لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

المحاضرة الثالثة

بيت الله وراحة الله

« إذاً بقيت راحة لشعب الله »

(3: 1 إلى 4: 10)

« من ثَمَّ أيها الأخوة القديسون، شركاء الدعوة السماوية، لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع، حال كونه أميناً للذي أقامه، كما كان موسى أيضاً في كل بيته. فإن هذا قد حُسِب أهلاً لمجد أكثر من موسى، بمقدار ما لباني البيت من كرامة أكثر من البيت. لأن كل بيت يبنيه إنسان ما، ولكن باني الكل هو الله. وموسى كان أميناً في كل بيته كخادم، شهادة للعتيد أن يُتكلم به. وأما المسيح فكابن على بيته. وبيته نحن أن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية » (3: 1-6).

نلاحظ أن الرسول يستعمل هنا لقب « أخوة قديسين »، وهذا بالارتباط مع الحق السابق إقراره في الأصحاح الثاني، حيث يعلن الرب أنه لا يستحي أن يدعونا أخوة. فالأمر ليس قاصراً على أن القديسين هم إخوة الرسول، وإن كان هذا مدلول العبارة، وذلك لأن الرسول كما رأينا يستبعد نفسه من الصورة إطلاقاً، وإنما هو يخاطب الذين اعترف بهم المسيح كإخوة، وهذا أيضاً ما توحي به كلمة « قديسون »، فهي علاقة أبدية ثابتة، وهي قداسة أو تقديس قد أنجزه وضمنه عمل المسيح. ولقد رأينا أيضاً في الأصحاح السابق أن « المقدس والمقدسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم أخوة »، حتى أن هذا التقديس أو الانفصال لله بعمل المسيح، الذي يستلزم أيضاً عمل الروح القدس لإنتاج تشابه أدبي بالمسيح، مرتبط بمركزنا كإخوة، وكمن لا يستحي الرب أن يدعونا هكذا. هذا حق ثمين وعظيم للغاية، وإذ أكّد الرسول هذا الحق بالنسبة للقديسين، يبدأ على الفور في استخدامه ليؤكد لهم امتيازهم ومسؤليتهم، ولكنه يمضي أيضاً إلى ما هو أبعد من ذلك.

إنهم شركاء، كأولاد، في اللحم والدم، كما قال في الإصحاح السابق، والمسيح كذلك له المجد تشارك فيهما أيضاً، أعني صار شريكاً بلا خطية في إنسانيتنا. « والكلمة صار جسداً وحل بيننا ». لأي غرض؟ لكي نصير نحن أيضاً شركاءه في مركزه كإنسان، وهو المركز الذي حصَّله لنا بالنعمة غير المحدودة بموته، « شركاء الدعوة السماوية ».

لاحظ أيضاً ما تتضمنه هذه العبارة العجيبة « الدعوة السماوية ». إن الرسول يخاطب المسيحيين العبرانيين، الذين تدور أفكارهم بالطبيعة حول الأرض وما فيها. فالعبرانيون كانوا دائماً يتطلعون إلى تحقيق مواعيد الله فيما يتعلق بالميراث الأرضي، فمن بداية تاريخهم كأمة في أرض مصر، بل في الواقع من قبل ذلك حينما أعلن الله قصده لإبراهيم وإسحق ويعقوب، كان الهدف منحهم ميراثاً أرضياً. ومن ثم فقد كان مقياس البركة في كل تاريخهم مدى تمتعهم بالميراث الذي أعطاه لهم الله في الأرض. ولكن هنا فكر آخر، أو بالحري فكر مضاد. فهم ليسوا « شركاء الدعوة الأرضية »، كما يعبر عنها النبي، ولكن شيئاً أعلى وأسمى وأفضل.

وكم كان جميلاً من الروح القدس أنه رأى لزاماً أن يبين لهؤلاء القديسين أنه لم يعد لهم فيما بعد أي حق ميراث أرضي، وأن أمانيهم وتطلعاتهم فيما يتعلق بالمملكة الأرضية، يجب أن تؤجل إلى أمد طويل، وإنهم هم أنفسهم لن يكون لهم نصيب فيها - أقول كم كان جميلاً ومباركاً من روح الله أن يحوّل قلوبهم وأمانيهم وانتظاراتهم إلى ميراثهم الدائم الأبدي.

ثم لاحظ شيئاً آخر يتصل اتصالاً مباشراً بهذا الذي نحن بصدده. ما الذي يجعل ميراثهم سماوياً؟ هل وصْف هذا الميراث الجيد المحفوظ في السماوات مذكور أمامنا هنا أو في مكان آخر في هذه الرسالة؟ كلا، وإنما الذي يجعل ميراثهم سماوياً هو أن المسيح نفسه ذهب إلى هناك. المسيح الذي سيأتي بأبناء كثيرين إلى المجد، قد دخل إلى ميراثه، وذلك ما يجعله ميراث شعبه، فهُم من أجل ذلك شركاء الدعوة السماوية، ليس لمجرد أن الأماني الأرضية قد بطلت. إن بطلان الأماني الأرضية قد يجعل من الإنسان زاهداً ساخراً بالعالم، كارهاً للبشر، ولكن لا يجعل منه سائحاً أو غريباً، إذا كان ذلك هو الكل. نعم، استبعد من الإنسان كل رجاء أرضي هنا، أو لميراث تحت الشمس، ولا تعطه شيئاً بديلاً، فسوف لا تجد أمامك إلا إنساناً حانقاً، فظاً، ناقماً، يائساً، حاقداً على الناس، وكارهاً للبشر أجمعين؛ لن ترى فيه سائحاً صادق القلب له أمانيه وتطلعاته في مكان آخر.

إنك لكي تجعل الإنسان سائحاً غريباً متطلعاً إلى ميراث، يتحتم عليك أن تجعل قلبه حيث يكون كنزه. وإذا كنا نحن سائحين وغرباء حقيقيين، فذلك لأننا نملك شيئاً أكثر من مجرد المعرفة بأن لنا ميراثاً في السماء. وهذا الشيء هو أننا نعرف ذاك الذي يمجد ذلك الميراث ويشرفه، وهو المسيح نفسه. ذلك هو عين ما يقوله الرسول هنا، فهو يخاطب العبرانيين المسيحيين بهذه الكلمات المؤثرة، كما كنا نتأمل منذ قليل؛ يذكرهم بعلاقتهم وبتقديسهم، يذكرهم بالميراث الذي أمامهم. ثم لا يفعل أكثر من وضع « يسوع » أمامهم « لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته يسوع ». ليس الأمر هنا متعلقاً بلقبه الرسمي، له المجد، وإنما الأمر كله متعلق باسمه الشخصي الكريم؛ « يسوع »، كما هو الحال في أغلب المواضع في سياق هذه الرسالة.

« لاحظوا » ولا تعني هذه الكلمة "التفتوا وانظروا"، بل تأملوه باستمرار وانشغلوا به انشغالا كاملاً في شخصه وفي صفاته وفي أعماله. ذلك أيضاً ما تعنيه الكلمات التالية بعد ذلك « حال كونه أميناً »، باستمرار وعلى الدوام. حال كونه؛ فليس المطلوب منا أن نتطلع إلى الوراء، إلى أمانة المسيح الماضية حينما كان يعيش حياته الكاملة كإنسان هنا على الأرض، بل إلى ذاك الذي « حال كونه أميناً للذي أقامه، كما كان موسى أيضاً في كل بيته ».

أعتقد أن هذا يتضمن كل ما كنا نتأمل فيه في الأصحاحين الأولين. فهناك قد طالعنا الوحي بذاك الذي فيه قد تكلم الله في هذه الأيام الأخيرة، وهنا في هذين التعبيرين نجد الإشارة إلى ما سبق، فيذكر الوحي هذه العبارة المليئة بالمعاني « لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته ». إن الملاك هو أيضاً رسول، ولكن هناك فارق بين الملاك والرسول. الملاك كائن سماوي روحي ولاشيء غير ذلك. إنه روح خادمة مرسلة للخدمة للعتيدين أن يرثوا الخلاص. أما الرسول فيأتي بسلطان من الذي أرسله. فالرسل جاءوا كالمديرين أو المنظمين - إن جاز لي استعمال هذا التعبير - لنظام الله ومشيئة الله من أجل شعبه هنا على الأرض. فكلمة « رسول » بهذا المعنى لقب رسمي، وهكذا هي في انطباقها على سيدنا المبارك، إنه الرسول الذي أرسله الله.

وكما لوحظ دائماً أنه لا ذكر لرسول آخر في هذه الرسالة؛ ذلك لأن المسيح يحجب كل الرسل الآخرين، فحيث يُذكَر هو كالرسول لا يمكن أن يُذكروا هم. ولاشك أيضاً أن بولس باعتباره رسول الأمم يستبعد لقبه عند مخاطبة العبرانيين، فالمسيح يظهر إذاً كما رأينا في الأصحاح الأول كالمتكلم الآن « في هذه الأيام الأخيرة ». سبق أن تكلم الله بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة، أعلن مشيئته في جزئيات، وفي أوقات مختلفة؛ ولكن الآن « في هذه الأيام الأخيرة » قد أرسل رسوله إلى العالم، « لقد كلمنا في ابنه ». ما أعظم الكمال غير المحدود الذي احتوته هذه النيابة عن الله التي أؤتمن عليها ابنه! ويالها من سفارة عظمى، تلك التي لم يكن ممكناً أن يؤتمن عليها أي ملاك من الملائكة مهما كان، والتي كان لابد أن توضع في يدي ذاك الذي هو بهاء مجد الآب ورسم جوهره، الذي عمل كل الأشياء والحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته!

هكذا وبهذه الكيفية هو رسول الله، ولكنه أيضاً أكثر من ذلك. هو رئيس كهنة اعترافنا. وقد رأينا ماذا يعني هذا؛ يعني عمل المصالحة أو الكفارة لخطايانا بذبيحة نفسه، داخلاً أقداس الله ذاتها، كما سنرى بعد قليل في رسالتنا، محققاً بذلك، وبصورة كاملة، مجد الله بالنسبة لشعب خاطئ ساقط أثيم. أكثر من ذلك رأينا أنه كرئيس كهنة رحيم، له قلب يعطف على شعبه المحبوب. وهكذا هو رسول وكاهن في الوقت نفسه.

ولقد كان موسى يمثل، على نوع ما، رسولية المسيح، كما كان هارون يمثل كهنوته. كان موسى رسول الله، سفير الله، الذي خرج من حضرته عندما أعلن الله نفسه في العليقة المشتعلة ذاهباً إلى مصر حاملاً الرسالة لإنقاذ وإخراج شعب إسرائيل من مصر، ومزوداً بكل ما يلزم لتنفيذها كاملة، وعلى أحسن وجه؛ فهو الرسول الذي أقام إسرائيل كأمة. وكان هارون، بكيفية مماثلة، الكاهن الذي يحقق علاقة الشعب بالله بواسطة الذبائح والطقوس التي ينظمها ويرسمها الله.

ولم يكن موسى وهارون إلا خادمين. هذه هي الحقيقة المباركة التي يطالعنا بها الروح القدس هنا، لكي يقود أفكارنا إلى من هو أعظم وأمجد بما لا يقاس. ويالها من مسئولية وامتياز أن نلاحظ جيداً ونتأمل باستمرار، بل قل ندرس دراسة دقيقة؛ صفات وأمجاد رسول اعترافنا ورئيس كهنته، يسوع!

يمضي الرسول الآن متحدثاً عن أمانته في كل علاقة دخل فيها. وهنا يقارنه روح الله بموسى، ذلك الخادم الأمين للغاية. ولاشك أن هناك حكمة إلهية في الحديث عن موسى للمسيحيين العبرانيين. كان العبرانيون يتطلعون إلى موسى بطبيعة الحال كقائد أمتهم العظيم. ففي يوحنا9، عندما فتح الرب عيني الرجل الأعمى، سأله الفريسيون والرؤساء كيف فُتحت عيناه، فأخبرهم عن يسوع، وعندما سألوه ثانية قال « ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ »، فشتموه وقالوا: « نحن تلاميذ موسى ». ذلك ما كانه اليهود، كانوا أتباع موسى، معطي الناموس العظيم، الذي يتطلعون إليه والذي فيه يثقون وعليه يتكلون؛ والذي كلماته أيضاً، كما يذكرهم سيدنا، ستدينهم إن لم يعملوا بها.

وهكذا هنا، يأخذ روح الله مؤسس وقائد الأمة اليهودية التي أقامها ونظمها تحت إرشاد الله وإشرافه، ويقارنه بالرسول الحقيقي ورئيس كهنة اعتراف المسيحيين. فإن استطاع كاتب الرسالة أن يبين أن الرسول الذي يثّبت المسيحي عينه عليه هو أعظم بما لا يقاس من موسى، فقد حلَّ على الفور العقدة التي تربط المسيحي العبراني بالأرض والعبادة الجسدية وطقوس اليهودية. وهو يحل هذه العقدة بإعطائهم أشياء أفضل وأعظم بما لا يقاس من التي كانوا يملكونها. وهو يفعل ذلك ليس بالتحدث عن بعض نقائض موسى أو مواقف فشله (مع أن ذلك كان ممكناً لو أن الأمر كان متروكاً للحكمة الإنسانية) كتلك التي حرمته مثلاً من دخول كنعان، أو قتله الرجل المصري وإخفاء جثته في الرمال وهروبه حينما علم أن الأمر قد صار معروفاً. كلا، بل بعد أن أكد مكانه هذا المشرّع العظيم، والزعيم الكبير، والخادم الأمين لله، في كل المناسبات والعلاقات أمام نظر هؤلاء المسيحيين العبرانيين، قال لهم إن الذي أنتم مدعوون لملاحظته الآن والانشغال به، هو أعظم بما لا يقاس وبغير حدود من ذلك الرجل الأمين إلى أقصى حدود الأمانة البشرية.

هكذا هو يقارن سيدنا بموسى، كما سيقارنه فيما بعد بأفاضل عظام آخرين. كان موسى أميناً في بيت الله، لكن ها هنا واحد له كرامة أكثر من البيت ذاته. وبيت الله، كما نعلم، في حالة إسرائيل في البرية كان هو الخيمة، وكان هذا البيت محاطاً بحدود وسياجات من كل جانب، تمنع أن يقترب أحد منه سوى الذين يدخلونه بطريق الذبيحة، والذين كانوا مؤهلين ككهنة للاقتراب إلى الله. ولكن بالنسبة لبيت الله، الذي كان موسى فيه خادماً، كان هناك شيء له كرامة أعظم من البيت ذاته، ألا وهو الساكن في البيت، أو على حد تعبير الكتاب هنا، « بمقدار ما لباني البيت من كرامة أكثر من البيت. لأن كل بيت يبنيه إنسان ما ولكن باني الكل هو الله ».

هل أنت متتبع الفكرة هنا أيها الأخ الحبيب؟ يا لها من فكرة رائعة حقاً! لقد بدأ الرسول متحدثاً عن موسى، رجلاً أميناً في بيت الله، ثم يمضي ليخبرنا عن واحد هو أعظم من موسى بما لا يقاس، ليس فقط أعظم من الخادم في البيت، بل هو بانى البيت وأعظم من البيت. ثم يقول، إن كل بيت يبنيه إنسان، فمن هو الذي بنى مسكن لله العظيم هذا، مسكن الله الذي يمتد إلى أقصى حدود الفضاء، ويشمل جميع الأشياء الصغيرة والعظيمة التي بلا إحصاء؟ من هو الذي بني كل الأشياء؟ الله بكل تأكيد. ولكن ماذا قرأنا في رسالتنا: « الذي به أيضاً عمل العاملين » ... « فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق ». من هو هذا؟ هو ذات الشخص الذي نتكلم عنه.

يا لها من أمجاد يطالعنا بها الوحي! إن الروح القدس يضعنا بهذا وجهاً لوجه أمام الله. لقد كنا نتكلم عن رسول اعترافنا ورئيس كهنته، حال كونه أميناً للذي أقامه أو عيّنه في هاتين العلاقتين. نعم، هذا حق. ولكنه كمَنْ عمل كل البيت الذي تنازل بالنعمة ليخدم فيه، كم هو أعظم من موسى، وكم هو أعظم من البيت! هو العامل وهو الحامل لذلك البيت. هو سيد ورب الكل! فإذا كان هو رب وخالق الكل، أفلا يكون هو فوق كل واحد بما لا يقاس في كل الخليقة؟ هذا هو الحق المسجل في الأصحاح الأول، والذي يعاد توكيده لنا في هذه المناسبة.

والآن يعود إلى موسى. وهو، إذ يعود إليه، لا يحاول أن يسلب ذلك القائد العظيم شعاعاً واحداً من أشعة المجد، التي هي من حقه عن جدارة بنعمة الله. فيقول إن موسى كان أميناً، ولكنه كان خادماً في ذلك البيت. ويمكننا أن نعتبر الخيمة رمزاً ورسماً للخليقة كلها؛ حيث الدار الخارجية تمثّل العالم، والقدس الداخلي يمثل السماء. ولكن في تضييق هذا البيت إلى حدود الخيمة في إسرائيل، كان موسى مجرد خادم يستطيع أن يدخل ويخرج خالعاً نعليه، عاملاً مشيئة الله كخادم سعيد مغبوط، منفّذاً أوامر سيده فيما يتعلق بذلك البيت الذي كان رمزاً للبركات المستقبلة في المسيح.

ولكن ماذا يقال عن ذاك الذي نتكلم عنه، الرب يسوع المسيح؟ هل هو خادم في بيت الله؟ لقد رأيناه الصانع والمبدع لكل الكون؛ إنه المسيح كالابن على كل بيت الله، وهو- كابن وليس كخادم - ينبغي أن يكون أسمى بما لا يقاس من أعظم الخدام أمانة كموسى مثلاً.

وهكذا في مقارنة سريعة رائعة، يمضي الرسول مطبِّقاً هذا كله بصورة شخصية واضحة. لقد أرانا الابن كرسول اعترافنا ورئيس كهنته، وأرانا لمحة من موسى؛ وإذا بالمسيح متفوق عنه بما لا يقاس، باعتباره الابن على بيت الله. والآن هو يسأل: هل تعرفون ما هو هذا البيت؟ قد نجيب: لقد فهمنا أن هذا البيت هو كل خليقة الله - أي الكون بأسرِه - وأن خيمة الاجتماع كانت الرمز والمعبِّر عن ذلك البيت في علاقته مع إسرائيل. فيضيف الرسول قائلاً: إن ذلك البيت هو نحن المؤمنين؛ « وبيته نحن ». فعن خيمة الاجتماع نفسها، نذكر كيف أنها من وجه كانت رمزاً لكل من هم في المسيح؛ فالألواح المستقرة على القواعد الفضية كانت تكوِّن مسكن الله، أو بمعنى آخر أن الألواح الخشبية المستقرة على القواعد الفضية، التي تتحدث عن الفداء، كانت رمزاً لكل المؤمنين المستقرين على المسيح. أضف إلى هذا أننا عندما نأتي إلى العهد الجديد، نجد أن الله بروحه قد جعل مسكنه وسط شعبه؛ فيخبرنا الوحي في أفسس أننا « مبنيون معاً مسكناً لله في الروح »؛ وهكذا نحن مسكن الله، مبنيين على أساس الرسل والانبياء، وكل مؤمن هو جزء من المسكن الإلهي.

وعندما نأتي إلى رسالة بطرس، نجد نفس الحق الثمين، ولو في علاقة أخرى « الذي إذ تأتون إليه حجراً حياً مرفوضاً من الناس ولكن مختار من الله كريم، كونوا أنتم أيضاً مبنيين كحجارة حية بيتاً روحياً كهنوتاً مقدساً لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح ». فهنا نرى بيتاً روحياً مكوّناً من أعضاء حية؛ وهذا عينه ما يريد روح الله أن يذكِّر هؤلاء العبرانيين المسيحيين به. فهم لم يكونوا فقط شركاء الدعوة السماوية، ولكنهم كانوا بيتاً روحياً (إن كانوا حقيقة شعب الله) بيتاً مسكوناً ومشغولاً من الآن بذلك الضيف المبارك، الروح القدس، الذي هو نفسه، العربون الأكيد والبرهان القاطع على أنهم آخر الأمر سيكونون مسكن الله مع المفديين إلى الأبد. وهكذا - حتى هنا - نرى شعب الله منظوراً إليه كمسكنه أو بيته، وفي هذا يجد الإيمان مقدمة أو عربون راحة الله الأبدية، التي ستكون موضوع تأملنا بعد قليل. فالله يأتي ليستريح معنا هنا، وسريعاً سيأخذنا لنستريح معه هناك؛ تبارك اسمه إلى الأبد‍

والآن نأتي إلى ما يبدو نغمة متنافرة تدخل هذا المشهد الكامل من مشاهد النعمة. فإلى الآن لم يخطر على البال أي شرط متعلق بهذا الجمال. وهنا أود أن أبدي ملاحظة جانبية عابرة، وهي أننا في كلمة الله لا نجد أثراً لأي شرط، كما يقول مثلاً « فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح »؛ ليس "إن ثبتنا" بل « قد تبررنا ». وفي يوحنا3: 16 يأتينا القول إن كل من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية، بلا قيد أو شرط. وهكذا كلما كان الكلام عن النعمة المطلقة.

ولكن ماذا نجد هنا في العبرانيين؟ إننا أمام جماعة من المسيحيين المعترفين الخارجين من اليهودية، والآمال اليهودية لازالت تداعب قلوبهم، والميل القوي مع التجربة الشديدة لازال يراودهم نحو الرجوع إلى تلك الأركان الضعيفة؛ كانوا معرضين لأن يتركوا كل الحقائق المباركة التي أشرقت عليهم في إنجيل المسيح. وماذا يعمل الروح القدس الآن لمعالجة هذه الحالة؟ هل يقصد أن يزعزع ثقة أضعف مؤمن في المسيح؟ كلا بكل يقين، بل يثبتها على أساس قوي متين، أمتن وأقوى من كل وقت مضى. هل يقصد أن يحول العين إلى الداخل لكي نرى ونتحقق إذا كنا حقيقة في الإيمان، كما فعل الكثيرون بفهمهم الخاطئ للفصل الوارد في 2كورنثوس13؟

كلا البتة. إن الموضوع هنا « لاحظوه » حولوا أنظاركم إليه، وليس « لاحظوا طرقكم، جربوا أنفسكم.. امتحنوا أنفسكم ». ذلك هو السبب الذي من أجله يطلب إليك أن تثبت. والواقع أنه في حالة المؤمن الحقيقي ليس من الصعب التمسك بالثقة كاملة، فسيقول لنا بعد قليل « لا تطرحوا ثقتكم ». وكما قلنا نقول إنه في الحقيقة ليس أمراً صعباً التمسك بالثقة في مخلص كريم كهذا؛ فكم هو جدير بكل ثقتنا‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

إذاً، فما هو غرض روح الله؟ غرضه أن يحررهم من كل ثقة باطلة، وأن يوقظ ضمير أي واحد منهم قد يكون مجرباً، وأن يتمسكوا بالمسيح، وأن يتأكدوا أنهم ليسوا فقط بالاسم، بل بالحقيقة « أخوة قديسون شركاء الدعوة السماوية ». يخيّل إلى أنه مما ينطبق على جمعينا أننا مررنا في أوقات كنا ننكمش أمام كل فصل كتابي يتحدث عن شروط. إننا نذكر كم وقف الكثيرون منا خائفين مرتعدين عند هذا الأصحاح أو الأصحاح السادس أو الجزء الختامي من الأصحاح العاشر، ناسين كل التعزية المعطاة لنا في الفصول السابقة، أو اللاحقة التي تطالعنا بعمل المسيح ونعمة الله.

والحق لو أن شيئاً واحداً كان معتمِداً على أمانتنا، فعندئذ كان يحق لنا أن نفزع وأن نرتعد. فإذا كان خلاصنا يعتمد بأية درجة على أمانتنا الشخصية، فقد هلكنا إلى الأبد لا محالة. ولكن الغرض من الفصول والتحريضات هو تحريك العش؛ كما يحرك النسر صغاره ملقياً بها خارج العش ليرى هل هي قادرة أم لا على استخدام الأجنحة الموهوبة لها من الله لتطير، أم أنها ستهبط هاوية إلى الحضيض. وهكذا روح الله هنا، يهز عش هؤلاء المسيحيين العبرانيين ليرى هل لهم العين المثبّتة، بعمل الله نفسه، على رسول اعترافهم ورئيس كهنته. إن المعترفين الكذبة فقط هم الذين ينفرون من الإنذار، وهم الذين يسقطون.

« لذلك كما يقول الروح القدس: اليوم، إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم، كما في الإسخاط، يوم التجربة في القفر،حيث جربني آباؤكم؛ اختبروني وأبصروا أعمإلى أربعين سنة. لذلك مقت ذلك الجيل، وقلت: إنهم دائماً يضلون في قلوبهم، ولكنهم لم يعرفوا سبلي. حتى أقسمت في غضبي: لن يدخلوا راحتي. انظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي. بل عظوا أنفسكم كل يوم، مادام الوقت يدعى اليوم، لكي لا يقسى أحد منكم بغرور الخطية » (3: 7-13).

إذ يستمر الروح القدس متحدثاً إلى المسيحيين العبرانيين، فإنه يستخدم بطبيعة الحال تشبيهات مستمدّة من العهد القديم. فهو يستأنف تاريخ إسرائيل من حيث تركه؛ فقد تحدث عن موسى الذي كان أميناً في كل بيت الله، والآن يتحدث عن اختبار إسرائيل في البرية بحسب الجسد. فماذا كان ذلك الاختبار؟

في سفر الخروج - بصفة خاصة - نرى ماذا فعل الله؛ نرى تدبيره للنجاة من ضربة المهلك ليلة الفصح، نرى تحطيمه لكبرياء فرعون المضطهِد لشعبه وإرغامه على إطلاق الشعب، نراه يفتح أمامهم طريق الخلاص في البحر الأحمر، آتياً بهم إلى نفسه على أجنحة النسور. كل ذلك عمله الله دون سواه. وبعد ذلك نراه يقيم خيمته بكل خدمتها ومجدها، رمزاً لأشياء أفضل؛ هذا كله نراه معمولاً ومتمَّماً على أكمل وجه وأحسن صورة.

ولكنه استمر متتبعاً تاريخ إسرائيل في البرية، فما هي شهادة الله عنهم المرة بعد المرة: أغاظوا الله، أسخطوه وجربوه وتذمروا حتى وهم بعد في أرض مصر، إذ قبل وصولهم للبحر الأحمر قالوا لموسى: « هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية ». وكلما جئ بهم إلى موقف يدعوهم إلى الاعتماد على الله دون سواه، يظهر عدم إيمان قلوبهم بصورة جلية؛ وهكذا هو الحال دائماً، كلما جئ بالإنسان الطبيعي إلى موقف يستدعي الاعتماد على الله، يظهر عدم إيمانه بأجلى بيان. وهذا ما يؤكده الروح القدس هنا، فهو يأخذ تاريخ البرية ويعرج على سفر المزامير، كما فعل المرة تلو المرة، لكي يجمع من ذلك السفر الجليل - سفر الحمد والتسبيح - بكل ما في ذلك من معنى، بشهادة الله بشأن شعبه. إنه لأمر يدعو إلى التأمل العميق حقاً، فالجزء الأول من مزمور 95، المقتبس منه الفصل الذي نحن بصدده، يفيض بالحمد والتسبيح دون سواه « هلم نرنم للرب، نهتف لصخرة خلاصنا، نتقدم أمامه بحمد وترنيمات، نهتف له. لأن الرب إله عظيم، ملك كبير على كل الآلهة. الذي بيده مقاصير الأرض، وخزائن الجبال له، الذي له البحر وهو صنعه، ويداه سبكتا اليابسة. هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا لأنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده ».

لاحظ أنه إلى هذه النقطة لا توجد نغمة واحدة متنافرة؛ لماذا؟ لأن الكلام كله عن الله، والعين والقلب متجهان نحو الله القدير، مخلصهم وخالقهم، « صخرة خلاصنا ». فعندما يتفكرون فيه وينشغلون به، لا يسعهم إلا أن يدعو بعضهم بعضاً لكي يعلّوا اسمه معاً، ولكي يهتفوا له هتاف التهليل والفرح. نعم، فعندما يكون الله الكل في الكل، وعندما يكون المسيح أمام النفس، مالئاً للقلب، فعندئذ لا يكون هناك إلا للحمد والتسبيح. إننا نصبح شعباً هاتفاً مسبحاً، في طريق سيرنا في البرية، إذا كان المسيح نفسه مالئاً لقلوبنا وشاغلاً إياها. هذه هي مشيئة الله من جهتنا، إنه يريد دائماً أن يرى شعبه حامداً إياه، لقد أعطاهم قرار التسبيح والإنشاد بواسطة موسى ومريم على شاطئ البحر الأحمر « رنموا للرب فأنه قد تعظم ». إن هذه الأنشودة ما كانت لتخفت نبراتها، وما كانت لتعطى مكاناً للتذمر أو الخوف أو العصيان في أي وقت من الأوقات، لو أن عيونهم استمرت شاخصة إليه. لقد أنشد لهم النغمة الافتتاحية وأعطاهم قرار الأنتصار، وكان في استطاعتهم أن يمضوا طوال البرية وعلى شفاههم أنشودة السائح وفي قلوبهم فرح الغريب المسافر إلى الوطن. ونحن بدورنا نستطيع أن نفعل هذا لو أن قلوبنا متمسكة بالرب، مشغولة به وحده « صخرة خلاصنا ».

لكننا نلاحظ التغيير حينما ينتقل المرنم من الكلام عن الراعي إلى الكلام عن غنم مرعاه. فعندما تكون المشغولية بالراعي لا يكون هناك سوى الحمد والتسبيح والسعادة والغبطة؛ ولكن عندما نتحول إلى الغنم، فهناك الحاجة إلى الإنذار والتحذير. هذا هو الحال دائماً « اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر ». هنا النقطة الهامة، التي أرجو أن نكون قد لاحظناها؛ فطالما أن الله في محبته ونعمته يملأ النفس، فلا يمكن أن يكون هناك سوى التسبيح والحمد، ولكن عندما تتحول العين من الله إلى الإنسان فحينئذ تبرز الحاجة إلى الإنذار والتحذير ضد قساوة القلب وعدم المبالاة أو النسيان، كما هو الحال يوم الإسخاط في القفر. وبعبارة أخرى إن أردنا الدخول إلى راحتنا، فعلينا الاستمرار في طريقنا. فلا يكفي أن يقول إنسان "إني تعرفت بالرب وتغيرت منذ عشر سنوات"؛ هذا ليس المهم، وإنما المهم ما هو حالك اليوم. هل أمور الله هي موضوع اهتمامك المستمر؟ أم أن القلب مشغول بأمور العالم؟ لماذا نتكلم عن تغيير حدث منذ عشر سنوات في حين لا أثر له في الحياة في الوقت الحاضر. إنه لا يوجد شيء أدعى إلى الحزن من قلب تقسي بسبب النعمة المهملَة أو النعمة المحتقَرة، الأمر الذي يدل عليه تفاخر الناس بأمور فعلها الله من أجلهم في الماضي في حين لا يوجد أي أثر لقوة الحياة الإلهية في حاضرهم.

ليحفظنا الرب أيها الأحباء من القلب المتقسي، ومن احتقار نعمة محبته الطاهرة، فإذا كنا نفرح بمحبته نكون دائماً رقيقي القلوب مطيعين. « لذلك كما يقول الروح القدس »؛ لاحظ أنه لا يقول "كما يقول المرنم (ولا حتى داود)"؛ بل « كما يقول الروح القدس: اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم ».

هذا هو بالاختصار مضمون الفصل الذي أمامنا. ففي العددين12،13 يطبّق الرسول هذا الكلام على المسيحيين العبرانيين قائلاً « انظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي ». إنه لا يحذّرهم من الوقوع في خطية خارجية معينة؛ إن الخطية كما يتردد ذكرها في هذه الرسالة ليست الخطية الأدبية ولا أعمال الشر الأخرى؛ بل الخطية الجذرية التي تُنتج كل الخطايا الأخرى، هي خطية القلب الشرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي. فعدم الإيمان هو الخطية التي تتفرع عنها كل الخطايا الأخرى، وهو المصدر الذي تنبع منه كل أشكال الخطية، ولذلك فإنه في حديثه إلى المعترفين، يحذرهم الرسول من الارتداد عن الله الحي وإنكارهم للمسيح؛ هذه هي الخطية التي كانوا في خطر السقوط فيها.

يقول « انظروا »؛ إذا كنتم تريدون أن تستمر تسابيحكم، وإذا كنتم تريدون أن تمضوا في رحلة البرية بفرح في نفوسكم، انظروا أن لا يرتد أحدكم عن الله الحي، بل بالحري عظوا أنفسكم كل يوم ما دام الوقت يدعى اليوم. « اليوم » الذي فيه الروح يدعو، ويستمر حتى الوقت الحاضر؛ إنه دائماً « اليوم »، إلى أن ندخل الغد المشرق الذي أمامنا. وطالما أو « مادام الوقت يدعى اليوم »، فإنه من واجبنا أن يعظ أحدنا الأخر لئلا « يُقسَّى أحد منكم بغرور الخطية ».

ولاحظ القول « يُقسَّى »؛ إن الخطية شيء يُقسِّي، تجعل القلب والضمير متبلداً وأقل حساسية. ففي فرح المحبة الأولى يكون المسيح مالئاً القلب، وكل تفكير في الارتداد عنه عذاب للنفس. نعم، فمن ذا الذي يفكر لحيظة (وفرح المحبة الأولى في قلبه) في أن يتحول عن المسيح جرياً وراء أي شيء أخر؟ ولكن خطية عدم الإيمان تُقسّى. فإذا تحولت عن المسيح، وإذا سمحت للعالم أن يدخل بينك وبينه، أو فعلت كما كان يفعل أولئك الذين يخاطبهم الرسول إذ سمحوا بالاضطهادات من جانب، أو للرغبة في التمسك بديانتهم القديمة من جانب آخر، أن تتدخل بين النفس والمسيح. إذا دخلت هذه الأشياء وأمثالها إلى النفس فإن القلب يتقسى.

إن خطية عدم الإيمان خطية خادعة جداً، خطية مغررة، كما يسميها الكتاب هنا « غرور الخطية »، أي خداعها. إنها تفصل الإنسان، بطريقة غير محسوسة، عن غرض الإيمان؛ وقبل أن يتنبه الإنسان إلى الخطر المحدق تكون الإهانة المحزنة قد لحقت بالمسيح. وإذا كان ذلك الإنسان مؤمناً حقيقياً مثل بطرس، فإنه يُرد للتوبة، وإذا وُجد أنه فشل؛ فمن رماد الفشل وعدم الإيمان يعيد الله لمعان الإيمان مرة ثانية. فإن الطوفان الغامر الذي يسمح الله بأن يجلبه علينا، والشعور الساحق بالتذلل والحزن العميق بسبب فشلنا؛ كل ذلك يجعله روح الله فرصة لتلميع ذلك الإيمان وإظهار بريقه الذي كاد ينطفئ، وذات الحزن الناتج عن اختيارنا، يصبح وسيلته - له المجد - لرد نفوسنا إليه.

ولكن بما أن الرسول يتحدث عن مجرد الاعتراف، حقيقي وغير حقيقي، فإنه يوضح أثر الخطية على القلب، وكيف أنها تجعله عديم المبالاة وبارداً، وكيف أنها بعد ذلك تسمح لشيء آخر غير المسيح أن يأخذ مكانه، إلى أن تضيع قيمة المسيح وغلاوته لدى القلب، ومن ثم يعودون ثانية إلى الديانة اليهودية التي تركوها، إلى الظل بدلاً من الحقيقة، بحيث أن تلك الديانة تصبح الآن صنماً، بما أنها تأخذ مكان المسيح. وهكذا يتركون المسيح ويرتدون عنه، ذلك هو غرور الخطية وخداعها. ونحن، كمؤمنين حقيقيين يلزمنا أن يعظ أحدنا الآخر؛ ليس ضد هذا أو ذاك من الأعمال غير اللائقة فحسب، بل نعظ بعضنا البعض كل يوم لنلتصق بالمسيح بعزم القلب.

« لأننا قد صرنا شركاء المسيح، إن تمسكنا ببداءة الثقة ثابتة إلى النهاية، إذ قيل: اليوم، إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم، كمافي الإسخاط. فمن هم الذين إذ سمعوا أسخطوا؟ أليس جميع الذين خرجوا من مصر بواسطة موسى؟ ومن مقت أربعين سنة؟ أليس الذين أخطأوا، الذين جثثهم سقطت في القفر؟ ولمن أقسم لن يدخلوا راحته، إلا للذين لم يطيعوا؟ فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان. فلنخف، أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته، يرى أحد منكم أنه قد خاب منه! لأننا نحن أيضاً قد بُشرنا كما أولئك، لكن لم تنفع كلمة الخبر أولئك، إذ لم تكن ممتزجة بالإيمان في الذين سمعوا » (3: 14 - 4: 2).

لقد جعلنا شركاء، أو بعبارة أخرى « رفقاء » المسيح الذي مضى أمامنا، وهو يقود أبناء كثيرين إلى المجد. نعم لقد جعلنا « رفقاء » المسيح إن تمسكنا ببداءة الثقة ثابتة إلى النهاية. فالفكرة هنا ليست بالضبط، كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، عن بركاتنا في المسيح، بل عن مكاننا معه.

والعبارة التالية سؤال: فمن هم الذين إذ سمعوا أسخطوا؟ يجيب الرسول « أَ ليس جميع الذين خرجوا من مصر بواسطة موسى؟ ومن مقت أربعين سنة؟ أَ ليس الذين أخطأوا، الذين جثثهم سقطت في القفر؟ فكل الأمة التي أُنقِذَت فشلت عند الامتحان. لقد كُرز لهم ببشارة امتلاك أرض تفيض لبناً وعسلاً، ثم جئ بهم إلى البرية، فماذا كان الأمر هناك؟ سقطت جثثهم في القفر، إذ أسخطوا الله بتذمراتهم. لقد حدث الإسخاط العظيم عندما رجع الجواسيس حاملين في أيديهم ثمر الأرض، شهادة على أنها أرض طيبة، كما قال عنها الله. ولكن الشعب رجعوا بقلوبهم إلى مصر، رفضوا أن يدخلوا الأرض البهية واحتقروها بسبب قوة العدو العظيمة التي كانت مرابضة فيها. تذمروا وبكوا ورفضوا أن يدخلوا الأرض، وكانت النتيجة أن كل ذلك الجيل ما عدا اثنين منهم؛ كل الرجال الذين خرجوا من مصر، ما عدا كالب ويشوع، ماتوا في البرية.

لاشك أن الموضوع هنا لا يتناول خلاصهم الأبدي أو عدم خلاصهم، أو بعبارة أخرى خلاص « نفوسهم »، وإنما المقصود هو اعتبارهم نماذج أو رموزاً لأولئك الذين لا يدخلون أبداً راحة الله. فلقد أقسم في سخطه وغضبه أنهم لن يدخلوا راحته. وهم في ذلك، كما قلنا، نماذج للذين يعترفون بالمسيحية مجرد اعتراف في يومنا الحاضر، الذين يُكرز لهم بإنجيل، ليس عن دعوة أرضية بل سماوية، ومكان في المسيح؛ ولكنهم يرفضون الإنجيل ويرجعون عن المسيح قائدهم، كما رجع إسرائيل عن قائدهم موسى، فسقطوا في القفر رغم كل ما عمله الله لأجلهم. إنهم في هذا نماذج لأولئك الذين يقبلون المسيح ويحتملون التجربة بعض الوقت، ولكنهم ينكرونه ويرجعون عنه، كالمعبَّر عنهم بالأرض المحجرة في مثل الزارع المشهور، وهكذا يرجعون إلى ديانتهم الجسدية، وبذلك يفشلون في الدخول بسبب عدم الإيمان.

ذلك هو أصل الموضوع كله. إن الكلمة لم تنفعهم، لأنها لم تكن ممتزجة بالإيمان في الذين سمعوها. وما هو الذي ينفع الآن؟ قد يُكرز بإنجيل صافٍ، وقد تُعلن نعمة الله في كل جاذبيتها، وقد يُنادي بالمسيح بصورة تجعل الإنسان يظن أنها ستجذب إليه القلب والذهن ولا محالة، قد يحصل هذا كله؛ ولكن يبقى هناك شيء لابد منه، يجب أن تكون كلمة الخبر هذه ممتزجة بالإيمان في الذين يسمعون. فما لم يكن هناك إيمان حقيقي، وإن لم يمسك الإيمان بكلمة الله، فإنها تبقى بلا جدوى ولا منفعة. وقد يعترف الإنسان اعترافاً خارجياً، ولكن ذلك لا يُعتبَر شيئاً إذا لم يكن هناك إيمان حي إلهي حقيقي ممتزج بالكلمة. ولهذا يهيب بهم الرسول هنا منذراً ومحرِّكاً وجدانهم وشعورهم للخطر. فإذا كانوا مجرد معترفين، فإن شأنهم شأن ذلك الشعب القديم، لن يدخلوا راحته بسبب عدم الإيمان. نعم، هناك شيء واحد يمنع دخول الناس راحة الله؛ ذلك هو عدم الإيمان. قد يقول الإنسان إنه خاطئ كبير، ومن أجل ذلك لا يمكنه أن يطمع في الخلاص. وقد يقول إنه غير مستحق، ومن أجل ذلك لا يجرؤ على الثقة في الله. ولكن ليعلم الإنسان علم اليقين أن شيئاً واحداً يحفظ الإنسان خارج راحة الله، وأن ذلك الشيء الواحد، هو خطية عدم الإيمان.

إن أكبر الخطاة غير المستحقين، له كل الحق وكامل الحرية في الدخول إلى الله؛ إن هو آمن فقط، وإن هو قبل الإنجيل الذي يُكرز به له. إن مجرد الاعتراف لن يوصل الإنسان إلى السماء، إلى راحة الله؛ ولكن إن كان هناك إيمان صحيح، وإن كان هناك تمسك بنعمة الله في المسيح بالإيمان، فهناك حق واضح أكيد يقيني في الدخول إلى الراحة والحصول على المجد.

والآن دعنا نقرأ الفصل التالي الذي يتكلم عن هذه الراحة المجيدة التي أعدها للمؤمنين:

« لأننا نحن المؤمنين ندخل الراحة، كما قال: حتى أقسمت في غضبي: لن يدخلوا راحتي. مع كون الأعمال قد أكملت منذ تأسيس العالم. لأنه قال في موضع عن السابع هكذا: واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله. وفي هذا أيضاً: لن يدخلوا راحتي. فإذ بقي أن قوماً يدخلونها، والذين بُشروا أولاً لم يدخلوا لسبب العصيان، يعيِّن أيضاً يوماً قائلاً في داود: اليوم بعد زمان هذا مقداره، كما قيل: اليوم، إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم. لأنه لو كان يشوع قد أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يوم أخر. إذاً بقيت راحة لشعب الله! لأن الذي دخل راحته استراح هو أيضاً من أعماله، كما الله من أعماله » (4: 3-10).

لنلاحظ القول: « لأنه لو كان يشوع قد أراحهم (عندما أدخلهم إلى الأرض) لما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر ». هنا أيضاً نرى أن شرط البركة الوحيد، فيما يتعلق بنا هو الإيمان، فنحن المؤمنين ندخل الراحة. إن موضوع الكلام في هذا الجزء هو راحة الله المستقبلة، فالرسول يقول إن راحة الله في الواقع كانت منذ الخليقة « لأنه قال في موضع عن السابع هكذا واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله »، أي أن الله أكمل عمله واستراح؛ بهذا المعنى بدأت راحة الله (السبت)، غير أننا نقرأ، عندما كان سيدنا المبارك هنا على الأرض، قولة الكريم « أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل ». وتفسير ذلك أن راحة الله فيما يتعلق بالعالم قد شوهتها الخطية، لأن الله لا يمكن أبداً أن يستريح في مشهد الخطية. وكما عبر واحد عن ذلك تعبيراً جميلاً إذ قال: "إن القداسة لا يمكن أن تستريح حيث الخطية. والمحبة لا يمكن أن تستريح حيث الحزن"؛ « لقد اتعبتموني بخطاياكم يقول الرب ». إن الناس يُتعبون الله - أي يجعلونه يتعب ويعمل - بسبب خطاياهم. ولن تكون هناك راحة لله ما لم يقضِ نهائياً على الخطية. فإذا كان لله أن يستمر متعاملاً مع الإنسان بشكل من الأشكال، فلابد له من استئناف التعب والعمل الذي لا يعتبر عمل الخليقة شيئاً بالمقارنة معه، فالله قد أكمل هذا العمل واستراح، ولكن التعب الذي استأنفه، فور دخول الخطية إلى العالم بواسطة أبوينا الأولين، استمر يتزايد يوماً بعد يوم وجيلاً بعد جيل حتى يومنا الحاضر. نعم، إن الله لازال تاعباً؛ لقد تعب طوال العهد القديم كله، ثم أرسل الروح القدس يوم الخمسين، ولازال روح الله يعمل بيننا. إن عالمنا في الواقع مشهد هائل من مشاهد التعب الإلهي، حيث يحاول الله إقناع الناس أن يكفوا عن خطاياهم ليدخلوا راحته.

ويمضي الرسول بعد ذلك إلى عهد داود، فيقول إن يشوع قد جاء بالشعب إلى الأرض، فلو كان يشوع قد أراحهم، لتم بذلك قصد الله؛ غير أنه بعد ذلك بكثير، في عهد داود، نقرأ أن الشعب لم يكن قد استراح. وإذا أنت تتبعت تاريخهم من أوله إلى آخره، تجد أنهم لم يحصلوا أبداً على راحة صحيحة. وما معنى ذلك وما هي النتيجة؟ « إذاً بقيت راحة (سبت) لشعب الله ». وما هي هذه الراحة؟ ليست الراحة التي تحصل عليها النفس بالإيمان بالرب يسوع، فعندما قال سيدنا له المجد « تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم » إنما كان يقصد حصول النفس على راحة هي في الواقع عيّنة أو عربون للراحة المقصودة. أما بقاء الراحة لشعب الله فهو أمر باقٍ حيث المسيح الآن، أعني الراحة النهائية، وهذا المقصود بالقول أن الذي يدخل تلك الراحة، ليس فقط يستريح من أعماله للخلاص، بل من كل عمل، يستريح من التعب بمعنى التعب، لأنه وإن كان السجود والتسبيح سيستمران طوال الأبدية، فإن ذلك لن يؤثر بحال من الأحوال على الهدوء الذي يملأ أرجاء ذلك المكان المبارك، حيث لا يوجد أثر للخطية، وبالتالي حيث لا يوجد تعب بالمعنى المقصود من الكلمة.

إنه لأمر خطير له معناه الكبير أن الله فرض التعب على الإنسان عندما دخلت الخطية إلى العالم. فبعرق الجبين يحصل الإنسان على الخبز. لقد كان عليه أولاً أن يعمل الجنة ويحفظها، ولكن لم تكن هناك مرارة الخدمة والتعب. هكذا في الفردوس السماوي الذي ينتظرنا، راحة الله التي سندخلها، سيكون هناك نشاط، وسيكون هناك تعبد طوال الأبدية، ولكن بدون عناء وبدون تعب وبدون أي مشهد للخطية. تلك الراحة لازالت باقية. وكيف ندخلها؟ « نحن المؤمنين ندخل الراحة ». أَ هذا هو الذي ينتظرنا؟ أَ هذه هي الحقيقة الحية المباركة التي أمامنا الآن؛ راحة الله؟ الراحة التي لا يمكن للخطية أن تدخلها أو أن تعكر صفوها أبداً؟!

آه، إننا نعرف مدى الراحة التي لنا هنا بإيماننا بالرب يسوع، ونحن نعرف أيضاً مدى الراحة التي نختبرها ونحن نحمل نيره الهين الخفيف؛ ولكننا نعرف رغم ذلك أننا نئن « فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن » (رو8: 22). فمن أين ولماذا هذا التنهد وهذا الأنين؟

الواقع أننا نحن لن نحصل على المعنى الكامل لهذه الراحة ما لم يكن كل شيء في انسجام وتوافق مع طبيعة الله الكاملة. وهكذا، حتى في الخليقة الأولى، كان لابد أن يكمل العمل كله ويحكم على كل شيء أنه « حسن جداً » قبل أن يستريح الله. وهكذا في الخليقة الجديدة، كل شيء فيها يجب أن يكون متجاوباً مع الفكر الإلهي؛ فالخطية يجب أن تُستبعد أبدياً، والشر بكل أشكاله لابد أن يمحي، ونتائج الخطية - الآلام والأحزان وويلات الحياة والموت « آخر عدو » - يجب أن تُبطل. والكل أيضاً يجب أن يطبع بطابع البقاء والدوام بالمقارنة مع « التغيير والانحلال » السائد الآن.

عندئذ يصبح في الإمكان أن تستطلع كل الخليقة بآفاقها الواسعة، الكمالات الإلهية في لذّة وسرور. والسماوات لن يؤثر على انسجامها أي اضطراب، أو يلطخها دنس الوجود الشيطاني فيما بعد. والعروس، المدينة السماوية التي نورها ومجدها هو الحمل، والأرض الجديدة التي يسكن فيها البر؛ الكل يصبح موضوع رضاء الله المطلق. وعندئذ يُسمع دوي الكلمات « حسن جداً » مرة ثانية، والله نفسه يستريح من أعماله.

إن عمل المسيح هو الأساس الأبدي لهذه الراحة. فهناك تمجد بر الله وكل صفة من صفات الطبيعة الإلهية. وهذا هو السبب في أن سيدنا بعد إكماله العمل « جلس »، استراح منتظراً حتى توضع أعداؤه موطئاً لقدميه. والراحة الختامية هي نتيجة إتمام ذلك العمل المبارك، وبالروح نستطيع أن نستمتع بتلك الراحة من الآن، حتى مع كوننا محاطين بالكثير مما يشوه راحتنا الخارجية.

ولكن أيها الأحباء، نحن معدّون لراحة الله، وإلى أن ندخل راحة إلهنا لابد لنا أن نكون شعباً تعِباً. نحن في البرية، ولكن لنا أفراح الشركة مع إلهنا ومع بعضنا البعض، وهي عيّنات ومقدمات لأفراحنا الأبدية. ولكنها كثيراً ما تتعطل وتضطرب بفعل العدو وحسده. أليست حالة شعب الله المنقسمة في الوقت الحاضر، وحالة القلق وعدم الراحة التي نسهم جميعنا فيها، هي شهادة قوية على أننا في البرية وأننا لم ندخل بعد راحة الله؟ إننا نتوقع تلك الراحة، ونرنو بأبصارنا إليها. فلنُحرض أحدنا الآخر على أن لا يستمرئ أية راحة أقل من راحة الله الأبدية التي أعدها لنا كما هو مكتوب « إذاً بقيت راحة لشعب الله ».

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.