لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

سِفْر زَكَرِيَّا

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب الأخ رشاد فكري

 الأصحاح الحادي عشر

 ينقسم هذا الأصحاح إلى ثلاثة أقسام هي:

1- قضاء الله على الأرض (ع 1-6)

2- رفض الراعي الصالح، الراعي الحقيقي (ع 7-14)

3- الراعي الأحمق (ع 15-17)

***

أولاً: قضاء الله على الأرض   (ع 1-6)

«افتح أبوابك يا لبنان، فتأكل النار أرزك.  ولول يا سرو، لأن الأرز سقط، لأن الأعزاء قد خربوا.  ولول يا بلوط باشان[*]، لأن الوعر المنيع قد هبط» (ع 1، 2).

إذا عرفنا أن لغة هذه الأعداد لغة استعارية وتشبيهية اتضح لنا المعنى بسهولة.  ففي الأصحاح السابق وجدنا لبنان جزءاً من الأرض التي ستكون مكاناً لسكن وامتلاك الشعب مستقبلاً تحت سيادة المسيح في ملكوته الألفي السعيد، أما في هذا الأصحاح فالمقصود هو الجانب القضائي أي وقوع الخراب والدمار.  وعلى ذلك يكون لبنان هنا كناية عن إسرائيل نفسه في مجده وقوته كما يقول إرميا عن بيت يهوذا: «لأنه قال الرب عن بيت مَلِك يهوذا: جلعاد أنت لي.  رأس من لبنان.  إني أجعلك برية، مُدناً غير مسكونة.  وأُقدِّس عليك مُهلكِين، كل واحد وآلاته، فيقطعون خيار أرزك ويُلقونه في النار» (إر 6:22،7).  فالرب يُعْلِن قضائه على هذا الشعب قائلاً إنهم كانوا نظير جلعاد ولبنان وفخراً وجمالاً ولكنهم يصبحون برية يابسة، وهذا ما تم على يد نبوخذنصر.  وفي لغة مشابهة يقول حزقيال: «وكان إليَّ كلام الرب قائلاً: يا ابن آدم، حاج أُحجية ومَثِّل مَثَلاً لبيت إسرائيل، وقُلْ: هكذا قال السيد الرب: نسر عظيم كبير الجناحين .. جاء إلى لبنان وأخذ فرع الأرز .. وأخذ من زرع الأرض وألقاه في حقل الزرع، وجعله على مياه كثيرة.  أقامه كالصفصاف، فنبت وصار كرمة منتشرة قصيرة الساق.  انعطفت عليه زراجينها وكانت أصولها تحته، فصارت كرمة وأنبتت فروعاً وأفرخت أغصاناً.  وكان نسراً عظيم .. فإذا بهذه الكرمة عطفت عليه أصولها .. قُلْ: هكذا قال السيد الرب: هل تنجح؟ ألا يقلع أصولها ويقطع ثمرها فتَيبس؟» (حز 1:17-10).

فهذه الأعداد توضح لنا تاريخ صدقيا كما هو مدوَّن في سفري الملوك الثاني وسفر الأخبار الثاني (2مل 24، 25؛ 2أخ 36).  فصدقيا لم يتواضع أمام إرميا النبي من فم الرب وتمرَّد أيضاً على الملك نبوخذنصر الذي حلَّفَه بالله، ونقض عهده مع نبوخذنصر بالتجائه إلى ملك مصر، وكان من نتيجة ذلك وقوع القضاء عليه، والرب نفسه هو الذي فسَّر لنا هذا المَثَل، فأرز لبنان هو في الواقع إسرائيل نفسه وقد ميَّزَه الرب بالمجد والقوة.  والنسر الأول هو نبوخذنصر الذي أخذ من زرع الأرض (مثل دانيال والفتية الثلاث وغيرهم) وألقى هذا النسل في حقل مزروع أي في أرض مثمرة، وذلك أن نبوخذنصر جعل هذا الزرع أي البعض من إسرائيل على مياه كثيرة وأقامه كالصفصاف لكي تنعطف عليه زراجينه أي الزراجين التي تُشير إلى الأمة مُمَثَّلَة في صدقيا تنعطف على النسر الذي هو نبوخذنصر، وهذه كانت سياسة الإمبراطورية البابلية التي كانت ترمي إلى أن تتعاطف معها الممالك التي سيطرت عليها وتعتمد عليها ولا تستقل عنها ولكن الذي حدث هو أن الأمة مُمَثَّلَة في صدقيا أظهرت روح الاستقلال عن نبوخذنصر بالتجائها إلى النسر الآخر الذي يُشير إلى ملك مصر، وبلغة هذا الأصحاح استطاعت الكرمة التي تُشير إلى الأمة أن تعطف أصولها عليه أي على ملك مصر وعلى ذلك وقعوا تحت طائلة القضاء لأنهم لم يسمعوا كلام الرب على لسان إرميا الذي أعلن لهم أن كل تَمرُّد على بابل يُعتبر تَمرُّداً على الله نفسه.  وقد كان انعطافهم على نسر مصر سبباً لهذا التأديب القاسي وهذا معنى القول: «هل تنجح؟ أفلا يقلع أصولها ويقطع ثمرها فتيبس؟».

وهكذا الحال هنا نجد الأرز والسرو والبلوط والوعر المنيع وكلها استعارات تُشير إلى قوة إسرائيل ومجده، ولكن النبي زكريا يؤكد أن كل هذه ستزول وسوف تخرب الأرض بواسطة الأعداء الذين سيرسلهم الرب للقضاء كما سبق وأرسل نبوخذنصر للقضاء وأرسل تيطس الروماني سنة 70م وحاصر المدينة وأخرب الهيكل، كما أنه مستقبلاً بعد اختطاف الكنيسة ستتعرض الأرض والمدينة لغزو ما يُسمَّى بالتحالف الأشوري، وهذا ما وضحه النبي زكريا في أصحاحي 12، 14.

«صوت ولولة الرعاة، لأن فخرهم خَرِب.  صوت زمجرة الأشبال، لأن كبرياء الأردن خَرِبت» (ع  3).

إن الرعاة هم حكام إسرائيل، فقد ارتفع صوت ولولتهم كالنساء، لقد خرب وتلاشى كل ما كانوا يفتخرون به.  وفي لغة مُشابهة يتكلم إرميا «ولولوا أيها الرعاة واصرخوا، وتمرَّغوا يا رؤساء الغنم، لأن أيامكم قد كملت للذبح.  وأُبَدِّدكُم فتسقطون كإناء شهيٍّ.  ويَبيد المَنَاص عن الرعاة، والنجاة عن رؤساء الغنم.  صوت صراخ الرعاة، وولولة رؤساء الغنم.  لأن الرب قد أهلك مرعاهم.  وبادت مراعي السلام من أجل حمو غضب الرب» (إر 34:25-37).

ÿ  «صوت زمجرة الأشبال».  ربما تكون عبارة «زمجرة الأشبال» إشارة إلى الأفراد.  وفي لغة مشابهة يقول حزقيال: «أما أنت فارفع مرثاة على رؤساء إسرائيل، وقُلْ: ما هي أمك؟ لبوة ربضت بين الأسود، ورَبَّت جراءها بين الأشبال.  رَبَّت واحداً من جرائها فصار شبلاً، وتَعلَّم افتراس الفريسة.  أكل الناس.  فلما سمعت به الأمم أخذ في حفرتهم، فأتوا به بخزائم إلى أرض مصر.  فلما رأت أنها قد انتظرت وهلك رجاؤها، أخذت آخر من جِرائها وصيرته شبلاً.  فتمشَّى بين الأسود.  صار شبلاً وتعلَّم افتراس الفريسة أكل الناس .. فاتفق عليه الأمم .. فوضعوه في قفص بخزائم وأحضروه إلى ملك بابل، وأتوا به إلى القلاع لكيلا يُسْمَع صوته بعد على جبال إسرائيل» (حز 1:19-9).  هنا يعرض لنا الروح القدس تاريخ مملكة يهوذا في أواخر أيامها أيام يهوآحاز ويهوياكين وصدقيا، فتُشَّبه مملكة يهوذا هنا بلبوة رابضة بين الأسود، أي أنها مملكة بين الممالك التي على الأرض مطبوعة بطابعهم الأممي الوثني.  وقد ربَّت واحداً من جرائها فصار شبلاً وتعلَّم افتراس الفريسة، أكل الناس، فلما سمعت به الأمم أُخذ في حفرتهم فأتوا به بخزائم إلى مصر، لأنه ماذا يفعل الناس بأسد يأكل الناس لا علاج له سوى الحفرة والخزائم؟ وهذا هو مُلخَّص تاريخ يهوآحاز كما هو مُدوَّن في ملوك الثاني 31:23-34.  غير أن يهوآحاز لم يكن إلا عيِّنَة من العيِّنَات الكثيرة.  ولكن لما رأت المملكة أنها قد انتظرت وهلك رجاؤها، أخذت آخر من جِرائها وصيَّرتُه شبلاً فتمشى بين الأسود .. وهذا الكلام ينطبق على كل من يهوياكين وصدقيا الذي خلفه كما هو مُدوَّن في ملوك الثاني 8:24-28، 1:25-7.  هذه هي طبائع تلك الأشبال.  ولكن كانت النتيجة القضاء الذي تم بالسبي البابلي.  لكن الخزائم في هذه المرة كانت بواسطة ملك بابل.  والنبي زكريا يُعْلِن هنا أن ولاة العهد الملكي المَكْنِي عنهم بالأشبال زأروا لهزيمة مملكتهم والخراب الذي وقع عليها، ولكنه كان زئيراً بغير جدوى لأن الرب قضى على ملكهم بالزوال ففروا هاربين مغلوبين على أمرهم «تَرَك كشبلٍ عِيَصه (مخبأ الأسد بين الشجر)، لأن أرضهم صارت خراباً من أجل الظالم ومن أجل حُمُوِّ غضبه» (إر 38:25).

ÿ«لأن كبرياء الأردن خربت».  عبارة «كبرياء الأردن» هي حرفياً الأحراش التي تُعْرَف بأشجار البلوط التي كانت على جانبي النهر وكانت تغطيه فكان يبدو للناظر من بعيد مخيفاً وعظيماً.  أما مدلول هذا الكلام الروحي فهو زوال مجد وقوة هذه الأمة:

أولاً عندما سبي الأسباط العشرة التي كانت تُعْرَف بمملكة إسرائيل التي تم زوالها على يد الأشوريين فيما يُعْرَف بالسبي الأشوري، وظَلُّوا هكذا في حالة الشتَّات إلى هذا اليوم. 

وثانياً زوال هذا المجد والكبرياء الزائفة على يد تيطس الروماني سنة 70 م إتماماً لقول الرب: «إنك لو علمت أنت أيضاً، حتى في يومك هذا، ما هو لسلامك! ولكن الآن قد أُخْفِي عن عينيك.  فإنه ستأتي أيام ويُحيط بك أعداؤك بمترسة، ويُحْدِقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنك لم تعرفي زمان افتقادك» (لو 41:19-44). 

وثالثاً في الأيام الأخيرة بعد اختطاف الكنيسة عند هجوم الأشوري النبوي كما هو مذكور في نبوة يوئيل «شعب كثيرٌ وقويٌّ .. قدامه نار تأكل، وخلفه لهيبٌ يَحْرِق.  الأرض قدامه كجنة عدن وخلفه قفر خرب، ولا تكون منه نجاة .. قدامه ترتعد الأرض وترتجف السماء» (يؤ 2:2-10).     

***

كلمة تمهيدية ليسهل فهم الأعداد من 4-14

هناك ملاحظتان جديرتان بالانتباه:

أولاً: اللغة الحقيقية المستخدمة بواسطة الروح القدس، وإن كان يبدو أنها لغة النبي زكريا، لكنها في الحقيقة لغة الرب نفسه.  ولا غرابة في ذلك كما يذكر الرسول بطرس: «باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد للآلام التي للمسيح، والأمجاد التي بعدها» (1بط 11:1).  وعلى ذلك فالنبي هنا يتكلَّم كما لو كان المسيح شخصياً هو المُتَكلِّم.  واختبار داود الشخصي مثلاً لم يكن وحده الباعث على كتابة مزمور 22 ولكنه إذ كان يتنبأ فروح المسيح استخدمه وهو يُرتِّب الكلمات التي كان المسيح مزمعاً أن ينطق بها حتى يخيل لنا أن داود كان موجوداً ساعة الصَلْب؛ وهذا عين ما نجده في الأعداد من 7 إلى 14.

ثانياً: هذه الأعداد تعطينا توقعات الرب لإرساليته لهذا الشعب كما نراها في إنجيل متى.  فالمسيح بدأ يُعْلِن مهمته التي جاء من أجلها لهذا الشعب «من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات» (مت 17:4).  وعندما أرسل الرب تلاميذه «أوصاهم قائلاً: إلى طريق أُمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا.  بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.  وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب منكم ملكوت السماوات» (مت 5:10-8).  وهذا ما نجده في الأعداد من 4-6 حيث كان القطيع في حالة سيئة بسبب سيطرة هذه الفئات الثلاث وهم:

1- المَالكون وهم الرومان

2- البائعون وهم الهيروديسيون

3- الرُعَاة وهم الفريسيون

والنبي يخبرنا أنه أخذ عصوين لكي يبرهن بهما إكمال مهمته.  وهاتان العصوان إشارة إلى النعمة والقوة اللتين في المسيح ويريد أن يعطيهما لشعبه لكن ما الذي حدث؟ إن الغالبية العظمى من الشعب لم تقبله ولذلك نراه يفضل «أذلَّ الغنم» على الغالبية.

والرعاة الثلاثة الذين وجدهم في الأرض عندما كان بالجسد كما يخبرنا إنجيل متى هم: «الفريسيون والهيروديسيون والصدوقيون» (مت 15:22، 16، 23).  وهؤلاء هم الذين أسكتهم الرب عندما جادلوه.  لكن ماذا فعل المسيح بعد ذلك؟ كسر عصاه «نعمة» وهذا ما نراه في متى 23 حيث بدأ يُوبِّخ الرعاة الثلاثة توبيخاً شديداً وبذلك خسروا كل شيء عندما خسروا الرب.

أما أذلّ الغنم الذين ينتظرونه حسب كلمة الرب فهم البقية التقية الأمينة التي نجدها في متى 24.

بعد ذلك يأتي توقع الخيانة حيث يُبَاع الرب بثلاثين من الفضة وما تبع ذلك من موت المسيح.  وهذا ما نجده في متى 26، 27.  وعن طريق رفض المسيح من شعبه كسرت العصا الأخرى.

***

«هكذا قال الرب إلهي: ارع غنم الذبح الذين يذبحهم مالكوهم ولا يأثمون، وبائعوهم يقولون: مُباركٌ الرب! قد استغنيت.  ورعاتهم لا يُشفقون عليهم» (ع  4، 5).

يتناول الرب هنا قضية غنم الذبح أو القطيع المنهوب الذي ملكه الأمم ونهبوه ولم يشفق عليه رعاته، والرب وهو يُسلِّم الأمة لثمرة خطيتها يتحنَّن على قطيعه المسكين ويهتم بالمظلومين.  فالقطيع أي الشعب كله يُسَاق للذبح لأن رُعاتهم الثلاثة لم يُشفقوا عليهم.  ولتوضيح ذلك نقول إن الرب يسوع المسيح قد أُرْسِل من الله لكي يرعى شعبه وغنم مرعاه كما قيل عنه في إنجيل متى طبقاً لنبوة ميخا «وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مُدبِّر يرعى شعبي إسرائيل» (مت 4:2-6).  على أن الغنم التي أُقيم لرعايتها هي غنم الذبح.  ويوضح لنا النبي هنا مَنْ هو الذي ذبحهم.  الذين ذبحوهم هم هذه الفئات الثلاث:

أولاً: المَالكون وهم المُتَسلِّطُون عليهم من الأمم، وفي زمن وجود الرب بالجسد كان هؤلاء المالكون هم الرومان، وكانوا يذبحونهم ولا يأثمون كما نقرأ عنهم في إنجيل لوقا «وكان حاضراً في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خَلَطَ بيلاطس دمهم بذبائحهم» (لو 1:13).  كما سيكون هؤلاء الرومان المَالِكُون لهم مستقبلاً مُمثَّلِين في الوحش الروماني وذلك بعد اختطاف الكنيسة عندما يدخل رؤساء هذه الأمة ممثلين في النبي الكذاب في حلف صداقة مع سادتهم الرومان مُمثَّلِين في الوحش الروماني وهذا ما نجده في إشعياء 14:28-19.

ثانياً: الرُعاة وهؤلاء يُقال عنهم في العدد الثامن «وأبدت الرعاة الثلاثة[†]» وهم كما رأينا في إنجيل متى: الصَدُّقِيُّون (حزب العلم)، والفَرِّيسِيُّون (حزب الدين)، والهِيرُودُيسيُّون (حزب السياسة) (مت 15:22، 16، 23).  أما مستقبلاً فسيكون الرُعاة هم نُوَّاب الشعب المُؤيِّدُون للوحش.

«لأني لا أُشفق بعد على سكان الأرض، يقول الرب، بل هأنذا مُسلِّم الإنسان، كل رجل ليد قريبه وليد مَلِكِه، فيضربون الأرض ولا أُنقذ من يدهم» (ع  6).

يُعْلِن الرب هنا القضاء        على سكان الأرض أي الشعب المُرْتَّد الذين فضلوا قيصر على المسيح واعتبروه مَلِكهم، بل وطلبوا صلب المسيح مَلِكهم الحقيقي وفي جنون وكراهية وعداوة شديدة للرب قالوا: «ليس لنا ملك إلا قيصر» (يو 15:19) بسبب هذا سلَّم الرب سكان هذه الأرض للقضاء وهذا ما تمَّ سنة 70 م على يد تيطس الروماني كما وسيتم مستقبلاً كما رأينا في الأعداد الأولى من هذا الأصحاح.  لقد أراد الرب أن يجمعهم كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها لكنهم لم يُريدوا ونتيجة لهذا الرفض صرَّح الرب بالقضاء على أورشليم والأرض والبيت (أي الهيكل) (مت 37:23،38).

ثانياً: رفض الراعي الصالح؛ الراعي الحقيقي (ع 7-14)

«فرعيت غنم الذبح.  لكنهم أذلُّ [‡]الغنم.  وأخذت لنفسي عصوين، فسميت الواحدة نعمة وسميت الأخرى حِبالاً ورعيت الغنم» (ع  7).

لنلاحظ الفرق بين غنم الذبح المذكورة في العدد الرابع وغنم الذبح المذكورة في العدد السابع.  فغنم الذبح المذكور في العدد الرابع يُقْصَد بها الشعب كله الذي يذبحه المالكون والبائعون والرعاة كما سبق ورأينا.  أما غنم الذبح المذكورة هنا في العدد السابع فيُقال عنهم إنهم: «أذلّ الغنم»، أي أنهم أولئك الذين فَصَلوا أنفسهم عن بقية الشعب المُرتَّد ورَبَطُوا أنفسهم بالرب، هم البقية المُنفصلة عن الشعب القديم، حسب اختيار النعمة، والتي آمنت بالرب في مجيئه الأول (رو 5:11).  كما ستكون البقية المختارة مستقبلاً التي تنتظر الرب مَلِكاً وترفض النبي الكذَّاب وتفضِّل الاضطهاد والضيق الشديد الواقع عليها من هذا النبي الكذَّاب، وسيكون لسان حالها كما جاء في المزمور: «لأننا من أجلك نُمَات اليوم كله.  قد حُسبنا مِثْلَ غنمٍ للذبح» (مز 22:44).

ويُدعون حقاً «أذَلّ الغنم» لأنهم كانوا موضوع احتقار وازدراء وعدم تقدير من أغلبية الشعب، ولذلك ولأجل إيمانهم بالرب لهم غلاوة وتقدير عند الرب، لذلك يُسمِّيهم غنمه أو خرافه الخاصة ويدعوها بأسماء، كما أنهم وجدوا في الرب الراعي الصالح الذي بَذَل نفسه عن الخراف، وهو الذي يُريحهم ويُغذِّي قلوبهم بقوله إنهم مَحْفُوظُون ولا يخطفهم أحد من يده (يو 10).

ÿ   «وأخذت لنفسي عصوين».  كما رأينا في الأصحاحات السابقة أن زربابل يهوشع يُمثِّلان المسيح كالملك وكالكاهن، هكذا الحال هنا نرى النبي شخصياً يمثِّل المسيح.  والعصا في يد الراعي تُشير إلى السيادة والسلطان (حز 2:4، رؤ 5:12).  والمسيح كالراعي كان له الحق في رعاية وتدبير شعبه ومملكته.

والعصا الأولى تسمى «نعمة»، وهي ترينا أن الرب، تبارك اسمه، قد أتى لهذا الشعب بالنعمة «كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمةً وحقاً .. ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة.  لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صَارَا» (يو 14:1-17).

والعصا الثانية تسمى «حبالاً»، أي اتحاداً، فهو أتى لهذا الشعب بالنعمة، ولكي يجمع إسرائيل من شتاته ويربطه بيهوذا معاً كأمة واحدة.  وهذا ما نادى به الرب في البداية بالقول: «من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات» (مت 17:4).  ولو قبلوا الرب لتم لهم ذلك، لكن الذي حدث أن الرب أراد لكن هم لم يُرِيدُوا (مت 37:23).

«وَأبَدْتُ الرعاة  الثلاثة في شهر واحد، وضاقت نفسي بهم، وكرهتني أيضاً نفسهم.  فقلت: لا أرعاكم.  مَنْ يمت فليمت، ومَنْ يُبَد فليُبَد.  والبقية فليأكل بعضها لحم بعضٍ!» (ع  8، 9).

الرعاة الثلاثة كما مَرَّ القول هم: «الصدوقيون والفريسيون والهيرديسيون» (مت 15:22، 15، 23).  وهم يُمثِّلُون نُوَّاب الأمة المُؤيِّدِين للوحش الروماني في المستقبل.  أما عبارة «شهر واحد» فتُشير إلى طرق الرب التي سيُجريها في هذه الفترة، والتي عن طريقها أبَاد الرعاة الثلاثة.

ÿ   «ضاقت نفسي بهم».  أليس مما يدعو للدهشة أن الرب يضيق من عدم إيمانهم؟ فعلى الرغم من أنه جاء إليهم لكنهم أبغضوه ورفضوه بلا سبب.  لذلك قيل في إحدى المناسبات: «فنظر حوله إليهم بغضب، حزيناً على غلاظة قلوبهم» (مر 1:3-5).

ÿ   «وكرهتني أيضاً نفوسهم».  وهكذا برهنوا في كل خطوة طيلة المدة القصيرة التي قضاها الرب بينهم على كراهيتهم الشديدة له، والتي تجلّت في تفضيلهم «باراباس» عليه، ومطالبتهم بصلبه.  وهكذا ظهرت بوضوح هذه الكراهية التي لا حدود لها في الصليب الذي بيَّن قمة عداوتهم وكراهيتهم له.

ÿ   «فقلت: لا أرعاكم.  مَنْ يَمُت فليمت».  لذلك يعلن الرب أنه لا يرعاهم، وأنه سيُسلِّمهم للقضاء لكي يكونوا غنيمة لأعدائهم.  وفي سفر المزامير نجد نُبوات واضحة عن قضاء الرب عليهم، ففي المزامير التي تُعبِّر عن آلام الرب الكفَّارية من يد الله مثل مزمور 22 نجد النعمة تفيض للإنسان، أما في المزامير التي تُنبِّر عن آلام الرب من يد الإنسان مثل مزمور 69 فنجد القضاء.  على سبيل المثال، عندما قال الرب في مزمور 69 «ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً» (ع 21) نقرأ في الحال: «لِتَصر مائدتهم قدامهم فخاً، وللآمنين شركاً.  لتُظلم عيونهم عن البصر، وقَلْقِل مُتُونهم دائماً.  صُبَّ عليهم سَخَطَك، وليُدْرِكهم حُمُوُّ غضبك.  لِتَصر دارهم خراباً، وفي خيامهم لا يكن ساكنٌ» (مز 22:69-25).  والفرق بين الاثنين واضح: ففي مزمور 22  نجد بر الله ونعمته يتجهان إلى كل الذين يؤمنون بالرب يسوع، أما في مزمور 69 نجد الله يتعامل مع الإنسان طبقاً لمبادئ حكومته السياسية وقضائه بسبب أعمال الإنسان.  فالشخص الذي لا يقترب إلى الله في المسيح يجازيه الله حسب أعماله، وهكذا نجد مبادئ العدل تُجرَى على الذين رفضوا المسيح، فقد ظهرت نعمته لأولئك الذين «بأيدي أثمة صلبوه» وذلك عندما طلب لهم الرحمة والمغفرة (لو 34:23).  ولكن إسرائيل لم يرفض مَسيّاه ابن الله فقط، بل رفض الروح القدس أيضاً مُمَثَّلٌ في رجم استفانوس الذي كان ممتلئاً بالروح القدس، وكان من نتيجة هذه الجريمة أن تُركوا ليتحملوا نتيجة رفضهم وبخاصة القضاء المُعْلَن هنا في نبوة زكريا، وإتماماً للنبوة الواردة في إنجيل متى «فلما سمع الملك غضب، وأرسل جنوده وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم» (مت 7:22).  الأمر الذي تمَّ حرفياً سنة 70م على يد تيطس الروماني الذي هدم أورشليم وأحرقها.  كما سيتم هذا كلياً في أواخر الضيقة العظيمة عندما تجتاح جيوش الأشوري هذه الأرض وتحاصر المدينة.

«فأخذت عصاي نعمة وقصفتها لأنقض عهدي الذي قطعته مع كل الأسباط» (ع  10).

لكي يسهل فهم هذا العدد يجب أن تُقرأ عبارة «كل الأسباط» "كل الشعوب".  فالمقصود بكل الأسباط هنا، ليس إسرائيل فقط، بل كل الشعوب ومعهم شعب إسرائيل.  ونفس هذا المعنى نجده في نُبوة يعقوب «لا يزول قضيبٌ من يهوذا ومُشْتَرِع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوبٍ» (تك 10:49).  ولتوضيح ذلك نقول إن الرب يسوع مُمَثَّلاً في شخص النبي يأخذ عصاه «النعمة» ويقصفها لكي ينقض العهد الذي قطعه مع كل الشعوب؛ فإن رفض المسيح جعل من المستحيل جمع كل الشعوب تحت سيادة المسيح ليملك عليهم.  ولكن إن كان هذا الوعد لم يتم ونُقض، بسبب رفض اليهود للرب، لكنه لا بد أن يتم مستقبلاً عندما يأتي المسيح بالمجد والقوة في مُلكه العتيد.

وهنا يجب أن نُميِّز بين المواعيد المطلقة والمواعيد الشرطية[§].  ولكن في كلتا الحالتين فإن ما وعد به حقيقي، فإذا أعطى الرب شعبه وعداً شرطياً فهو يُتمِّمَه لو كمَّل الشعب الشرط.  وعلى هذا يمكن القول إن اليهود لو كانوا قد تابوا وقبلوا المسيح، لكان الله قادراً أن يُتمِّم وعده لهم، ولا يخالف ذلك شيء من نبوات العهد القديم[**].

ويُوضِّح الرب هذه الحقيقة بواسطة قصف عصا النعمة.  فالمسيح كان على استعداد أن يُنفِّذ عهده الذي قطعه مع هذه الأمة، ولكنها قد رفضت المسيح الذي كان سيُباركها، ومع بركتها يُبارِك الأمم.  وقد ترتَّب على هذا الرفض تأجيل تتمِّيم عهد الرب، لا مع شعبه فقط، بل مع كل الشعوب.  وهذا ما أشار إليه الرسول بولس في رسالة رومية وهو يتناول موضوع معاملة الرب مع شعبه: «فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا هذا السر، لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء: أن القساوة قد حصلت جُزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم» (رو 25:11).

«فنُقض في ذلك اليوم.  وهكذا علم أذلُّ الغنم المنتظرون لي أنها كلمة الرب» (ع  11).

أذلُّ الغنم هنا هم الذين يخاطبهم الرب بقوله: «طوبى للمساكين بالروح» (مت 3:5).  فمع أنهم فقراء، لكن أغنياء لأنهم مَلَكُوا الكنز الحقيقي والغنى والكرامة في المسيح.  لقد كانوا منتظرين الرب ليتمم وعده للشعب ولباقي الشعوب، فلما تأجل تتمِّيم ذلك العهد علموا أن هذه كلمة الرب التي أنْبَأت بهذا التأجيل؛ لأن سر الرب لخائفيه؛ الأطفال الذين أعلنت لهم مشيئة الله، كما قال الرب: «لأنك أخفيت هذه عن الحُكَمَاء والفُهَمَاء وأعلنتها للأطفال» (مت 25:11).

«فقلت لهم: إن حسن في أعينكم فأعطوني أُجرتي وإلا فامتنعوا.  فوزنوا أُجرتي ثلاثين من الفضة» (ع  12).

في إنجيل متى نقرأ القول: «حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر، الذي يُدْعَى يهوذا الإسخريوطي، إلى رؤساء الكهنة وقال: ماذا تُريدون أن تُعطوني وأنا أُسلِّمه إليكم؟ فجعلوا له ثلاثين من الفضة» (مت 14:26،15).  بينما نرى هنا في النُبوة أن الرب هو المُتكلِّم، وهذا يضع أمامنا مبدءاً هاماً في معاملات الله، فخطية يهوذا في ذاتها هي خيانة لسيده؛ لكن الرب يتخذ منها امتحاناً يمتحن به رؤساء الكهنة ليكشف مدى تقديرهم له، وكأنه بعمل يهوذا يقول لهم: «إن حَسُنَ في أعينكم فأعطوني أُجرتي» لعلهم يُفكِّرون تفكيراً حسناً ويقدرونه.  لكن ما هو الثمن الذي قدَّر به رؤساء الكهنة المُمَثلِّين للشعب ابن الله، مَسيّاهم وربهم؟ ثلاثين من الفضة!!! وإذا رجعنا إلى سفر الخروج لوجدنا أن هذه الثلاثين من الفضة هي ثمن العبد الذي نطحه الثور «إن نطح الثور عبداً أو أمة يُعطِى سيده ثلاثين شاقل فضة» (خر 32:21).  وهذا بلا شك تقدير يُعبِّر عن مدى احتقار هذا الشعب لربنا يسوع، تبارك اسمه.

ÿ«وإلا فامتنعوا».  لأنه لولا تقديرهم لخدمة يهوذا لمَا كان للمسيح في نظرهم أي تقدير، ولامتنعوا عن تقدير أي ثمن للمسيح حيث نقرأ القول: «فجعلوا له ثلاثين من الفضة».

«فقال لي الرب: ألقها إلى الفخاري، الثمن الكريم الذي ثمنوني به.  فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب» (ع  13).

ÿ«ألقها إلى الفخاري .. وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب».  نجد إتمام هذه النبوة في إنجيل متى حيث نقرأ «حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دِينَ، ندم ورَدَّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلاً: قد أخطأت إذ سَلَّمْت دماً بريئاً.  فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبْصِر! فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه.  فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لا يَحِلُّ أن نُلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم.  فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرةً للغرباء.  لهذا سُمِّي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم.  حينئذ تمَّ ما قيل بإرميا[††] القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة، ثمن المُثَمَّن الذي ثَمَّنُوه من بني إسرائيل، وأعطوها عن حقل الفخاري، كما أمرني الرب» (مت 3:27-10).

ÿ«فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها ..».  نجد هنا أن الرب نفسه هو الذي فعل ذلك.  ولا خلاف، فإن اقتباس متى لهذه النُبوة هو بالمعنى لا باللفظ.

ÿ   «فألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب».  وهنا أيضاً الفعل منسوب للرب بينما الذي فعل ذلك هم الرؤساء.  ولا تناقض في ذلك، فقد استخدم الرب أولئك الرؤساء كأداة لتتميم النبوة دون أن يقصدوا لأن الرب فوق الكل ويحوِّل مشوراتهم وأعمالهم إلى إتمام مقاصده رغماً عن خبثهم وغاياتهم الشريرة.

***

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالانتباه:

ندم يهوذا، ولكن ما عاد للندامة أي نفع، وردَّ الثلاثين من الفضة إلى رفقائه في السر لأنها صارت ثقلاً على قلبه وضميره لا يُطَاق حمله، وقال لهم: «قد أخطأت إذ سلَّمت دماً بريئاً».  لقد علم يقيناً ماذا فعل. «فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبْصِر!» فعندما أتاهم أولاً قال لهم: «ماذا تريدون أن تُعطوني وأنا أُسلِّمه إليكم؟» عندئذ فرحوا وتكلموا معه بغاية اللطف، ولكنهم بعد أن حصلوا على غاية قلوبهم لم يعودوا يُبالون به في ندامته ولا في إقراره ببراءة الرب.  لقد كان عليهم بحسب وظيفتهم أن يُرشدوا يهوذا إلى الحق، ولكنهم بالعكس شاركوه في الظُلم، ولما أقر بذنبه قالوا له: «أنت أبصِر!»، وعند ذلك طرح لهم الفضة في الهيكل ومضى وخنق نفسه.  وهكذا عادت فضتهم إليهم فصاروا يتشاورون فيما يصنعون بها.  ورغم إجرامهم استمروا متعصبين لديانتهم لذا لم يرضوا أن يجعلوها بين القرابين النقدية المُقدَّمة لله فاشتروا بها مقبرة للغرباء.  لقد أعمى الشيطان بصيرتهم في شراء دم ابن الله، لكنهم حافظوا على طهارة ما أسموه «خزانة بيت الرب»، فلم يريدوا أن يُدَنِّسُوها بوضع هذا المبلغ فيها.  ولكن الغُرباء من الأمم الذين كانوا يموتون في أورشليم احتاجوا إلى موضع لدفن جثثهم فلم يجدوا بأساً من أن يشتروا بهذه الفضة مقبرة للغُرباء، وبذلك أقاموا تذكاراً لإثمهم حيث سُمِّيَ الحقل: «حقل الدم».  وهكذا نرى الناس المتظاهرين بالتديُّن، ولهم صورة التقوى وهم مُنكرون قوتها، يكونون متعصبين لديانتهم، ومع ذلك يعيشون في شرور عظيمة.

***

ÿ«الثمن الكريم الذي ثَمَّنُوني به».  كلمات الرب هنا توضح لنا عمق شعوره بالألم لرفضه واحتقاره من خاصته! كم أحزن هذا قلبه المُحِب الرقيق؟ فالرب الذي فَدَاهم من مصر، والذي أتى إليهم حاضراً في وسطهم، كيهوه المُخلِّص، الظاهر بينهم كإنسان، بحيث لا يكون لشخصه ولا لنعمته أي تقدير؟ صدق فيهم قول الرب: «الرب تُكافئون بهذا يا شعباً غبياً غير حكيم؟» (تث 6:32).    

على أن لمقبرة الغُرباء هذه معنى نبوياً هاماً فهذه الأرض التي رُفِضَ عليها ابن الله وسُفِكَ دمه الكريم، سوف تَطوي في باطنها جثث القتلى من جيوش الغرباء، جيوش الوحش من جهة والأشوري مَلِك الشمال من جهة أخرى، وهكذا يتحقَّق فيها على أوسع مدى أنها «مقبرة الغُرباء».  وهذا انتقام العدل الإلهي من الأمم المشتركين مع أردياء اليهود في جريمة رفضه وصلبه.  وأول مَنْ نُفِّذ فيه هذا القضاء العادل هو يهوذا الإسخريوطي نفسه أول مسئول عن سفك دم المسيح.

«ثم قَصفْت عصاي الأخرى : حبالاً لأنقض الإخاء بين يهوذا وإسرائيل» (ع  14).

لاحظنا أن الرب قصف عصاه الأولى وهي النعمة في العدد العاشر، وذلك بعد أن رُفِضَ الرب من شعبه أثناء حياته، وبذلك أصبح من المستحيل جمع الأمة وبركة الأمم معها.  أما كسر العصا الثانية: «حبالاً» فأتت بعد بيع الرب بثلاثين من الفضة وصلبه بعد ذلك.  وهكذا نجد أن رفض المسيح الذي انتهى بموته قد أبعد الوقت الذي فيه يجمع إسرائيل والمُعبَّر عنه هنا بـ «الإخاء بين يهوذا وإسرائيل».  وهكذا نجد أن مشروع الله قد تعطَّل في هذا الوقت.  وكما نعلم أن العشرة الأسباط كانوا قد انفصلوا عن السبطين أيام يربعام بن نباط في عهد رحبعام بن سليمان، وحدث بعد ذلك أن العشرة الأسباط، بسبب انغماسهم في الرذيلة وعبادة الأصنام، أسلمهم الرب للسبي الأشوري وظلُّوا في هذا التشتُّت إلى الآن.  وبعدما كُسِرَت العصا الثانية «حبالاً» أصبح من المستحيل اتحاد إسرائيل ويهوذا معاً الآن، لكن لا بد من اتحادهما مستقبلاً عند ظهور المسيح ومُلكه كما هو واضح من النبوات فإشعياء يقول: «فيزول حسد أفرايم، وينقرض المُضايقون من يهوذا.  أفرايم لا يحسد يهوذا، ويهوذا لا يُضايق أفرايم» (13:11).  وفي نبوة حزقيال نجد التوضيح الجميل لهذا الحق: «وكان إليَّ كلام الرب قائلاً: وأنت يا ابن آدم، خُذ لنفسك عصا واحدة واكتب عليها: ليهوذا ولبني إسرائيل رفقائه.  وخُذ عصا أخرى واكتب عليها: ليوسف، عصا أفرايم وكل بيت إسرائيل رفقائه.  واقرنهما الواحدة بالأخرى كعصا واحدة، فتصيرا واحدة في يدك .. هأنذا آخذ عصا يوسف التي في يد أفرايم وأسباط إسرائيل رفقاءه، وأضم إليها عصا يهوذا، وأجعلهم عصا واحدة فيصيرون واحدة في يدي .. وأُصيِّرهم أمة واحدة في الأرض .. ومَلِكٌ واحدٌ يكون مَلِكاً عليهم كلهم، ولا يكونون بعد أُمتين، ولا ينقسمون بعد إلى مملكتين .. وداود عبدي يكون مَلِكاً عليهم، ويكون لجميعهم راعٍ واحدٌ» (حز 15:37-28).

وهكذا نرى من خلال خطية يهوذا ظهور النعمة التي تسمو فوق خطية الإنسان حيث ظهر لنا سمو مشورات الله ومقاصده الخاصة ببركة شعبه تحت سيادة الرب يسوع المسيح، هذا المشروع المُؤِّهل الآن، والذي سيتم عندما يأتي المسيح بالمجد والقوة.  وهكذا نرى أن غضب الإنسان يحمده؛ حيث لم تتمكن أعمال الشيطان أن تُوقف أو تمنع تتمِّيم مشورات الله من جهة تعظيم وتمجيد ابنه المحبوب وخير وبركة شعبه.  ولا يسعنا إلا أن نهتف مع الرسول بولس: «يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن مَنْ عرف فكر الرب؟ أو مَنْ صار له مشيراً؟ أو مَنْ سبق فأعطاه فيُكافأ؟ لأن منه وبه وله كل الأشياء.  له المجد إلى الأبد.  آمين» (رو 33:11-36).

ثالثاً: الراعي الأحمق (ع 15-17)

«فقال لي الرب: خذ لنفسك بعد أدوات راع أحمق، لأني هأنذا مُقيم راعياً في الأرض لا يفتقد المُنقطعين، ولا يطلب المُنساق، ولا يجبر المنكسر، ولا يُربي القائم.  ولكن يأكل لحم السِّمان وينزع أظلافها» (ع  15، 16).

رأينا في الأعداد من 7-14 النبي يمثِّل المسيح: الراعي الصالح والراعي العظيم، أما في الأعداد 15-17 فيصوِّر لنا: الراعي الباطل، الذي هو «ضد المسيح».

ونلاحظ أنه ما بين العدد الرابع عشر والعدد الخامس عشر فترة مجهولة الأمر، وإن كانت لا تذكرها نبوات العهد القديم لأنها لا تدخل في نطاقها، ألا وهي الفترة التي تكوَّنت فيها الكنيسة، لأن الكنيسة كانت سراً لم يُعَرَّف به بنو البشر في الأجيال السابقة لإعلان تكوينها، وعلى ذلك فنبوات العهد القديم لا تتعرَّض لهذه الفترة.  والراعي الأحمق هو «ضد المسيح» الذي سيظهر بعد انتهاء مدة وجود الكنيسة على الأرض أي في نصف أسبوع الضيق الذي يعقب اختطاف الكنيسة مباشرة.  ويُسمَّى هنا في هذه الأعداد بالراعي الأحمق، والراعي الباطل التارك الغنم، كما يُسمَّى بعدة أسماء أخرى في الكتاب مثل:

«إنسان من الأرض» (مز 18:10)، «المَلك المُتَعظِّم» (دا 36:11)، «الأثيم» (2تس 8:2)، «إنسان الخطية» (2تس 10:2)، «ضد المسيح» (1يو 18:2)، «الوحش الثاني الطالع من الأرض» (رؤ 11:13)، «النبي الكذَّاب» (رؤ 20:19). 

ولقد أخبر الرب زكريا أن يأخذ لنفسه أدوات راعٍ أحمق لكي يصوِّر لنا تصرفات ذلك الراعي الباطل الذي سيأتي باسم نفسه وسيقبله اليهود كما قال الرب (يو 43:5).  فإن كانوا قد سبق وفَضَلُّوا باراباس على المسيح الذي هو راعيهم، فلا عجب أن يُرَحِّبُوا بهذا الراعي الباطل.

والصفات التي يتصف بها هذا الراعي الباطل هي الصفات التي وصف بها حزقيال رعاة إسرائيل الأردياء: «يا ابن آدم، تنبأ على رعاة إسرائيل، تنبأ وقُلْ لهم: هكذا قال السيد الرب للرعاة: ويلٌ لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم.  ألا يَرْعَى الرعاة الغنم؟ تأكلون الشحم، وتلبسون الصوف وتذبحون السمين، ولا ترعون الغنم.  المريض لم تُقَوُّوُه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تَجبروه، والمطرود لم تستردوه ..» (حز 2:34-4).  فكل هذه الصفات الرديئة متمثلة في هذا الراعي الأحمق الذي سيتسلَّط على الشعب في أيامه الأخيرة.

وبالأسف على هذا الشعب فقد رفضوا الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف (يو 11:10) وفضلُّوا عليه الراعي الأحمق الذي يأكل السمان وينزع أظلافها.  رفضوا حَمَلَ الله وفضلُّوا عليه الذئب الخاطف الذي سيُهلكهم معه، ذلك الذي يُقال عنه: «يخطف ويذبح ويُهْلِك» (يو 10:10،13).

«ويلٌ للراعي الباطل التارك الغنم! السيف[‡‡] على ذراعه وعلى عينه اليمنى.  ذراعه تيبس يبساً، وعينه اليمنى تكل كلولاً!» (ع  17).

يعلن الرب هنا القضاء على النبي الباطل.  وإرميا النبي في لغة مشابهة يعلن قضاء الرب على أمثاله من الرعاة الكذبة فيقول: «ويلٌ للرعاة الذين يُهْلِكُون ويُبيدون غنم رعيتي، يقول الرب» (إر 1:23).

لكن ما هو القضاء الذي يعلنه الرب على هذا الراعي الأحمق، الراعي الباطل؟ السيف على ذراعه وعلى عينه اليمنى؛ والسيف هو أداة تنفيذ القضاء.  ويقول الرسول بولس عن إبادة هذا النبي الكذَّاب: «الذي الرب يُبيدُه بنفخة فمه، ويُبْطِله بظهور مَجيئه» (2تس 8:2).  فيده تُشَلّ عن العمل ولا تبقى في يده حيلة، ولا يرى لنفسه مخرجاً.  وسيَثْبِت الرب له أنه ليس إلهاً، بل هو إنسان عاجز، فالرب سيُذله ويُخفضه ويُنفِّذ فيه القضاء المُعلن عنه في سفر الرؤيا «فقبض (الرب) على الوحش والنبي الكذَّاب معه، الصانع قدامه الآيات التي بها أضَلَّ الذين قَبِلُوا سِمَة الوحش والذين سجدوا لصورته.  وطُرِحَ الاثنان حَيَّيْن إلى بحيرة النار المُتَّقِدَة بالكبريت» (رؤ 20:19).


[*]  تقع باشان شرق نهر الأردن وقد امتلكها الشعب قديماً بعد أن قتلوا ملكها عوج (عد 33:21-35)، ثم سكن فيها سبط رأوبين وسبط جاد ونصف سبط منسى (عد 33:32)، وقد سُبي السبطان ونصف بواسطة الأشوريين (1أخ 26:5).  وذكر باشان هنا يوضح لنا نبوياً هجوم الأشوري المستقبلي على هذه الأرض.

[†]  أو رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ (انظر مت 21:16).

[‡]  أذل الغنم معناها المساكين والحزانى.

[§]  حيث أن إتمام هذه المواعيد يتطلب وضع الأساس وهو موت المسيح الكفَّاري على الصليب، فنقول إن أمور الله كلها  معلومة عنده منذ الأزل فهو كان يعلم ما سيحدث من الشعب لإتمام مشيئته في الصليب.

[**]  لكن إذ كان معروفاً لدى الله أنهم لا يُتَمِّمُون هذا الشرط، ولا بد أن يتم صلب ربنا يسوع المسيح كالأساس لكل البركات، فيعلن لهم الرسول بطرس عن المسيح في صلبه بالقول: «هذا أخذتموه مُسَلَّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه» (أع 23:2).  ونرى مُشابهة لهذا في إعطاء الناموس، فالرب يعلم أنه لا يوجد مَنْ يُتمِّم هذا الناموس وإنما أعطاه لكي يكشف خطاياهم وعجزهم عن الحصول على أية بركة بالمجهود الذاتي ولكن الكل بالنعمة وعلى أساس كفاية المسيح.

[††]  واضح أن النبوة واردة في سفر زكريا، لكن إنجيل متى يقول عنها: «كما قيل بإرميا النبي القائل».  ولا تناقض في ذلك لأن سفر إرميا كان أول أسفار الأنبياء بحسب ترتيبه في مجموعها عند اليهود، ولذلك أُطلق على أسفار هذه المجموعة اسم إرميا، إذ اعتاد اليهود أن يُشيروا إلى مجموعة النبوات باسم السفر الأول في المجموعة، وعلى هذا لا يجوز أن ننسب خطأ للبشير متى كأنه لم يعرف أنه اقتبس هذا الكلام من أقوال زكريا.

[‡‡]  هنا السيف للقضاء على النبي الكذَّاب بعكس السيف في أصحاح 7:13.

افتتاحية * مقدمة ضرورية *

*  السابع

*  السادس

*  الخامس

 *  الرابع

*  الثالث

 *  الثاني

*  الأول

*  الرابع عشر

*  الثالث عشر

*  الثاني عشر

*  الحادي عشر

*  العاشر

*  التاسع

*  الثامن

 آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة Baytallah.com

 

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.