قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

18

الحكم الأول

قلت سابقاً، لست أرفض مناقشة النواحي الأدبية في موضوعنا. غير أن مشغوليتنا الحاضرة تدور بالضرورة حول ما ينبغي أن يسبق مثل هذه الاعتبارات. إن الحقائق يجب أن تكون أمامنا قبل أن يتسنى لنا تقديرها تقديراً صحيحاً وقبل أن يكون حكمنا حكماً سليماً. وما دمنا في سبيل البحث عن حقائق القضية فإن أية مناقشة أدبية في هذه المرحلة تكون سابقة لأوانها ويكون من شأنها تعطيل البحث وليس تعضيده.

إن موضوع العقاب على الخطية يهز كل مشاعرنا ويمس شغاف قلوبنا. ولكن هناك أمران، كثيراً ما يُنسيان، يجب أن نحملهما في بالنا ونحن نتناول هذا الموضوع بالمناقشة. الأمر الأول هو أننا نجلس قضاة في قضية نحن أصحابها. والثاني أن الخطية التي جلبت العقاب قد أضعفت فينا بالضرورة القدرة على الحكم الصالح. يجب أن نحمل في بالنا هذين الأمرين ونحن نتساءل إلى أي مدى نسمح لأي منهما أن يؤثر علينا ونحن نصدر حكمنا في هذه القصية دون أن ننحرف عن جادة الصواب. إن قلب الإنسان ليس فقط «نجيساً» بل هو أيضاً خدّاع. فهل من المنتظر أن قلباً كهذا يصدر حكماً عادلاً في قضية هي قضيته؟ وهل تقدير الخاطئ للخطية واستحقاقها يمكن أن يكون تقديراً صحيحاً؟ أليس هناك مصلحة ذاتية، وأليس هناك كبرياء قد تأبى أن تتنازل وتتواضع حتى تواجه الحق؟ آه .. من قلب الإنسان! من يعرفه؟

ولكن مهلاً فهناك من يعرفه، بل هناك من يعرف كل شيء. فهل أثق به؟ وهل تكلم الله بطريقة تجعلني أعرف يقيناً ما تكلم به؟ نعم. إنك قد تهز مشاعري البشرية المسكينة. تستطيع ذلك ولا شك. بل يمكنك أن تجعلني أتذمر ضد حكم الله على الخطية. فأنا كإنسان مُعرَّض لهذا. ولكنني أنظر إلى الصليب حيث تعلّق ابنه الحبيب لأجل الإنسان. فهل هناك أحاول إقناع نفسي أن لي قلباً أرق من قلبه؟ كلا. إن حكم عدو، وتقديره ليس تقدير شخص لا يتأثر أو يتألم. مكتوب أنه «بذل ابنه». ويا لعمق هذه الكلمة! ومع أن أحكامه قد تكون بالنسبة لإدراكي لُجّة عميقة ومع أني قد لا أستطيع متابعة طرقه التدبيرية إلا أن لي ما هو أفضل - ذلك أني أعرفه هو.

وهكذا أنت وأنا، أيها القارئ العزيز، يجب علينا أن نصغي لأقواله، ليس بقلوب قاسية عديمة التأثر بالآلام البشرية، بل بقلوب خاضعة لله. إن نظرة إلى الصليب في ظله القاتم الرهيب، الصليب الذي عليه عُلِّق ابن الله لأجلنا ومات، تعدنا خير إعداد لأن تكون لنا نظرة صحيحة للخطية ونتائجها في ظلها القاتم الرهيب. ولكننا لا نخاف من هول هذا الظل المرعب لأننا نعرف القلب الذي التصقنا به ونحن نجوس خلال هذه الظلمة المفجعة، ذلك لأن الخراف - شأنها هنا كما في كل مكان آخر - تعرف صوت الراعي الحبيب.

والآن دعنا ننظر إلى موضوع العقاب. وهنا يجدر بنا أن نتحرى ماذا كان عقاب الموت الذي صدر على آدم، وإلى أي مدى تأثر به نسله. لا شك أن أبسط طريقة نتبعها لتحقيق هذا الهدف هو أن نسأل أنفسنا ماذا يقول الكتاب عن نتائج الخطية الأولى.

واضح أن أكمل وصف يعطيه لنا الكتاب عن مدى تأثر نسل آدم بالخطية الأولى هو ما نجده في رومية 12:5 - 21 حيث نلاحظ ثلاثية أشياء هامة يطالعنا بها الرسول:

أولاً: «دخلت الخطية إلى العالم» و «جعل الكثيرون خطاة». هذا هو فساد الطبيعة وهو التركة المشئومة التي توارثتها الأجيال المتعاقبة.

ثانياً: «وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس». هذا هو موت جسماني، الموت الذي استطاع الرسول أن يقول دون أن يجرؤ أحد على الإنكار إنه «مَلَك من آدم إلى موسى» حتى في الأزمنة السابقة للناموس.

ثالثاً: «الحكم من واحد للدينونة» - وقد «صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة». هذا ما يعلنه الموت الذي جاء في أعقاب الخطية. إن موت الجسد هو العلامة على أن الطبيعة البشرية قد تلطخت بالدنس في كل تاريخها، وأن الله الذي عمل الإنسان، ولا يمكنه تبعاً لذلك أن يندم، قد حكم عليه بالهلاك.

ولو أردنا ربط هذه الأشياء الثلاثة في تتابعها المنطقي الذي لا تحيد عنه لجاءت هكذا: الخطية - الموت - الدينونة. سلسلة رهيبة مكونة من ثلاث حلقات فولاذية - إن جاز التعبير الإنساني البسيط - لا يملك الإنسان إزاء أي منها حولاً ولا طولاً، ولا يستطيع أن يفك الإنسان منها إلا القادر على كل شيء. وقد فكنا نحن المؤمنين بصليب ابنه، له الحمد إلى الأبد.

ولكن لنعد إلى موضوعنا. واضح من هذه الأشياء الثلاثة أن الشيء الأول، أي - الخطية - هي سبب الحكم المنطوق به وليست هي الحكم ذاته. أما الشيئان الآخران فأولهما هو الحكم وثانيهما متضمن فيه ومبين لنوعه. الموت هو الحكم، ولكن ليس كشيء استبدادي أو تحكمي صادر من مجرد مشيئة الخالق بل هو علامة طبيعية لحالة استجدت وعلاقة تغيرت بين الخالق والمخلوق تسببت عن السقوط. فالموت إذن (وأقصد الموت الجسدي بمعناه المتداول المعروف)، كان يتضمن بالضرورة تغييراً قد حدث في العلاقة الأدبية بين الخالق والمخلوق. ويتضمن وجود مسافة قد نشأت بين الإنسان والله. ولكن شكراً لله فإنه كان في فكره أن لا تقوم هذه المسافة الفاصلة بينه وبين الإنسان إلى الأبد. إنه في محبته وكامل شفقته كان سيُوجِد الوسيلة التي بها يتغلب على هذا الفاصل ويتخطاه. كان ذلك في فكره وفي مشوراته الأزلية. ولذلك فلم يكن الفاصل نهائياً بعد ولكنه كان موجوداً.

فالصعوبة كما أراها في فهم الحكم الصادر على آدم فهما صحيحاً «موتاً تموت» ناشئة من محاولة قصر الحكم الأول على الموت الجسماني، واعتباره بالتبعية فناء، كما يعلِّم أصحاب هذا المبدأ. ولكن الله، كما قلنا، كان في فكره مشروع رحمته العجيب الذي سيُحققه في وقته ولذلك فلم يكن ممكناً بطبيعة الحال أن يكون حكمه في ذلك الوقت مقصوداً به الفناء. لو أنه ترك الإنسان لنفسه، وليس لدى الإنسان من قوة لتخليص نفسه، لضاع الإنسان إلى الأبد، ولكن لم يكن في فكر الله أن يترك الإنسان لنفسه. وكما نعرف، الموت الجسماني الذي تخضع له رقاب جميع الجنس البشري، ليس هو نهاية تاريخنا بل بدايته. وإني أعتقد أننا نحفظ أنفسنا بدقة داخل حدود المكتوب إن نحن حرصنا على تفسير الحكم الذي صدر على آدم على أثر خطيته فيما يتعلق بموت الجسد، بأنه لا يتضمن بحال من الأحوال الفناء، بل يستهدف من ورائه الرحمة التي كان في فكر الله أن يصنعها. هذا التفسير وهذا الفهم للموضوع يزيل من مَخيلة الكثيرين ما يجدونه من صعوبة في فهم مضمون الحكم الذي صدر ويجعل كل شيء واضحاً ومتناسقاً كما أنه من الأهمية بدرجة عظمى لفهم العقاب الأبدي فهماً صحيحاً.

هذا يتفق طبعاً مع الحقيقة المعروفة وهي الموت الأول هو رمز وظل للموت الثاني كما أنه يتناسق تماماً مع الحقيقة الأخرى وهي أنه عندما يجيء الموت الثاني يبطل الموت الأول نهائياً. كذلك يتناسق هذا الفهم مع قول الكتاب في كل مكان إن الموت الثاني سيكون تالياً لدينونة مستقبلة يدان فيها الناس ليس لأجل خطية آدم على الإطلاق بل «حسب أعمالهم». كذلك يتناسق تماماً مع الحقيقة التي سنجدها فيما يلي من بحثنا وهي أن العهد القديم لا يتضمن أي إعلان مباشر عن الموت الثاني إطلاقاً وبالاختصار نجد هذا الفهم ينير أمامنا الطريق عندما نناقش موضوع الموت الأبدي نفسه من نواح كثيرة وهامة.

ولعل أمتع أسلوب نسلكه في هذا السبيل هو تتبع إعلانات العهد القديم فيما يتعلق بالحالة المستقبلة. ولكن قبل أن يتسنى لنا أن نفعل هذا يتحتم علينا أن نظر إلى الموضوع في مفرداته اللغوية لكي نفهم معاني المصطلحات المستعملة بالعلاقة به قبل أن ننظر إليه في جملته.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.