لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

المحاضرة السابعة

الخدمة الأفضل والعهد الجديد

« ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال »

8: 1 ـ 13

وصل الرسول في الأصحاح السابق إلى قمة موضوعه، أو بعبارة أخرى إلى أعلى نقطة في رسالته، ويمكن أن أقول إلى أعلى نقطة يمكن الوصول إليها في التأمل في المسيح ككاهن.

وقد رأينا مقدار ما يتضمن هذا من حقائق في الأصحاح السابع، حيث استطاع الرسول أن يتوسع في تبيان الحق الذي أومأ إليه عدة مرات في الأصحاحات السابقة، فبيَّن لهم بصورة منطقية واضحة أن كهنوت المسيح الذي على رتبة ملكي صادق لا يتضمن فقط صفاته الشخصية كالقدوس الذي بلا شر ولا دنس، بل كمن يملك السلطان المطلق والسيادة الكاملة، ليس على شعبه فحسب، بل على كل شيء؛ وهو مركز له من المجد والكرامة أعظم بما لا يقاس من كل ما كان يمكن أن يصل إليه أي كهنوت أرضي. ولذلك فإن ذلك الكهنوت الملكي يُبطل نهائياً كهنوت هارون وسلالته. وما دام الأمر كذلك، فلابد من تغير الناموس المرتبط بالكهنوت الهاروني، والذي على أساسه قام ذلك الكهنوت. وبذلك يرى المؤمن العبراني نفسه وجهاً لوجه أمام الحقيقة العظيمة، وهي أن كهنوت المسيح ابن الله، الذي مجد الله فيما يتعلق بالخطية، والذي أخذ مكانه في الأعالي؛ قد وضع حداً نهائياً لكل صورة من صور ذلك النظام الذي كان قائماً قبلاً، رغم أن الذي سمح به هو الله نفسه.

ويا لها من يقظة رائعة لكل مؤمن عبراني حقيقي أن يدخل إلى عمق حق كهذا‍! لقد تعلّم منذ الطفولة أن يحترم طقوس بيت الله والهيكل في أورشليم. وكل ثقافته التي تلقاها في صباه وفي كل حياته، كانت تهدف إلى تعميق احترامه لكل أسفار العهد القديم ولكل ما حوت. ويا له من فكر عجيب أن يتعلم الآن، من تلك الأسفار عينها، ومن كلمة الله ذاتها، أن هناك كهنوتاً آخر قد سبق أن أخبر به الله نفسه، في ذات الوقت الذي كان الكهنوت الهاروني لايزال قائماً. كهنوتاً كان لابد أن يُبطل ويغيِّر تغييراً كلياً، وأن يحل محل الكهنوت الذي كان قد تعلم طوال حياته أن يحترمه وأن يعتبره وصية الله الدائمة! والواقع أنه لا عجب أن تواجه المؤمن العبراني تجربة مريرة قاسية تشده إلى التمسك في عناد وإصرار بكل الصور والطقوس اليهودية، وما كان هناك من قوة على وجه الأرض تستطيع أن تفصله عن هذه الصور والطقوس، إلا قوة ونشاط الإيمان الحقيقي، وعلى قدر ممارسة ذلك الإيمان ممارسة مطلقة، على قدر تخلُّص المؤمن من النظام اليهودي السابق وانفصاله عنه.

وهكذا بلغ الحق ذروته أو درجته القصوى. فلم يتحدث الرسول عن هذه النقطة قبلاً، ولكنه هنا يبرز الحقيقة بكل وضوح، وهي الحقيقة التي يركِّز عليها في ما بعد في رسالتنا، وأعني بها أن اليهودية والمسيحية على طرفي نقيض. فأنت لا يمكن أن تجمع بين الاثنين، فلابد أن تترك الواحدة لتمسـك بالأخرى، وإذا استسلم أحد للتجربة بأن يترك المسيح ويعود لليهودية؛ فذلك معناه إنكار مطلق وارتداد بلا رجاء كما رأينا سابقاً. ومن الجهة الأخرى، إذا تمسك بالمسيح فذلك يتضمن بالضرورة ترك الناموس والكهنوت وكل ما يرتبط به في ظل اليهودية.

« وأما رأس الكلام فهو: أن لنا رئيس كهنة مثل هذا، قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات، خادماً للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نَصَبَه الرب لا إنسان. لأن كل رئيس كهنة يُقام لكي يُقدِّم قرابين وذبائح، فمن ثمَّ يلزم أن يكون لهذا أيضاً شيء يُقدِّمه. فإنه لو كان على الأرض لما كان كاهناً، إذ يوجد الكهنة الذين يقدّمون قرابين حسب الناموس، الذين يخدمون شبه السماويات وظلها، كما أُوحِى إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن. لأنه قال: انظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل. ولكنه الآن قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم، قد تثبَّت على مواعيد أفضل » (8: 1- 6).

هذا هو « رأس الكلام »، ليس معنى هذا أنه خلاصته، بل « أن لنا رئيس كهنة مثل هذا »، فالنقطة هنا هي « مثل هذا »، وذلك يعني مجد وكرامة شخصه المبارك وعمله الكامل وعطفه الذي لا حد له. وبالاختصار كل ما كنا نتأمل فيه من صفات في الأصحاحات السابقة، رئيس كهنة مثل هذا، لائق بنا، موافق ومناسب هو بالفعل لنا. لقد قدّم نفسه ذبيحة كاملة مرة وإلى الأبد، والآن هو في محضر الله لأجلنا.

ولاحظ أيضاً التعبير - وهو تعبير مبارك حقاً - أنه قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات. فكلمة « جلس » تكشف عن إرادة حرة تلقائية، أي أنه جلس من تلقاء ذاته، وكمن كان له الحق في أن يفعل ذلك، الأمر الذي يتمشى مع ما نجده في إنجيل يوحنا بشأن قيامة سيدنا، حيث يقول - له المجد - عن حياته الإنسانية « ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً »، فبينما يقال عن قيامته من وجه أنها كانت « بمجد الآب »، أي أن مجد الله كان عاملاً في إقامته من الأموات، يُقال عنها في مناسبات أخرى أنها كانت من عمل إرادته التلقائية الحرة. فلم يقتصر الأمر على أنه أُقيم من الأموات كما بقوة خارجة منه، ولكنه قام كمن له الحق والقوة والسلطان أن يفعل ذلك، وكمن لم يكن للموت أي سلطان عليه ولم يكن ممكناً أن يُمسك منه. ولذلك إذ مجّد الله، لم يعد هناك ما يمنعه من اتخاذ مجلسه. نعم، إن الله نفسه، ذات مجد الله، أي صفاته، كانت تتطلب أن الذي عظّم بره تعظيماً كاملاً على خشبه العار في الجلجثة؛ يجب أن يحتل مكانه في أعلى السماوات. ذلك وحده كان فيه إرضاء الله وشبعه. أي شبع، وأي مجد كان لله في أن يُرفِّع ذات الشخص الذي مرة تحول عنه تاركاً إياه في دينونة عادلة حين كان معلقاً كبديلنا على خشبه الصليب، وهاهو الآن يجلس عن يمينه في السماوات.

هذا العمل يدل على الموافقة المطلقة على ما تم، فاليمين هو مكان الكرامة والقوة، كما هو أيضاً مكان الرضا والسرور، فليس هناك مكان في سماء السماوات أعلى من عرش الله، الذي يحتله الآن كاهننا العظيم، فهو يجلس هناك كمن له كل الحق، وكمن تحت قدميه كل شيء، وفي يده الصولجان فوق كل شيء. هذا هو المسيح. وكل من يفكر فيه في هذا المجد يستحيل عليه أن تخالجه ذرة واحدة من عدم الولاء لمجد شخصه أو قيمة عمله، أو جلال المكان الذي يحتله. ومن هو المخلوق الذي يجرؤ أن يدنو من محضر إله قدوس مثل هذا؟ ولكن هاهنا شخص له الأهلية والحق أن يأخذ مكانه عن يمين العظمة، فمن يكون هذا إلا ابن الله، المسيح يسوع، الذي لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد. هذا هو الكاهن العظيم، وهذا هو المكانالذي يحتله، وهذا ما يقرره الرسول ويؤكده وهو خلاصة وقمة كل ما سبق قوله في الإصحاحات السبعة الأولى.

أما الآن فيطالعنا الرسول بخدمته في ذلك المركز. « خادماً للأقداس والمسكن الذي نصبه الرب لا إنسان ». خادماً ليس بمعنى صانع الكفارة، لأنه وإن كان الكهنة الأرضيون يقدمون ذبائح كل يوم، فإن ربنا المبارك قدّم ذبيحة واحدة، ولم تعد هناك حاجة لذبيحة أخرى يقدمها. أي نعم، إن خدمته في الأقداس السماوية ليست لتقديم ذبائح. ففيما يتعلق بفدائنا قد تمم العمل - له المجد - وجلس، وليس هناك حاجة إلى شعرة واحدة تضاف إلى ذلك العمل الكامل الذي أتمّه على خشبه الجلجثة. والواقع أن صرخة النصرة التي يدوي صداها في السماء والأرض وفي قلوبنا: « قد أُكمِل »، هي الإعلان الكامل أنه لم يبقَ شيء واحد يُضاف إلى العمل المبارك الذي به تمجّد الله تمجيداً كاملاً، ونحن خلصنا خلاصاً أبدياً. وبحسب الطقوس اللاوية، كانت الذبيحة تُذبح خارج المحلة ويُدخل بدمها إلى الأقداس ويرش على غطاء التابوت، فالعمل كان يُعمل ويتم خارجاً، والشهادة على قبوله هي التي كان يُدخل بها داخلاً. وعندما يجلس الإنسان فمعنى ذلك أنه أنهى عمله ولم تعد هناك حاجة لأي نشاط من جانبه. وهنا أقول لكل نفس لا زالت غير مستقرة: إذا كنت لا تزال تشعر بحاجتك إلى عمل شيء فيما يتعلق بخلاصك، فأنت تتجاهل أو تنسى الحقيقة الكبرى: أن كاهننا قد جلس.

وكم من راحة للضمير وسلام كامل للقلب يمنحه هذا العمل إن أدركته النفس إدراكاً كاملاً. إن كاهننا قد جلس، ونحن أيضاً بالإيمان لنا أن نجلس دون أن نحرك يداً لعمل أي شيء في سبيل خلاصنا. نعم يا صديقي، إذا كان تعبك معناه أنك تحاول إضافة ذرة واحدة إلى عمل المسيح الكامل، فعليك أن تبادر بالكف عنه إذا كنت مؤمناً حقيقياً إلى أن تُدعى إلى المجد، وسيظل حقك في المجد هو هو بل أفضل، فإنه من الإهانة للمسيح أن تحاول إضافة استحقاقك أو مشاعرك أو أعمالك إلى قيمة ذلك العمل الذي مكَّن الله من إجلاسه على عرشه!

أني أؤكد هذه النقطة وأكررها، لأنني أعتقد أنه في أعماق قلوب كثيرة لا زالت تكمن بقية من البر الذاتي الذي يحاول أن يتداخل في كل مناسبة ممكنة، ليملأ بأعماله الخاصة المكان الذي لا يستطيع أن يملأه إلا دم المسيح وحده. إنني أعرف جيداً أن هناك مكاناً كبيراً لأعمال المؤمن، مكاناً لكل تعبنا. فقد نعمل طوال عمرنا الباقي دون أن نوفيه حقه علينا، له المجد. ولكن فيما يتعلق بفدائنا، فنحن مرتاحون حيث هو مرتاح. بل نستطيع القول إن ذات عرش الله هو مكان راحتنا فيما يتعلق بخلاصنا. أيها الأحباء، عندما يكون الله ذاته قد استراح، وعندما يكون المسيح ذاته قد استراح، فماذا تكون قلوبنا المسكينة حتى تظل يراودها أقل أثر من آثار عدم الإيمان أو عدم اليقين فيما يتعلق بذلك العمل المجيد الذي أكمله رب المجد مرة وإلى الأبد؟

والآن وقد تأكدت النفس من هذه النقطة تأكداً كاملاً (فبدون هذا التأكيد لا يمكن أن يكون هناك أي نمو حقيقي، أو أي فرح حقيقي أو أي نشاط حقيقي للمسيح)؛ يحدّثنا الرسول عن خدمة سيدنا الكهنوتية في الأقداس، وهي الخدمة المستمرة طالما نحن هنا في البرية. فنحن نعلم أنه في نشاط دائم فيما يتعلق بحاجات شعبه هنا، وبمجد الله فيما يتعلق بتلك الحاجات. أما عن ماهية هذا العمل، فلا يقال هنا شيء سوى أنه خادم، وخادم في الأقداس. والقدس أو الأقداس، بمفهوم العهد الجديد، هو المكان المقدس حيث يُظهر الله ذاته. وهذا سيتجلى في الإصحاحات التالية، ولذلك فإننا لا نتناول هذا الموضوع بالتفصيل هنا، ولكننا نلفت النظر إلى الحقيقة أن مكان خدمته يشار إليه هنا كمسكن أو المسكن الحقيقي، بالمقابلة مع الرمز الأرض، وباعتباره المسكن « الذي نصبه الرب لا إنسان ».

تذكرون أن موسى عندما دُعى إلى جبل سيناء، أراه الله نموذجاً أو مثالاً للمسكن بكيفية واضحة، استطاع موسى فيما بعد أن يحققها في الخيمة، التي صارت بذلك نموذجاً لمقادس الله نفسه. والواقع أن هذا ما يقوله الوحي لنا هنا متحدثاً عن الخيمة بأنها « شبه السماويات وظلها ». فالخيمة ومتعلقاتها كانت مثالاً، أو « شبه » طريق الاقتراب إلى محضر الله، كما كانت « ظِّلا » للسماويات، كما أوحى إلى موسى « لأنه قال: انظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل ». فالخيمة إذاً في البرية كانت رمزاً ومثالاً لطريق الاقتراب إلى الله. فالدار الخارجية كانت رمزاً للأرض، والقدس رمزاً للسماء، وقدس الأقداس رمزاً لسماء السماوات - محضر الله نفسه - حيث يوجد عرشه. والمسكن، أو خيمة الاجتماع، كان مثالاً، ولكن المسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان، هو المرتبط بعرشه حيث يسكن هو نفسه بكل مجده. وربنا المبارك خادم فيما يتعلق بذلك المسكن، ونحن الذين في برية العالم نستمتع بخدمة ذاك الذي له حق الجلوس - وليس مجرد الدخول - في أعماق محضر ذلك المجد. فهو هناك يعين شعباً مرتبطاً بنفسه، ويحفظنا في قوة التمتع بالشركة، ويعيننا ويسندنا في كل تجارب الطريق. كما أن وجوده هناك عربون وجودنا نحن أيضاً، فلنا حق الدخول الآن بالإيمان، وسنُدعي سريعاً للتمتع عياناً بكل ما دخل إليه هو نفسه.

والآن دعنا نربط هذا متأملين قليلاً في القول « والكلمة صار جسداً وحل (أو حرفياً نصب خيمته) بيننا » (يو1: 14)، فالخيمة كانت أيضاً رمزاً لربنا يسوع المسيح. والذين منكم يعرفون الخيمة يتذكرون أن الشُقق التي كانت تتكون منها الخيمة كانت ترمز للمسيح في صفاته المتنوعة. فالكتان الأبيض الناصع كان يرمز لناسوته الكامل، وفي الأسمانجوني نرى صفته السماوية، وفي الأرجوان صفته الملكية، وفي القرمز نراه كمن له السلطان والسيادة على العالم كله. وهكذا نجد في شقق الخيمة وحجُبها الشهادة لناسوت المسيح الكامل.

وفي الأصحاح الأول من إنجيل متى، يقتبس روح الله نبوة إشعياء حيث الحديث النبوي عن ميلاد سيدنا من العذراء قائلاً « وتدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا »، مشيراً بذلك إلى اتخاذ الله مسكناً له بين الناس. ولكن كما يخبرنا يوحنا « والكلمة صار جسداً وحل بيننا »، ولذلك فإن يوسف لم يدعُ المولود المبارك « عمانوئيل »، بل دعاه يسوع. وما أجمل أن يذكّرنا ذلك بالغرض من مجيئه، والأساس الذي عليه أقام بيننا كالممثل لله بين الناس. « يهوه المخلص » هذا هو اسمه. وهذا أيضاً هو الشاهد على أن الله هو الذي كان معنا « عمانوئيل ».

وإذ نرجع قليلاً إلى إنجيل يوحنا، حيث يعلن الوحي أن « الكلمة صار جسداً وحل بيننا »، نرى الإيمان يضيف على الفور « ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً ». إن شقق الخيمة الداخلية التي أشرت إليها، لا يُمكن أن تُرى إلا من الداخل فقط، فهناك كانت تتجلى تلك الروائع في أبعادها ونظامها وجمالها. ولكن الغطاء الخارجي الذي كانت تقع عليه عين الغريب القادم إلى محلة إسرائيل، لم يكن سوى الغطاء الكامد غير الجذاب من جلود التخس، أو بمعنى آخر، كما يقول الإيمان، معترفاً برفض اليهود السابق للمسيح، « لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه »، فلم يكن في المسيح أية جاذبية للإنسان الطبيعي، ولا جمال، إلا عندما رأيناه بالإيمان.

عندما تطلع الناس إلى المسيح خارجياً قالوا « أَ من الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟ »، « فتش وأنظر. إنه لم يقم نبي من الجليل »، « أليس هذا ابن النجار. أليست أمه تدعى مريم وأخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا، أوليست أخواته هاهنا عندنا، فكانوا يعثرون به ». نعم، فحتى أفراد أسرته لم يؤمنوا به، ولم يروا فيه ما يجذبهم إليه. هذا هو منظر الخيمة الخارجي، شهادة محزنة عن عدم استطاعة العين البشرية رؤية ما يمجد الله تمجيداً حقيقياً، لأني لست بحاجة إلى القول، كم مَّجد المسيح الله تمجيداً كاملاً في كل أعماله طوال حياته اليومية، وكيف أن اعتزاله المقدس وعدم تأثره بأي دنس في العالم كان دائماً أبداً بخوراً عطراً لله.

لكن عندما يدخل الإيمان، ويحصل على الصورة الصحيحة للمسيح، ماذا يقول؟ « رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب »؛ هذا ما يقوله. فهو يؤكد أنه واحد وحيد لا مثيل له في السماء أو على الأرض. كان هو « بهاء مجد الله ورسم جوهره » أي الصورة المعبرة عن شخصه.

وهكذا كانت الخيمة رمزاً للمسيح أو « الله معنا » هنا، مسكن الله مع الناس، حينما كان ربنا المبارك على الأرض. ثم بعد ذلك انشق الحجاب ونقضت الخيمة نفسها (إن جاز لنا هذا التعبير)، كما قال سيدنا لهم « انقضوا هذا الهيكل... ولكنه كان يقول عن هيكل جسده »، لقد نُقض الهيكل وأُقيم بالقيامة، وصعد المسيح إلى الأعإلى خادماً لمسكن الله الحقيقي، المسكن « الذي نصبه الرب لا إنسان ».

والآن ونحن نتذكر أنه في الأقداس، دعنا نتطلع قليلاً إلى الأمام إلى وقت آتٍ. جاء وقت سكن الله فيه بين الناس في شخص ابنه، ولكنه ليس الآن هنا. هو عند الآب والإيمان يراه الآن هناك، ولكن الوقت آتٍ حينما يكون « مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم ». عندما جاء سيدنا المرة الأولى احتقره الناس ورفضوه، وهكذا نقض المسكن ولم يعد هنا في ما بعد، سوى أننا نحن بنعمة الله المطلقة صرنا نمثل مسكن الله بالروح القدس على الأرض، ولكن الوقت آتٍ حينما ينتزع كل شر بعد نهاية الملك الألفي، أو بعبارة أخرى في نهاية كل التدابير، حينما تُقضي على كل العوائق والمعطلات التي أبعدت مسكن الله منذ دخول الخطية إلى العالم، يؤتى بهذا المسكن المجيد نازلاً من السماء في علاقة مباشرة مع الأرض، وهكذا يُقضي نهائياً وأبدياً على كل مسافة وكل بعد بين السماء والأرض (ولو أننا سنظل نشعر بأن الله هو دائماً فوقنا)، وحينئذ سيأخذ الله نفسه مكاناً في ارتباط دائم مع خليقته، ويصبح المسكن وصفاً دقيقاً لتلك الحالة الأبدية. ويا له من حق عجيب أن الذي على يديه سيتحقق هذا هو نفس الشخص المبارك، وأن ذاك الذي كان مسكناً لله حينما كان هنا بالجسد، والذي بروحه يصنع الآن مسكناً لله في شعبه المفدي، هو الذي سيحقق نهائياً القول « هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم ». يا لها من باقة غنية من الأفكار الثمينة تتجمع هنا! ليت مجرد هذه التأملات العابرة تقودناإلى التأمل فيها بصورة أعمق وأكمل، لنرى مدى المشورات الإلهية العجيبة المرتبطة بالمسكن الذي استعرضه الروح القدس أمامنا الآن.

« فإنه لو كان على الأرض لما كان كاهناً إذ يوجد الكهنة الذين يقدمون قرابين حسب الناموس ». لقد قام سؤال هنا، وهو سؤال هام ويجدر بنا التأمل فيه، وهو أن عمل المسيح ككاهن بدأ فقط في السماء. وقد أوضحنا فيما سبق الحقيقة أن عمله الكهنوتي كان لابد له أن يبدأ فيما يتعلق بتقديم الذبيحة على الأرض. فإذا كان الكاهن هو شخص يقدم ذبيحة لله، وهو قد قدم نفسه بروح أزلي، أعني أنه في حياته هنا قُدِّم أمام الله وقبله الله كالذبيحة. وعند معموديته، عندما مُسح بالروح القدس، نرى عملياً قبول الله إياه كالحمل الذي بلا عيب ولا لوم واللائق لذبيحة كاملة ومن أجل هذا العمل الكهنوتي العظيم قد تهيأ ومُسح.

ولكن لاحظ أن التعبير الذي نحن بصدده لا يقصر عمل سيدنا الكهنوتي على السماء، وإنما يعلن فقط أنه بالمقابلة مع الكهنة الأرضيين لو أنه كان هنا بالعلاقة مع الناموس والقدس الأرضي، لما كان له شيء يقدمه، أو أية خدمة يمارسها، لأن كل شيء على الأرض كان تحت يد كهنة لاويين من نسل هارون. وإذا نحن قصرنا عن إدراك هذه النقطة، فكأننا ننكر أن ذبيحة سيدنا على خشبه الجلجثة كانت عملاً كهنوتياً. ولكنه لو كان هنا الآن وادَّعى (إن جاز لي استخدام مثل هذه الكلمة) أن له حق ممارسة الأعمال الكهنوتية بالارتباط بالهيكل في أورشليم، أما كان يمكن أن يقال إنه كان يتداخل بغير حق في نظام قد أقامه الله نفسه على الأرض؟ لو أنه - مثلاً - دخل الهيكل وأخذ مبخرة وراح يبخر بها، أو دخل إلى قدس الأقداس وحاول أن يرش الدم على الغطاء، أ فما كان يقال إنه متداخل فيما لا يخصه؟ فما دامت كل الذبائح الأرضية من اختصاص الكهنة من نسل هارون دون سواهم، أ فما كان يمكن أن يُقال عن سيدنا أنه يدّعي لنفسه ما لا تُقرّه كلمة الله نفسها؟

كذلك نلاحظ أنه عندما يعود الوقت لاستئناف هذا النظام الكهنوتي عمله في الجزء الأخير من سفر حزقيال، نرى الكهنة من بيت هارون يقامون مرة ثانية لاستئناف الخدمة وفقاً للطقس الأرضي. لا شك أنها ستكون عندئذ شيئاً مختلفاً كل الاختلاف عما كانت عليه قبل ذبيحة سيدنا. فتلك الذبائح والتقدمات القديمة كانت رمزاً لما هو آتٍ، وكانت تتضمن قدراً معيّناً من الاستحقاق بالعلاقة مع مقدّميها، ولكن هذه المشار إليها في سفر حزقيال فستكون كلها مجرد أشياء تذكارية مشيرة إلى الوراء؛ إلى ما قدمه المسيح وأكمله. وهكذا سيجعل الله شعبه القديم يمارس بوعي وشكر كل ما مارسوه قديماً دون أن يفطنوا إلى معناه الحقيقي. وهكذا يعترفون بفضل المسيح عليهم.

سيكون لهم قدس عالمي أو أرضي، وكهنوت هاروني خلال الملك الألفي. كل من يقرأ سفر حزقيال بإمعان لا يفوته ملاحظة هذا الأمر. وهذا حق لدرجة أنه « لو كان على الأرض لما كان كاهناً إذ يوجد الكهنة الذين يقدمون قرابين حسب الناموس ». ولكن هذا يبين لنا بصورة أوضح ما نقوله بشأن مكانه في السماء، فإن عمله الكفاري على الأرض كان عملاً متعلقاً بالسماء، وإذ أتم العمل دخل بدم نفسه إلى السماء عينها. وهكذا حل محل الكهنة الأرضيين إذ دخل القدس السماوي. ونحن الآن أيضاً كهنة ولو أننا على الأرض، ولكن دائرة خدمتنا ليست في قدس أرضي بل في الأقداس السماوية عينها، ولذلك نحن لا ننافس كهنة الناموس.

والآن ننتقل إلى هو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا الأمر في بقية أصحاحنا:

« فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طُلب موضع لثانٍ. لأنه يقول لهم لائماً: هوذا أيام تأتي، يقول الرب، حين أكمِّل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً؛ لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، لأنهم لم يثبتوا في عهدي، وأنا أهملتهم، يقول الرب. لأن هذا هو العهد الذي أعهده مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام، يقول الرب: أجعل نواميسي في أذهانهم، وأكتبها على قلوبهم، وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً، ولا يعلِّمون كل واحد قريبه وكل واحد أخاه قائلاً: اعرف الرب، لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، لأني أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد. فإذ قال: جديداً، عتَّق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال » (8: 7 - 13).

رأينا في الأصحاح السابق أن تغيير الكهنوت اقتضى بالضرورة تغيير الناموس المرتبط به، والذي على أساسه كان يقوم ذلك الكهنوت. أما نحن فلنا رئيس كهنة خادم للأقداس السماوية، إنه ليس على رتبة هارون. ومن أجل ذلك وجب أن يقوم على عهد مختلف، وعلى أساس غير الذي كان يقوم عليه الكهنوت الهاروني، حيث يقول عنه « ولكنه الآن قد حصل على خدمة أفضل »، وذلك يتجلى واضحاً من مقارنة خدمة الكهنة الذين كانوا معرَّضين للفشل ولا يستطيعون تمجيد الله لكونهم خطاة في أنفسهم، بخدمة المسيح الأفضل. فالكهنة لم يكن في استطاعتهم إلا أن يقدموا « كل يوم تلك الذبائح عينها التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية »، أما المسيح « فبعد ما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد عن يمين الله ». لقد كان للكاهن الهاروني خدمة، ولكن للمسيح خدمة أفضل بما لا يقاس « بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم قد تثبت على مواعيد أفضل ». لاحظ أن كل شيء هنا يوصف بكلمة « أفضل »، فإنك تجد هذه الكلمة تتكرر مراراً في الرسالة إلى العبرانيين، بحيث أنك تستطيع أن تضع عبارة « أموراً أفضل » عنواناً كبيراً للرسالة كلها باعتبارها الطابع المميز للمسيحية بالمقارنة مع اليهودية.

وهذا الجزء الثاني الذي نحن بصدده، يضع أمامنا الحق الخاص بالعهد الجديد، باعتباره عهداً أفضل من العهد القديم. فقد كان العهد القديم، عهد الناموس الذي أعطاه الله لإسرائيل عندما أخرجهم من مصر. وهذه النقطة مذكورة لنا بصفة واضحة في النص المقتبس من سفر إرميا 31. وأعتقد أننا نستطيع أن نرى الفرق واضحاً بين هذين العهدين في سفر إرميا نفسه. ففي إرميا 11 نرى العهد القديم؛ وفي إرميا 31 نجد العهد الجديد. ثم إرميا 50 نرى تمسك الإيمان بهذا العهد واستناده عليه. فلننظر باختصار إلى هذه الإصحاحات الثلاثة، فهناك سنجد كما أعتقد، هذا الحق الذي يطالعنا به الوحي في الرسالة إلى العبرانيين.

ولكن قبل أن نتناول موضوع العهد الجديد، أرجو أن أشير مجرد إشارة إلى وجود عهدين آخرين، على الأقل، بين الله والإنسان، مذكورين في أسفار العهد القديم. فقوس قزح كان علامة أو ختم العهد الإلهي مع الأرض، وكان هذا العهد بمثابة ميثاق أو اتفاق ربط الله نفسه به مع الإنسان بأنه سوف لا يُغرق الأرض بطوفان مرة ثانية. وهكذا حولَ العرش، وبالعلاقة مع كل الدينونات التي ستأتي من ذلك العرش على الأرض قبل الملك الألفي، يُرى قوس قزح في دائرة كاملة، كما لو كان مذكِّراً بأن الله سيتصرف وفقاً لنص ذلك الاتفاق أو الميثاق. فهو - له المجد - لن ينسى ضمانة العهد الذي أعطاه، وهي الضمانة العجيبة التي لن تمحوها كل دينونات وضربات التجربة العظيمة التي ستجرب الأرض والساكنين عليها.

ثم هناك، بالارتباط مع إبراهيم، يقال لنا إن الله عمل عهداً معه وأعطى الختان علامة أو ختماً له. ذلك العهد كان وعداً واضحاً بالبركة، وبالارتباط مع ذلك العهد نجد أن الشعب القديم سيبقى أمام الله إلى الأبد، لأن « هبات الله ودعوته هي بلا ندامة »، لذلك فإن عهداً قد ربط الله به نفسه تطوعياً سيدوم إلى الأبد. ولكن العهد الإبرهيمي شيء آخر غير العهد الذي يطالعنا به الوحي هنا. لقد أعطى ذلك العهد لإبراهيم فردياً، وفي الحقيقة يمكننا القول إنه كان ظلاً للعهد الجديد، لأن الرسول يقول في غلاطية إن الناموس، الذي جاء بعد ذلك بمدة 430 سنة، لا يمكن أن يلغيه. غير أن الختان جاء بعد ذلك مقترناً بالعهد الناموسي، ولو أنهم حفظوه، لا لأنه من موسى بل من الآباء. وبهذا الوصف يستخدمه الرسول في رومية وأماكن أخرى.

والآن نأتي إلى موضوع العهدين القديم والجديد. وأول ما نلاحظه أن شيئاً واحداً كان يعتبر الطابع المميز للعهد الناموسي؛ وهو الشرط. فإن العهد - أي عهد - هو اتفاق أو ميثاق بين طرفين على شروط معينة يجب تنفيذها، كأن يتعهد إنسان أن يعمل أشياء معينة إن تمم الشخص الآخر التزاماته التي ارتبط بها. وذلك هو عهد الناموس. فقد وعد الله أن يبارك شعبه إن هم من جانبهم أطاعوا الناموس. أنظر مثلاً إلى هذا في إرميا 11، وإني أرجو أن تقرأه لنفسك، « اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم... الخ » (ع1-4). ستجد طوال الأصحاح أنه تذكرة بالعهد الأول وبمواعيد الله للشعب القديم المرتبطة بذلك العهد وتعهداتهم لتنفيذ وصاياه. وأعتقد أني لست بحاجة أن أذكركم بتعهدات الشعب التي قطعوها على أنفسهم عند جبل سيناء، وكيف أن موسى أخذ دم ذلك العهد ورشه على الكتاب حيث كان الناموس مكتوباً، وعلى الشعب وعلى كل شيء، وكيف أنه دعا الله والإنسان للشهادة بأن العهد قد خُتم بالدم. ولكن مما يدعو للأسف والحسرة أننا لا نسير إلا قليلاً في التاريخ الأغبر لذلك الشعب حتى نجد ارتدادهم في عبادة العجل الذهبي، وكيف أنهم كسروا شروط البركة الأولى في ذلك العهد.

وهكذا فيما يتعلق بذلك العهد، لم يستطع الشعب القديم الحصول من ورائه إلا على اللعنة جزاء عصيانهم وتمردهم. انظر إلى موسى نازلاً من الجبل وفي يديه لوحا العهد؛ إنه يحمل بين ذراعيه الشروط التي على أساسها سيتمم الله وعده للشعب. ثم لاحظ المشهد: هناك الله فوق الجبل في قداسته وجلاله، وموسى حاملاً لوحي العهد في يديه، وفي الأسفل في المحلة يقام العجل الذهبي والشعب يرقص حوله في سكر مخجل وعار مشين. هذه صورة العهد الأول وعدم نفعه. قداسة الله وخطية الإنسان من جانب، وموسى حاملاً بين ذراعيه الشهادة للناموس الكامل الذي لم يستطع أن يجلب إلا لعنة على الشعب العاصي من الجانب الآخر.

وماذا يفعل موسى؟ إنه إذا دخل تلك المحلة المرتدة ولوحا العهد في يديه، فذلك لن يعني إلا شيئاً واحداً؛ وهو انصباب دينونات سيناء فوراً على ذلك الشعب المرتد. فماذا يفعل موسى؟ لقد كسر اللوحين الحجريين؛ ليس كما يظن البعض في غضب أو حقد أو أي شيء من هذا القبيل، كلا، إنه لم يُحرم من دخول كنعان لأنه فقد أعصابه أو خرج عن طبعه وكسر لوحي الحجر، ولو أنه حرم من دخول كنعان فعلاً، لكن لأنه فشل في تمجيد الله في مناسبة أخرى. بل الواقع أننا لا نسمع همسة واحدة من عدم الرضا الإلهي عندما أخذ ذلك الذي كتبه الله نفسه وحطمه عند أسفل الجبل، كما لو كان يقول، إن العهد الأول قد تحطم وانتهى. نعم، لم يكن ممكناً أن تكون هناك بركة في ظل ذلك العهد لأنهم كسروه فعلاً.

ولكن الله في رحمته وصبره استمر معهم، استأنف علاقته بهم عن طريق عمل موسى الوساطي. ولكنه كان يعود مضطراً المرة بعد المرة لكي يشهد على أنهم شعب صلب الرقبة، وأنهم قد فقدوا كل حق في بركته أو إحسانه. وهكذا فيما يتعلق بذلك العهد الأول يمكنك أن تكتب « اللعنة » عنواناً وطابعاً له من أوله إلى آخره؛ « ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به ». وإذ حاول أي إنسان الآن أن يكون في علاقة مع الله على أساس العهد الأول، عهد العشر وصايا، فإنه يكون تحت اللعنة ولا محالة « لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة » (غل3: 10).

والآن انظر إلى إرميا31:31؛ هناك تجد العهد الجديد الذي نقرأ عنه في أصحاحنا من رسالة العبرانيين « ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم. يقول الرب »؛ يقول « لأن هذا هو العهد الذي أعهده مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب أجعل نواميسي في أذهانهم (لا أكتبها على حجارة بعد ولكن) أكتبها على قلوبهم وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً. ولا يعلمون كل واحد قريبه وكل واحد أخاه قائلاً أعرف الرب لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم لأني أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد ».

هنا تجد العهد الجديد يميزه طابعان. العهد القديم كان على شرط الطاعة، فما هو شرط العهد الجديد؛ لا شرط على الإطلاق. فلن يكون للشعب أي فخر بالعلاقة مع العهد الجديد، ولكن هناك طابعان يسيران جنباً إلى جنب هذه الحقيقة، الأول هو كتابة ناموس الله في القلب بدلاً من كتابته على ألواح حجرية. وهذا هو الميلاد الثاني كما تجده في حزقيال كما قال سيدنا لنيقوديموس « أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟ ». نعم، فالحاجة إلى الميلاد الثاني، القلب الجديد، الذي يُسرّ بناموس الله، قد جاءت الإشارة إليه في العهد القديم.

والطابع الثاني لهذا العهد الجديد هو « أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد ». يا لهما من حقين رائعين هنا! الصفح عن الخطايا للضمير، وقلب جديد يجد سروره في الله ويسير في طرقه ويعمل رضاه. وينتج من هذا أنه لا تكون هناك حاجة للقول « اعرف الرب » لأن الرب سيكون معروفاً ومحبوباً من جميع شعبه.

وهنا أراه لزاماً على أن أقول كلمة عن وجود المسيحيين تحت العهد الجديد. قرأنا سابقاً أن ذلك العهد الجديد سيكون مع الشعب القديم. أما نحن - كنيسة المسيح - فلسنا تحت العهد الجديد أو العهد القديم. فنحن لم نوضع إطلاقاً تحت العهد القديم، ولسنا تحت العهد الجديد بالمعنى الذي سيكونه الشعب القديم، أعني كنظام إداري بالعلاقة مع الأمور الأرضية. ولكن بركات العهد الجديد، كسائر البركات الروحية الأخرى التي ستكون لذلك الشعب، هي لنا نحن أيضاً من الآن. فإن بركات هذا العهد الجديد يخدمنا بها المسيح الآن له المجد، فهو « وسيط العهد الجديد »، وبصفته هذه يمتّعنا بذات الشيئين اللذين نتكلم عنهما. فيا له من أمر ممتع ومُلذّ للغاية أن نعلم أننا بنعمته قد صارت لنا مشيئة الله المباركة مكتوبة في قلوبنا، وأننا بالميلاد الثاني قد حصلنا على طبيعة جديدة تُسرّ بناموس الله. وبأننا كمولودين من الله، وباعتبارنا أولاده، قد صارت لنا، بنعمته المطلقة، الطاقة والاستطاعة للاستمتاع به، وأننا هكذا بالحقيقة خليقة جديدة في المسيح! إن الميلاد الجديد له في حالتنا في الواقع معنى أوسع وأعمق مما يمكن أن يكون أن يكون له في حالة الشعب القديم. إن لنا الحياة المسيحية الفضلى في ارتباطها بالخليقة الجديدة، فمع أن الحياة واحدة، إلا أن نطاقها في المسيحية أوسع وأعمق بصورة عجيبة. ولست بحاجة أن أضيف أن الميلاد الجديد ليس امتيازاً خاصاً لجماعة من الجماعات بل هو حق يشترك فيه جميع القديسين.

ثم الطابع الثاني، طابع غفران الخطايا، نجد أن الله ليس فقط يغفر بل - إن جاز لي التعبير - ينسى. ليس بالمعنى البشري كما لو كانت خطايانا قد خرجت من دائرة وعيه. حاشا، بل بالمعنى الإلهي، أي أنها ليست في ما بعد ضد شعبه، وكأنها لم تحدث إطلاقاً. فهو يقول « ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد »، والرسول يوضح بعد ذلك أنه حيث لا يوجد ذكر للخطية لا تبقى بعد حاجة لذبيحة، فالكل قد سوّاه الله.

إذاً فهاتان البركتان من بركات العهد الجديد قد حصل لنا عليهما كاهننا العظيم. لقد مضى إلى الأعإلى وهناك في ضوء البركات التي صارت لنا بنعمته، نتطلع إلى الناموس وإلى الكهنوت الأرضي وأقداسه، ونقول مبتهجين: حقاً إن نصيبنا أمجد وأثمن بما لا يقاس!

والآن نأتي إلى إرميا 51: 4،5، الذي يبين كيف سيأتي الشعب القديم تحت بركات العهد الجديد، مؤكِّداً مرة ثانية اتحاد الأسباط الاثني عشر. هناك نجد روح الرب عاملاً في القلوب ومنتجاً توبة حقيقية من جانب أولئك الذين ابتعدوا عن الله زمانً طويلاً « يسيرون سيراً ويبكون ويطلبون الرب إلههم، يسألون عن طريق صهيون ووجوههم إلى هناك قائلين هلم فنلصق بالرب بعهد أبدي لا يُنسى. كان شعبي خرافاً ضالة، قد أضلتهم رعاتهم، على الجبال أتاهوهم. ساروا من جبل إلى أكمة، نسوا مربضهم (أو مكان راحتهم) ».

فها نحن نرى هذا الشعب التائب متجهاً بالبكاء إلى الله، وإلى مكان الأقداس، سائلاً عن الطريق إلى هناك، وراجعاً بهذا التصميم الذي أنشأه فيهم روح الله، قائلين: هلم نلصق نفوسنا به بعهد أبدي لا يكسر. هذا هو العهد الجديد الذي كنا نتأمل فيه، والحق إنها دراسة من أمتع الدراسات في كل النبوات يقدمها لنا الروح القدس في الكشف عن مكنونات هذا العهد الجديد المكنوز للشعب القديم. وأود أن أحيلك فقط إلى مزمور119 الذي يعطيك توضيحاً عجيباً كيف أن نصوص العهد الجديد ستكون مكتوبة في قلوب الشعب التائب. فهناك تجد كل حروف الهجاء العبرية مكررة ثماني مرات، أو بعبارة أخرى تجد كل حرف من تلك الأبجدية مكرراً ثماني مرات، معلنة كمالات ناموس الله، ذلك الناموس عينه الذي احتقروه في الماضي، مكتوباً الآن في قلوبهم حتى يستطيعوا أن يقولوا « خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك »، « كم أحببت شريعتك. اليوم كله هي لهجي »، ويستطيعون أن يصلوا قائلين « اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك ». ولست بحاجة أن أقول إن هذا لا يعني عودة إلى سيناء، إلى الناموس وإلى الشريعة التي أعطاها الله متضمنة مطاليبه من الإنسان الطبيعي، وهي الشريعة التي لم تستطع سوى إدانته، بل إلى مشيئة الله المنعم المتلذذ بها شعب تائب متجدد.

وختام الأمر كله لدى العبراني المؤمن أن بركات العهد الجديد قد حلّت إلى الأبد محل لعنات العهد القديم، ومحل الكهنوت اللاوي والقدس العالمي. إنهم كسروا ذلك العهد القديم، ولم يرثوا من ورائه سوى اللعنة. والمسيح الآن قد أقيم وصعد إلى الأعإلى وأدخَل المؤمن إلى القدس السماوي، ولذلك فإنهم بالضمير الصالح واليقين الكامل بأنها مشيئة الله يتحولون عن العهد القديم وكل طقوسه كشيء عتيق قد شاخ وأصبح قريباً من الاضمحلال.

وكم هو جميل ومنعش أن نتيقن ونتحقق أننا قد تحولنا فعلاً عن كل ما كان يربطنا بالجسد. وكم هو جميل ومعزٍ أن نعلم أن الوقت آتٍ عندما يتمتعون هم أيضاً ببركات العهد الجديد.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.