لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

عشــرون محاضــــرة في شــرح 

رســائل يوحنا الرسول

خادم المسيح وليم كيلي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

رسالة يوحنا الثالثة

الخطاب العشرون

« الشيخ إلى غايس الحبيب الذي أنا أحبه بالحق. أيها الحبيب في كل شيء أروم أن تكون ناجحاً وصحيحاً كما أن نفسك ناجحة. لأني فرحت جداً إذ حضر إخوة وشهدوا بالحق الذي فيك كما أنك تسلك بالحق. ليس لي فرح أعظم من هذا أن أسمع عن أولادي أنهم يسلكون بالحق. أيها الحبيب أنت تفعل بالأمانة كل ما تصنعه إلى الإخوة وإلى الغرباء. الذين شهدوا بمحبتك أمام الكنيسة الذين تفعل حسناً إذا شيعتهم كما يحق لله، لأنهم من أجل اسمه خرجوا وهم لا يأخذون شيئاً من الأمم فنحن ينبغي لنا أن نقبل أمثال هؤلاء لكي نكون عاملين معهم بالحق، كتبت إلى الكنيسة ولكن ديوتريفس الذي يحب أن يكون الأول بينهم لا يقبلنا ».

يصعب أن نتصور رسالة بها من المفارقات مع رسالة يوحنا الثانية ما هو أقوى من الرسالة التي أمامنا الآن، ومع ذلك فكلاهما نابتتان من أصل واحد مشترك وإنما يتخذ ثمرة الرسالة الثالثة لوناً مختلفاً بسبب اختلاف حاجات المسيحيين الموجهة إليهم، ففي المسيح لا توجد مفارقات حقيقية وإنما توجد مطابقات لا حد لها لمختلف حاجاتنا وإعوازنا، ومع ذلك فإن هدف كل من الرسالتين يختلف عن هدف الأخرى اختلافاً ظاهراً. فالرسالة الثانية تحمل أخطر إنذار يمكن أن يوجه إلى المسيحيين، ومما يزيد في خطورتها ويجعل لها صبغة عامة أنها ليست موجهة إلى أسقف أو ناظر ولا حتى إلى رجل من أمثال تيموثاوس وتيطس الذين كانا في نطاق محدود لسبب خاص يمثلان الرسول فيما له علاقة بما يجاوز دائرة مهمتهما المحلية، بل إلى سيدة مسيحية بغير اسم للعين والذي نراه في هذه الرسالة الثانية هو أن سيدة مختارة وأولادها مدعوون للقيام بالواجب الملقى على عاتقهم، ولم يكن الأمر متعلقاً لعمل جماعي أو كنسي بل بالأمانة الفردية للمسيح، وكان الأمر هكذا مشدداً حتى أنه كانوا ممنوعين من قبول المعلم الكاذب في البيت أو من التسليم عليه سلاماً عادياً لأنه كان ضداً للمسيح.

أما الرسالة الثالثة فتحمل أقوى وأعمق العواطف المسيحية باعتبارها موجهة إلى رجل مسيحي معروف بمحبته ولاسيما في العناية بالذين يعملون في كرم الرب غذ كان قلبه معهم في خدمتهم لامتداد العمل وتشجيعهم بكل ما لديه من قوة حتى عن كلمة « اقبل » هي طابع الرسالة الثالثة في حين « لا تقبل » هي طابع الرسالة الثانية، وقد يبدو هذا الأمر تعسفياً متناقضاً لدى الإنسان الطبيعي، ولكن ماذا يعنينا من الإنسان الطبيعي؟ إن الإنسان لا يقبل ا لروح الله لأنه عنده جهالة (1 كو 2: 14). فهنا التوجيه عكسي على خط مستقيم ولكنه في الواقع في تمام الانسجام ومبعث هذا الانسجام هو المسيح. لقد كانت هناك ولا تزال نفوس ربطت نفسها بحق المسيح هنا على الأرض، والكلمة في الرسالة الثالثة هي أن « نقبل » أمثال هؤلاء إذ يكفي أنهم يأتون بتعليم المسيح مع الافتراض بطبيعة الحال أنهم دائماً يسلكون بحسب المسيح ولا عبرة هنا بالوظيفة الدينية، فالكنيسة في تلك لأيام لم تكن قد وصلت بعد إلى حد الزعم بأن لها حق التدخل في حقوق سيدها ورأسها المجيد وحرية الروح القدس التي كان ينادي بها الرسل كانت ولا تزال محترمة. ومقياس الموهبة ونوعها في تلك الأيام، حينما لم تكن حدود الأبرشية قد اخترعت بعد، كان يختلف باختلاف الأشخاص. فقد يكون هناك من لا يستطيع أن يرى المسيح في كل جزء من أجزاء الكتاب، وقد يكون هناك من يرى ذلك بجلاء ووضوح. وقد يكون هناك آخرون ممن يسيرون وراء مجرد العاطفة والشعور ولو أنهم بعيدون عن المسيحية الحقيقة ولا همّ لهم إلا التفنن في الكلام وقوة التعبير. أما الإيمان والمحبة فهما شيئان يختلفان عن هذا كله كل الاختلاف، وهما الشيئان اللذان كانا يعملان في هؤلاء الخدام المحبوبين ويتجليان في إنكار ذواتهم وتعب خدمتهم، وهو ما كان يقدره غايس تمام التقدير من أجل الرب.

إن رسالة يوحنا الأولى التي تسمو فوق الشخصيات وتربط معاً في الإيمان والمحبة جميع القديسين في نظرتهم لشخص المسيح وفي شركتهم مع الآب وابنه الرب يسوع. وليست هناك رسالة تتناول كل عائلة الله بصورة كاملة شاملة كرسالة يوحنا الأولى. وليس هناك رسالة أقل منها ارتباطاً بزمن معين. ولكن الرسالة الثانية معنونة إلى سيدة مختارة وأولادها، والثالثة إلى الحبيب غايس ومن هذا الوجه تختلف هاتان الرسالتان عن الرسالة الأولى ومع ذلك فكلاهما ليستا إلا تطبيقاً خاصاً فردياً لنفس الحق والمحبة في المسيح الموضحين في الرسالة الأولى.

ففي الرسالة الثالثة نرى اتساع القلب بعمل الله هو الموضوع الخاص و « المحبة بالحق » هي مركز الدائرة فيها كما في كل الرسائل الثلاث، فإن غايس يرفض أن يتهاون في حق المسيح سواء بتأثير التملق أو التخويف. لقد قام شخص من ذوي القلوب الضيقة متخذاً لنفسه مكان الزعامة في الكنيسة حيث كان يوجد غايس وراح بسلطان مزعوم ينتقد الحق والمحبة ويحاول تدبير الأمور ليس بحسب المكتوب بل بحسب طريقته الخاصة، وقد حذا حذوه الكثيرون من ذلك الوقت فالخلافة مع الأسف ليست معدومة في هذه الناحية. لقد تمم الرسل والأنبياء عملهم ومضوا تاركين شهادتهم الموحى بهم والتي لا تقبل جدلاً أو مناقشة، ولكن الناس من ذوي الإرادة الذاتية موجودون في كل زمان ومكان ولا خلو منهم عصر ن العصور. وعلى ذلك فلنا في الكتاب أدق التعليمات كيف نعامل هؤلاء الناس وكيف نتصرف إزاءهم. ومن بين دروس هذه الرسالة أننا لا نبالي بهم بل نمضي في طريقنا ناظرين إلى المسيح، وسوف يأتي الوقت الذي فيه يذكر الرب بطريقته الخاصة أمثال هؤلاء المتزعمين المسيطرين بأعمالهم الخالية من المحبة وأقوالهم الخبيثة، ويكشف بالتوبيخ المناسب فراغهم الذي يحتقر السلطان الرسولي ويقاوم شهادة الإنجيل الناشط ويطرد من الكنيسة الذين يقفون ضد أمثال هذه التصرفات الخبيثة فنحن نفعل حسناً بعدم المشغولية أكثر من اللازم بما نشاهده في الآخرين من نقائص ولا بالسماح لتصرفاتهم بأن تكون باعثاً لنا على التحول عن طريق التكريس الحقيقي للمسيح، وعلينا أن لا نخاف من الكلمات الكبيرة التي يتفوه بها أناس يحاولون أن يرفعوا أنفسهم وحزبهم بدلاً من إتباعهم للمسيح، إن العلق بالمسيح والتمسك به بعزم القلب هو الطريق الوحيد للتخلص من الذات فهناك الطريقة المتكبرة وهي احتقار أمثال ديوتريفس بدون ولو مجرد الشفقة على نفسه، ولكن الشعور هكذا ليس من المسيح الذي يدعون بأن نتمثل ليس بالشر ل بل بالخير.

والمبدأ الجوهري العظيم، سواء أكان الأمر متعلقاً بالكنيسة كمجموع أو بالمسيحي كفرد، إنما هو الطاعة، وبصفة خاصة حيث لا يوجد الادعاء بالقوة فالخضوع للكلمة هو من الرب. هنا الاتضاع كما هنا أيضاً الثبات. إن الخضوع للكلمة يهب النفس الشجاعة كما يهبها في الوقت نفسه التواضع مع الاتكال الكلي على ذاك الذي نؤمن به والذي له الأذنان المصغيتان والذي يحامى عن كلمته ويبررها. إن الحق لا يمكن الاستغناء عنه ولكنه ليس كل شيء. فالحق وحده لم ولن يصنع مؤمناً متواضعاً محباً إذ يتمسك به الإنسان عادة بطريقة جافة قاسية ناموسية. ولكن لا يمكننا أبداً أن نستغني عن شخص المسيح الحي وهو مستعد دائماً وبابه مفتوح وفي كل لحظة لقبول وتعضيد جميع من يأتون إليه،وقد أعطانا الله أن نجد جميع موارد المسيح في محبته باعتبارنا في يده كما أننا في يد الآب.

« الشيخ غايس الحرير » هنا يفصح الرسول عن مكنون قلبه ويأخذ حريته في التعبير خلافاً لما فعله حين كان يخاطب السيدة. وهذه حكمة إلهية في لغة الكتاب. فلكل شيء مقامه ولكل شيء مقاله. فإن عبارة « السيدة المختارة » تذكرنا فوراً بالله صاحب الاختيار في حين تستطيع العاطفة أن تفيض لغايس في أمن وسلام وفي أبسط صورة. لذلك قد قاد الروح القدس يوحنا لأن يختار الكلمة المناسبة وهي « المختارة ». فإذا كان الله قد اختارها فذلك ليس للتسليم لإبليس بل لمقاومة إبليس الذي لابد وأن يهرب حينئذ. لاشك أن التجربة التي أحاطت بهذه السيدة كانت تجربة قاسية وصعبة للغاية. فالسيدات ينفرنا بالغريزة من عمل أي شيء لا يتفق مع لطفهن كسيدات. فكم كان قاسياً أن تمنع من الدخول في بيتها شخصاً ربما كان صديقاً قديماً من أصدقاء الأسرة، وتمتنع حتى عن مجرد تحيته التحية العادية! لاشك أن هذا التصرف يبدو شيئاً قاسياً في نظر الذين لا يحبون ربنا. مع ذلك ذات الشيء الذي يأمر به روح الله. وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك حيث شخص المسيح موضع الهجوم ونحن مدعوون لأن نكون جنوده؟

إن « السيدة المختارة » مرتبطة بمجد المسيح وكرامته ككل من مات من أجلهم وقام. وما من مسيحي يستطيع أن يتحلل من هذا الواجب. وعلى كل حال، فهذا كل ارتآه روح الله صالاً في الأيام الأولى. والسؤال الآن هو ماذا نحن عاملون وبماذا نُعَلَّم؟ ربما كان هذا الشخص الواسطة في تجديد هذه السيدة أو تجديد  أولادها ومن الجحود وإنكار الجميل أن يقاطعوه بهذه الصورة. ولكن الظروف قد تغيرت إذ أصبح الآن عدواً للمسيح بدلاً من كارز حقيقي به. ولعل الرجل لم يكن يقاوم تعليم المسيح مقاومة علنية إذ يجب أن نحمل في بالنا أن أمثال هؤلاء الخادعين قد يكونون هم أنفسهم مخدوعين يقودهم الشيطان لن يظنوا أنفسهم محبين للمسيح أكثر من المسيحيين الحقيقيين وأن تعليمهم هو التعليم الصحيح الذي يأتي بحق أسمى وجديد.

هذا في الرسالة الثانية أما في الرسالة الثالثة فالواجب من نوع آخر. فلو اقتصر الأمر على الرسالة الثانية ربما أدى ذلك بنا إلى أم مصبح متعصبين قساة متشككين ولكن الرسالة الثالثة تحرضنا بأن نفتح صدورنا وأن نقبل بكل قلوبنا بعد أن تُعَرِفنا من نقبل. فإذا كان هناك أناس خطرون يجولون محاولين الدخول بين صفوف القديسين فهناك أيضاً رجال صادقون يجولون جادين في نشر تعليم المسيح وحقه الصادق الصحيح وكان على السيدة المختارة أن تحذر الرجال الخبثاء مهما كانوا بحسب الظاهر، كما كان على الأخ المحبوب أن يثابر على المحبة القلبية للصالحين الصادقين. يحدث أحياناً أن يصدم مثل هذا الأخ إذ يلاقي خيبة أمل مرة أو مرتين، وهو لا يرضى لنفسه بأن يخدع أو يؤخذ بالحيلة على هذه الصورة، وقد تعثره حالة مثل هذه فيصمم على التزام الشدة حتى لا تتكرر المأساة.

وعلى كل حال يكتب الرسول مشجعاً غايس في طريق المحبة. فليس يكفي أن يبدأ الإنسان حسناً بل الأعظم والأهم هو النمو في المحبة وعدم الكلل في عمل الخير ومن أجل ذلك يقول الرسول عن غايس « الذي أنا أحبه بالحق » هذا هو الأساس المشترك في الرسالتين. المحبة بالحق. فمهما يكن الفرق في التطبيق والهدف فإن المحبة بالحق هي العلامة البارزة في كل منهما، « أيها الحبيب، في كل شيء أروم أن تكن ناجحاً وصحيحاً كما أن نفسك ناجحة (عدد 2). يا لها من أمنية بسيطة عظيمة فائضة بالعطف والحنان »!

أي نعم،، فلا عجلة هناك للدخول فوراً في صميم الموضوع. وهذه في الواقع إحدى مميزات الكتاب الجميلة. فهناك القلب الفائض بالحب والتقدير من نحو أحدنا الآخر بصفة عامة ويجب  أم يكون لعواطف القلب مكانها الأول ما لم يكن هناك خطر جسيم يتطلب سرعة التنبيه والإنذار كما هو الحال في الرسالة إلى القديسين الغلاطيين. ولكن بما أنه لا يوجد مثل هذا الخطر هنا فللرسول أن يعطي لقلبه مجاله ويؤكد لغايس قبل كل شيء مبلغ اهتمامه الشخصي به وبأحواله. فهو يروم أن يكون غايس ناجحاً في كل شيء. ولاحظ القول « في كل شيء » ليس « فوق كل شيء » فالعبارة الثانية قد تسمعها من أولئك الذين يغالون في الروحنة فيقولون أنه مهما كانت شئوننا فاشلة ومهما كانت صحتنا رديئة فالأمر الوحيد المهم هو أن تكون النفس ناجحة. ولكن الرسول الذي يكتب بالوحي لا يذهب هذا المذهب ولا يقر هذا التحمس الذي لا يبالي بنجاح الأخ من عدمه. كلا، إنه عن شعوره الأخوي الصحيح الذي يود للأخ كل نجاح وإنما يحرص على إعطاء المكان الأول كشيء طبيعي لنجاح النفس. فإذا اهتممنا بهذا وكان أمراً حقيقياً فإننا نستطيع بصفة عامة أن نعتمد على اهتمام الرب بشئوننا أو أشغالنا كما بصحة أجسادنا. إن إلهنا المنعم الجواد، إذ كانت نفوسنا ناجحة، يُسَر بأن يرانا أصحاء في أبداننا وناجحين في كل أعمالنا. إن شعور رؤوسنا جميعها محصاة عنده. فإذا كان عصفور واحد لا يسقط إلى الأرض إلا بإذنه، وإذا كان يهتم بالغربان وزنابق الحقل، فكم لنا فيه من آب يهتم بكل أمورنا اليومية وبكل شأن من شئوننا.

نحن نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا من الله بناء أمجد، وإن كان إنساننا الخارج يفني فالداخل يتجدد يوماً فيوماً. هذا هو أسمى حق يجب أن يكون له الاعتبار الأول. ومع ذلك فها هنا هذا الأخ الصالح الذي برهن على محبته ورقيق عواطفه بالعناية بالآخرين ولا سيما الذين تركوا كل شيء ليخدموا الرب يسوع وها هنا الرسول يشتاق، وقد رآه ناجحاً في نفسه، أن يراه أيضاً ناجحاً في كل أموره وأن يكون كل حين في صحة جيدة ليكون مبتهجاً وخالياً من كل همٍّ وغير معوق بشيء.

وأحياناً لكي يتسنى للنفس أن تكون ناجحة، يسمح الله بأن يحطم مشاريعنا التي ابتلعتنا وملكت علينا تفكيرنا وإذا لم يكن هذا، فإنه يؤدبنا بالمرض الجسدي. وهكذا يأخذ الرب الصنم ويحطمه تحطماً. وهذا من نعمته وجوده. قد يكون الأمر مؤلماً بطبيعة الحال، ولكن قلوبنا ترضى بما يعمله الرب ليزيل شركاً من طريقنا ويرد نفوسنا إلى مكان إكرامه والتمتع به. وأحياناً قد يركن الله خادماً غيوراً لكي يعلمه أن الله يستطيع أن يعمل عمله بدونه. فقد انصب في التعليم والكرازة للآخرين وانزلق إلى قلة الاهتمام بحالة نفسه وشركتها مع الله. والرب في صلاحه ومحبته يتداخل بالتقويم ويحول مرضاً بسيطاً إلى خير عميم. ولكن هنا، حيث كانت نفس غايس ناجحة، فإن الرسول يروم نجاحه في كل شيء آخر كما يتمنى له الصحة في بدنه أيضاً.

« لأني فرحت جداً إذ حضر إخوة وشهدوا بالحق الذي فيك كما أنت تسلك بالحق » (ع 3).إن الحق كان يبهج قلب الرسول. وغايس كان يسلك بالحق. وهذا كان دليلاً على أن نفسه كانت ناجحة. فالعطف على الإخوة والتفكير في صالح الآخرين، والنجاح في شئونه وفي صحته – ماذا كان هذا كله بالمقابلة مع الحق الذي فيه وسلوكه بحسب الحق؟ وتلك كانت شهادة الإخوة عنه الأمر الذي كان مبعث سرور عظيم لقلب الرسول. كان غايس يطلب أولاً ملكوت الله وبره، وكل ماعدا ذلك كان يزاد له. لم يكن قلبه موضوعاً على شئونه الخاصة. لم يكن يحيد قيد شعرة عن حق المسيح، ولم يكن الحق عنده شيئاً ثانوياً بل كان دستوره وقاعدة سلوكه. وكان الأمر موضوع شهادة صريحة من الآخرين إذ « حضر إخوة وشهدوا بالحق الذي فيك ». لو أن غايس هو الذي كان يتكلم عن هذا لجاز أن يكون في الأمر قولان. ذلك لأنك لن تجد أحداً ممن يحبون الحق ويسلكون فيه ويتصايح بالكلام عن أمانته وخدمته. فعلى قدر ما يحب الإنسان الحق ويتمسك به على قدر ما يحكم على تقصيره في خدمته وحياته اليومية.

« ليس لي فرح أعظم من هذا أن أسمع عن أولادي أنهم يسلكون بالحق » (ع 4). ليس الأمر فيما بعد خاصاً بأولاد السيدة المختارة كما في الرسالة الثانية بل « أولادي » – أي أولئك الذين كانوا مرتبطين بالرسول رابطة روحية والذين كان غايس واحداً منهم وكانوا لهذا السبب أعزاء على قلب الرسول. إن غايس لم يبدأ حسناً فقط بل استمر يسير حسناً في مواجهة الشر. ومع ذلك كانت هناك الحاجة لتشجيعه، وها هو التشجيع يأتيه بصورة رقيقة وحكيمة « أيها الحبيب أنت تفعل بالأمانة كل ما تصنع إلى الإخوة وإلى الغرباء الذين شهدوا بمحبتك أمام الكنيسة الذين تفعل حسناً إذا شيعتهم كما يحق لله » (عد 5 و 6).

لعل الكلمات التي كان يستخدمها معظم المسيحيين في وصف هذا التصرف من جانب غايس هي كلمات فعل الخير أو البر أو الإحسان أو التقدير أو الكرم أو السخاء أو المحبة. ولكن كلا. ولا واحدة من هذه الكلمات تصور مسلك غايس التصوير الصحيح. فإن مسلكه كان مبعثه الأول الأمانة أمام الله. ولاحظ أن كلمة « بالأمانة » هنا معناها « بالإيمان » أو بفعل الإيمان،. أي نعم، فإن الإيمان دائماً يستحضر الله بطريقة معينة كما يستحضر المحبة بطريقة أخرى. الإيمان يستحضر كلمة الحق ويسير في نورها كما أن المحبة هي نشاط المحبة الإلهية العالمة بالعطف والإنعام.

والشق الأخير من العدد الخامس يعني في الأصل « إلى الإخوة الغرباء » أو « إلى الإخوة وهذا إلى الغرباء » بحسب أدق الترجمات. فالنقطة هنا هي أن غايس كان يظهر المحبة للإخوة ليس باعتبارهم أصدقاء قدماء بل حينما يكونون غرباء. والكتاب الصحيح في التعبير عن الأهمية التي يعلقها الله على المحبة من نحو الغرباء ولو أنهم يمتازون هنا برابطة إضافية هب كونهم إخوة. إن أولاد الله أقرب إلى الله من الملائكة. ولهذا السبب يمكننا القول أنه يجب أن يكون أهم في نظرنا أن نكرم إخوتنا -  إخوتنا الغرباء – من أن نكرم ملائكة. ولكن ما أبعد ما قلبت الخرافة الحق وما أكثر ما شوهت الطبيعة علاقتنا بالله.

إن كثيرين من القديسين يميلون بالحب نحو خدام الرب الذين يعرفونهم ويعجبون بهم ولكنهم يتحفظون من الإخوة الغرباء الذين لم يسمعوا عنهم. أما محبة غايس للإخوة الغرباء فقد حظيت باستحسان الرسول وموافقته الصريحة. « شهدوا بمحبتك » أمام الكنيسة. إن « الإحسان » أو « البر والإحسان » وما شاكل ذلك من التعبيرات لها معان أخرى لا مكان لها في قاموس الكتاب، لا تمت بأية صلة للحالة التي نحن بصددها، كما إنها دون المقياس الإلهي المطروح أمامنا. المحبة هي أساس السلوك الإلهي. لقد أخذ روح الله هذه الكلمة التي كانت على لسان الوثني ذات قوة جسدانية توجيهاً طاهراً مباركاً وجعلها كلمة مسيحية وهكذا قدسها إلى الأبد.

ولكن الرسول يطالب المحبة بالمزيد كما هو شأنها دائماً « الذين تفعل حسناً إذ شيعتهم كما يحق لله ». حتى ولو أن محبة غايس قد أساء البعض استعمالها فإن الرسول لا يريد لها التوقف. فهؤلاء الإخوة كانوا مسافرين إلى مكان آخر والكلمة لغايس هي « الذين تفعل حسناً إذ شيعتهم كما يحق لله » ليس بحسب فكر الإنسان أو تقواه بل كما يحق لله، لأن الله محبة والمحبة من الله. قد يكون الأمر متعلقاً بشيء صغير هنا على الأرض، ولكنه يربط نفس الإنسان بالإيمان والمحبة بما هو غير منظور وأبدي، بالله الذي يبارك إلى الأبد.

ومع ذلك فالرسول إذ يقترح هذا لا يزيد على قوله « تفعل حسناً ». إنها البساطة من نحو المسيح، المشغولية به وحده كغرض القلب، هذه الحيطة في لغة الروح القدس التي تتحاشى كل ما يشتم منه الضغط أو المغالاة، واو أن الأمر كان هاماً في نظر الرسول وقريباً جداً من قلبه. إن هذا ليذكرنا بشيء مماثل له في عبرانيين 13 حيث يتكلم الرسول عن نوعين من الذبائح « فلنقدم به في كل حين لله بذبائح التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه » « ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله ». فالنوع الأول من الذبائح له أهميته وقيمته التي لا تقارن، ثم يليه في الأهمية النوع الثاني من فعل الخير والتوزيع هنا على الأرض ولكنه نابع من نفس الإيمان والمحبة « لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله ». فالذبائح الروحية لذة الله، والذبائح التي تتناول الجانب الإنساني موضع سروره ورضاه.

« لأنهم من أجل اسمه خرجوا وهم لا يأخذون شيئاً من الأمم ». هذا ما يجعل هؤلاء الخدام أعزاء على قلب الرسول. حفظوا أنفسهم متحررين كل الحرية من الاستفادة بموارد العالم. ورغم ما قد يكونون عليه من حاجة وعوز فإنهم حافظوا على كرامة الإنجيل السماوي وبرهنوا على أنهم لا يطلبون سوى أعظم الخير للأمم وليس ما لهم. وأي شيء يحط من قدر الإنجيل أكثر من جعل خدامه أو الكنيسة يصبحون شحاذين من العالم؟ وأي شيء ينطوي على الإنكار الصريح للإيمان بعناية الرب بعمله؟ وأي شيء أكثر إنعاشاً للنفس من أن ترى إنساناً يتسامى فوق كل قلق من جهة نفسه في طريق التكريس للرب؟ وإن ما ربط قلب غايس بهم « أنهم من أجل الاسم خرجوا ». فهم لم يرسلوا من إنسان. أي نعم، فليس للكنيسة سلطان لاختيار وتعيين وإرسال خدام الرب. وإنها لغلطة غير لائقة وادعاء شنيع أن تختلس الكنيسة أو الخدام مكان المسيح بهذه الصورة. إن المسيح هو الرأس وهو مصدر ومرسل مواهبه للخدمة ولا أحد غيره. أما الوظائف المحلية فكانت شيئاً آخر.

وعلى الكنيسة مع ذلك أن تسر بالاعتراف بمن يرسلهم الرب. نجد هنا في أنطاكيا (أع 14: 2) حينما رجع بولس وبرنابا من إرسالية كان الروح القدس قد أرسلهما إليها. إن الإخوة « أطلقوهما » ولكنهما « أرسلا » من الروح القدس (ع 13: 3 و 4). والرب نفسه « أرسل » الاثني عشر والسبعين (لو 9: 2، 10: 1) حينما كان هنا له المجد. والآن هو في الأعالي فإنه هو، بروح الله، يعطي ويرسل أولئك الذين أعطاهم حياة أبدية وأهلهم لعمله مهما كان نوعه. فهو لم ينكر حقوقه ولم يتنازل عنها للكنيسة أو لأي أفراد فيها. ومع ذلك فإننا نقرأ في سفر الأعمال 13: 3 أن الزملاء الخدام كانت لهم شركة مع مبعوثي الروح القدس المشار إليهما ودللوا على ذلك بوضع أيديهم عليهما كعلامة على هذه الشركة كما يبدو أنهم كرروا هذا العمل بعد ذلك ليس لبرنابا بل لبولس حينما خرج للسفر مرة أخرى (أع 15: 40) ولا علاقة لهذا إطلاقاً بما يسمونه رسامة وإنما كان مجرد استيداع خطير لنعمة اله خال من كل ادعاء. ولكن ليس لفكرة سلطان الكنيسة أي أثر في هذه الأمور. فالإرسال كالموهبة من شأن الرب وحده. وهو لازال إلى الآن، الأمر الذي نسيته النصرانية. والروح الحاضر نفس مظاهر القوة التي تطالعنا المرة بعد المرة في أعمال الرسول، ولكن الله يعرف كيف يحقق نفس المبدأ بطرق تلائم حالة الكنيسة الحاضرة التي تدعو للتذلل من جانبنا. ولكنه من الخيانة أن نستبدل طريقة الله باختراع إنساني لا سند له من الكتاب.

« فنحن ينبغي لنا أن نقبل أمثال هؤلاء » ما أكرم هذا وما أحكمه! فهو لا يدعو غايس والقديسين فقط أن يقبلوا أو يرحبوا بأمثال هؤلاء، بل يقول نحن ينبغي لنا أن نقبل أمثال هؤلاء. ويا له من جمال أدبي في هذه الكلمات! كان يكفي أن يقول الرسول « فأنتم اقبلوا أمثال هؤلاء » لكنه يوسع الدائرة فيقول « نحن » إن الرسول لم يعتبر نفسه أسمى من الباقين، وبذلك هو يزكي ويشجع أولئك الذين خرجوا للعمل متواضعين مع أنه لم يوجد من كان يشغل مركزاً يقارن بمركزه في الكنيسة – وهو تصرف مكن جانب الرسول تتجلى فيه نعمة المسيح ويوبخ الروح الإكليريكية التي ولدت في ذلك الوقت وراحت تحتقر أولئك الخدام الأمناء الغيورين، كما أنه يبين للجميع كم كان هؤلاء الخدام يتمتعون برضاء الرسول ومحبته.

ولا يكتفي الرسول بذلك بل يذهب إلى أبعد منه فيقول « لكي نكون عاملين معهم بالحق (أو مع الحق) ». هل تسمحوا لي أن أستودع هذه الكلمات بحرارة لعنايتكم وتأملكم أيها الإخوة الأحباء. يا له من شرف! إن الحق هنا يشار إليه كشخص مبغوض من الشيطان والعالم – ذلك العالم الذي بواسطته يعمل الشيطان بألف طريقة وطريقة لمقاومة المسيح وكل ما يتعلق بالشهادة له. ديوتريفوس كان يفعل هذا ولو أن الكتاب لا يخبرنا أنه كان شريك ضد المسيح أو الهرطوقي بصورة ما، فإن شره كان من نوع آخر. إن حالته كانت تعيسة وشنيعة بحيث نفعل حسناً إن لم نقل عنها شيئاً أكثر من هذا. ولكن الأجمل من هذا والأهم هو إن الباب مفتوح لجميع المسيحيين لأن يكونوا عاملين مع الحق. فالبعض منا لا يستطيعون الكرازة بالكلام ولكننا نستطيع بل ينبغي لنا جميعاً أن نشاطر العاملين مشاطرة حقيقية عملية. هل نحن نصلي من أجلهم باستمرار؟ هل نهتم بأن نخدمهم بأية طريقة في مقدورنا؟ إن كان الأمر كذلك فنحن « عاملون » ليس فقط معهم بل « مع الحق ». إنه ليس أمراً صعباً على أي قديس أن يكون عاملاً مع الحق. لقد ظهرت محبة غايس وعملت مع الحق. والدعوة لازالت موجهة للمحبة لكل من يحيا حياة الإخلاص والجد أمام الله » لأنه إن كان النشاط موجوداً فهو مقبول على حسب ما للإنسان لا على حسب ما ليس له » ففي استطاعة الجميع أن يقدموا خدمة مقبولة بأية طريقة تجعلهم بفضل نعمته في عداد العاملين مع الحق.

« كتبت إلى الكنيسة ». من هذه العبارة نرى إنه من الخطأ الزعم بأن الرسل لم يكتبوا رسائل غير التي بين أيدينا. لقد كتبوا رسائل أخرى ولكن الله قد عني بالمحافظة على تلك التي قصد بها أن تكون لبركة المؤمن الدائمة فلم تفقد منها واحدة. فإذا كان قد أوحى بها للخدمة المستمرة فإنه سهر عليها تتميماً لمشيئته هذه. وقد كان أن وضع الله بين أيدينا كتاباً كاملاً فيه جميع الرسائل التي قصد أن تبقى مع الكنيسة طوال مدة تغربها في هذا العالم. وإنما هذا لا يجيز لنا أن نتصور أن الرسل لم يكتبوا قط غير هذه الرسائل. لماذا نتصور هذا؟ إننا بدون الإفاضة في الموضوع نقول إنه لا يمكن إنكار الحقيقة أن هناك من رجال الوحي من كتبوا رسائل لم يكن المقصود بها أن تكون جزءاً من الكتاب المقدس. نجد هذا أيضاً في العهد القديم كالأسفار والأناشيد التي كتبها سليمان وآخرون. أما كل الأسفار التي أوحى بها الله للاستخدام الدائم فقد حافظ عليها جميعاً وأعطى أنبياءه القدرة والكفاءة للتمييز بينهما. وبمجرد أن توقف الوحي في العهد القديم أو الجديد وقف أيضاً ظهور الأنبياء.

 وهذه المجموعة المنتخبة تدعو للإعجاب بدلاً من أن تكون مثاراً للصعاب. فلو أن جميع الكتب التي كان يمكن أن تكتب فعلاً فإن العالم ما كان يستطيع أن يسعها كما يقول رسولنا في مكان آخر، إن أقوال وأعمال سيدنا وحده، لو أنها كتبت كما تستحق، لملأت العالم وزيادة. فكم هو ثمين هذا الانتخاب الحكيم الذي يتميز به الوحي! إن الله كان القاضي والحكم الوحيد لتقدير ما هو أبقى وأدوم وأنفع. بل ماذا يقول – إنه حتى الكتاب، بحجمه الراهن، ليس معروفاً كما يجب من أولئك الذين هو لديهم أعز من الحياة! ليت كل واحد من أولاد الله كان يعرف الكتاب معرفة كاملة. فلو أنك قرأت الكتاب المقدس مرات كل يوم في حياتك فإنك لن تصل إلى أعماقه بحال من الأحوال. وهو دائماً فوق متناول أعظم المعلمين. فماذا نقول لو أن الكتاب كان أكثر من ذلك وأضخم.

إذن فلنسجد أمام حكمة الله المتجلية في اختيار كل ما كان لازماً للانتفاع الدائم في حدود ونطاق حيز الكتب ومحيطه الصغير كما هو بين أيدينا – لا أكثر ولا أقل من المطلوب بحسب المعرفة الإلهية، وبحسب ما رأى الله في كامل حكمته ملائماً لمجده ومحققاً لبركتنا. ولقد كان من الأهمية بمكان أن تجيء كلمته مختصرة ما أمكن بحيث لا تقل ولا تزيد عن ملء الحق المعلن. « كتبت (شيئاً) إلى الكنيسة ولكن ديوتريفس الذي يحب أن يكون الأول بينهم ولا يقبلنا ». (عدد 9). فليس من العسير إذاً أن نفهم لماذا لم تصلنا الرسالة التي كتبها يوحنا والتي يشير إليها هنا إذ يتضح أن ديوتريفس قد دلل على روحه الردية بحجز هذه الرسالة عن الكنيسة وأنه بهذه الطريقة لم يقبل الرسول.

« من أجل ذلك إذا جئت فسأذكره بأعماله التي يعملها هاذراً علينا بأقوال خبيثة. وإذا هو غير مكتف بهذه لا يقبل الإخوة ويمنع أيضاً الذين يريدون ويطردهم من الكنيسة » ومهما كان نوع التعليم الذي كان ينادي به هذا الشخص فإن أعماله كانت شريرة « من أجل ذلك إذا جئت فسأذكره بأعماله ». فإن نفس الروح التي أظهرها ديوتريفس في رفض ما كتبه الرسول – إن كان هذا هو المعنى المقصود من عدم قبوله الرسول – قد كشفت عن نفسها في احتقاره للإخوة الذين كانوا يجولون مبشرين ولعله كان يقول: أي شأن لهؤلاء حتى يأتوا إلى هنا؟ « أنا هنا. وأنا المسئول عن رعاية الحق ولم أفكر قط في طلب معوتنهم، سيما وأنهم غرباء يأتون دون أن يطلبهم أحد أو يرسلهم أحد. إنهم دخلاء متطفلون ». وهذا شعور ليس مستبعداً، وإن كان البعض لا يعبرون عنه صراحة فما أكثر ما يجول في خاطرهم. إنه شعور ملك على هذا الرجل روحه وسلوكه حتى إنه لفرط إعجابه بنفسه فقد كل حاسة من إحساسات الاحترام نحو الرسل. فمن ذا الذي يدهش لعداوته نحو الإخوة الودعاء المتضعين الذين كرسوا أنفسهم للكرازة في كل مكان. لا شك أنه كان يراه شيئاً أفضل إن هم استمروا يمارسون أعمالهم يكسبون منها رزقهم الحلال بدلاً من الذهاب إلى حيث هو على الأقل في غنى عنهم. « أيها الحبيب. لا تتمثل بالشر بل بالخير ». إن ديوتريفس كان قطعاً يعمل عملاً شريراً. وكان على غايس أن يحذر من التمثل بالشر لأن الشر معد. بل يتمسك بالخير. « من يصنع الخير هو من الله، ومن يصنع الشر فلم يبصر الله » (عد 11).  ليس لنا أن نؤكد أن ديوتريفس كان متورطاً كل التورط في هذه الصفة الشنيعة (صنع الشر) ولكن مسلكه كان يبرز هذا الخوف بشدة. إن لغة الرسول هنا ذات طابع عام فهو يضع المبدأ ليس إلا وهو أن صنع الشر ليس من الله وإن كل من يصنع الشر أي كل من يفعله كعادته حياته لم يبصر الله. ولكن ما أبهج الجانب الآخر! كل من يصنع الخير هو من الله. أي نعم، إن رؤيتك لله تترك أثرها على نفسك إلى الأبد. لا يمكن لإنسان رأى الله أن يكون صانع شر. ومن أسف أن الشر كان لاصقاً بديوتريفس إلى حد كبير. أما إن كان هو صفته المميزة له أم لا فالأمر لنا أن نقطع به.

« ديمتريوس مشهود له من الجميع ومن الحق نفسه ونحن أيضاً نشهد وأنتم تعلمون أن شهادتنا هي صادقة » (عد 12). هنا شخصية جميلة لم نسمع عنها من قبل. الحق نفسه، وكذلك الجميع، يشهدون لديمتريوس، ونحن أيضاً نشهد – الشهادة التي كان غايس يعلم في قرارة نفسه إنها شهادة صحيحة صادقة. « نحن أيضاً نشهد ». وفي استطاعة غايس أن يكون له أكمل شركة مع ديمتريوس. ولا شك أن أقوى الأسباب التي جعلت روح الله يطالعنا باسم ديمتريوس في هذا الشأن هو أن يبين لنا أنه حتى في يومنا الشرير نستطيع أن نتطلع إلى آخرين يدعون باسم الرب من قلب طاهر. وهكذا هنا، فإن كان هناك ديوتريفس واحد، فهناك اثنان يستحقان المديح، غايس وديمتريوس، إن لم نقل شيئاً عن الإخوة الأمناء وإن كانوا غرباء ممن لم يكن لدى ديوتريفس شيء صالح يقوله عنهم. فإن غرض الرسول هو أن يجعلنا لا نغتم فوق الحد لوجود الشر أو المتكلمين بالشر بل بالحري تتشجع قلوبنا بالحق والمحبة.

« وكان لي كثير لأكتبه لكنني لست أريد أن أكتب بحبر وورق. ولكنني أرجو أن أراك عن قريب فنتكلم فماً لفم. سلام لك. يسلم عليك الأحباء. سلم على الأحباء بأسمائهم » (عدد 13 و 14). ليس لنا أن نفشل تحت غمامة الشر. فهناك دائماً الخطر أن يستسلم الإنسان لليأس والقنوط ويظن أن كل شيء قد انتهى وضاع. فكر كهذا هو وليد عدم الإيمان ومن العار أن يتسرب منه شيء إلى نفوسنا. مهما كان الشر الذي يحيط بنا. بل أن انتشار الشر أشنع الشر. وسقوط الكثيرين ممن ظهروا يوماً بمظهر الأمناء، يجب أن يقودنا أكثر إلى عدم الثقة بذواتنا، وإلى ثباتنا في الرب بعزم القلب. ولنذكر كل حين أن الروح القدس ماكث فينا ومعنا إلى الأبد ليجمع إلى اسم الرب أكثر مما يجدد من خطاة ولو أنه يفعل الأمرين معاً.

وما أبسط وأصدق الكلمات الختامية في الرسالة الثالثة كما في الرسالة الثانية؟ إن كثيرين من عباقرة الرسامين وعظماء الفنانين طالما رسموا ليس الرب فقط بل الرسل والقديسين وحول رؤوسهم هالة من المجد. أما الكتاب فيتحدث عن الجميع ببساطة غير مفتعلة: فالرب وأكثر الناس وداعة وتواضعاً. والرسل لا يختلفون عن الإخوة الآخرين سوى أنهم يفوقونهم في إنكار الذات والشعور الحي بثباتهم في الله الأمر الذي هو امتياز نعمته. وهنا من ذا الذي يفوته أن يلاحظ الشعور العميق بتلك الكرامة السماوية التي كان يجدها الرسل في كونهم لا يزيدون كل واحد منهم عن « عبد يسوع: كما كان يحلو لأكبرهم أن يدعو نفسه؟ » لقد أعطاهم الروح القدس القوة لعمل الآيات والعجائب والمعجزات ولكنهم كانوا يعملونها كأنهم ليسوا شيئاً في ذواتهم. لقد كان لدى رجل الوحي أشياء كثير ليكتبها بحبر وورق ولكنه كان يرجو أن يرى غايس المحبوب قريباً « فنتكلم فماً لفم » كان يفضل الشركة الحية العملية وكان يرجو له سلاماً. حتى يحين وقت اللقاء. ثم الأحباء يسلمون على بعضهم ليس بطريقة غامضة بل « بأسمائهم » كما هو الحال ي الرسالة الثانية حيث التحية العائلية « يسلم عليك أولاد أختك المختارة ». 

انتهى

 

[1] أرييوس: إله ما بين الأرض والهاوية – ونكس: آلهة الليل, عند قدماء اليونان.

[2] يذكر القارئ أن البيورتان هم جماعة المتطهرين الذين نزحوا من بلاد الإنكليز واستوطنوا أمريكا هرباً من الاضطهاد الديني في القرون الوسطى.

[3] بيلاجيوس راهب بريطاني ظهر في القرن الرابع وكان ينكر الخطية الأصلية.

[4] يشير هنا إلى ترجمة King James وجاءت فيها « الخطية هي تعدي الناموس » أما ترجمتنا البيروتية العربية فجاءت صحيحة ويمكن قراءتها « الخطية هي التمرد » (الناشر).

[5] سبق أن شرحنا بإفاضة أن التعدي هنا ليس تعدي الناموس (Lowlessness) وهي كلمة تعني في الحقيقة عدم التقيد بأي ناموس أي فعل الإرادة الذاتية باستقلال عن الله.

*  يريد الكاتب أن يقول أنه كما كان الكلمة الحي هو اله في صورة إنسان كذلك الكلمة المكتوبة هي إلهية في صورة إنسانية - المعرب

٭ يرد الشارح ترجمة هذا العدد هكذا « وكل روح لا يعترف بيسوع فليس من الله » مع الإحاطة أن اسم سيدنا « يسوع » مسبوق في الأصل اليوناني في هذا العدد بأداة التعريف « ال » ومعناها اليسوع السابق وصفه في عدد 2.

* دليل آخر مستمد من الكتاب نفسه على عدم قانونية هذه الفقرة أننا لا نقرأ لأي واحد من كتبه الوحي عن « الآب والكلمة » كلفظتين متناظرتين, ففي الكتاب يرتبط دائماً « الله » مع « الكلمة » و « الآب » مع » الابن ».

[6] راهب بريطاني عاش في القرن الرابع ومن مبادئه نكران الخطية إطلاقاً.

* لقد اختلفت وجهات النظر منذ القرون الأولى إلى يومنا هذا فيما يتعلق بماهية هذا الخطاب. فالبعض يقولون أن الرسالة موجهة إلى « أكلسكتا » (باعتباره اسم سيدة معناه مختارة) وآخرون يقولون إلى كيرية (وهو اسم معناه سيدة), وفريق ثالث يقول إلى « الكنيسة » إن لم نقل شيئاً عمن يزعمون أنه إلى « العذراء مريم ». والذي يبدو لي هو أن أختاً في المسيح كانت عائشة في ذلك الوقت هي التي قصد الروح القدس أن يوجه إليها هذه الرسالة دون أن يذكر اسمها, وإن الإشارة إلى « أختك المختارة » الواردة في العدد الأخير (13) تعزز هذا الرأي بقوة وتستبعد إطلاقاً فكرة « الكنيسة » التي مال إليها جيروم ومن حذا حذوه. أما الشارح فيعتقد مع أكثر المفسرين المحققين أن الرسالة موجهة إلى « سيدة مختارة » أو إلى « السيدة المختارة » دون ذكر اسم معين وذلك لحكمة سنراها في سياق التفسير.

* وليس « دخل » كما في بعض الترجمات went forth.

أ -  ب - مقدمة - الخطاب 1- 2 -  3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16- 17 - 18 * 19 * 20

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

 

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.