ضميره مثقلاً ومدنساً، إنه كان يعلم أنه ملوم. ولكن ظهر شخص آخر فى صف المدين سدد الدين تماماً، وسلم للمدين المتعب إيصالاً بتسديد الدين. والآن هل يخشى المدين مقابلة الدائن، هل يرتعب عند مواجهته؟ طبعاً لا. وما السبب؟ لأن له الآن ضميراً كاملاً أو مطهراً بالنسبة للدين الذى كان يزعجه سابقاً.

كذلك عمل الرب يسوع المسيح، الذى واجه كل مطاليب الله العادلة ضد الخاطئ. والمؤمن إذ يستريح على شهادة الله لقيمة ذلك العمل، يتطهر بدم المسيح، «يكمل إلى الأبد» أمام نظر الله القدوس. إنه قد تقدس بذلك الدم، وهذا إلى الأبد. وإذ أفلت من سلطان الشيطان وصار لله، نال بالإيمان بالمسيح «غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين» (أع 26 : 18).

ولكن يوجد تعبير يستخدم فى هذا الأصحاح وربما لا يزال يحير أولئك الذين لم يفهموا أن المقام شئ والحالة العملية شىء آخر. ولكى يمكن توضيح الأمر تماماً يجب فحص كل الفصل الذى سأقتبسه بكامله. «فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين. من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة. فكم عقاباً أشر تظنون إنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذى قُدِس به دنساً وازدرى بروح النعمة» (عب10: 26 - 29).

لقد رأينا فيما سبق أن الذى تقدس بواسطة ذبيحة المسيح الواحدة على الصليب، أى بدمه الكريم قد كُمِّل إلى الأبد. ولكن فى هذا الفصل واضح أيضاً أن الشخص الذى يحسب دم العهد الذى قُدِّس به دنساً يهلك إلى الأبد، لهذا صار من الضرورى أن نعطى انتباهاً لما سبق أن أوضحناه، ألا وهو «التقديس الشرعى». فى العهد القديم، انفصل لله جميع الشعب، وكل الذين كانوا مجتمعين معهم، وذلك فى ليلة عمل الفصح فى مصر، وبعد ذلك فى البرية أيضاً. ولكن هذا ليس معناه أنه أجرى فى نفوسهم جميعاً عمل إلهى بواسطة الروح القدس، ثم أن الذين كانوا تحت السحابة واجتازوا فى البحر، إذ اعتمدوا لموسى فى السحابة وفى البحر؛ الجميع كانوا فى الوضع الواحد، الجميع تقاسموا البركات الخارجية، ولكن البرية كانت مكان الاختبار، وسريعاً ما أظهرت من كانوا مؤمنين بالحق، ومن كانوا غير مؤمنين.

وفى الوقت الحاضر لا يوجد لله أمة خاصة تنتمى إليه، وفى مكان القرب الخارجى بالنسبة له، ولكن له شعبه المفدى بدم حمل الله الكريم، غير أن هناك من اتحدوا أنفسهم مع تلك الجماعة خارجياً بالاعتراف الظاهرى، وبهذا المعنى هم مقدسون بواسطة دم العهد.

فالدم قائم للمسيحية التى فى جوهرها إعلان الخلاص بموت المسيح الكفارى. فكل المومنين الحقيقيين الذين حكموا على أنفسهم أمام الله، وبإخلاص يثقون فى نعمته سيبقون داخلاً، أما إذا خرج أحد فذلك دليل على كذب إيمانه، مثل هذا لا يجد بعد ذبيحة عن الخطايا، لأن كل الذبائح الرمزية قد أبطلت فى المسيح. وعن هؤلاء يتكلم الرسول يوحنا بكل خطورة «منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا» (1يو2: 19).

هؤلاء المؤمنون الاسميون، كانوا بحسب وضعهم الظاهرى مقدسين، ولكن لأنهم كانوا بلا إيمان حقيقى لذلك «خرجوا» وبذا احتقروا روح النعمة، وحسبوا دم العهد الذى به قُدِسوا دنساً. هؤلاء أخطأوا باختيارهم، لا بمعنى الفشل فى السلوك الصحيح ولكنهم ارتدوا كلية عن المسيحية، بعد أن تعرفوا على الرسالة المجيدة المقدمة للهالكين.

ولكن حيث يحصل العكس والنفس تستقر حقيقة على المسيح، فالقداسة الشرعية تكون أبدية. لأن المقدَّسين والمقدِّس كما رأينا مرتبطون ببعضهم رباطاً لا ينحل، فالمسيح نفسه صار حكمتهم؛ وهذا فى ثلاثة أمور هو برهم، وقداستهم، وفداؤهم.

هذه هى القداسة، وهنا البر الصحيح، وهنا القبول أمام الله «وأنتم مملؤون (كاملون) فيه» (كو2: 10)، ولو أننا يومياً فى حاجة إلى التذلل أمام الله بسبب ما نقع فيه من فشل

إن ما يعطينى مكاناً بين المقدسين فى النور ليس قداستى العملية، بل الحقيقة المجيدة أن المسيح مات ليفتدينى لله؛ أن دمه طهرنى من كل خطية، والآن لى حياة فيه، حياة جديدة لا يرتبط بها أى إثم إلى الأبد. كونى فيه هذا حق، فهو قداستى ويمثلنى أمام الله، كما كان رئيس الكهنة قديماً يحمل على عمامته العبارة «قدس للرب»، وعلى كتفيه وعلى صدره يحمل أسماء الأسباط الاثنى عشر؛ كان يمثلهم جميعاً داخل الأقداس. كان هو رمزياً قداستهم؛ فإذا كان مقبولاً أمام الله فهم كذلك. إن الشعب كان يُرَى فى رئيس الكهنة، وكل مؤمن متعلم من الروح لا ينكر، ولو للحظة واحدة، أنه من الواجب أن تكون لنا الحياة التى تناسب مقامنا؛ حياة التكريس والتقديس لله.

التقديس بواسطة كلمة اللّه ونتائجه الخارجية

فى صلاة المسيح كرئيس الكهنة فى يوحنا 17 يقول عن المؤمنين الذين أعطاهم الآب له «ليسوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم. قدسهم فى حقك، كلامك هو حق. كما أرسلتنى إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم ولأجلهم أقدس أنا ذاتى ليكونوا هم أيضاً مقدسين فى الحق» (يو17: 16-19). هذا الفصل ثمين، وممكن أن يدخلنا إلى موضوع التقديس العملى؛ تنظيم طرقنا الخارجية حسناً، وجعلها جميعها مطابقة لإرادة الله المعلنة.

ولكن قبل البدء فى هذا الموضوع يجب أن يثبت فى أذهاننا أن هذا وثيق الصلة بتقديس الروح الذى كنا نتأمل فيه. فالروح يعمل فى داخلنا، والكلمة التى هى خارجة عنا، هى الواسطة التى تُستخدم فى العمل داخلنا. وإنى قصَدت أن أتناول الوجهتين، كُلاً على حدة؛ لكى يظهر واضحاً أمام أذهاننا الفرق بين تقديس الروح فينا، الذى هو بداءة عمل الله فى نفوسنا، وبين تطبيق الكلمة بعد ذلك على طرقنا الخارجية.

فالولادة الجديدة هى التى تدخلنا فى عائلة الله، ولكن مع أننا وُلدنا ثانية، قد نكون فى ظلام من جهة فهم أموركثيرة، ونحتاج إلى نور الكلمة ليهدى أذهاننا الحائرة. ولكن بواسطة تقديس الروح على أساس الدم المرشوش، نفهم أن موت المسيح الكفارى هو وحده الذى يكفر عن كل خطايانا، فنحن مقدسون بدم المسيح، وهذا هو مقامنا أمام الله. ثم بعد ذلك نبدأ السير بالإيمان. ولذلك نحتاج بعدئذ إلى التقديس اليومى بواسطة الحق، أى كلمة الله.

من الواضح أنه فى طبيعة هذه الأشياء لا يمكن أن يوجد ما يسميه البعض خطأً "عمل نعمة ثانياً مجدداً" إنه على العكس؛ هو "حياة"، عمل متدرج مستمر دوماً، حتى انتهى من المشهد الذى أحتاج فيه إلى تعليم يومى بالنسبة لسلوكى، وهذا المشهد هو كل فترة وجودى على الأرض. وكلمة الله وحدها هى التى تعطينى هذا التعليم. فإذا كان التقديس فى معناه العملى هو بواسطة الكلمة، فلا يمكن أبداً أن أتقدس بالتمام من هذه الوجهة حتى أعرف الكلمة معرفة كاملة، ولا أتصرف ضدها فى أمر ما؛ وهذا لا يتم هنا على الأرض.

هنا أحتاج إلى التغذى بالكلمة بإستمرار، وأن أتفهمها بكيفية أفضل، وأتعلم معانيها بكيفية أكمل، وكما أعرف منها فكر الله الذى يطلب منى أن أدين فى نفسى كل ما لا يتفق والنور المتزايد الذى أحصل عليه، وأن أكون اليوم أكثر إطاعة من اليوم الذى سبقه؛ بذلك أتقدس فى الحق. ولنفس هذا السبب، الرب يقدس ذاته أو يخصص نفسه لأجلنا، لقد ذهب إلى السماء ليهتم بخاصته لكى يكون رئيس كهنة لأجلنا أمام الله، وذلك بالنسبة لضعفاتنا، وليكون شفيعنا أمام الآب بالنسبة لخطايانا، وهو هناك أيضاً كغرض قلوبنا.

ونحن الآن مدعوون لأن نسلك سبيلنا بصبر، ناظرين إلى الرب يسوع، والروح القدس داخلنا والكلمة بين أيدينا كسراج لأرجلنا ونور لسبيلنا. وبقدر تقديرنا للكلمة وسيرنا فى حقها الثمين فى قوة الروح القدس بواسطة الله الآب وبواسطة شخص ربنا يسوع المسيح نفسه. لأنه فى يوحنا 17 يطلب المسيح من الله الآب قائلاً: «قدسهم فى حقك» وفى أفسس 5: 25،26 نقرأ «أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكى يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة» هنا نجد المسيح هو المقدس، لأنه هو الذى قال «أنا والآب واحد» وهنا كما فى يوحنا، التقديس واضح أنه تدريجى. والواقع أن غسل الأفسسيين بالكلمة موضح توضيحاً جميلاً فى يوحنا 13. هناك نجد سيدنا، وهو فى كمال معرفته ببنوته الأزلية، أخذ مكان خادم متمنطق ليغسل أرجل تلاميذه، وغسل الأرجل يدل على تطهير السلوك، والفصل جميعه صورة رمزية للعمل الذى يشغل سيدنا منذ صعوده إلى السماء. إنه يحفظ أرجل قديسيه بغسلها مما لحق بها من وسخ الطريق، تلك الأقذار التى تعلق بقدمى السائح لابس الحذاء أثناء سيره فى طريق العالم.

إنه يقول لكل واحد منا كما قال لبطرس: «إن لم أغسلك فليس لك معى نصيب»، فالنصيب فيه قد حصلنا عليه على أساس عمله الكفارى وكنتيجة للحياة التى يعطيها هو؛ أما النصيب معه، أو الشركة اليومية نتمتع بها فقط عندما نكون مقدسين بماء الكلمة. وظاهر من كلام الرب لبطرس أن المنظر كله كان استعارياً «لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد»؛ لقد تعلم بطرس غسل الأرجل روحياً عندما رد الرب نفسه عقب سقوطه المؤلم. حينئذ دخل فى معنى الكلمات «الذى قد أغتسل (استحم) ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله»، ويمكن فهم المعنى بسهولة.

فكل مؤمن قد اغتسل مرة واحدة، «غسل الميلاد الثانى» (تى 3: 5)، وهذا الاغتسال لا يمكن أن يتكرر، فلا يمكن أن أحداً مولوداً من الله يهلك، لأن الكل لهم الحياة، وهذه الحياة أبدية، وبالتبعية غير قابلة للضياع (يو 10: 27-29). فإذا سقطوا وأخطأوا فهم لا يحتاجون إلى خلاص من جديد، لأن معنى ذلك أنهم يغتسلون مرة أخرى، ولكن الذى اغتسل لا يحتاج إلى تكرار ذلك مرة أخرى بسبب اتساخ قدميه. بل يغسلهما فيطهر.

وهكذا هو الحال مع المسيحيين الحقيقيين، فنحن قد خلصنا مرة، ولايمكن أن يتكرر ذلك مرة ثانية. ولكن فى كل مرة نسقط نحتاج أن ندين أنفسنا بكلمة الله، لكى نكون طاهرين فى طرقنا، وعندما نعطى كلمة الله موضعها الصحيح فى أنفسنا تحفظنا من الشر، ونستطيع أن نتمتع بشركة صافية مع ربنا ومخلصنا. وصاحب المزمور يسأل: «بمَ يزكى الشاب طريقه»، والجواب «بحفظه إياه حسب كلامك» (مز119: 9).

إذاً كم هو ضرورى أن نفتش الكتب ونطيعها لكى يمكن أن نقدس بالحق، ومع هذا كم من عدم المبالاة نجده عند المعترفين بالبركة الثانية فى هذا الأمر بالذات. ما أعظم الجهل بالكتب المقدسة وتصورهم الباطل أنهم أسمى منها، الأمر الذى يُرى كثيراً مقترناً بالاعتراف بالقداسة فى الجسد.

فى 1 تسالونيكى 4: 3 توجد عبارة إذ يفصلها البعض عن قرينتها يتخذونها برهاناً قاطعاً على أنه يمكن للمؤمنين أن يصلوا وهم فى هذا العالم إلى حالة التحرر التام من الخطية. وهذه العبارة هى «هذه هى إرادة الله قداستكم»، ومن يستطيع أن ينكر حقى فى القداسة التامة إذا كان التقديس معناه ذلك، وإنه إرادة الله من نحوى؟ بكل تأكيد لا أحد. ولكن كما سبق أن رأينا أن التقديس لا يمكن أن يعنى ذلك، وفى هذا النص على الأخص، اقرأ الثمانية الأعداد كلها التى يتكون منها الفصل وانظر بنفسك؛ إن الموضوع هو النقاوة الشخصية، والقداسة التى يتكلم عنها الوحى هنا هى حفظ الجسد من الممارسات الدنسة.

فالخطايا الجسيمة كانت مرتبطة بالعبادة الوثنية وتكوِّن جزءاً منها، والخرافات الوثنية عند اليونان ألهبت غرائز الإنسان الساقط، وهؤلاء التسالونيكيون المؤمنون كانوا قد رجعوا حديثاً إلى الله من الأوثان ليعبدوا الله الحى الحقيقى، لذا لزم لهم هذا التحريض لأنهم كانوا يعيشون بين أولئك الذين بدون خجل يمارسون كل هذه الأدناس. إن القديسين، كهيكل الله، يجب أن يتميزوا بحياة طاهرة غير مدنسة بشهوات الجسد.

ناحية أخرى لهذا التقديس العملى تُستحضَر أمامنا فى تيموثاوس الثانية 2: 19-22؛ ويمكن تسميتها التقديس الكنسى، لأن وجهة نظرها هى موقف المؤمن الأمين الذى يعيش فى وقت ساد فيه الفساد بين المعترفين بالمسيح، والكنيسة المنظور إليها كبيت الله، وقد فشلت وأصبحت بيتاً كبيراً اختلط فيه الصلاح بالفساد. إنه أمر بالغ الخطورة، أنه بينما نرى هنا وفى أماكن أخرى فى الكتاب أن من يريد السير مع الله يجب أن يطهر نفسه من أوانى الهوان التى امتلأ بها البيت الكبير، فإننا نجد كثيرين ممن "يشهدون" أنهم يعيشون "بدون خطية" متحدين فى شركة كنسية (أو فى أى نوع من الشركة) مع غير المؤمنين الذين يسلكون فى الدنس ولا يتمسكون بالتعاليم السليمة.

لذلك فعلينا فحص الفصل بالتفصيل. إن الرسول كان يوجه التفات تيموثاوس إلى أدلة الارتداد المتزايد؛ فهو يحذره من مماحكات الكلام (2تى2: 14) ومن الأقوال الباطلة الدنسة (ع 16)، ويشير إلى رجلين هما هيمينايس وفيليتس (ع 17) اللذان زاغا عن الحق، وبذلك، مع أنهما كانا مقبولين كمعلمين مسيحيين، قد قلبا إيمان قوم، ولم يكن هذا إلا الابتداء، كما يرينا الأصحاح الثالث لأن «الناس الأشرار المزورين سيتقدمون إلى أردأ مُضِّلين ومُضَّلين» (2تى3: 13). لذلك أعطى الرسول بولس لتيموثاوس كلمة لتشجيعه، فيقول له: «ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم؛ يعلم الرب الذين هم له، وليتجنب الإثم كل من يسمى اسم المسيح» (ع 19). هنا شجاعة الإيمان، وهنا أيضاً مسئولية الأمانة. فالإيمان يقول: دع الشرير يرتفع إلى أية درجة، دع الانحطاط يسود ومحبة الكثيرين تبرد، دع كل شئ أصله من الله على الأرض يتأثر من الارتداد، ومع هذا فإن أساس الله الراسخ قد ثبت لأن المسيح أعلن «على هذه الصخرة ابنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت16: 18).

ولكن هذا يضعنا تحت المسئولية. إذ يجب علىَّ ألا أسير مع الشر، فلا يمكننى أن أحتج على الشر مادمت مسايراً له ولو بتحفظ وبقلب غيركامل؛ إنى مدعو لأن أنفصل عنه. ربما بهذه الطريقة أنفصل عن أبناء أعزاء لله وخدام محبوبين للمسيح موجودين فى وسط الارتداد، ولكن هذا هو الموقف المطلوب منى بحسب كلمة الله، وهذا يتضح مما جاء فى (ع 20) «ولكن فى بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط، بل من خشب وخزف أيضاً وتلك للكرامة وهذه للهوان». والبيت الكبير هو المسيحية فى حالتها الحاضرة؛ حيث الصلاح والشر، المخلّصون والهالكون، المقدس والنجس؛ الجميع مختلطون معاً.

فى 1تيموثاوس3: 15 نقرأ عن «بيت الله الذى هو كنيسة الله الحى عمود الحق وقاعدته»، وهذا ما يجب أن تكون عليه الكنيسة باستمرار، ولكن ياللأسف فقد انحرفت عن هذا المثل الأعلى المبارك، وأصبحت كبيت كبير يوجد فيه كل أنواع الأوانى المصنوعة من مواد مختلفة، ولأغراض متعددة. فتوجد أوانٍ ذهبية وفضية لاستخدامها فى حجرة الطعام، وتوجد أوانً من خشب وخزف توصف بأنها للهوان.

وكما يجب فصل أوانى الكرامة عن أوانى الهوان، بهذا كل مؤمن أمين للرب مدعو لينفصل عن أوانى الهوان «فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح» (ع 21). وبدون شك نقول إن هذا التقديس مختلف جداً عن عمل الروح فى النفس فى البداءة كنتيجة لعمل المسيح على الصليب، الذى به قد خصصنا لله أبدياً، أما هذا فشئ عملى ينتج عن علاقتنا مع الله كمسيحيين. والآن دعنا نتقدم خطوة أخرى حتى يتضح الموضوع أكثر.

لنفرض أن شخصاً دعا صديقاً له فى بيته، وأراد أن يكرمه بتقديم شراب منعش، وذهب إلى خزانة الأوانى باحثاً عن كأس فضى لكى يقدم فيه الشراب لضيفه، ولكنه لم يجد شيئاً، ولما دعا خادمه واستفهم عن ذلك علم أن جميع الكؤوس مع باقى أوانى البيت منتظرة الغسل! فغضب رب البيت وأرسل الخادم لاستحضار إحداها بعد غسلها وعاد سريعاً بإناء مطهر من المجموعة غير المغتسلة التى كان بينها، وإذ فُصِل هذا الإناء ونظف أصبح مستعداً لخدمة السيد.

وهكذا الأمر مع إنسان الله الذى طهر نفسه من كل ما يتعارض مع حق الله وقداسته، فيصبح مقدساً ومخصصاً نافعاً للسيد، مستعداً لكل عمل صالح. وطبعاً لايكفى أن نقف عند نقطة الانفصال لأنه من يفعل هذا فقط يصبح فريسياً من النوع المكروه جداً، ولكن من انفصل عن الشر مطلوب منه أن يتبع «البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقى». ولكى نصل إلى ذلك، ما أعظم حاجتنا إلى التطبيق اليومى لكلمة الله، بقوة الروح، على كل طرقنا.

وهذا كما رأينا هو غسل الأرجل الصحيح، فبالكلمة نتنقى «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذى كلمتكم به» (يو15: 3) والكلمة مثل الماء فى تأثيرها، إذ تنقى وتنعش نفس الشخص الذى يخضع لها. ففيها نجد تعليمات لكل دقائق سلوك الإيمان. إنها ترينى كيف دُعيت للتصرف فى بيتى، وفى كنيسة الله، وفى العالم. فإذا أطعتها فإنها تغسل من حياتى كل إثم، كما يستخدم الماء فى تنظيف رجلى من كل الأوساخ المادية.

ومن المستحيل أن أصل إلى حالة سامية أو اختبار على الأرض، لدرجة أننى أستطيع أن أقول معه بأمانة إنى الآن قد تقدست بالتمام ولست بعد ذلك فى حاجة إلى الكلمة لغسلى، مادمت موجوداً فى هذا المشهد فإنى مدعواً لأن اتبع السلام مع الجميع والقداسة (التقديس) التى بدونها لن يرى أحد الرب (عب12: 14)، وهذا النص وحده إذا مافُهم فهماً صحيحاً يستأصل جذور نظرية الكمال المطلق، ومع ذلك فإن هذا النص هو النص الذى يبرزونه دائماً فى اجتماعات القداسة ويستشهدون به خطأً.

لاحظ بعناية ماهو مطلوب هنا. يجب أن نتبع شيئين؛ السلام مع الجميع والقداسة، والذى لا يتبع هذين لن يرى الرب. ولكننا لا نتبع شيئاً قد حصلنا عليه فعلاً. من الذى وصل إلى السلام مع جميع الناس؟! ما أكثر الذين يضطرون لأن يصرخوا مع صاحب المزمور قائلين «أنا سلام وحينما أتكلم فهم للحرب» (مز 120 : 7). ومن الذى حصل على القداسة العملية فى معناها الكامل؟ لا أنت أيها القارىء العزيز ولا أنا، «لأننا فى أشياء كثيرة نعثر جميعنا» (يع 3 : 2). ولكن كل مؤمن حقيقى، كل من وُلد من الله، كل شخص حصل على روح التبنى؛.يتبع القداسة، ويتوق إلى ذلك الوقت الذى فيه يأتى شخص ربنا يسوع المسيح الذى سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون «على صورة جسد مجده» (فى3: 21)، حينئذ نصل إلى هدفنا، حينئذ سنصير عملياً قديسين قداسة أبدية ومطلقة.

وهكذا عندما يكتب الرسول للتسالونيكيين بالنسبة إلى هذه الحادثة السعيدة المنتظرة يقول: «امتنعوا عن كل شبه شر (أو أية صورة من صور الشر) وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجىء ربنا يسوع المسيح. آمين هو الذى يدعوكم الذى سيفعل أيضاً» (1تس 5: 22-24). هذه ستكون الخاتمة السعيدة لكل الذين هنا على الأرض، كغرباء ونزلاء، يتبعون السلام والقداسة؛ وبذلك يظهرون الطبيعة الإلهية وثمار الروح.

ولكن ماداموا فى برية هذا العالم فلابد وأنهم يحتاجون يومياً إلى الالتجاء للمرحضة - كلمة الله المطهرة - التى من قديم كان موضعها بين المذبح والقدس. ولكن عندما نوجد فى السماء، فى ذلك المشهد، مشهد القداسة، لا تكون هناك حاجة للماء الذى يطهر من الإثم، لن تكون هناك مرحضة، بل أمام العرش رأى يوحنا بحراً من الزجاج، لامعاً كبلور حيث يقف عليه المفديون وقد انتهت تجاربهم وحربهم إلى الأبد، لأنه سيوقفنا «أمام مجده بلا عيب فى الابتهاج» (يه 24)

تقديس الارتباط العائلى

لا يوجد ما يوضح أن القداسة ليست هى استئصال طبيعتنا الخاطئة أكثر من الطريقة التى بها تتحدث كلمة الله عن الأقرباء الذين فى صلة مع المؤمنين. وإذ قد تناولنا بكل اعتناء وجهتين للقداسة، يصح الآن أن نتأمل فيما يقوله الله عن هذه القداسة الخارجية أو قداسة القرابة.

رأينا فيما سبق، فى فصل التقديس بالدم، أنه قد يتقدس شخص (بمعنى معين)، بسبب ارتباطه مع آخر، ومع ذلك يظل غير مُخلَّص ويهلك. ولكن قد يقال أيضاً عن أناس إنهم تقدسوا عن طريق ارتباطهم بمؤمنين وكانوا موضوع صلواتهم القلبية الحارة، فصاروا بعدها مُخلَّصين حقاً.

والفصل الذى سنتأمل فيه الآن هو الأصحاح السابع من رسالة كورنثوس الأولى، فهو يحوى أكمل تعليم جاء فى كلمة الله يخص علاقة الزواج. ابتداءً من ع 10 نقرأ «وأما المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل الرب أن لاتفارق المرأة رجلها. وإن فارقته فلتلبث غير متزوجة أو لتصالح رجلها، ولا يترك الرجل امرأته». وبخصوص هذا قد سبق الرب وأعطى تعليماً واضحاً كما هو مدون فى متى19: 3-12، ولكن نظراً لانتشار الإنجيل بين الوثنيين من الأمم فقد نشأت حالات فى كثير من الأماكن كانت فى حاجة إلى توضيح.

فمثلاً لنفرض أن زوجة وثنية قد رجعت إلى الرب، ولكن زوجها بقى نجساً عابد وثن، فهل يبقى الشريك المسيحى فى علاقة الزواج مع الشخص غير المؤمن، دون أن يتدنس؟ فى أيام عزرا ونحميا كان بعض الراجعين قد اتخذوا لأنفسهم زوجات من الأمم الذين حولهم، والنتيجة كانت التشويش «ونصف كلام بنيهم باللسان الأشدودى. ولم يكونوا يحسنون التكلم باللسان اليهودى بل بلسان شعب وشعب» (نح13: 24). وهذه الحالة كانت مزعجة للقادة الأتقياء الذين لم يستريحوا حتى فصلوا الزوجات الغريبات ومعهن أولادهن الذين اعتبروا نجسين ويجب عزلهم من شعب الرب.

وقد سُطرت الأعداد التالية بوحى إله كل نعمة، لعلاج هذه الحالة الشاقة فيكتب الرسول بولس «أما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب إن كان أخ له امرأة غير مؤمنة وهى ترتضى أن تسكن معه فلا يتركها، والمرأة التى لها رجل غير مؤمن وهو يرتضى أن يسكن معها فلا تتركه. لأن الرجل غير المؤمن مقدس فى المرأة، والمرأة غير المؤمنة مقدسة فى الرجل، وإلا فأولادكم نجسون. وأما الآن فهم مقدسون، ولكن إن فارق غير المؤمن فليفارق. ليس الأخ أو الأخت مستعبداً فى مثل هذه الأحوال، ولكن الله قد دعانا فى السلام. لأنه كيف تعلمين أيتها المرأة هل تخلصين الرجل؟ أوكيف تعلم أيها الرجل هل تخلص المرأة» (1كو7: 12-16).

ياله من مثال تتجلى فيه قوة النعمة الفائقة. فتحت الناموس كان الشريك النجس ينجس الشريك المقدس؛ أما تحت النعمة فالشخص الذى خلصه الله يقدس النجس. إن الأسرة نظام إلهى قديم جداً، وفى كل أجزاء الكتاب يتضح أن الله يريد أن يخلص شعبه كعائلات، فهو لا يريد استخدام العنف فى الروابط الطبيعية التى أوجدها هو نفسه، فإذا خلّص الرب رجلاً رأس عائلة، فهو يعلن بذلك أنه يختزن البركة لكل العائلة. وهذا طبعاً لايمس المسئولية الشخصية، فالخلاص كما هو حق دائماً «ليس من دم»، ولكن بوجه عام نقول إن فكر الله أن يخلّص عائلات شعبه مع أرباب هذه العائلات. ولذلك يعلن أن خلاص أحد طرفى العلاقة الزوجية يقدس الطرف الآخر كما يقدس الأولاد أيضاً.

وهل معنى ذلك أنه قد حدث أى تغيير فى هؤلاء الأشخاص؟ كلا على الإطلاق، قد يبقون كما هم بدون ولادة جديدة، محبين لطرقهم الشريرة، محتقرين النعمة، وغير خائفين من دينونة الله، ورغم كل ذلك فهم مقدسون فى القريب المؤمن؛.كيف يتفق هذا مع فكرة الكماليين عن التقديس؛ لأنه واضح أن الكلمة هنا لا تعنى أى تطهير، ومن ثمّ تنهار فكرتهم انهياراً تاماً. والسبب فى ذلك هو أنهم ألصقوا بكلمة «التقديس» معنى غير صحيح لغوياً، وباطل كتابياً، ولا ينسجم مع الواقع عملياً.

واضح أن التقديس فى الحالة التى أمامنا مختص بعلاقة القرابة، إذ يتغير مركز بقية العائلة بإيمان أحد الأبوين؛ فلا يكون البيت فى نظر الله بيتاً وثنياً بعد، بل بيتاً مسيحياً.

فى البيت الوثنى الكل ظلمة، لايوجد نور يضئ أبداً، ولكن دع أحد الوالدين فى العائلة يؤمن، فماذا يحدث؟ على الفور تظهر منارة فى ذلك البيت، فينير على الآخرين، سواء أرادوا أو لم يريدوا، لقد وُضعوا فى مكان الامتياز والمسئولية اللذين كانا بعيدين عنهم كل البعد. وكل هذا بدون أن يعمل الله بعد فى نفوسهم، ولوأن هذا فتح الباب أمامهم لقبولهم المخلص، لأن اهتداء أحد الوالدين كان هو طريق الله الذى يعلن أشراقه بالنعمة لكل هذه العائلة، كما فى حالة السجان، إذ كلف الله خادميه بأن يعلنا الحق الثمين «آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك». إن هذه الكلمات القليلة لم تمنح الخلاص لأهل البيت، ولكن ثبّتت فى قلب السجان حقيقة أنه، كما فتح أمامه طريق الخلاص، قد فتحه أيضاً أمام أهل بيته، وأن الله يريد منه أن يتكل عليه فى هذا الأمر. فهم مقدسون من اللحظة التى آمن فيها، وسريعاً ما ملأ الابتهاج كل البيت، بمجرد أن دخلت نعمة الله إليه.

هذا هو بالاختصار تعليم الكتاب المقدس عن التقديس بواسطة القرابة، والذى يهمله، أو يتجاهله، الكثيرون، ولكنه على جانب عظيم من الخطورة والأهمية للأفراد المؤمنين فى العائلات التى فيها بعض أفراد لم يخلصوا بعد «لأنه كيف تعلمين أيتها المرأة هل تخلّصِين الرجل أوكيف تعلم أيها الرجل؟ هل تخلِص المرأة؟» استمر فى العمل واستمر فى الصلاة، وعش للمسيح أمام الباقين، من يوم إلى يوم، وأنت عالم أنه فيك قد تقدس الجميع، والله منتظر أن يخلصهم عندما يشعرون بحاجتهم للنعمة وثقتهم فيها.

وإنى لا أستطيع أن أتابع هذا الموضوع هنا أكثر، لأنى إذا فعلت ذلك أكون تحولت من الموضوع الرئيسى الذى نحن بصدده، ولكنى أثق أن أبسط شخص من القراء، حتى إذا كان غير مثقف، يستطيع الآن أن يدرك أن التقديس وحالة انعدام الخطية، تعبيران فى طبيعتهما غير متفقين، بل هما على العكس متضادان.

وبهذا أنتهى من فحص استخدام كلمة التقديس فى الكتاب المقدس، وتبقى بعد ذلك بعض التعبيرات التى يجب فحصها والتى يعتبرها الكماليون مشابهة فى المعنى لها، وتدعم فى نظرهم فكرتهم المحبوبة وهى الاستئصال التام للذهن الجسدى فى الشخص المتقدس. هذه التعبيرات سنتناولها فى الصفحات القليلة القادمة بمشيئة الرب.

الموت للخطية، والمحبة الكاملة

ما هو الموت مع المسيح، الموت للخطية ولمبادىء العالم؟ عند الإجابة على هذا السؤال يتضح الحق، ويظهر الخطأ الخاص بنظام جماعة الكماليين.

فى بداية بحثنا أود أن أذكّر القارئ بما قد سبق أن تأملنا فيه (عند الكلام عن التقديس داخلياً) بخصوص الفرق بين المقام والحالة. فالمقام هو ما أنا عليه فى نظر الله بواسطة عمل ابنه، أما الحالة فهى ما أنا عليه من حيث سلوكى. يقول بولس الرسول «لكى تطيب نفسى إذا عرفت أحوالكم»، ويتكلم فى موضع آخر قائلاً «النعمة التى نحن فيها مقيمون» (فى 2: 19، رو5: 2). وهذان الشيئان متميزان عن بعضهما.

فالموت مع المسيح يتعامل مع مقامى، أما القول «احسبوا أنفسكم أمواتاً» فيشير إلى حالتى. وإنه من المفهوم جيداً أنه لم يمت أحد مع المسيح حقيقة على الصليب إلا اللصان، وأحدهما هلك. وقال توما مرة «لنذهب نحن أيضاً لكى نموت معه»، وهو يشير فى ذلك إلى موت حرفى مع المسيح، لأنه كان يبدو للتلاميذ أن ذهاب المسيح لليهودية معناه تعريض حياته للخطر.

ولكن المسيح يحيا الآن فى المجد، وعندما مات منذ أكثر من ألف وتسعمائة سنة لم يمت أحد معه بالمعنى الحرفى، وإذا فرضنا أن "الموت" المذكور فى رومية 6 يختص بالحالة أو الاختبار، فإنه لا يمكن أن يوصف بحق أنه موت مع المسيح، بل موت لأجل المسيح. قد يبدو للكثيرين أننا لسنا فى حاجة لأن نتناول هذا بالتأمل، ولكن لا يمكن أن يفكر هكذا كل من يعرف جيداً كيف يُساء استعمال هذا التعبير فى كرازة التقديسيين، وفى كتابات الكماليين، فى هذه يعتبرون الموت شيئاً اختبارياً. فيحرضون المؤمنين على أن يموتوا، يحاولون أن يشعروا بأنهم أموات، وإذ كانوا على قياس ما، لا يبالون بالإهانة، أو الحرمان أو المديح أو اللوم، فإنهم يعتبرون أنفسهم أنهم قد ماتوا مع المسيح، وهم فى ذلك لا يلاحظون أنهم فى استعمالهم هذا التعبير يخالفون قواعد المنطق. متى كان على المسيح أن يموت لهذه الاشياء؟ متى أزعجه اللوم أو ارتفع قلبه بواسطة المديح؟ حاشا وكلا.

يوجد عدد واحد له أهمية كبرى فى توضيح المعنى الكتابى للموت مع المسيح. بعيداً عن كل مماحكة «لأن الموت الذى ماته قد ماته للخطية مرة واحدة» (رو6: 10)؛ فإذا قيل إنى «مت معه» فهذا يجب أن يكون فى موته أى على الصليب. وهذا الموت هو لأجل ذات الأشياء التى مات هو لها، فهو مات للخطية؛ الخطية بكامل معناها، الشجرة وثمرها. مات حاملاً دينونة الله المستحقة علىَّ أنا الخاطىء الأثيم. الله «جعل الذى لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر اللًه فيه» (2كو5: 21). فهو مات لأجلى مرة واحدة، وفى موته أرى أنا موتى، لأنى مُتَّ معه.

متى وأين مت أنا معه؟ هناك فى صليبه منذ أكثر من تسعة عشر قرناً، عندما مات «البار لأجل الأثمة لكى يقربنا إلى الله»، هناك، أنا وكل ابن آخر لله، متنا للخطية معه لنحيا لله، كما هو مكتوب «وهو مات لأجل الجميع كى يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذى مات لأجلهم وقام» (2كو5: 15).

وهل من يرغب أن يتعلم من الله، ويتعلم فقط من المكتوب، يجد أية صعوبة هنا؟ إن موت المسيح النيابى قد حسبه الله موتاً لى ولكل الذين يؤمنون به، وبهذا الموت دخلنا إلى مقامنا الجديد كمُقامين من الأموات وظاهرين فى المسيح أمام الله. لقد أنعم علينا فى المحبوب (أف1: 6). هذا هو مقامى الجديد المجيد إنى قد مُت مع المسيح. إذاً أنا لا أحاول أن أموت، أو أصلى لكى أموت، أو أحاول أن أشعر بأنى مت، ولكن الكتاب يقول «لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح فى الله» (كو3: 3).

والنتائج العملية لذلك كثيرة. فإذا تعلمت أنى قد مُت مع المسيح، أرى فى الحال أنه لا حق للخطية التى لا تزال ساكنة فىَّ أن تسود علىَّ. لقد كانت تسود فىَّ يوماً ما، ولكن المسيح مات للخطية أصلاً وثمرة، وموته كان لى. لذلك يجب بالإيمان أن أحسب نفسى ميتاً فعلاً عن الخطية، وحيّاً لله بالمسيح يسوع ربى. لاحظ أنى لا أحسب الخطية ميتة، أو اقتُلعت أو أى شىء من مثل ذلك؛ إنى أعلم أنها موجودة، ولكنى أنا ميت لها. الإيمان يحسب حساب الله ويقول: "فى موت المسيح مُتَّ أنا للمشهد التى تسود فيه الخطية، إنى سوف لا أطيعها مرة أخرى"، وبينما أنا أسير بالإيمان اختبر القوة للانتصار على الخطية «فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو6: 14)، يالهامن عبارة إذا قلنا عن الخطية أنها لا تسود، إذا كانت ميتة. فمضمون وجوهر تعليم الرسول هو أنه: مع أنها باقية فى جسدى المائت، يجب علىَّ ألا أسمح لها أن تسود (رو6: 12).

وطالما أنا أعيش فى هذا العالم، فلا يمكن أن أتخلص عملياً من وجود الخطية، ولكنى أستطيع، ويجب علىَّ، أن أتحرر من سلطتها. إن الله «دان الخطية فى الجسد»، وإذ أسلك أنا بالروح مع المسيح كغرض قلبى، فإنى أتحرر من سلطتها.

إنى أحسب نفسى ميتاً عن الخطية لأنى فى المسيح قد مُت لها، وطالما إنى أحتفظ فى ذهنى بالفرق واضحاً بين وجهتى الموت، فإنى أتحرر من الارتباك فى الرأى.

وإذ أرجو أن أكون بمعونة الله قد جعلت هذا الأمر واضحاً لكل شخص متعب الفكر، أتقدم لمعالجة سؤال كثيراً ما يُسأل فى هذه النقطة: إذا كان ما قد تعلمناه هو الحق، فكيف يمكن أن أكون كاملاً فى المحبة، والخطية مازالت ساكنة فىَّ؟ وللإجابة على ذلك يجب أن نعود إلى 1 يوحنا 4: 15-19، ولكى نتحاشى النظر إلى الموضوع من جانب واحد، سأقتبس كل الفصل سائلا القارئ أن يزن كل كلمة فيه: «من اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو فى الله. ونحن قد عرفنا وصدّقنا المحبة التى لله فينا. الله محبة ومن يثبت فى المحبة يثبت فى الله والله فيه. بهذا تكملت المحبة فينا أن يكون لنا ثقة فى يوم الدين؛ لأنه كما هو فى هذا العالم هكذا نحن أيضاً. لا خوف فى المحبة بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج. لأن الخوف له عذاب، وأما من خاف فلم يتكمَّل فى المحبة. نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً».

والآن، وهذا النص أمامنا، أسأل القارىء أربعة أسئلة :

1- محبة مَنْ التى صدّقناها؟

الجواب: محبة الله، (أنظر الجزء الأول من ع16).

2- محبة مَنْ التى نحن مدعوون أن نثبت فيها؟

الجواب: محبة الله (إقرأ الجزء الأخير من نفس العدد).

3- أين نجد المحبة الكاملة ظاهرة: فىَّ أم فى صليب المسيح؟

الجواب: فى صليب المسيح. (لاحظ جيداً ع 17، 18).

4- ما هى النتيجة فىّ إذ أتيت إلى معرفة كهذه؟

الجواب: هو موجود فى (ع 19) «نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً».

والآن دعنى أحاول أن أُلخَص هذا الفصل بدلاً من شرحه، إذ أن هذا النص لايحتاج إلى شرح لأنه بسيط:

كل شخص يعترف بالحق الخاص بيسوع يكون له فكر الله، وإذ ينال طبيعة إلهية جديدة، يستطيع السير مع الله الذى تعلم وصدق محبته القوية واستراحت نفسه فعلاً على عظمة هذه المحبة من نحونا؛ فالله قد أعلن عن نفسه أنه محبة، وفى هذه المحبة نحن نثبت. وإذ نعرف كمال المحبة كما ظهرت فى صليب المسيح، لا نخشى يوم الدينونة؛ لأننا نعلم أن المحبة قد جعلت المسيح يحمل خطايانا. فموته كان لنا، والآن الله يرانا فيه، وأمام نظر الله الآن نحن بلا لوم؛ لذلك نحن لا نخاف، لأنه من المستحيل أن يكون خوف فى المحبة. نعم، لأن محبة الله الكاملة قد أبعدت كل خوف كان يعذبنا قبل أن نفهم تلك المحبة. فإذا بقى أناس فى خوف عندما يفكرون فى مقابلتهم لله، فذلك لأنهم لم يروا تماماً ما فعلته محبة الله، إن تفَهمهم لمحبة الله لا يزال غيركامل. ولكن حيث تُعرف محبته ويستريح القلب فيها، فإنها تُقابَل بمحبة من جانبنا، لأن محبة كاملة كمحبته، لا يمكن إلا أن تُبادل بمحبة مثلها عندما يتمتع بها المؤمن بإخلاص.

هل هناك حاجة إلى أن تُزاد كلمات أخرى؟ أَليس من الواضح أنه لا توجد أية إشارة إلى أن تلك المحبة تتزايد فىَّ، وبذلك أصل إلى حالة الكمال فى الجسد؟ على العكس، فالمحبة الكاملة قد ظهرت خارجاً عنى فى صليب المسيح، ونفسى تتمتع بها فى الداخل.

معمودية الروح القدس ونار

من الغريب أن كثيراً من التعبيرات الكتابية التى لها معانٍ واسعة ومتنوعة يستخدمها الكماليون باقتحام، ليدعموا وجهة نظرهم. فهم يظنون أن هذه التعبيرات مرادفة لقول الرسول بولس «نعمة ثانية». وقد سبق أن فحصنا ورأينا أنها لا تشير مطلقاً لنظرية استئصال الخطية الأصلية فى أى وقت لاحق للتغيير الذى حدث فى الشخص بعد الإيمان.

ومن بين هذه العبارات، العبارة التى على رأس هذا الفصل، التى تُعطى لها أعظم مكانة عندهم، والتى يدّعون بكل فخر أنه لا يمكن دحضها. فيقولون: "إن هذه المعمودية كانت بكل يقين لكثيرين فى بدء هذا التدبير بركة حصلوا عليها بعد الولادة الثانية. ألم يكن الرسل جميعهم أولاداً لله قبل يوم الخمسين؟ ألم يحصل جميعهم على غفران خطاياهم؟ بكل تأكيد. ومع ذلك من يستطيع أن ينكر أنهم حصلواعلى الروح يوم الخمسين فقط؟ وإذا كان ذلك كذلك معهم فكيف نستطيع أن نظن أنه توجد أية طريقة أخرى الآن للصلاحية للخدمة؟ كل شخص بمفرده يجب أن يكون له يومه الخمسينى. وإذا لم يحدث ذلك فهو معرض لعدم دخول السماء أخيراً". وهنا يشعر معلم القداسة بكل تأكيد أنه أثبت تعليمه العزيز، وما عاد بالإمكان دحضه بأية براهين.

كما أن البعض يفرقون أيضاً بين معمودية الروح القدس ومعمودية النار، وبذلك يوجِدون بركة ثالثة! ولكن الغالبية العظمى يعتبرونها معمودية واحدة. فالروح يحل على الشخص المُبرَّر مثل لهيب من نار، فيحرق كل شر ويمنح النشاط الإلهى ولذلك هم يترنمون بما معناه:

أنيرى داخل نفسى
وكل جزء قدسى
لينير كيانى

 

أيتها النار الممحصة أدخلىقلبى
أنشرى ضوءك

لذلك يجب أن نعود مرة ثانية إلى كلمة الله لنتبين خطأ هذا التعليم فنذكر كل ماورد فيها بخصوص معمودية الروح، ملاحظين أيضاً بعض الأعمال الأخرى التى يجريها نفس الروح، والتى أساء فهمها الكثيرون.

يوحنا المعمدان هو أول من تكلم عن هذه المعمودية. وعندما كان الناس فى خطر أن يعطوا الذى أُرسل أمام وجه الرب تقديراً لا يستحقه، وجّه أنظارهم إلى الشخص الآتى، والذى لا يستحق يوحنا أن يحل سيور حذائه، وصرّح قائلاً «أنا أعمدكم بماء للتوبة. ولكن الذى يأتى بعدى هو أقوى منى الذى لست أهلاً أن أحمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس ونار، الذى رفشه فى يده وسينقى بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن. وأما التبن فيحرقه بنار لاتُطفأ» (مت3: 11، 12).

وفى إنجيل مرقس لا يذكر شيئاً عن النار، والجزء المقتبس من كلمات يوحنا فقط «يأتى بعدى من هو أقوى منى الذى لست أهلاً أن أنحنى وأحل سيور حذائه. أنا عمدتكم بالماء وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس» (مر 1 : 7، 8) ويوجد سبب لحذف كلمة «ونار» كما سنرى بعد قليل.

أما الذى ذكره البشير لوقا فهو أوضح الكل، فبعد أن أخبر عن خدمة يوحنا معلنا بوضوح ما تتضمنه من الغضب الآتى كما فى متى 3: 7-10، نراه يعلن أنه « قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتلقى فى النار» (لو 3 : 9) ولكن من الذى سينفذ هذا الحكم الخطير؟ هل هو يوحنا نفسه أم هو شخص آتٍ بعده؟ وإذا كان آخر، فهل مجيئه يكون فقط للدينونة؟ إن يوحنا يُجيبنا على هذا السؤال بعد ذلك «أنا أعمدكم بماء، ولكن يأتى من هو أقوى منى ... هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. الذى رفشه فى يده وسينقى بيدره ويجمع القمح إلى مخزنه وأما التبن فيحرقه بنار لاتطفأ» (لو 3 :16، 17).

وفى إنجيل يوحنا أيضاً كما فى إنجيل مرقس لا يُذكَر شئ عن النار، وما ذُكر هو فقط «إنى قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه. وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذى أرسلنى لأعمد بالماء ذاك قال لى الذى ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذى يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» (يو1: 32-34).

والوعد الآخر الوحيد عن معمودية الروح هو الذى أعطاه الرب المُقام نفسه عند صعوده، كما هو مسجل فى أعمال 1: 5، فبعد أن أمر تلاميذه بالمكوث فى أورشليم لأجل وعد الرب الذى سيتم سريعاً، يقول «لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير»، وهنا أيضاً لا نجد ذكراً للنار.

وفى أصحاح 2 من سفر الأعمال نجد تتميم هذه المواعيد تاريخياً. فالروح القدس نزل من السماء وملأ الجميع؛ المئة والعشرون مؤمناً الذين فى العلية، معمداً إياهم وساكناً فيهم، ولا توجد إشارة إلى النار. وبدلاً من ذلك نقرأ عن شىء مختلف تماماً «ألسنة منقسمة كأنها من نار استقرت على كل واحد منهم» ولنلاحظ العبارة باعتناء أنها لا تقول معمودية من نار، لكن ألسنة لها مظهر النار، استقرت على كل واحد. فهل كانت هذه معمودية النار التى تكلم عنها يوحنا؟ كلا، ولهذا سبب قوى للغاية.

لقد وجدنا مرتين هذا التعبير المزدوج مُستخدماً «هو سيعمدكم بالروح القدس ونار»، وثلاث مرات رأينا الجزء الأخير من التعبير محذوفاً. لماذا هذا الاختلاف؟ يوحنا المعمدان كان يوجه كلامه فى متى ولوقا إلى جماعة مختلطة، بعضهم تائبين منتظرين المسيا، والآخرون متكبرون متعظمون مراؤون غير مؤمنين. بعضهم بكل تواضع اعتمدوا بالماء تائبين عن خطاياهم، بينما الآخرون رفضوا المعمودية، أو أرادوا إجراءها بدون توبة. فيوحنا يقول للفريقين إزاء ذلك سواء اعتمدتم بواسطتى أم لم تعتمدوا، فستعمدون جميعاً بواسطة الآتى الذى هو أقوى منى، إما بواسطة معمودية الروح، أو بالنار. هو الذى سيفصل بين أولئك التائبين الحقيقيين وغير الحقيقيين، فكل شجرة ردية سوف تُقطَع وتُلقى فى النار، وكل من لم يتُب يعمد بنار الدينونة. إن القمح سيُجمع إلى المخزن؛ وهؤلاء هم الذين عُمدوا بالروح القدس، وأما التبن فسوف يُحرق بالنار؛ هذه هى معموديتهم بالدينونة.

أما العبارة الواردة فى كل من مرقس ويوحنا وسفر الأعمال فلم توجه لجماعة فيها غير مؤمنين، فيوحنا والمسيح كانا يتكلمان مع التلاميذ فقط؛ ولذلك لم يقولا لهم شيئاً عن معمودية النار، فلا توجد دينونة ولا غضب آت بالنسبة لهم لكى يخافوا منه. لقد أُعطوا وعد معمودية الروح فقط، وهذا تم فعلا يوم الخمسين، وبعد هذه الإشارة التى فى أعمال 2 لا نسمع مرة أخرى عن هذه المعمودية كشئ يُنتظَرأو يُصلى لأجله، أو يتوقع حدوثه، فوعد الآب قد تم. إن معمودية الروح القدس قد حدثت، فلا يوجد مطلقاً يوم خمسين آخر معترف به فى الكنيسة.

ولا توجد بعد ذلك إشارة إلى معمودية الروح فى العهد الجديد إلا مرتين: مرة عندما ذكر بطرس دخول كرنيليوس وبعض الأمم معه إلى جماعة المسيحيين (أع11: 16)، والمرة الأخرى فى رسالة بولس الأولى إلى كنيسة كورنثوس حيث يريهم أنها شىء حدث فى الماضى، وفيه تشارك جميع المؤمنين «لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد يهوداً كنا أم يونانيين» (1كو12: 13)، والرسول يتكلم إلى «جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح فى كل مكان» (1كو1: 2). البعض منهم كانوا مؤمنين ضعفاء، وكثيرون كانوا جسديين، وكثيرون فشلوا فى إدراك الكثير من الحق المجيد الخاص بالعهد الجديد؛ ولكن الجميع كانوا معتمدين بالروح الواحد الى جسد المسيح الواحد.

لذلك يجب أن ندرس بعناية ما نتج عن هذه المعمودية، ولماذا حدثت لاحقة للولادة الجديدة فى بداءة سفر أعمال الرسل.

أولا: يجب أن نلاحظ أن معمودية الروح كانت - إلى وقت تمجيد المسيح - مستقبلة، فبعد صعوده أرسل الروح الذى لم يكن مطلقاً إلى هذا التاريخ قد سكن على الأرض. وعندما كان الرب هنا، كان الروح ساكناً فيه ولكن لم يسكن حينئذ فى المؤمنين «الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد» (يو7: 39)، والرب فى ساعاته الأخيرة مع تلاميذه تكلم عن إرسال المعزى، وأوضح المباينة بين التدبيرين بقوله «ماكث معكم و يكون فيكم» (يو14: 17).

ثانياً: لنلاحظ أنه لا يأتى لتطهير أو تحرير التلاميذ من الخطية. صحيح أنه سيسكن فيهم ليكرسهم للمسيح ويقويهم فى حياة القداسة والشهادة لله؛ ولكن عمله الخاص هو أن يعمد ويُتحد كل المؤمنين فى جسد واحد. لقد أتى ليكوّن جسد المسيح بعد أن ارتفع الرأس إلى السماء كالإنسان الممجد عن يمين الله. إن عمل المخلص على الصليب يطهر من كل خطية، والروح القدس يُتحد جميع المؤمنين المطهرين فى جسد واحد مع رأسهم الممجد.

ثالثاً: إذ تكَّون الجسد، فالمؤمنون الأفراد لا ينتظرون فيما بعد وعد الآب، ولا يتوقعون نزولاً جديداً للروح القدس، ولكن عند إيمانهم يختمون بالروح القدس، وبذلك ينضمون إلى الجسد الواحد الموجود فعلاً.

فى الأصحاحات الأولى من سفر الأعمال، أى فى فترة الانتقال من اليهودية إلى المسيحية، تُذكر مظاهر خاصة للروح القدس فى تكوين هذا الجسد السرى، ففى أعمال 2، المائة والعشرون الذين كانوا فى العليه اعتمدوا إلى جسد واحد، وأولئك الذين آمنوا واعتمدوا بالماء - ويبلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف - قبلوا نفس الروح، وبذلك ضمهم الرب الى الكنيسة (أى الجماعة) التى تكونت حديثاً.

وفى أعمال 8 تخطت كلمة الحياة حدود اليهود ووصلت السامريين الذين اضطروا أن ينتظروا إلى أن يصل إليهم رسولان من أورشليم، قبل أن يُعطوا الروح القدس، لكى لا يكون انشقاق فى الجسد. فهؤلاء الذين كانوا من قديم أعداء لليهود، يجب أن لا يفكروا فى كنيستين أو جسدين للمسيح، بل كنيسة واحدة وجسد واحد فقط. و لذلك وُجدت فترة بين ولادتهم ثانية وحلول الروح القدس عليهم عند وضع أيدى الرسل. فاليهود والسامريون كان لهما نظامان متنافسان، وكان لهما معابدهما الخاصة لمئات السنين، والخصام كان مُراً جداً بينهما (انظر يو4: 19-22)، ولذا فمن السهل أن نرى حكمة الله فى اتحاد المؤمنين من السامريين مع أولئك الذين من أورشليم بكيفية علنية. وفى أعمال 10 تتسع الدائرة والنعمة تفيض إلى الأمم؛ فكرنيليوس، وهو رجل تقى، ومن معه سمعوا كلمات بها خلصوا وتمتعوا بما للمسيحى الحقيقى من مقام سام. وبينما كان بطرس يتكلم حل عليهم الروح القدس بقوة، كشهادة لبطرس ورفقائه، إذ سمعوهم يتكلمون بألسنة بإنارة إلهية لأذهانهم، وضبط إلهى لألسنتهم.

بقيت حالة واحدة خاصة فى أعمال 19. لقد كان أبلوس يبشر فى أفسس بمعمودية يوحنا، غير عارف بما فى الإنجيل عن موت المسيح وقيامته ونزول الروح القدس. كان يحمل لليهود المشتتين بين الأمم رسالة يوحنا المعمدان، وبعد أن علَّمه أكيلا وبريسكلا قَبِل الإعلان الإلهى الكامل عن المسيح، وذهب إلى كورنثوس. وذهب بعده بولس إلى أفسس، فوجد بعض التلاميذ الذين لم يدركوا مقام المسيحى وسلوكه؛ ولهؤلاء قال بولس: «هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟»، قالوا: «ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس». ولأن المعمودية المسيحية الآن هى «باسم الآب والابن والروح القدس»، لذلك سألهم بولس «فبماذا اعتمدتم؟»، وهذا أظهر كل شئ، إذ أجابوا قائلين «بمعمودية يوحنا». وعند ذلك أوضح لهم الرسول الحق المسيحى، واضعاً أمامهم المسيح كمن سبق التنبؤ عنه بواسطة يوحنا، المسيح الذى أتى ومات وقام وأرسل الروح القدس من السماء؛ فقبلوا الرسالة بفرح واعتمدوا باسم الرب يسوع، ولما وضع الرسول يديه عليهم قبلوا المعزى وانضموا هم أيضاً إلى الجسد، وبذلك انتهت فترة الانتقال.

بعد هذا لا نجد أية إشارة أخرى، إلى أنه توجد فترة بين الإيمان والحصول على الروح القدس، بل الروح القدس يسكن فى جميع المؤمنين كختم يميزهم كمن هم لله (أف1: 13-15)، وقد ختموا به إلى يوم فداء أجسادهم (أف4: 30)، و«إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له (أى ليس للمسيح)» (رو 8: 9)، والروح الساكن فينا هو روح التبنى «الذى به نصرخ يا أبا الآب»، إذاً من المستحيل أن يكون ابن للّه غير حاصل على الروح القدس. إنه عربون وباكورة المجد الآتى (رو8: 11-17، 23)، وهو مسحتنا، وأصغر ابن لله له هذه المسحة الإلهية (1يو2: 20، 27).

ولأننا حصلنا على الروح القدس فنحن مدعوون لأن نسلك بالروح، وأن نكون «ممتلئين بالروح» لكى يتمجد الله فينا (غلا5: 16، أف5: 18) ولكن سكنى الروح القدس لا يعنى تغيير أو إزالة الطبيعة الجسدانية العتيقة، لأننا نقرأ «الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون» (غلا5: 17)، إن أجساد المؤمنين هى هيكل الروح القدس، ونحن مدعوون لأن نسهر عليها من أية نجاسة، ونحتفظ بها مكرسة للرب، ولأننا قد صرنا أعضاء المسيح ومتحدين بالرب لذلك يحرضنا الكتاب على أن نهرب من الزنا ومن كل نجاسة (1كو6: 12-20).

وكم يتعارض تعارضاً تاماً مع ما يسمى تعليم القداسة، أن تُعطى للمؤمنين تحريضات مثل هذه، كيف تعلم إنساناً أنه بسبب حصوله على الروح القدس قد انتُزع منه كل ميل للخطية، ثم بعد ذلك تُحرّضه على أن يهرب من الشهوات الجسدية التى تحارب النفس؟

ولأن الروح القدس ساكن فىَّ، فأنا مُطالَب بأن أسير فى الطريق المقدس، متذكراً أنى عضو فى جسد المسيح المكوَّن بواسطة معمودية الروح القدس يوم الخمسين، أما معمودية النار فسوف لا آتى إليها مطلقاً، إنها محفوظة لكل شخص يرفض شهادة الروح فيُطرح فى بحيرة النار بعد الدينونة أمام العرش العظيم الأبيض، فى ذلك اليوم سيهبط إلى جهنم كل الذين يموتون بدون المسيح، يهبطون غارقين فى اليأس ومحاطين بالويل، سيطرحون فى جوف اللهيب، ولا يوجد من يعطف أو يخلّص.

ليمنح الرب القارئ أن لا يأتى مطلقاً إلى تلك المعمودية المخيفة، ولكن إذا لم يكن قد صار بين أولئك الذين اعتمدوا بالروح القدس إلى جسد المسيح، يمكنه أن يحصل على ذلك الآن بواسطة إيمانه القلبى بالمسيح، كما فعل قديماً الغلاطيون عند سماعهم عن هذه الأمور من الرسول بولس (غلا3: 2،3).

الكمال كما هو فى المكتوب

توجد عادة شائعة عند المتعصبين لعقيدة ما وهى أنهم يعطون معان جائرة لبعض الكلمات، ويصرون على أنها هى المعانى الصحيحة، ولا يوجد تعبير جائر من هذه الوجهة أكثر من الفهم الخاطىء لكلمتى «كامل» و «كمال» الواردتين فى كلمة الله. فمنذ أن نشر كتاب عن "التقرير الواضح عن الكمال المسيحى" ليوحنا وسلى وحتى وقتنا الحاضر، فهِم الكثيرون خطأً أن كلمة «كمال» تعنى «بدون خطية».

ومع أن وسلى نفسه لم يعط للكمال هذا التعريف بالضبط، ويظهر أنه خشى سوء استعمال هذا التعليم بما يضر النفوس، لذلك حرص كل الحرص على التمييز بين الكمال الملائكى والآدمى والمسيحى. أما الآن فأصبح التعليم العام للقداسة عندهم هو تصوير الكامل كمن قد أُعيد إلى الحالة الآدمية الأولى قبل السقوط من حيث نياته ومقاصده، غير أن عادات المجتمع وحالة الناس الذين لا يزالون فى الحالة الطبيعية والجسدية تتطلب استمرار استعمال «الأقمصة من جلد».

ويحسن بنا أن نرجع فوراً إلى المكتوب لنلاحظ استخدام التعبيرات وارتباطها معاً كما فعلنا سابقاً مع كلمة «التقديس». ولا يمكننا معرفة قوة معنى الكلمات الإنجليزية المستخدمة لترجمة الكلمات العبرية واليونانية الأصلية بواسطة بحث معانيها فى القاموس أو الشروحات اللاهوتية، بل بواسطة ملاحظة الكيفية التى استخدمت بها فى الكتاب المقدس. فمثلاً نجد فى كل العظات العادية التى يلقونها عن الكمال يوجّه الالتفات أولاً إلى نوح وإبرهيم.

عن الأول نقرأ «وكان نوح رجلاً باراً كاملاً فى أجياله. وسار نوح مع الله» (تك6: 9)، وفى الهامش نجد كلمة «مستقيم» فى مكان «كامل»، ولو أن كلا من الكلمتين تعبير صحيح للأصل. فنوح كان رجلاً مستقيماً كاملاً فى طرقه. أى أنه كان شخصاً لا يؤخذ عليه أى مأخذ من جهة سلوكه، إلى أن تلطخت بكل أسف هذه الحياة الكاملة بالسكر المخجل الذى كشفه حام، وبسبب ذلك لعن نسله. هل يستطيع أحد أن يحكم بكمال نوح، يعنى تحرره من الخطية الأصلية؟ ومع ذلك نجد الكثير من العظات تبنى على تلك العبارة التى ذكرت عن رجل عاش قبل الطوفان، متخذين منه مثلاً للقداسة التامة. وحتى فى تعبيراتنا العادية تستخدم الكلمة "كامل" كما استخدمت هنا. فالمدرس يقول عن تلميذ اجتاز بنجاح امتحاناً بدون أن يخطىء، هو كامل، فهل يعنى بذلك أنه "معصوم"؟

ولإبراهيم يقول الله: «أنا الله القدير سر أمامى وكن كاملاً» (تك17: 1)، ونظرة إلى الهامش تساعدنا أن نتجنب استنتاجاً خاطئاً إن كلمتى "مستقيم ومخلِص" مترادفتان ومع ذلك فالمدافع الغيور عن عقيدة عمل النعمة الثانى يتغاضى عن كل هذا أو يتجاهله، ويقول أن الله لا يطلب من إبرهيم المبرر بأن يكون كاملاً إلا إذا كان يعنى أنه يوجد عمل أعمق كان الله مستعداً أن يتممه فيه، والذى به سوف تتلاشى كل جسدانية، ويصبح رئيس الآباء كاملاً من ناحية حالته الداخلية. ولكن لا يوجد مثل هذا الفكر مطلقاً فى النص. فإبراهيم دٌعى لأن يسير أمام الله بإخلاص القلب وبساطة الغرض، وهذا هو معنى أن يكون "كاملاً".

والنص الأخير الذى يشار إليه عادة قد جاء بعد مرور أجيال عديدة، وهو جزء من موعظة الرب على الجبل «فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هوكامل» (مت5: 48)، وهذه كلمات خطيرة حقاً لايصح أن نمر عليها بدون تأمل. ونلاحظ مبدئياً أنه إذا كان معنى "كامل" هنا هو أن نكون كالله تماماً، فينتج حتماً أنه لم يوجد مسيحى واحد أمكنه الوصول إلى الحالة الموصوفة هنا، ولا يمكن لشخص أن يدعى هذا الكمال إلا إذا كان معتوهاً.

ولكن نظرة بتأمل إلى ما سبق من تعليم يجعل المعنى واضحاً. فالرب كان يعلن مبادىء الملكوت، ويحرض تلاميذه على أن يحبوا أعداءهم ويحسنوا إلى مبغضيهم ومضطهديهم، وبذلك يظهرون أنهم أولاد أبيهم السماوى الذى محبته موجهة إلى الصالحين والأشرار على السواء، فهو لا يمنع شمسه ومطره عن الأشرار، ولكنه يظهر رحمته للجميع. ونحن مدعوون لأن نكون مثله أدبياً. فكوننا نحب أصدقاءنا ومريدينا فقط نكون فى مستوى أى شخص غير مؤمن، وإذا كنا نعطف على إخوتنا فقط نكون نظير العشارين؛ ولكن إذ نُظهر النعمة ونتصرف بمحبة نحو الكل فهذا معناه أن نكون كاملين لنا فكر الخالق نفسه، وبكل تأكيد يحتاج جميع المسيحيين لهذا النوع من الكمال، ولكن من يجرؤ على القول بأنه قد تمم هذا لدرجة أنه لم يكن فى وقت ما غير مغرض أو غير عادل فى تعامله مع الآخرين؟

فالكمال فى أقصى معناه قد قصرنا جميعنا عن الوصول إليه، فيقول الرسول بولس «ليس إنى قد نلت أو صرت كاملاً، ولكنى أسعى لعلى أدرك الذى لأجله أدركنى أيضاً المسيح يسوع. أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسى أنى قد أدركت ولكنى أفعل شيئاً واحداً إذ أنا أنسى ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا فى المسيح يسوع» (فى3: 12-14)، فهل من طالب للكمال من حيث الاختبار والنمو فى النعمة يكون أقوى أو أكثر امتيازاً من هذا؟ إنه مهما يتخيل الآخرون أنهم قد وصلوا إليه، فبولس على الأقل لم يكن واحداً من هؤلاء الكماليين. ومع ذلك فالرسول فى العدد التالى يستخدم كلمة أخرى تعنى «كامل» فيقول: «فليفتكر هذا جميع الكاملين منا». فهل يوجد أى تعارض أو عدم انسجام هنا؟ كلا، فالغلطة هى فى ذهن الذى يفكر هكذا. إن كلمة «كامل» فى ع 15 تعنى البالغين، الذين عبروا مرحلة الطفولة الروحية وأصبح لهم الذهن المدرَّب فى الأمور الروحية، ومن بين هذه الأمور التى تظهر نموهم روحياً اعترافهم مع الرسول بولس بأنهم غير كاملين من حيث الاختبار. إن المسيح يسوع قد أدركنا لنكون مشابهين تماماً صورته المباركة. فالله سبق وعيننا لذلك، كما هو وارد فى رومية 8: 29، وإذ نضع هذا أمامنا نسعى، ناسين ما هو وراء وممتدين إلى ما هو قدام، إلى تلك الخاتمة المجيدة، وحينئذ فقط سنصل إلى الكمال المسيحى «ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو» (1يو3: 2).

وفى عبرانيين 6: 1 نقرأ أيضاً عن الكمال، وفى هذا العدد يمكن بسهولة لأى واحد أن يفهم أن الشخص الغير المدرك لوجهة نظر الرسالة وطبيعتها أن يستخدم التحريض، «لنتقدم إلى الكمال»، فى غير محله. وغالباً ما يفسره معلم القداسة كما يأتى فيقول: إن هذه الكلمات موجهة إلى مؤمنين، والعبرانييون المخاطبون هنا قد سبق رجوعهم إلى الله بالتوبة والإيمان، وبدون شك هم مبررون. لذلك فإذا كان مثل أولئك الأشخاص يُحثون على «التقدم إلى الكمال»، فالكمال يجب أن يكون عملاً ثانياً للنعمة التى يقود إليها الرب جميع الذين قد حصلوا على التبرير فقط. ولا اعتراض على الكلام السابق من حيث رجوع أولئك العبرانيين إلى الله وتبريرهم، ولكن مع صحة هذا لا يمكن أن ينتج عنه حتماً ماقيل من حيث عمل النعمة الثانى.

فكون الرسول يحرض المسيحيين العبرانيين على أن يتقدموا إلى شئ لم يكونوا قد وصلوا إليه واضح، ولكن غير صحيح أن هذا الشىء هو ما يسمونه "بركة ثانية". والحقيقة هى أن الكلمة اليونانية «كمال» فى هذه العبارة تفيد نفس معنى الكلمة المترجمة «كامل» فى فيلبى3: 10 التى سبق أن فحصناها ورأينا أنها ترادف «البلوغ» أو النضوج، وهذا هو المقصود هنا. فالكلمة تتضمن بلوغاً روحياً سامياً يجب أن يكون أمام جميع المؤمنين الأحداث، وكان يجب أن يوصى به هؤلاء العبرانيون، لأنهم كانوا أطفالاً معوقين عن النمو بسبب عدم تحررهم من اليهودية التى تنتج الضعف والهزال الروحيين، وبولس كان قد وبخهم لأجل ذلك فى الأصحاح السابق، لنلاحظ كلماته «صرتم متباطئ المسامع لأنكم إذ كان ينبغى أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان تحتاجون أن يعلمكم أحد ماهى أركان بداءة أقوال الله وصرتم محتاجين إلى اللبن لا إلى طعام قوى، لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة فى كلام البر لأنه طفل. وأما الطعام القوى فللبالغين (أولئك الذين هم كاملون) الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر» (عب5: 11-14).

ونتعلم من أعمال 21 السبب الذى لأجله توقف هؤلاء المؤمنون العبرانيون عن النمو فى الأمور الروحية والمعرفة. إن يعقوب نفسه الذى يذكر بالارتباط مع الرسل ومعه شيوخ الكنيسة فى أورشليم، قد اجتمعوا معاً لاستقبال بولس ورفقائه عند رجوعهم إليهم، وبعد سماعهم مافعله الله بين الأمم، يقول الوحى «كانوا يمجدون الرب وقالوا له أنت ترى أيها الأخ كم يوجد ربوة من اليهود الذين آمنوا وهم جميعاً غيورون للناموس» (ع 20) وعلى ذلك قدموا مشورة لبولس أدت إلى اتباعه طقوس يهودية خاصة لكى يكون بعيداً عن كل شبهة. والرسول العظيم، لكى يرضى أمته نجده يوافق على ذلك، ولكن الله منعه من إتمام عمل كان فيه يناقض صراحة ماجاء فى الأصحاحين التاسع والعاشر من الرسالة إلى العبرانيين. كيف كان حال الرسول لو أنه تمم تلك المشورة، وهو الذى كتب بنفسه «وإنما حيث تكون مغفرة لا يكون بعد قربان عن الخطية»؟ (إقرأ بخصوص النذير ما جاء فى عدد6: 13-21 وقارنه مع أعمال21: 23-26) وهذا السقوط منعه الله برحمته.

وبعد ذلك كتب الرسول الموقر بوحى إلهى الرسالة إلى العبرانيين، ليحرر أولئك اليهود المسيحيين من عبودية الناموس وخضوعهم لطقوس العهد الأول. يقول فى الأصحاح السادس «لذلك ونحن تاركون كلام بداءة المسيح لنتقدم إلى الكمال، غير واضعين أيضاً أساس التوبة من الأعمال الميتة والإيمان بالله. تعليم المعموديات (أو الغسلات) ووضع الأيادى، قيامة الأموات والدينونة الأبدية. وهذا سنفعله إن أذن الله» (ع 1-3). هذا كان غرض الرسول فى رسالته، عندما كان يعلن الحقائق المختلفة المرتبطة بكهنوت المسيح، والعهد الجديد، والذبيحة الوحيدة، والسلوك بالإيمان، هذه الدائرة الواسعة الخاصة بالحقائق المسيحية هى «الكمال» الذى، هم ونحن، مدعوون لأن نصل إليه. فالذى يفهم ويختبر فى نفسه تعليم الرسالة إلى العبرانيين والأصحاحات 7-13 يكون فى نظر الرسول مسيحياً كاملاً وصار بالغاً يستطيع أن يتناول الطعام القوى، بدلاً من كونه ليس صالحاً إلا لتناول اللبن فقط. أما عن الموضوع المجيد الخاص بإيمان مختارى الله فإنى لا أتجاسر أن أدخل فيه الآن، لأنى إذا فعلت ذلك أكون قد خرجت عن الموضوع الذى نحن الآن بصدده

إنه بالمواظبة على مطالعة المكتوب واحترامنا له، يمكن لأى شخص أن يصير كاملاً. والتحريض المقدم لتيموثاوس عظيم الأهمية «اجتهد أن تقيم نفسك لله مزكى عاملاً لايخزى مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة» (2تى2: 15) وفى نفس الرسالة يكتب بولس «كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذى فى البر؛ لكى يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح» (2تى3: 16،17)، وهذا ليس كمالاً داخلياً، ولكنه المعرفة الصحيحة لفكر الله الذى ترينا إياه كلمته. فالذى لا يهمل استخدام وسائط النعمة المعينة له، يستطيع التمتع باستجابة الصلاة التى تختم بها الرسالة إلى العبرانيين «وإله السلام... ليكملكم فى كل عمل صالح لتصنعوا مشيئته عاملاً فيكم ما يرضى أمامه بيسوع المسيح الذى له المجد إلى أبد الآبدين. آمين» (عب13: 20،21).

ولنفحص أيضاً فصلاً واحداً قبل أن نختم دراستنا المختصرة عن الكمال وهى تلك الأقوال الواردة فى يعقوب3: 1،2 حيث نقرأ: «لاتكونوا معلمين كثيرين يا إخوتى عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم. لأننا فى أشياء كثيرة نعثر جميعنا. إن كان أحد لا يعثر فى الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً». وبالنسبة لما سبق أن تكلمنا عنه لا تحتاج هذه الكلمات إلى كثير من الشرح. فيعقوب، بكل وضوح، لا يمتلك،كما أنه لا يعرف أحداً أمتلك ما يسمى بالبركة الثانية، أى الكمال المعصوم من الخطية، فهو يتكلم بروح الله مخبراً إيانا أنه فى أشياء كثيرة نعثر جميعنا. إذا وجد إنسان لا يعثر مطلقاً فى الكلام، أى لا يمكن أن ينطق مطلقاً بكلمة قاسية، أو بكلمة غير حقيقية، أو بكلمة بطالة؛ فهو فى الواقع رجل كامل. لكن هل كل خطية انتزعت منه من جذورها؟ كلا، إنه يقصد أن ذلك الرجل قادر أن يتحكم فى طبيعته الجسدانية بدلاً من أن تتحكم هى فيه «هو قادر أن يلجم كل الجسد» لماذا نحتاج إلى تلجيم إذا كان كل ميل للخطية قد انتزع كلية إذا كانت الطبيعة الفاسدة قد اقتُلعت؟ أليس من الواضح أن الرجل الكامل ليس هو رجلاً بدون خطية، ولكنه رجل يستطيع أن يضبط نفسه وهو ليس تحت تأثير قوة الخطية التى لازالت تسكن فيه؟ إقرأ كل الأصحاح بتأمل وبروح الصلاة واسال نفسك مَنْ مِن معلمى القداسة قد وصل قط إلى تتميم مطاليب هذا المستوى من الكمال؟ ما من شخص بين كل أولاد الله لا يعترف أنه قد عثر فى كلمة، وإذا وجد من يدعى ذلك فهو يخدع نفسه.

ودعنا باختصار نلخص ماسبق أن تأملنا فيه الآن. إن جميع المؤمنين مدعوون لأن يسيروا أمام الله كما سار نوح وإبرهيم فى الاستقامة وإخلاص القلب. هذا هو الكمال بالنسبة للحياة الداخلية.

وإذ نعمل ذلك نحن مدعوون لأن نظهرالمحبة والنعمة للجميع، ولتكن معاملتهم لنا كيفما تكون، حتى بذلك نكون كاملين فى خلوّنا من كل بغضة كما أن أبانا هو كامل.

كل المؤمنين مدعوون لأن يجتازوا مرحلة الفصول الابتدائية فى مدرسة الإعلانات الإلهية العظيمة ويتقدموا إلى الكمال، بمعنى أننا نضع أيدينا على ملء ما قد سرَّ الله فى نعمته أن يعلنه لنا فى المسيح.

لكن لا يوجد من هو كامل بالمعنى المطلق لهذه الكمات ولو أن الذى يستطيع أن يضبط لسانه هو كامل من حيث قدرته على أن يلجم كل الجسد لأنه لا يوجد أى شىء شرير يعمل فى الإنسان أكثر عناداً من اللسان.

وعندما نرى ذلك الشخص المبارك الكامل فى الحكمة والنعمة والجمال سنكون مثله وسنكون كاملين تماماً وإلى الأبد، حيث لا يمكن أن تصل إلينا الخطية أو السقوط.«فليفتكر هذا جميع الكاملين (البالغين فى النمو) منا وإن افتكرتم شيئاً بخلافه فالله سيعلن لكم هذا أيضاً. وأما ماقد أدركناه فلنسلك بحسب ذلك القانون عينه ونفتكر ذلك عينه» (فى3: 15،16).

التطهير من كل خطية - والانقياء القلب

«طوبى للذى غفر إثمه وسترت خطيته. طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية ولا فى روحه غش» (مز32: 1،2). «طوبى للانقياء القلب لأنهم يعاينون الله» (مت5: 8).

إن هاتين الفقرتين - ولو تباينتا موضوعاً - مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً، ذلك أن التطويب الذى تشيران إليه من نصيب كل من تحول إلى الله بأمانة، فى توبة وثقة بالرب يسوع المسيح مخلصاً. ذاك الذى دمه الكريم يطهر من كل خطية.

والذين يظنون أن هذا التطهير العجيب هو درجة يصل إليها المؤمن، مطبقين خطأً قول بولس «بهذا يتبرر كل من يؤمن من كل (شئ)» (أع13: 39)، يكشفون عن جهلهم بالمكتوب، وأفكارهم الضعيفة عن تقدير الله لعمل ابنه الحبيب الكفارى. فإذ نتكلم عن التبرير، نفكر فى مجموعة الخطية والخطايا، التى قد تحرر المؤمن إلى الأبد من كل تهمة بشأنها. ومن الجهة الأخرى، فإن فكرة التطهير، توحى على الفور بأن الخطية تدنس، وإنه ما لم يتطهر الإنسان من دنسها فلن يستطيع أن يتجه إلى الله بلا غش ليكون - بحق - نقى القلب.

إن تطويب المزمور الثانى والثلاثين ليس لشخص منزه عن الخطية، بل لإنسان؛ كان مرة مذنباً ودنساً، لكنه اعترف للرب بمعصيته، ونال غفران خطيته. على أنه وَجد شيئاً آخر فى الأسلوب الإلهى للتطهير من دنس الخطية؛ وهذا الشىء هو أن الرب - من تلك اللحظة فصاعداً - لا يحسب خطية للشخص الذى سترت طبيعته الشريرة وثمارها بكفارة الرب يسوع المسيح. لقد كان داود حقاً يتشوق بالإيمان إلى كفارة مستقبلة؛ أما نحن فنؤمن بذاك، الذى فى 7نعمة مطلقة، قد أنجز ذلك العمل العظيم، الذى به تغفر الخطية الآن ويتطهر الإثم. ذلك أن الله بار ولا يمكن أن يغفر بالانفصال عن الكفارة؛ من أجل هذا فهو يبرر الفاجر على أساس عمل ابنه. ونحن نعلم أن الله قدوس كذلك، ولا يمكن أن يسمح لشخص مدنس أن يقترب إليه؛ ومن هنا فلابد من تطهير الخطية. وكلتا الوجهتين يشملهما خلاص كل مؤمن.

فالإنسان الذى غُفر إثمه وتطهر، هو الذى ليس فى روحه غش؛ هو النقى القلب، لقد دان نفسه وحكم على خطاياه فى حضرة الله، ومن ثم لم يصبح لديه ما يخفيه ويكتمه. لقد تحرر ضميره وتنقى قلبه، لأنه أمين قدام الله، بحيث لا يحاول أن يكتم إثمه فيما بعد. الكل ظهر فى النور؛ ومن ثم فإن الله نفسه الذى أعد الغطاء الساتر، يأتى بالنفس الأمينة لكى تتمتع بكل بركات هذا الغطاء.

وهذا الموضوع الهام عينه هو الذى يتناوله الرسول يوحنا فى رسالته الأولى 1: 5-10، تلك الفقرة التى ينبغى أن نتحول إليها الآن، وتيسيراً للقارىء اقتبسها كاملة. يقول يوحنا «وهذاهو الخبر الذى سمعناه منه ونخبركم به أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. إن قلنا إن لنا شركة معه وسلكنا فى الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق. ولكن إن سلكنا فى النور كما هو فى النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية. إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم. إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا»، ويعقب هذا مباشرة، قوله فى مطلع الأصحاح الثانى «يا أولادى أكتب إليكم هذا لكى لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا؛ ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً».

هذا إذاً هو «الخبر» العظيم الذى يدور حوله الجزء الأول من رسالة يوحنا؛ وهو أن «الله نور»، كما أن خبر الجزء الأخير من هذه الرسالة هو أن «الله محبة».

ويالها من لحظة خطيرة فى تاريخ النفس حينما تشرق عليها هذه الحقيقة العظيمة الأولى «الله نور وليس فيه ظلمة البتة»! وهى الحقيقة التى تجعل جميع الناس، وهم فى حالتهم الطبيعية غير مخلّصين، يرهبون لقاء الله الذى ينظر «ليس كما ينظر الإنسان» ولكنه يميز أفكار القلب ونياته. لما جاء المسيح كان النور يضىء، ينير كل من أتوا ليستنيروا به، وهو نفسه كان نور العالم؛ ومن هنا جاءت كلماته الخطيرة «وهذه هى الدينونة، إن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتى إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكى تظهر أعماله أنها بالله معمولة» (يو3: 19-21). فالنفس غير التائبة تبغض النور فتهرب من حضرة الله الذى هو نور. أما الشخص الذى حكم على نفسه واعترف بذنبه ومعاصيه كما فعل داود فى مزمور 32، فإنه لا يعود يرهب النور، بل فيه يسلك غير خائف منه لأنه سبق فاعترف بإثمه طواعية. ويوم الدينونة لا يرعب الشخص الذى سبق فحكم على نفسه هكذا؛ فبالإيمان رأى أن الله حكم على خطاياه فى شخص ابنه الحبيب يوم جعله خطية على الصليب. ومثل هذا يسلك فى النور. أما كل من يدعى بأنه مسيحى وأنه يتمتع بالشركة مع الله ومع ذلك هو يسلك فى الظلمة، فإنه يكذب وليس يعمل الحق. أما إذا كنا قد تعرضنا للنور، وانكشفت فى ضوئه حقيقتنا، وتحولنا من الظلمة إلى النور، وسلكنا فيه، فلنا حينئذ شركة بعضنا مع بعض. إذ فى هذا النور نجد جماعة مفدية، حكموا ودانوا أنفسهم وتابوا نظيرنا، ونعلم أنه لم يبق من سبب يدعونا للهروب من النور لأن «دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية».

وينبغى ألا نمر سريعاً على هذه العبارة التى طالما أُسئ استخدامها وتطبيقها، فبعض الناس يفسرونها بما هو غريب على معناها. فالذين يُعلِّمون "بالقداسة" يظهرون هذه العبارة كما لو كان مفهومها هكذا: "لو أننا سمونا بسلوكنا حتى نصل إلى النور الذى يمنحنه لنا الله فيما يتصل بواجبنا، فلنا شركة مع الذين يفعلون هكذا. وإذ نستكمل هذه الشروط فإن دم يسوع المسيح ابنه يطهر من قلوبنا كل خطية غريزية ويجعلنا أنقياء مقدسين داخلياً، ويحررنا من كل جسدانية".

لو أن هذا هو مفهوم الآية؛ لوجدنا أمامنا شروطاً ضخمة لابد من استيفائها قبل أن نعرف هذا التطهير الباطنى. ووجدناه حتماً علينا أن نسلك فى طريق كامل، مع أننا لا نزال ناقصين، حتى يتسنى لنا أن نكون كاملين! فهل يمكن أن يكون هناك اقتراح أكثر مخالفة للعقل من هذا، فضلاً عن أنه غير كتابى؟!

بيد أن الفحص الدقيق لهذه الآية يكشف عن خلوها من كل ريبة إزاء طريق السلوك. فليس الأمر هنا أمر سلوك بحسب النور الممنوح لنا للقيام بواجبنا، بل إن الأمر الذى يؤكده الرسول ويشدد عليه، خاص بالمنطقة التى ينبغى أن نسلك فيها «إن سلكنا فى النور». لقد كنا قبلاً نسلك فى الظلمة، وفيها لا يزال يسلك كل الذين لم يخلصوا. أما المؤمنين جميعاً فإنهم يسلكون فى ذات الشىء الذى كانوا قبلاً يرهبونه؛ أى النور، الذى هو بالطبع حضرة الله. وفى عبارة أخرى: هم لا يحاولون فيما بعد أن يختبئوا عن الله ويغطوا ويستروا خطاياهم، إنهم يسلكون فى ذلك النور الذى يكشف كل شىء باعتبارهم خطاة دانوا أنفسهم، ومن أجلهم سفك دم المسيح. وإذ هكذا يسلكون فى كامل وهج النور، فإنهم لا يسلكون وحدهم، بل فى رفقة جمهور غفير لهم شركة معهم، لأنهم بالسواء حاكمون على أنفسهم وتائبون. إنهم لايخشون ذلك النور، ولا يطلبون الهرب من أشعته؛ لأن «دم يسوع المسيح» الذى سفك مرة على صليب الجلجثة، والذى هو الآن مرشوش على الغطاء القائم فى الأقداس السماوية، التى فيها يشرق نور سحابة المجد «يطهرنا من كل خطية». لم الخوف إذاً وقد كُفر عن كل خطية بذلك الدم الكريم.

وفى اللحظة التى تدرك النفس فيها هذا الحق، يتبدد كل خوف. ولاحظ أن المسألة هنا ليست مسألة غسل دم المسيح لطبيعتى الشريرة - نزع الخطية الساكنة فىَّ - بل أنه عمل ابن الله الكفارى، نافع وفعّال لتطهير ضميرى المدنس من نجاسة كل خطية قد أذنبت فيها. ولو أن كل الخطايا التى اقترفها الناس جميعاً أضيفت فى قائمة حسابى، فإن دم المسيح يطهرنى منها جميعاً!

اذاً، فكل من ينكر طبيعته الخاطئة الكامنة بين جوانحه، ويجاهر بإنه لم يخطئ، يخسر السعادة والهناء المخزونان فى المسيح لكل من يأتى إلى النور ويعترف بمعاصيه. ولعله من المغالاة أن نظن أن قول الرسول «إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا» (1يو1: 8) يشير إلى الذين ينادون بتعلم التقديس؛ لكن يحسن بأمثالهم أن يزِنوا ألفاظه الخطيرة؛ فهو يحدثنا عمن يجهلون الحقيقة الخطيرة، حقيقة طبيعة الخطية فيهم، ويحاولون أن يتجاسروا على الاقتراب من الله بالانفصال عن صليب المسيح. هم يضلون أنفسهم، ولا يعرفون الحق. إنه لخطير حقاً أن نفكر فى أن أشخاصاً مسيحيين بالحق يشاركون أولئك الأشخاص فى أفكارهم، ومع أنهم لايزالون فى خطر من السقوط، فإنهم ينكرون وجود الخطية فيهم وملازمتها إياهم. وكان الأفضل كثيراً إن يقولوا بأمانة مع الرسول بولس «فإنى أعلم أنه ليس ساكن فىَّ، أى فى جسدى، شئٌ صالح» (رو7: 18).

إن المبدأ العظيم الذى بمقتضاه يغفر الله الخطية نجده فى (1يو9:1) «إن اعترفنا» فإنه لابد أن يغفر حتى يكون أميناً لابنه وعادلاً بالنسبة لنا نحن الذين من أجلنا مات المسيح. وما أسعد أن نستريح ليس فقط على محبة الله ورحمته بل كذلك على أمانته وعدله! أما أن ينكر الانسان أنه أخطأ - برغم العمل العظيم الذى تم لخلاص الخطاة - فذلك جحود يفوق الوصف؛ ومن يفعل ذلك فإن الرسول يصمه بوصمة ذلك اللقلب الكريه جداً: «كاذب»!

وقد كُتِبت هذه لكى لا يخطئ المؤمنون. على أن الروح القدس يضيف إليها مباشرة «وإن أخطأ أحد فلنا (نحن المؤمنين) شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار» فسقوطى لا يُبطِل عمله، تبارك اسمه. فقد مات فوق الصليب من أجل خطاياى جميعها، وليس من أجل الخطايا التى ارتكبتها إلى لحظة تقابلى مع الله، ورجوعى له. إن المسيح هو الكفارة الفعالة الباقية، كفارة لخطايانا. وهو - للسبب ذاته - الوسيلة النافعة لخلاص العالم كله. واذ اعتمدت عليه واثقاً به لم يكن هناك سبب يدعونى أن أكتم وأخفى شيئاً، بل اعترفت بالكل إذ ليس فى روحى غش. والآن أعيش مستمتعاً بهذه النعمة الفريدة وأنا بين الأنقياء القلب الذين يعاينون الله المعلن الآن فى المسيح.

نرى فى نهاية الأصحاح السابع وفى مطلع الأصحاح الثامن من رسالة رومية وصف النقى القلب. والصراع الذى يصوره الأصحاح السابع له ما يماثله فى كل إنسان أحياه روح الله ويبذل قصارى جهده طالباً القداسة فى ذاته ولا يزال تحت الناموس بوصفه السبيل للتقوى. وإذا به يكتشف مبدأين يعملان فى داخل نفسه: أحدهما ناموس أو قانون الطبيعة الجديدة والآخر سلطان الطبيعة القديمة. بيد أن الغلبة إنما تكون حين يدين الذات منصرفاً عنها إلى المسيح يسوع كمن هو كل شئ، عالماً أنه لا دينونة على الذين هم أمام الله فى المسيح.

إنسان رومية 7 مشغول بذاته، ويأسه وكآبته مردهما إلى عجزه دون أن يجد فى نفسه الصلاح الذى يتبعه. أما إنسان رومية 8 فقد تعلم أنه لا صلاح فى الذات؛ وإنما الصلاح فى المسيح، وأغنية نصرته إنما تصدر عن فرحته إذ وجد أنه «كامل فيه» على أننى أرى أنه من الضرورى أن نتبين حقيقة مفهوم هذا الجزء من كلمة الله الذى طالما كان مثار جدل كثير، وذلك حين نتناول، فى فصل تال، تعليم الكتاب عن الطبيعتين.

وإذ أعود إلى الموضوع الرئيسى للفصل الذى أمامنا، أود أن أكرر أن التطهير من كل خطية يساوى التبرير من كل شئ، فيما عدا اختلاف وجهة النظر؛ إن التبرير هو التبرئة من الذنب، والتطهير هو تحرير الضمير من دنس الخطية، وهو الوجهة الخطيرة من الإنجيل التى يتناولها مطلع الأصحاح العاشر من رسالة العبرانيين.

وكنا قد وقفنا طويلاً عند هذا الموضوع فى فصلنا بعنوان «التقديس بدم المسيح» ولست أرى داعياً للدخول فيه مرة أخرى إلا أن أضيف أن تطهير الضمير هناك ينبغى أن نميزه عن التمسك بالضمير الصالح فى أمور الحياة اليومية. فالأصحاح العاشر من رسالة العبرانيين يتناول الضمير وقد تدنس بالخطايا المرتكبة ضد الله، الأمر الذى لا تطهير منه إلا بعمل ابنه الكفارى. على أن الشخص الذى تطهر بهذه الوسيلة، وهكذا لم يعد له ضمير خطايا، تحت التزام أن يكون له دائماً ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس، وذلك بالسير خضوعاً للكلمة والروح القدس. وهكذا يتمتع بالضمير الصالح كاختبار، بينما الضمير المطهر مسألة تتصل بمقامنا وليس باختبارنا.

فلو عرَض، بسبب عدم سهرى للصلاة، أننى سقطت فى خطية، فأنا مطالب أن أحكم على ذاتى فوراً قدام الله معترفاً بسقوطى. وبهذه الوسيلة أعود فأمتلك ضميراً صالحاً. أما ولأن قيمة دم المسيح لم تغيرها خطيتى فى نظر الله، فلست بحاجة أن أطلب مرة أخرى «ضميراً مطهراً»، إذ أنا أعرف ثبات فاعلية ذلك العمل الكفارى. ففيما يتصل بمقامى، فإننى قد تطهرت من كل خطية إلى الأبد، وإلا فإننى أكون مغضوباً عليه من المسيح فى اللحظة التى يقع فيها إخفاقى، بدلاً من ذلك تخبرنى الكلمة، كما قلنا من قبل إنه «إن اخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا». إن الشيطان فى الحال يشكو القديس الذى يخطئ. بيد أن تقدير الآب لعمل ابنه الحبيب ثابت لا يتغير، وكل شكوى يقابلها هذا التحدى «لينتهرك الرب ... أفليس هذا شعلة منتشلة من النار؟» (زك3: 2). وعلى الفور، وترتيباً على شفاعة المسيح، يبدأ الروح القدس عملية رد النفس للمؤمن العاثر، وإن اقتضى الأمر أحياناً يخضع لعصا التأديب ليعترف بخطيئته ويدين نفسه بلا شفقة لأنه أساء استخدام النعمة. وإذ يصل إلى هذه النقطة يعود فيتمتع بالضمير الصالح. لأن الدم يطهر من كل خطية فإن عمل رد النفس يأخذ طريقه دون أن يتغير مقام المؤمن أمام الله.

« كل من هو مولود من اللـه لا يفعل خطية »

أو

طبيعتا المؤمن

أحب الآن أن أتناول، بشىء من الإفاضة، الفقرة الكتابية الباقية من الفصول التى يتوكأ ويعتمد عليها أصحاب نظرية الكمال فى الجسد. ومن أجل ذلك فلنتحول إلى 1 يوحنا 3.

«كل من يفعل الخطية يفعل التعدى أيضاً. والخطية هى التعدى. وتعلمون أن ذاك أظهر لكى يرفع خطايانا وليس فيه خطية. كل من يثبت فيه لا يخطئ. كل من يخطئ لم يبصره ولاعرفه. أيها الأولاد لا يضلكم أحد. من يفعل البر فهو بار كما أن ذاك بار. من يفعل الخطية فهو من إبليس، لأن إبليس من البدء يخطئ لأجل هذا أظهر ابن الله لكى ينقض أعمال إبليس. كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله. بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. كل من لا يفعل البر فليس من الله، وكذا من لا يحب أخاه» (1يو3: 4-10).

توجد نقطتان أريد أن يلاحظهما القارىء فى بادىء الأمر:

أولاً: أن هذا الفصل يحدثنا عن الصورة التى تصدق على كل من وُلد من الله، فهى لا تعنى قط نخبة مختارة متقدمة من المسيحيين الذين قطعوا شوطاً على الطريق إلى الكمال أو نالوا بركة ثانية. وإنه لمن الخطأ أن نقول كما يقول بعض الجدليين غير الخاضعين للكتاب أو المنطق السليم بالسواء إن المؤمنين المتقدمين الناضجين الذين أدركوا القداسة هم وحدهم المولودون من الله أما الباقون فلم يولدوا منه بعد! ذلك موقف يتداعى على الفور أمام الإعلان الواضح الذى تنادى به الرسالة ذاتها: «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله» (1يو5:1).

ثانياً: أنه إذا كانت هذه الآيات تقيم الحجة على أن جميع المسيحيين المقدسين يعيشون دون أن يخطئوا على الإطلاق، فإنها تنطوى على مبالغة؛ ذلك أنها تخبرنا أن «كل من يخطئ لم يبصره ولا عرفه». فهل أصحاب نظرية الكمال على استعداد أن يعترفوا أنه إذا كان واحد من جماعتهم يفقد البركة – على حد تعبيرهم – ويسقط فإنه بذلك يبرهن على أنه لم يكون قد عرف الله إطلاقاً، وأنه إنما كان مرائياً كل الأيام التى قضاها معترفاً بدعوى الكمال؟ إن هم أبوا أن يقفوا هذا الموقف إزاء إخوتهم العاثرين، إن هم أبوا أن يضعوا أنفسهم ضمن ذلك الفريق إذا عثروا (وما أكثر ما يعثرون) فهم تحت الالتزام - منطقياً - أن يعترفوا أن القولين «يفعل خطية» و «لا يخطئ» لا يمكن أن نأخذهما بالمعنى المطلق كما لو كان التعبير الاول يقصد به «لن يقع فى خطية» كما يقصد بالتعبير الآخر «لن يرتكب خطية».

إن التفاتة قصيرة إلى افتتاحية الأصحاح الثانى، التى سبق أن تأملنا فيها فى الفصل السابق، تعفينا من التعسف فى فهم العبارة التى أمامنا فى فصلنا هذا. فإن تلك الافتتاحية تفترض بوضوح إمكانية أن يخطئ المؤمن ويسقط، كما أنها تعلم بصراحة أن شفاعة المسيح تحفظ المؤمن المخطئ من اليأس. هكذا كنا نقرأ «إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار». وكل تفسير لبقية الرسالة يناقض هذه الأقوال الصريحة، لا يمكن أن يكون تفسيراً صحيحاً.

إن رسالة يوحنا هى رسالة المفارقة أو المباينة القاطعة، هو فى رسالته يعالج أموراً متباينة. ولقد رأينا من قبل المباينة بين النور والظلمة، ولاحظنا أنه لا اتفاق بينهما، فيوحنا لا يعترف بما هو وسط بين النور والظلمة كما فى الغسق. وبالمثل نراه يقيم مباينة بين المحبة والبغضة بطول الرسالة، بحيث لا نتبين من خط تفكيره ظاهرة عدم المبالاة فى العاطفة؛ فإما بارد وإما حار.

هكذا الحال فيما يتصل بمعالجة موضوع الخطية والبر؛ فالذى يعرضه الرسول يوحنا هو ما يميز كلا منهما. فالمؤمن متصف بأنه بار وهو يفعل البر وهو لا يخطئ؛ بمعنى أن ميول حياته فى مجموعها هى الخير والصلاح، يمارس البر، وبالتبعية هو لا يفعل الخطية أى لا يمارسها بصورة دائمة. أما فيما يتعلق بغير المؤمن فالأمر على النقيض؛ قد يأتى كثيراً من الأعمال الطيبة النافعة، غير أن حياته مطبوعة بطابع الخطية، فهو يجعل من الخطية ممارسة. وفى هذا الميدان أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس.

إن جوهر الخطية هو الإثم (أى فعل الإرادة الذاتية)، فالخطية هى تنفيذ إرادة الإنسان، وذلك هو الإثم، وهو الشىء الذى يميز كل إنسان قبل أن تصل إليه النعمة. «كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا» (إش53: 6). على أنه قد أُظهر، ذاك المنزه عن الخطية، ليحررنا من خطايانا، من الناحيتين كلتيهما، من الخطية كذنب، والخطية كسلطان «وليس فيه خطية». ومرة قال بفمه الكريم «رئيس هذا العالم يأتى وليس له فىَّ شىء» (يو14: 30).

ونحن الذين أخضعتنا نعمته فصرنا له، لا نمارس الخطية، لا نفعلها فيما بعد. أعنى أن الخطية - بالنسبة لكل مؤمن حقيقى - شىء بغيض لديه وغريب عن طبيعته الجديدة، وهكذا نقرأ «كل من يفعل (أى يمارس) الخطية لم يبصره ولا عرفه». وحذار أن نستخف بهذا العدد فنمر به مروراً عابراً؛ فهو – كسائر أقوال هذه الفقرة – ينطوى على حقيقة مطلقة. فما من شخص عرفه (أعنى عرف المسيح) يمارس الخطية بغير مبالاة. قد نرى انحرافاً، وللأسف ما أكثر ما نراه. والمنحرف يقع تحت يد الله فى سياسته القضائية، إنه يحبه بصورة لا يسمح له معها أن يستمر فى فعل الخطية، فيستخدم معه عصا التأديب. وإن بدا أن عصا التأديب لم تكفِ لوقفه وردعه يُنهى حياته على الأرض (1كو11: 30-32).

غير أن محور تعليم يوحنا هو أن الشخص الذى يستمر بإصرار فى الإثم ليس ابناً لله ولم يكن فى يوماً ما ابناً له. لأن الذى اتحد بالإيمان مع ذاك البار فهو بار، أما من بإصرار يمارس الخطية فهو ابن إبليس «لأن إبليس من البدء يخطئ» أى أن طريق الشرير بجملته كان ولا يزال خاطئاً شريراً.

والعدد التاسع من أصحاحنا يصل إلى الجذر، ومن هنا يجلو الموضوع كله «كل من هو مولود من الله لا يفعل (لا يمارس) خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ (يظل يخطئ) لأنه مولود من الله». إن هذا العدد ينظر إلى المؤمن كمن تميّزه الطبيعة الجديدة، وهى التى لا تخطىء. صحيح أنه لا تزال فيه الطبيعة الآدمية القديمة الجسدانية، ومتى سيطرت عليه وحكمته فإنه يخطئ، بيد أن الطبيعة الجديدة الممنوحة له منذ ولادته من فوق «لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى» هذه الطبيعة الجديدة هى العامل الذى يحكم حياته ويسيطر عليه، إذ له هذا الزرع الذى لا يفنى ثابتاً فيه. فإنه لا يقدر أن يمارس الخطية. يصبح بطبيعته الجديدة نظير ذاك الذى مولود منه.

إن التعليم الخاص بالطبيعتين مقرر ومتضمن دائماً فى الكتاب، فإن كان واحداً لم يدركه، فلأن ذهنه مضطرب فيما يتصل بأسباب المصارعة التى لابد وأن يعرفها كل مؤمن فى داخله إن عاجلاً أو آجلاً.

والرسول بولس يقرر بوضوح فى رسالة غلاطية إن هذه المصارعة مستمرة فى كل مسيحى (غل5: 16،17) لقد قدم الرسول عدة تحريضات، وإنها لتكون تحريضات بلا معنى لو أنها كانت موجهة لرجال ونساء منزهين عن الخطية، ولكننا نقرأ القول «إنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد. لأن الجسد يشتهى ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون مالا تريدون». وليس المقصود بالجسد هنا جسم المؤمن المادى بل الطبيعة الفاسدة، وهو وصف كان الرب نفسه أول من تحدث عنه مع نيقوديموس «المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح لا تتعجب إنى قلت لك ينبغى أن تولدوا من فوق» (يو3: 6،7) فالطبيعتان - فى أقوال سيدنا كما فى رسالة غلاطية - على طرفى نقيض. فالجسد ضد الروح على طول الطريق. أما الطبيعة الجديدة فهى مولودة من الروح ويحكمها ويتسلط عليها الروح، ومن هنا فإن وضعها مطابق لنوعها. ولا يمكن أن يكون بين الطبيعتين فى المؤمن أى اتفاق؛ ومع ذلك فليس لدينا إرشادات أو تعليمات عن كيفية التخلص من الجسد. وكل ما فى الأمر أن المسيحى مطالب أن يسلك بالروح؛ فإن هو فعل فسوف لا يوجد متمماً ومكملاً شهوات الجسد، وهذا هو الإنسان الذى «لا يخطئ».

وطبيعة هذه المصارعة موصوفة وصفاً كاملاً فى حالة أو قضية رومية 7، وقد كانت أمامنا فى فصل سابق. إن إنسان رومية 7 هو بلا ريب ابن لله، ولو أن كثيرين كانوا ولا يزالون يرتابون فى هذه الحقيقة، فيراه البعض مجرد إنسان يهودى يحاول الحصول على التبرير عن طريق الناموس. بيد أن موضوع التبرير كان هو هدف الخمسة الأصحاحات الأولى من الرسالة، حيث تناوله الرسول وقرره، واعتباراً من الأصحاح السادس فإن العتق من قوة الخطية أو سلطانها هو الموضوع الرئيسى. وفضلاً عن ذلك فإن إنسان رومية 7 يسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، وهل يستطيع شخص لم يولد ثانية أن يستخدم أسلوباً كهذا؟ فإن «الإنسان الباطن» هنا هو الطبيعة الجديدة، كما أنه ما من إنسان طبيعى؛ «فى الجسد»، يسر بما هو من الله. ثم إن «الإنسان الباطن» يقاومه «ناموس آخر فى أعضائى» ليس هو إلا سلطان وقوة الطبيعة القديمة؛ الجسد. وهنا، كما فى يوحنا 3 وغلاطية 5، نرى الطبيعتين فى مباينة قاطعة.

إن بولس يصف المصارعة التى لا مفر منها والتى يعرفها كل مؤمن حينما يستخدم قوته الذاتية فى محاولة العيشة المقدسة على مبدأ الناموس، فهو يحس، بالغريزة، أن الناموس روحى؛ أما عن نفسه فيحس أنه جسدى مستعبد للخطية، وهذا الاكتشاف هو من أشد الاكتشافات إذلالاً لقلب المسيحى، ولابد لكل منا أن يكتشفه بنفسه فى وقت ما فى اختباراته. فيرى نفسه يعمل ما يناقض رغباته الباطنية، وبينما يخفق فى إتمام ما ترنو وتحن إليه طبيعته الجديدة؛ إذا به يفعل ما يبغضه.

لكن تلك بداية الدرس الخطير الذى لابد أن يتعلمه كل من يريدون أن يكونوا خريجى مدرسة الله. هو درس عدم الثقة فى الجسد؛ وما لم تتعلمه النفس فلا نمو حقيقى فى القداسة. أجل، فلابد أن تتحقق النفس من عدم قابلية الجسد للإصلاح قبل أن تتهيأ للانصراف عن الذات إلى المسيح من أجل التقديس، كما فعلت فيما يتصل بالتبرير.

ولذلك قد خرج الرسول فى رومية 7: 16،17 بخلاصتين لهذا الدرس العظيم. الأولى: أنى أصادق أن الناموس حسن. والأخرى: أنى بدأت أتحقق أننى فى جانب الناموس لكن فى داخلى قوة ليست لى رغبة فى الاتحاد بها، وهى قوة تبعدنى عن فعل ما اعترف أنه صالح. وهكذا تعلمت أن أفرق بين نفسى وبين الخطية الساكنة فىَّ؛ ذلك المتطفل الكريه، ولو أنه كان مرة سيداً على كل شىء فىَّ.

وهكذا وصلت حتى عرفت أن فىَّ طبيعتين (ع 18)؛ ومع ذلك «أن أفعل الحسنى فلست أجد»؛ أى لست أعرف كيف السبيل إلى فعل الحسنى؛ فأنا لا أزال أفعل الشر الذى أبغضه، ولا قدرة عندى لفعل الصالح الذى أبتغيه. بيد أننى قطعت شوطاً طويلاً على الطريق الى عتقى، عندما استطعت أن أفرق بين الناموسين، أو القوتين المسيطرتين، ناموس أو سلطان كل من الطبيعتين اللتين فى كيانى؛ فإنى بحسب الإنسان الباطن أسر بناموس الله المقدس «ولكنى أرى ناموساً آخر فى أعضائى يحارب ناموس ذهنى ويسبينى إلى ناموس الخطية الكائن فى أعضائى». وهكذا صرت تعساً لتكرار إخفاقى وأصبحت أشعر كأننى أسير مقيد بأغلال إلى جسد ميت - ومع ذلك فإن لهذا الجسد الميت سيطرة رهيبة علىَّ. «ويحى أنا الإنسان الشقى من ينقذنى من جسد هذا الموت؟». وتلك هى الصرخة التى تأتى لى بالعون الذى يعوزنى. لقد كنت أحاول أن أعتق نفسى، والآن أيقنت أنها محاولة فاشلة، وهأنذا الآن أصرخ طالباً منقذاً بعيداً عن ذاتى. وشكراً لله، ففى لحظة تجلى المنقذ لنفسى. وأنا أرى أنه هو وحده، ذاك من خلصنى فى البداية، الذى يستطيع أن يحفظنى من سلطان الخطية وقوتها. «أشكر الله بيسوع المسيح ربنا»؛ فلابد أن يكون هو قداستى، كما أنه هو فدائى وبرى.

أنا نفسى، بذهنى، أو بالطبيعة الجديدة، أخدم ناموس الله؛ ولكن بالجسد أو الطبيعة القديمة، ناموس الخطية. ولكن إذ أنصرف عن الذات إلى المسيح أرى أنه «لا شىء من الدينونة الآن على الذين هم فى المسيح يسوع. . . لأن ناموس روح الحياة فى المسيح يسوع قد أعتقنى من ناموس الخطية والموت» (رو8: 1،2)، ولذلك فسوف لا أصارع لأكون مقدساً، سأتحول صوب مسيح الله المبارك وأسلك بالروح موقناً بالغلبة، بينما أنا مشغول هكذا بذاك الذى هو كل شىء لى «لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه فى ما كان ضعيفاً بالجسد فالله إذ أرسل ابنه فى شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية فى الجسد لكى يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح» (رو 8 : 3، 4).

يالها من نجدة بعد محاولة فاشلة لاستئصال الخطية من الجسد، حين علمت أن الله قد دانها، وأنه تبارك اسمه - فى الوقت المعين - سوف يخلصنى من وجودها إطلاقاً، يوم يغير - عند مجىء الرب - هذه الأجساد الوضيعة «لتكون على صورة جسد مجده». ويومئذ يكمل الفداء، إن فداء نفسى أمر قد تم وأنا أبتهج به؛ أما فداء جسدى فإن يومه فى الطريق إلىَّ، حين يأتى الرب يسوع ويلبس هذا الجسد المائت عدم موت.

وفى الوقت الحاضر إذ يسلك المؤمن بالروح، فإنه لا يخطئ، إن حياته حياة بارة؛ لكن يعوزه دائماً أن يسهر ويصلى لئلا تعمل الطبيعة القديمة – فى إحدى لحظات النعاس الروحى – وبذلك يخطئ ويمكن أن تتشوه شهادته ويهان سيده.

وإننى أختم هذا الفصل بمثل معروف قد يفيد فى إزالة أية صعوبة باقية فيما يتصل بالحق المعروض فى 1 يوحنا 3. كان لإنسان حديقة برتقال المعروف "ببرتقال بذرة" وكان يشتهى أن يغرسها من الصنف "أبو صرة" الذى ليس فيه بذور بدلاً من البرتقال الأول. ومن هنا قرر أن يُطعِّم أشجاره. فقطع كل الأغصان القريبة من الأم الأصل، وأدخل فى كل منها قطعة من شجرة البرتقال "أبو صرة" وهكذا اختفت الثمرة القديمة تماماً وأخذت الثمرة الجديدة مكانها على الأشجار طبقاً لطبيعة البرتقال الجديد التى أدخلها فيها.

مرت بضع سنوات وسار بنا صاحب الحديقة فى مسيرة خلال الحديقة وقد كانت الأشجار من كل جانب محملة بالثمرة الذهبية الجميلة، فسألنا صاحبها أى صنف من البرتقال تحمله هذه الأشجار؟ وكان الجواب "أنه برتقال أبو صرة" ثم عدنا نتساءل "أليس فيها شىء من البرتقال الأول ذى البذرة؟" فأجاب "كلا؛ إن الشجرة المطعمة لا تنتج برتقالاً ببذرة". وإذا بنا نلمح برتقالة صغيرة معلقة على غصن متدل على الشجرة. فسألنا ما هذا؟ أليس هو برتقالاً ببذرة؟ فأجاب صديقنا صاحب الحديقة "آه؛ أرى أن عامل الحديقة أهمل؛ لقد ترك فرعاً ينمو من الأصل القديم؛ إنه من طبيعة الشجرة القديمة. ولابد من قص ذلك الفرع" وهكذا استخدم السكين. هل تحسبه كان يقول خطأ حين قرر أن الشجرة المطعمة إنما تحمل برتقالاً "أبو صرة" فقط؟ كلا يقيناً. لقد كان يتحدث عما يميز تلك الشجرة.

وهكذا الحال مع المؤمن؛ فبعد ولادته من فوق، فإن الحياة القديمة قد انتهت بالنسبة إليه وقد أصبح يستحى من ثمار الجسد، ولم يعد يسلك فى الطريق القديم، وتبدل منهاج حياته كله. وأخذت ثمار الروح تظهر ولا يقدر أن يخطئ لأنه مولود من الله. بيد أن سكين الحكم على الذات يجب أن تلازمه على طول الطريق، وإلا فإن الطبيعة القديمة تحاول أن تظهر إذ هى لم تُستأصل بعد كما رأينا فى شجرة البرتقال المطعّمة، ومن هنا كانت الحاجة الماسة للخضوع لكلمة الله والحكم على الذات بلا شفقة. «اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة» (مت26: 41).

إن إنكار وجود الطبيعة القديمة مدعاة للهزيمة. ودور الحكمة هو الاعتراف بخطر إهمال استخدام سكين الحكم على الذات، ومن الخطر أن يتجاهل المؤمن أن الخطية ساكنة فيه وما ذاك سوى خديعة وتضليل للنفس وتعريض المؤمن لكل صور الشر نتيجة الإخفاق فى الاعتراف بالحاجة اليومية للاعتماد على الله. إنما بالسلوك بالروح، ناظراً إلى الرب يسوع بحالة من الحكم على الذات والاتضاع، تكون حياتى حياة القداسة.

ملاحظات ختامية عن «الحياة المسيحية الأسمَى»

أما وقد انتهيت من استعراض التعبيرات المختلفة التى طالما أساء استعمالها أولئك الذين يدافعون عن نظرية أو تعليم البركة الثانية، فأود وأنا أختتم هذه الحلقات أن أضيف بعض التأملات العملية فيما يدعوه البعض "الحياة المسيحية الأسمَى".

إنه من دواعى أسفى الشديد أن كثيراً من أولاد الله، ممن لا نرتاب فى صحة إيمانهم، استكانوا قانعين - بصورة ملموسة - بمستوى منخفض فى العيشة المسيحية. ولا ريب أنه توجد حياة قوة وانتعاش روحى يجهلها أولئك ويجدون أنفسهم غرباء عنها. ولكن ما سبيلهم إليها؟ لن يكون سبيلهم بكل يقين ذلك النظام غير الكتابى الذى كنا نناقشه فى كتابنا هذا. ذلك لأن كل الجهود التى تبذل ابتغاء الكمال المنزه فى هذا العالم إنما تنتهى بالاخفاق وتترك للباحث عنه اليأس وخوار النفس.

أليست هناك إذاً "حياة أسمى" مما يتمتع به كثير من المؤمنين؟ الجواب الصادق هو أنه لا توجد سوى حياة واحدة لأولاد الله أجمعين؛ المسيح نفسه هو حياتنا. والفارق الوحيد هو أن تلك الحياة المطلوبة تتجلى فى بعضهم على صورة أكمل مما فى البعض الآخر، والسبب فى ذلك هو أن ليس الجميع يعطون المسيح المكانة عينها فى عواطف القلب. وإنه لشىء محزن أن لا يكون لشخصه الحبيب المكان الأول فى قلوبنا، فهو يطلب القلب كله لا جزءاً منه، ولو كان هذا الجزء هو أهم أجزائه. فإذا ما تربع المسيح بهذه الصورة على عرش قلوبنا، وانفرد بالجلوس عليه، فمن المحقق أننا سنظهر تلك الحياة الإلهية فى ملء أكثر مما لو سمحنا للعالم والذات أن يقتحما ما ينبغى أن يكون مسكنه الوحيد، مسكن المسيح الحبيب.

إن الرسول يوحنا هو الكاتب الوحيد بين كتبة العهد الجديد الذى كانت مهمته الخاصة هى أن يجلو ويكشف الحق الخاص بالحياة الإلهية. ففى إنجيله يرسم الحياة ظاهرة فى ابن الله الوحيد الذى صار جسداً وحل بيننا لفترة من الزمن، كاشفاً فى كل طرقه عن «الحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأظهرت لنا» (1يو1: 2) كما أن يوحنا فى رسائله يستعرض تلك الحياة ظاهرة فى أولاد الله الذين بالإيمان قبلوا ذاك الذى هو الحياة، والذين امتلكوا الحياة الأبدية الآن. أما وقد تناولنا هذه الأجزاء الثمينة من الكلمة الموحى بها من الله، فينبغى أن تنشئ فى نفس كل قارئ تقى، حنيناً للسلوك فى قوة تلك الحياة على أتم صورة. وهنا لا تفيدنا النظريات البشرية أو المبادئ الأرضية، إنما حين يتعلم المؤمن أن يرفض كل ما من الجسد ويجد كل شئ فى المسيح الإنسان الثانى - فإنه بهذا فقط يتمتع بهذه العطية العظيمة التى لا تقدَّر بثمن - عطية الحياة التى يحياها فى شركة مع الله.

إن الابن الأزلى كان أبداً نبع الحياة، المصدر الذى منه وصلت الحياة الإلهية عبر الدهور لجميع الذين قبلوا بالإيمان كلمة الله، إلا أن تلك الحياة أُظهِرَت على الأرض خلال فترة اغترابه هنا «والحياة كانت نور الناس». وقد أنارت كل إنسان وأظهَرَت بكيفية واضحة ما كان فيهم. لكن لاحظ أنه ليس فى التجسد قد منحنا حياته له المجد، وهوذا قوله الكريم الواضح «إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت فهى تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير» (يو12: 24)، ولذلك فإن رئيس الحياة قَبِل أن «يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد» (عب2: 9)، وبالقيامة أظهر أنه كان حقاً «الحياة الأبدية التى كانت عند الآب» منذ الأزل، ولفترة من الزمن أظهرت على الأرض.

وإذ حطم ربط الموت ظهر لتلاميذه كالحى إلى الأبد، بعيداً عن متناول الموت والدينونة من أى نوع. وبوصفه هذا نفخ فيهم قائلاً «اقبلوا الروح القدس» (يو20: 22)، متحدثاً كآدم الأخير، كالروح المحيى. فقد صارت لهم الآن تلك الحياة بكل ما يرتبط بها، على الجانب الآخر من الصليب؛ جانب القيامة. فهى حياة لن ترتبط بها الدينونة. لقد اتحدوا بالمسيح المقام ولزام عليهم أن يظهروا هذا على الأرض، فى المشهد الذى فيه رُفض المسيح.

فالحياة المسيحية الصادقة هى استعلان المسيح، وأمامنا قول الرسول بولس «لى الحياة هى المسيح والموت هو ربح (إذ الموت معناه أن) أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً» (فى1: 21،23).

إن السرَّ الوحيد فى الحياة للمسيح، فى أن يكون المسيح هو الحى فىَّ، هو المشغولية بشخصه، ولهذه الغاية قد منحنا الله ملئاً فائضاً فى كلمته، وجميل ما قاله أحد القديسين: لو أن قصد الله من الكتاب المقدس هو أن يكون مجرد دليل للطريق للسماء، لكان كتاب أصغر حجماً منه كافياً لهذا الغرض. وكثيراً ما أمكن تلخيص الإنجيل فى نبذة أو كتيب قليل الصفحات. ولكن ها بين أيدينا كتاب تقرب صفحاته من الألفين (فى اللغة العربية) وكله «نافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذى فى البر لكى يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح» (2تى3: 16)، وموضوعه الواحد العظيم الذى تدور حوله الستة والستون سفراً هو المسيح.

فمن يتغذى بكلمة الله فإنه يتغذى بالمسيح لأن الكلمة المكتوبة إنما تعلن الكلمة الأزلى. وقراءة هذا الاعلان الموحى به من الله، الإعلان الذى يكشف شخص المسيح وعمله، قراءته وإدراكه وهضمه هى الضرورة القصوى للمؤمن إن شاء أن يمجد الله فى طرقه العملية.

قيل عن يوحنا بنيان أنه كتب على غلاف كتابه المقدس الداخلى هذه العبارة: "إما أن هذا الكتاب يبعدك عن الخطية، وإما تبعدك الخطية عن هذا الكتاب". نعم، فهى كلمة الله الصادقة، المستحقة كل قبول. وحين نصلى فليس فقط لطلب القوة، أو نوال بركة خاصة، وإنما نصلى، فى مشاركة مع داود قائلين «اكشف عن عينى فأرى عجائب من شريعتك ... فهمنى فألاحظ شريعتك وأحفظها بكل قلبى ... ثبت خطواتى فى كلمتك ولا يتسلط علىَّ إثم» (مز 119: 18، 34، 133)، والمقصود بالشريعة ليس ما يسميه الناس عادة بناموس الله الأدبى، بل كلمته كلها التى يشيد بها كثيراً مزمور 119 المعروف بمزمور المرحضة.

أما قراءة الكلمة بطريقة ذهنية فقط، فلا تقدم المسيح للنفس. ثم لا ننس أن دراسة الكتب المقدسة دراسة تعبدية، لا ينبغى فصلها عن صلاة الإيمان. وبهذه الوسيلة تُحفَظ النفس فى شركة مع الله. إن قراءة الكتاب بغير صلاة غالباً ما تصبح جافة وبلا نفع، وتترك القارئ مصدع الرأس بارد القلب. لكن اللهج - المقترن بالصلاة - فى صفحات الوحى، يغذى النفس ويملأها بالعواطف الإلهية.

إن الكلمة تعلن المسيح كطعام لنا، ومثال نقتدى به. هى تعلمنا فكر الروح، وهى الوسيلة المعينة لتطهير طرقنا. ولن نستطيع أن نتعلم كيف ينبغى أن يتصرف المسيحى فى هذا العالم لو حاولنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يفعله الرب يسوع فى مثل ظروفنا، وإنما بفحص الكتب واقتفاء خطوات المسيح المتواضعة نقدر أن نميز الطريق التى نسلك فيها. وإغفال هذه الطريقة هو علّة الهزائم الكثيرة بين المؤمنين على وجه العموم، لأنه حينئذ يحل الرأى البشرى محل كلمة الله المعلنة وتكون النتيجة كارثة خطيرة.

وأهمية النقطة الثانية لا تقل عن ذلك. لقد رأينا أن الروح القدس يسكن فى كل مؤمن. إذاً ففى متناول يده القوة اللازمة للعيشة المقدسة، بحيث ليس هناك ما يدعوه للمصارعة من أجل مزيد من الروح، كما يفعل البعض، بل المطلوب هو الخضوع للكلمة لكى يتسنى للقديس أن يسلك بالروح. وإليك تمثيلاً بسيطاً طالما كان معواناً لكثيرين. إن المؤمن يمكن أن يشبّه بالقاطرة، كل قطعة فيها صالحة للعمل ومليئة بالبخار - رمز الروح القدس - غير أن القاطرة وهى مهيأة هكذا تصبح مصدر تخريب مريع إذا ما خرجت عن القضبان، التى ترمز إلى كلمة الله. وكم من أشخاص يسكن فيهم الروح القدس وهذا فى حد ذاته شئ صالح - لكنهم لخروجهم عن مسار كلمة الله الصالحة تعبوا وأتعبوا. فيجب إذاً أن نفحص الكتب المقدسة وندعها تحدد لنا منهج طرقنا كما تحدد القضبان طريق القاطرة.

القول الثالث: عرضنا له فى الفصل الخاص بالتقديس بالكلمة؛ غير أننى أود أن أوجه انتباه القارئ إلى أن الكتب المقدسة هى الماء الممنوح لنا لتطهيرنا العملى من الدنس ونحن على الطريق المعينة لنا خلال هذا المشهد، فلا ينبغى أن أتردد فى الحكم على الذات فى ذات اللحظة التى أجد فيها تصرفى أو أفكارى لا تتفق مع كلمة الله، وهكذا أنمو فى النعمة وفى المعرفة. «الذين يشهدون فى السماء هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم فى الواحد (أو يتفقون فى واحد)» (1يو5: 7،8). فالدم هو الشاهد للكفارة، يحدثنا عن أن ذاك الذى مات من أجل خطايانا هو نفسه الذى نأتى إليه بثقة إلى عرش النعمة لننال رحمة ونجد نعمة عوناً فى حينه.

والماء هو كلمة الله كما يتضح من أفسس 5: 26 ومزمور 119: 9، وتلك الكلمة تشهد لشفاعة المسيح التى ترتيباً عليها يخصص الروح القدس الكلمة لقلب وضمير أولاد الله وهكذا تطهر طرقهم وتقدسهم يومياً.

لكن لا يجب الفصل بين الثلاثة، والحبل المثلوث لا ينقطع سريعاً. فالمسيح يسوع حمل خطاياى، وهو حى فى المجد ليكون هدف قلبى. والروح القدس يسكن فىّ ليكون قوة الحياة الجديدة ولكى يرشدنى إلى كل الحق. والكلمة هى الوسيلة التى بها أستنير وأسترشد وأتطهر.

مكتوب فى أفسس 5: 18-21 «لا تسكروا بالخمر الذى فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح. مكلمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغانى روحية مترنمين ومرتلين فى قلوبكم للرب. شاكرين كل حين فى كل شئ فى اسم ربنا يسوع المسيح لله والآب. خاضعين بعضكم لبعض فى خوف الله». هذه هى الحياة الجديرة بأن تسمى حياة؛ الحياة التى تتجلى فى المفديين على الأرض.

ولكن كيف أمتلئ بالروح؟ أليست هذه هى البركة الثانية ذاتها التى طال حديثى عنها فى هذا الكتاب؟ ليكن لنا من كولوسى 3: 16،17 الجواب على سؤالنا. يقول الرسول «لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى وأنتم بكل حكمة، معلمون ومنذرون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغانى روحية بنعمة مترنمين فى قلوبكم للرب. وكل ما عملتم بقول أو فعل فاعملوا الكل باسم الرب يسوع شاكرين الله والآب به». ولاحظ أن كلتا الفقرتين مكملة إحداهما للأخرى. فلكى أمتلئ بالروح ينبغى أن تسكن كلمة المسيح فىَّ بغنى. وعندئذ تتجلى فى حياتى الثمار المباركة التى تتحدث عنها الرسالتان.

وليس فى الكتاب ما نتعلم منه أن التحول من الجسدانية إلى الروحانية يأتى عن طريق قفزة مفاجئة من حالة عدم المبالاة بالتقوى إلى حالة التكريس الكلى للمسيح، بالعكس، فالكتاب إنما يعرض أمامنا ازدياد التقوى باعتبارها نمواً يأخذ دوره العادى كما هو الحال فى الحياة البشرية، تطور وتقدم من الطفولة إلى كمال القامة والقوة. ويكتب الرسول بطرس «فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة، وكأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلى العديم الغش لكى تنموا به. إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح» (1بط2: 1-2). ومرة أخرى، يشدد على أهمية الكلمة من حيث النمو فى القوة الروحية حيث يقول «كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذى دعانا بالمجد والفضيلة اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكى تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية. هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة. ولهذا عينه وأنتم باذلون كل اجتهاد قدموا فى إيمانكم فضيلة وفى الفضيلة معرفة وفى المعرفة تعففاً وفى التعفف صبراً وفى الصبر تقوى وفى التقوى مودة أخوية وفى المودة الأخوية محبة. لأن هذه إذا كانت فيكم وكثرت تصيركم لا متكاسلين ولا غير مثمرين لمعرفة ربنا يسوع المسيح» (2بط 1: 3-8). فلسنا هنا أمام صورة حالة روحية نامية فجأة، ونتيجة للتخلى عن بعض المواقف بتضحية كبيرة؛ بل صورة للسير مع الله سيراً متزناً صاحياً، والنمو بلا توقف فى النعمة والمعرفة بواسطة التغذى بالكلمة وإعطائها المكان الجدير بها فى الحياة.

باطلة تلك الدعوى التى تقول إنه لا يمكن أن يكون هنالك نمو حقيقى قبل الحصول على القداسة المطلقة أو الكاملة، فالكتاب لا يعلم بمثل هذا فى أى موضع منه؛ وواضح كل الوضوح أن الشخص المطلوب منه أن يطرح كل خبث وكل مكر وشروراً أخرى مماثلة، لم يتخلص بعد من وجود الطبيعة الفاسدة، وكل تحريضات العهد الجديد الخاصة موجهة لأشخاص تحت الآلام مثلنا، يحتاجون إلى السهر والصلاة لئلا يدخلوا فى تجربة، وذلك لأن الخطية لا تزال ساكنة فيهم وعلى استعداد أن تؤكد وجودها ما لم يكن هناك حكماً دائماً على الذات.

وكمثل آخر له أهميته أرجو أن يلاحظ القارئ تعليم الرسول بولس عن الإنسان العتيق والإنسان الجديد فى رسالتى أفسس وكولوسى،.ففى أفسس نقرأ «إن كنتم قد سمعتموه وعلمتم فيه كما هو حق فى يسوع أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور وتتجددوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله فى البر وقداسة الحق. لذلك اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه لأننا بعضنا أعضاء البعض_» (أف4: 21-25). ويتابع أقواله هذه بالتحريض ضد السرقة والسيرة الفاسدة وإحزان الروح القدس والمرارة والسخط والغضب وغيرها من الأمور الدنسة. إن إرشادات مثل هذه تكون غير ذات موضوع لو أن الرسول كان يخاطب إنساناً مقدساً بالتمام يرشده كيف يتصرف. تصور، يحرض إنساناً منزهاً، بلا خطية، ألا يحزن روح الله القدوس الذى به ختمنا ليوم الفداء!

لكن يختفى التناقض إذا علمت أن المقصود بالإنسان العتيق هو كل ما كنت عليه فى أيامى الأولى قبل إيمانى بالمسيح، إن هذا الإنسان مخلوع الآن، وبدلاً منه قد لبست الإنسان الجديد؛ أى أننى مُطالَب أن أظهر أننى إنسان فى المسيح.

والفقرة المماثلة فى رسالة كولوسى تزيد الأمر وضوحاً حيث نقرأ: «وأما الآن فاطرحوا عنكم أنتم أيضاً الكل؛ الغضب السخط الخبث التجديف الكلام القبيح من أفواهكم، لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه حيث ليس يونانى ويهودى ختان وغرلة بربرى سكيثى بل المسيح الكل وفى الكل» (كو3: 8-11). ويرتب على هذه الأقوال تحريضه الإيجابى أن نلبس «أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة» مع روح التسامح نحو جميع الناس؛ ولكى يُحفظ كل شىء فى مكانه يشير علينا أن نلبس «المحبة التى هى رباط الكمال»، رباط السلام.

إن ممارسة ما تقرره هذه الفصول الكتابية المختلفة هى فعلاً إعلان وإظهار للعيشة المسيحية على صورة أسمى مما نرى عموماً، وهذا هو التقديس العملى الحقيقى الوحيد.

وإننى إذ أختتم هذه الصفحات التى تناولت فيها موضوعاً طالما أُسىء فهمه، وثارت بشأنه مجادلات فى مناطق كثيرة لسنوات عديدة؛ أستودعها كلها لذاك الذى نعمته هى التى تمتع النفس بغلاوة ذاك الذى تجلت فيه القداسة على صورة كاملة. ليته يتنازل ويستخدم هذه الصفحات البعيدة عن الكمال، لبركة شعبه ومجد اسمه العظيم.

وأنا واثق أننى كتبت ما كتبت بغير تعنت لأحد، بل فى حب نحو الجميع، مهما يكن قوم منهم على خطأ فيما يتصل بالتعليم الذى يحتضنونه. ولا يسعنى إلا أن أشيد بسرور بحياة التقوى ومخافة الله التى عاشها كثيرون من مُشايعى فكرة البركة الثانية؛ وما من شك على الإطلاق فى أن تكريسهم وتقواهم يصعدان عن مصدر يغاير من كل وجه المصدر الذى يتصورونه خطأً، أنهما يصدران عن اللهج فى كلمة الله مصحوباً بروح الصلاة اقتياداً للقلب إلى المسيح نفسه. وفى هذا الميدان ليتنا كلنا نعرفه أكثر إلى أن نراه وجهاً لوجه ونكون إلى الأبد مقدسين بالتمام.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.