لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

عشــرون محاضــــرة في شــرح 

رســائل يوحنا الرسول

خادم المسيح وليم كيلي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الخطاب الثامن

1 يو 2: 28 – 3: 6

« والآن أيها الأولاد (الأحباء) اثبتوا فيه حتى إذا أظهر يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه. إن علمتم أنه بار هو، فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله. من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه. أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو. وكل من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما هو طاهر ».

« كل من يفعل الخطية يفعل التعدي أيضاً. والخطية هي التعدي. وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية. كل من يثبت فيه لا يخطئ. كل من يخطئ لم يبصره ولا عرفه »

نعود الآن إلى موضوع الرسالة الرئيسي. فبعد الجزء العرضي الهام. الذي هو بمثابة جملة معترضة يمكن وضعها بين قوسين، والتي تناولت درجات الاختلاف الروحي بين أولاد الله. نأتي إلى ما يخص أولاده كمجموعة كما كان الحال قبل الفقرة المعرضة التي بدأن بالعدد الثاني عشر، وكما هو الآن في العدد 28 الذي أمامنا والذي يعود بنا إلى موضوع الرسالة العام. فالكلمة الآن موجهة إلى الجميع « والآن أيها الأولاد (الأحباء) اثبتوا فيه ».

هذا هو الاختبار المسيحي الصحيح. الإيمان بشخص الرب الذي يقود إلى الثبات فيه. ليس فقط الثبات في الحق، أو في العمل والتعليم، بل في شخص المسيح الإلهي الحي، فمما يجعله له المجد أكثر جاذبية ومغنطيسية (إن جاز هذا التعبير)هو أنه إنسان وإله في وقت واحد في اتحاد عجيب بين اللاهوت والناسوت ليس كما يميل البعض إلى النظر الأمر أحياناً، وهو أنه عندما يتكلمون عنه كإنسان فذلك بالانفصال عن اللاهوت وعند الكلام عنه كالله فذلك بالانفصال عن الناسوت. كلا فهو في الحق شخص واحد. طبيعتان متحدتان في شخصه العجيب الواحد، وهنا السر الهائل العجيب الذي يجعل شخصيته له المجد فريدة لا مثيل لها، فوق كل بحث أو استقصاء ومما يجعله مستحيلاً على الإنسان أن يسبر غورها أو يدرك عمقها، كما يخبرنا هو نفسه بفمه الكريم « ليس أحد يعرف الابن (على حقيقته) إلا الآب ». ولنلاحظ أن الرب لم يقل هذا عن الآب، مع أن الآب لم يصر إنساناً كما صار الابن. على أن الابن يعلن الآب، ولكن لا يقال أن الآب يعلن الابن. قارن مت 11: 27 لوقا 10: 22. فشخصية الرب يسوع فوق متناول البشر وفيه السر العظيم الذي لا يستقصى. وهنا اخطر على ذهن الإنسان الذي من طبعه الكبرياء والتجاسر، وبخاصة في أمور الله – تلك المنطقة التي لا مكان فيها على الإطلاق للإنسان الأول المجرد من البر والصلاح والفهم، فضلاً عن كونه لا يطلب الله.ولذلك فإن الإنسان، وهذا وصفه، يتخبط من خطأ إلى ما هو أفظع منه « لأن مَن من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله » (1 كو 2: 11). وها هو الروح القدس قد أعطى لنا كمؤمنين بالمسيح لكي يمجده. لأن الرب يسوع هو الحق وهو الحق في طبيعته المزدوجة، كالله وإنسان في شخص واحد. فإذا كان مؤمنين، فإن حكمتنا وسعادتنا وقوتنا للخدمة والعبادة، بل ذات أمننا وسلامتنا، هي جميعاً في « الثبات فيه ».

حينما كون الله إسرائيل كشعب لا نرى أقنوماً إلهياً قد أعلن، بل كانت هناك أوامر ووصايا صدرت من جلال الله بما يتفق والرعب الذي أوحاه الله في شعب أرضي لم يكن الجانب الأكبر منهم متجدداً ومع ذلك فقد كان الناموس لكل واحد منهم، ولكن الناموس كما قلنا لم يعلن شخصاً أو أقنوماً. صحيح كانت الوصايا العادلة تصدر عن الر وكان هو له المجد مؤسس الفرائض – طقوس وممارسات هامة وخطيرة، تنطق كلها باسم ربنا يسوع وتشير وظائفه وعمله. إلا أنه لم يكن هناك إعلان صريح بعد عن شخص إلهي. كان الناموس قائماً على سلطان الله الساكن في الضباب، في حين أن حق المسيحية الجوهري يقوم على مجيء ابن الله للإنسان من عند الآب. ونحن نعرف الأمور الموهوبة لنا من الله في ذاك الذي هو نفسه إله وإنسان وهو له المجد كذلك لكي يمثل الإنسان كما ينبغي أن يكون أمام الله، ويعلن الله كما هو للإنسان، ثم لكي يتسنى له، بعد إتمام الفداء، أن يرسل الروح القدس. أليست هذه نعمة سامية لا حد لها؟

تلك هي البركة التي لا تقدر، المرتكزة على الرب يسوع. لم تكن هي الناموس ولو أن سيدنا جاء مولوداً تحته. ولم تكن الوعد ولو انه المجد متمم الوعد ومكمله. بل هي شخصه، هي نفسه كالابن، الابن المتنازل لكي يصير إنساناً حقيقياً،مع فارق خطير واحد، كما سنقرأ فيما بعد في هذه الرسالة، وهو أنه « ليس فيه خطية » – ليس فقط أنه لم يفعل خطية، أو أنه لم يعرف خطية، كما نقرأ في 2 كو5: 21، بل لم تكن فيه خطية. طبيعته قدوسة لم يمسسها الخطأ. لهذا كانت ولادته فريدة لا مثيل لها على الإطلاق. لا شك انه ولد من العذراء ولكن ليس هذا هو الذي جعله بلا خطية، لأن العذراء المطلوبة كانت في ذاتها خاطئة كغيرها من البشر. كانت مؤمنة عظيمة امتازت ببساطة عجيبة وطهارة فائقة. ولكنها كانت محتاجة إلى مخلص، وقد وجدت نفس هذا المخلص كما وجدناه نحن في الابن المولود منها. ولكنها عرفت جيداً أن هذا الابن العجيب جاء مغايراً لكل ابن آخر في الطريقة التي صار بها جسداً. فقد كان ذلك بقوة الروح القدس. لهذا كان هو – وليست هي – بلا دنس. إنه من الحسن التمسك بالحق بلا زيادة ولا نقص، لأن الجرأة على إضافة شيء إلى الحق المعلن تفتح الباب للخرافة لابتكار ضلالة تأخذ مركز المسيح الفريد وتعطيه لآخر.وهذا تجديف لاشك أن الله يدينه ويقضي عليه.

لقد كان في تجسد سيدنا معجزة هائلة، كما كان في موته وقيامته. فليس هناك ما ينسجم مع البشرية أكثر من الولادة والموت، لأن هذا هو الإنسان في حالته الراهنة. وقد عرف الرب هاتين الحالتين (الولادة والموت)، ولكن في كلتيهما – كما في سائر الحالات – كان الله معلناً متجلياً. فعلى الصليب رضي أن يبذل حياته. لم يكن لأحد أن يأخذها منه، لولا أنه أراد وأرتضى أن يضعها من ذاته. وضع حياته، الأمر الذي يكن في استطاعة سواه أن يفعله. إن حاولت أنت أو أنا أن نضع حياتنا فذلك خطية شنيعة وجرم جسيم. أما في الرب يسوع فقد كان فضلاً كبيراً ونعمة ثمينة في طريق تبرير الله من جهة الخطية كلها. وهكذا في الأمرين اللذين شابه الإنسان فيهما أكثر من غيرهما – أي الولادة والموت. كان له المجد أسمى من الإنسان بما لا يقاس. كما يليق بأقنوم إلهي. وهنا يقصر عقل الإنسان ويتجلى فشله المطلق لأن الثقة بالذات والجهل بالله يجعلانه يتردد في الاعتراف بأن هناك أي سر يدق عليه فهمه. فهو يزعم في نفسه الكفاية لكل صعوبة والقدرة على حل كل مشكلة، ومن ورائه العدو الأكبر يشد إزره وينفخ في أوداجه ويهيب به أن يثق في ذاته دون الثقة بالله الذي يريد أن يضعه في التراب كخاطئ ويدعوه لأن ينظر إلى الرب يسوع وحده، لأن كل بركة تصدر للإيمان عن طريقه. غير أن هذا مع الأسف الشديد هو عين ما تنفر منه كبرياء الإنسان وبذلك يرفض نعمة الله في المسيح فالإيمان هو عطية الله. 

فهنا إذاً، بعد أن عرفنا الرسول من هو هذا الشخص العجيب، الذي كان من البدء، الذي جمع الله والإنسان في شخص واحد، يقول لنا « اثبتوا فيه » والواقع أننا لا نعرف أحداً يليق بأناس مثلنا أن يثبتوا فيه سوى ذاك الذي هو الحق أي المسيح. إن روح الله ساكن فينا ليمنحنا القوة. لكن غرض الإيمان المعلن في مراحل الطريق كلها إنما هو نفس الشخص الذي بدأنا به طريقنا ومن هنا كانت للأطفال كما رأينا المسحة من القدوس، وليس فقط أنهم تجددوا. فالمسيحي هو أكثر جداً من مجرد شخص تجدد ورجع إلى الله. ذلك كان شأن القديس في العهد القديم. كان شخصاً متجدداً ولكنه غير حاصل على الروح القدس، فإن هذه الهبة المسيحية الخاصة تتبع الفداء معروفاً ومتيقناً لدى النفس، المسيح وحده هو الذي كان له الروح القدس بغير فداء وبغير كفارة، لنه هو وحده كان كفارة، لأنه هو وحده كان قدوس الله، البار بالإنجيل فنحتاج للفداء، غفران الخطايا ومن أجل ذلك فإننا بعد التجديد والإيمان بالإنجيل مباشرة ننال الروح القدس، نصبح مسيحيين (قارن أع 11: 17) فإن عطية الروح القدس هي العلامة الحقيقية المميزة لا كمسيحيين – « المسحة من القدوس » – كما هو مكتوب إذا آمنتم ختمتم. ومن أجل هذا يقول الرسول وأما أنتم (وليس أولئك المضللون أضداد المسيح) فلكم هذه العطية العظمى من القدوس وحيث أن المسيح هو الذي منه جاءت هذه المسحة، إذن « فاثبتوا فيه ».

هل كان للإسرائيلي شيء ثابت تحت الناموس؟ كلا، فلم يكن لهم أقنوم إلهي معلن. كانت غاية الناموس انتظار الفداء (إلا في الرموز) فلم يحصل الإسرائيليون على المسيح، ولا على كفارته. أما إرسالية الرب يسوع فكان الغرض منها إعلان الله والآب لمؤمن في الابن، ولم ينزل الروح القدس لم تكن قبل ذلك حتى بالنسبة للناس المتجددين. وغنى عن البيان أن الديانات الزائفة لا تعرف شيئاً من هذا ولا تدعيه، ومهما كانت الشهوات والانفعالات التي تعبث بها هذه الديانات – مع ما تنطوي عليه كتبها من سخافات فوق سخافات – فإنها لا تتحدث عن إعلان الله نفسه، لا فرق فيها بين ديانة الهندوس بكتب حكمتهم ومعارفهم، أو ديانة البوذيين والبراهمة الذين ينكرون وجود الله لاعتقادهم بتعدد الآلهة.

أما جوهر المسيحية فهو الله معلناً في ابنه باعتباره (أي الابن) إنساناً سالكاً في قداسة المحبة على الأرض، فوق كل الشر والضلال الذي كان محيطاً به، وذلك لكي لا يكون إعلانه لله بمجرد الكلام بل بالعمل والحق. فكل أعماله وكل أقواله أعلنت الله الآب. وكل معجزاته أظهرته بكيفية تفوق الآخرين مهما كانوا.لقد وجدت آيات وقوات أجراها موسى وإيليا وأليشع وآخرون، ولكنها جميعاً كانت من نوع آخر. أما هنا فأمامنا شخص المسيح يسوع الفريد الوسيط الوحيد بين الناس والله، ولذلك قيل لنا بحق « اثبتوا فيه ». هناك وهناك فقط، الأمن والسلامة والبركة، وهناك فقط نور الله ومحبة الله، ويقين الحياة الأبدية التي يهبها الله للمؤمنين به. فالكل فيه ولا شيء مستقل عنه.

لقد قام البعض مؤخراً يقولون أننا نحن المؤمنين ليس لنا حياة في أنفسنا ونصيحتنا إلى أمثال هؤلاء أن يتدبروا الأمر لأنهم بذلك يتحدون الكتاب في أفكارهم أو في القليل يتعدونه. فهم يقولون ويؤكدون أن الحياة هي في الابن، وفي ذلك هم محقون إلى أقصى حدود الحق، فمن خواص الحياة الأبدية الثمينة أنها في الابن وأنها لحقيقة مباركة أن تكون الحياة الأبدية في شخصه العزيز، الأمر الذي يحملنا على تقديم الشكر القلبي لله من أجله، لأن وجود الحياة الأبدية في الابن ضمان لوجودها ثابتة طاهرة غي مدنسة وغير متغيرة. فهي فيه وتبقى فيه مضمونة ومؤكدة إلى الأبد، ولكنها أيضاً قد أعطيت لكل مؤمن لتكون حياته الجديدة. لو أننا أخذناها بالاستقلال عنه، أفما كنا نفقدها سراعاً أو نحولها إلى نفس المصير المحزن كما فعلنا بسائر الهبات الأخرى التي منحنا إياها الله؟ أما المحقق فهو إنها لنا، وإنها لنا فيه. كلاهما حق، ولو أن الحق الثاني يعظم الأول ويمجده. فهو حياتنا. وليس بعد ذلك من مزيد. شكراً لله.

« والآن أيها الأولاد اثبتوا فيه » – جميع عائلة الله – « حتى إذا أظهر يكون لنا ثقة ولا نخل منه في مجيئه ». هذه عبارة جديرة بانتباهنا لأنها طالما أسيء فهمها، لأن الذين يستخدمون هذا العدد يظنون أن ضمير الجمع المتكلم في القول « لا نخجل » ينطبق علينا أو على المسيحيين الذين كتبت الرسالة إليهم، في حين أن الرسول يفرق في استعمال الضمائر فهو يقول « اثبتوا فيه » موجهاً الكلام إلى أشخاص المخاطبين حتى « لا نخجل » نحن أي الأشخاص الذين كانوا المخاطبون ثمرة خدمتهم في الرب. فإنها تكون إهانة كبيرة للحق، وألماً بالغاً للخادم، لو أن أحداً مما بدا عليهم بأنهم قبلوا الحق يتركه ويتخلى عنه. ولذلك فإن الرسول يضع الأمر في صيغة تمس عواطفهم، وتناشدها. فإذا كان الرسول شخصياً قد فعل ذلك فهو لا يزال الرسول المبارك الأمين، ولكنه في ذاته أمر مخجل للعامل أن الأشخاص المفروض أنهم قبلوا الحق يتركونه.

وهنا نرجو القارئ أن يلاحظ أن هذا الانحراف لم يكن جديداً فقد بدأ بيهوذا، وأن لم يكن بيهوذا على وجه التحقيق، فبكثيرين من تلاميذه الذين رجعوا إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه من الوقت الذي تحدث فيه عن تجسده وموته كطعام الإيمان الذي لا غناء عنه. كذلك كان بين الرؤساء كثيرين آمنوا به ولكن بسبب الفريسيين لم يعترفوا به، لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله.

آه أيها القارئ العزيز، احذر من هذا. اعترف به إن كان قلبك قد استراح عليه للحياة الأبدية. ولا تعترف به فقط بل اثبت فيه مهما كان الضغط قاسياً وشديد من الخارج، إن الرسول يسوق النصيحة هنا في قالب غاية في الرقة والعطف إذ يقول « حتى إذا أظهر.......... لا تخجل منه في مجيئه ». وكأنه يريد أن يقول أن ارتداد الضالين سيكون بلا شك سبب خجل لنا في ذلك اليوم.

غير أن هناك ملاحقات أخرى غنية بالتعليم يمكن أن تستفاد من هذا العدد فهناك تعبيران مستعملان يختلف أحدهم عن لآخر. الأول « حتى إذا أظهر » والثاني « في مجيئه ». وكلمة « مجيء » المستعملة هنا ليست ذات الكلمة المستعملة للتعبير عن المجيء أو الإتيان كما في (يو 14: 3، 1كو 11: 26) وسفر الرؤيا يتكرر القول « ها أنا آتي سريعاً ». هذا معناه عملية المجيء. خذ مثلاً لذلك القديسين الذين يقتلون في أوائل وأواخر أزمنة سفر الرؤيا، فهم جماعتان من القديسين يقاومون بعد ظهور الرب قضائياً في مجده (رؤ 20: 4) ومع ذلك فإنه يقال عنهم أنهم « جزء من الذين للمسيح » الذين يقامون في مجيئه (1كو 15: 23) ولاشك أن عبارة « في مجيئه » هنا لا يمكن أن تعني المجيء بالذات بل حالة حضور الر بعد المجيء بالمقابلة مع حالة غيابه في الوقت الحاضر.

وهناك فارق آخر في استعمال التعبير. فإن كلوم « مجيء » بمعنى « حضور » قد يقصد بها الحضور للشعب السماوي أو الشعب الأرضي. ففي رسالة يعقوب مثلاً نقرأ القول « إن مجيء الرب قد اقترب » والمقصود كما نعلم هو الجانب الأرض من المجيء. ومن هذا القبيل قول سيدنا « ابن الإنسان في مجيئه » فإن العلاقة بين « ابن الإنسان » وحضوره تحدد هذا الجانب تحديداً واضحاً في أناجيل متى ومرقس ولوقا وكلك الحال في رسالة يعقوب حيث يقال « هوذا الديان واقف قدام الباب » فإن صفة الرب كالديان مرتبطة بطبيعة الحال بيومه أو ظهوره. وهكذا نجد أن « ظهوره » أثر من آثار حضوره، وكذلك « استعلانه ».

غير أن « الحضور » يتناول أيضاً مجيئه لأذنا لنفسه إلى بيت الآب قبل ظهوره أو استعلانه. وبعبارة أخرى إذ لم تقترن كلمة « مجيء » بما يشير إلى الظهور فإنه يقصد بها حينئذ اجتماعنا إلى الرب في الأعالي بواسطة حضوره كما في (1 تس 4: 15، 2 تس 2: 1)، فهذا هو الحضور بالنعمة المطلقة التي لا شأن لمسئولية لإنسان فيها. أما عندما يأتي ذكر مسئولتنا فعندئذ يكون المقصود ليس مجرد المجيء بل الظهور، وهذا هو الحال فيما يتعلق بالعدد الذي أمامنا ولو أنه يضم اللفظين معاً (الظهور والمجيء) لأن الظهور يفترض الحضور في حين أن الحضور لا يفترض الظهور.

ثم لاحظ شيئاً آخر. فهو لا يقول « متى » أظهر بل « إذا » أظهر كما لو كان في الأمر بعض الشك بحسب الظاهر. هذه الصيغة قد تبدو غريبة لدى الذين لم يتعودوا قراءة الكتاب كما وضعه الله ولكن مهما يكن من أمر، فمن المؤكد أن طريقة الله هي دائماً أحسن الطرق، وأن ما يقوله الله لنا قد قاله في أضبط وأكمل صورة كان يمكن أن تقال لنا والواقع أن كلمة « إذا » لا تشير إلى وقت الظهور أي « متى » بل إلى حقيقته مهما كان الوقت الذي يظهر فيه المسيح. فليس المقصود أن ظهوره مسألة معلقة قد تتم أو لا تتم، ولكن المقصود هو أن الرسول يريد من القديسين أن يثبتوا في الرب عوض أن يتحولوا عن حتى إذا أظهر – ومن المؤكد أنه سيظهر – تكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه. هذا هو شعور الرسول من جهة الأمر، وهو شعور نبيل ينم عن مبلغ حبه لأولئك الذين يحملون اسم يسوع وبالتالي عن ألمه إذا ما انحرف أحدهم عن الحق. فمهما كان حبه حتى لأولاده في الإيمان. فإنه يحب اسم المسيح أكثر بكثير من حبه للقديسين ولذلك ه يسعى ويطب حتى لا يكون واحد منهم مصدر خجل له في ذك الوقت السعيد.

« إن علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه » – فالبر نظير الطاعة – يصدر عن الحياة، وكما أنه بار هو كذلك كل من يصنع البر قد ولد منه. إذن فالطبيعة الجديدة هي علة وصول البر إلينا وسريانه في عروقنا. وهنا نأتي إلى مسألة البر العملي الذي سيعالجه الرسول في الأعداد التالية، أي الأعداد الأولى من الصحاح الثالث، كما عالج أمر الطاعة في الإصحاح الثاني مع فارق بسيط سنشير إليه فيما بعد. أن الكلام هنا ليس عن المحبة، ولا عن الطاعة كطاعة، الأمران اللذان عالجهما الرسول في الإصحاح الثاني (ع 3 – 6، 7 - 7). ومع ذلك ففي الجزء الأخير من الإصحاح الثالث، بعد الكلام عن البر، فيعود الرسول فيحدثنا مرة أخرى عن المحبة، تماماً كما فعل في الإصحاح الثاني إذ حدثنا أولاً عن الطاعة ثم بعد ذلك عن المحبة. ومن هذا نرى أنه هناك حلقة اتصال هامة بين كل من الطاعة والرب وهي المحبة التي هي في الواقع رباط الكمال كما نقرأ في (كو 3: 14).

وجميل بنا أن نتساءل عن الفرق بين طاعتنا وبرنا. ومع ذلك فالجواب جلي واضح فمع أن البر دائماً مطيع إلا أنه في ذاته عنوان أو برهان ليس فقط على الخضوع للسلطان الإلهي (كما هو حال الطاعة) بل على الانسجام مع المقام أو بعبارة أدق مع النسبة أو العلاقة. هذا على ما يبدو، هو التعريف الصحيح للبر حتى فيما يتعلق ببر الله الذي معناه انسجام الله مع علاقته أو نسبته، وهكذا الحال فيما يتعلق ببر المسيح أو بر الإنسان، مع ما بين الاثنين من فارق عظيم فيما عدا ذلك. فمن ناحية المسيح نرى فيه المطابقة المطلقة بينه وبين نسبته، أما من ناحيتنا فما أحرانا أن نندب قصورنا وعدم المطابقة بيننا وبين نسبتنا كمسيحيين.

وأليس في هذا صوت خطير لكل منا؟ ومع ذلك فإن نعمة الله في المسيح لم تترك لنا أي سبب لليأس أو عدم الثقة بل على بالعكس فإن غرض الرسول الأساسي من هذه الرسالة هو أن يثبت القديسين تثبيتاً كاملاً في المسيح وما من كلمة واحدة قد وردت في أي مكان من شأنها أن تثير الصعاب أو الشكوك. إن إثارة الشكوك عمل المضللين الذين ينشرون أضاليلهم الخاصة ويخدعون البسطاء المتمتعين حق الله، وقد رأينا أن هدفاً عظيماً من أهداف هذه الرسالة هو تسليح المؤمنين، بل أصغر المؤمنين، ضد أضاليلهم وابتكاراتهم الشريرة الخطرة، لاسيما وأنه من بين الوسائل التي كان يتبعها أولئك القوم تشكيك غير البالغين في أنهم قد حصلوا على الحق الكامل، فإن أضداد المسيح كانوا ينادون بوجود حق أسمى مما عرفه القديسون من قبل وإن هذا النور الجديد الذي يبشرون به كان بحسب ادعائهم هو الجعالة العليا بحيث أن عدم الحصول عليه كان من شأنه أن يشكك الإنسان فيما إذا كان مسيحياً على الإطلاق.

وعلى الضد من هذا كانت غاية الرسول أن يؤكد للقديسين الأحداث أنهم هم أنفسهم ممسوحون بالروح وأنه من امتيازهم أن يثبت فيهم ما سمعوه من البدء وأن يحكموا على كل نور جديد – رغم كونهم أحداثاً – بمقتضى ما لديهم من حق قديم وعلى ذلك فكل كلام عن نور جديد يجب أن يعتبر إشارة خطر لكل قديس، وبخاصة لأحداث لأنهم معرضون أكثر من غيرهم لأن يصدقوا الوعد بشيء جذاب وعظيم لم يحصل عليه بعد الناس الآخرون. ولكن هب هذا الوعد انقلب إلى أكذوبة: فماذا يكون العمل؟ والواقع أن هذا هو عين ما يجب أن نتوقعه – أكذوبة من العدو – لأنه ليس عند اله من شيء جديد يقوله لنا عن ابنه. فقد أخبرنا بكل شيء، وقد قبلنا الحق في ابنه من البدء. فهو الحق، وبالتبعية كان الحق كاملاً فيه. فكل وعد بحق جديد مهما كان إنما هو خديعة من الشيطان.

إذن فالرسول يشدد هنا على موضوع البر العملي كأمر بالغ الأهمية لكونه مؤسس على النسبة أو العلاقة الجديدة التي أوجدتنا فيها النعمة. وأليس في هذا درساً عظيماً للغاية يجدر بنا أن نتعلمه؟ أن المسيحيين بصفة عامة ضعاف في هذه الناحية، فهم لا يقدرون التقدير الكافي خطورة العلاقات الجديدة التي وضعتنا فيها النعمة وبمن تتصل هذه العلاقات من ناحيتها العليا؟ إنها تتصل بشخصه المحبوب وبالآب، وقد جاء الروح القدس كالقوة الإلهية لتوثيق هذه العلاقات وتحقيقها بواسطة سكناه فينا نحن المؤمنين. وسنرى أن هذه الناحية الأخيرة المتعلقة بسكنى الروح القدس فينا لهذا الغرض يتناولها الرسول ابتداء من آخر الإصحاح الثالث ثم يتجاوزه إلى الإصحاح الذي يليه، الأمر الذي يدل على أن الرسالة مقسمة تقسيماً منظماً ودقيقاً للغاية رغم أنها مصاغة في أبسط لغة وأن دروسها تتلو بعضها بعضاً في نظام بديع وفي عمق هائل من الفكر والشعور طبقاً لنعمة الله وحقه.

وعلى ذكر النظام والترتيب يجدر بنا أن نسوق الملاحظة الآتية. إن بعضاً منا لا ينسون العهد الذي كان فيه « النظام » موضع إدانة ونقد شديد بين القديسين والحق أن مرجع ذلك كان المناقضة الملحوظة بين المستحدثات الطائفية الجامدة وحرية الروح المقدسة كما نراها في كنيسة الكتاب المقدس. وربما كان هناك بعض التطرف في استنكار « النظام » بوجه عام إذ قد يشتم منه أن الوضع الصحيح الوحيد هو أن لا يكون هناك نظام. وما من شك في أن الذين بلا نظام أو ترتيب هم قوم يرثي لهم إن كانوا فعلاً بلا نظام. ولكن السؤال الحقيقي الذي كان ولا زال يعترض الباحث في هذا الأمر هو: ما هو نظام الله؟ إن نظام الإنسان خاطئ ومقضي عليه من أساسه، أما نظام الله فحشا لنا أن لا نخضع له خضوعاً مطلقاً. ليس من المهم نوع النظام أو تفاصيله. فالله له دائماً نظامه الخاص كما يشاء من أسف الإنسان دائماً يفوته هذا النظام فيخسر التمتع بما فيه من بركات. إن كلمة الله وحدها هي التي تستطيع أن تعلن هذا النظام وروح الله وحده هو الذي يستطيع أن يعيننا على تنفيذه، وهنا لا يسعنا إلا الشعور العميق والاعتراف القلبي الصادق أن لا شيء سوى نعمته الغنية مكنتنا بقوة عمل الروح القدس في الكلمة من معرفة طريقه الآمنة المستقيمة واكتشافها من بين منعطفات متاهة الخطأ والأضاليل، قديمها وحديثها، فخرجنا بنعمة الله خارج تقاليد الإنسان واختراعات. أما الذين لا تزال هذه القيود تربطهم وتغل أيديهم فيرون طريق الله شاقة غير معبدة، غامضة غير مضمونة، ضيقة، فريسية، وغير ذلك من أوصاف لا حد لها. ولكن كم من سعة قلب ننال، وكم من حرية وقداسة واتضاع قدامه، وكم من بهجة وشبع وسرور عندما نحكم بإخلاص على أنظمة الإنسان في نور نظام الله كما نجده معلناً في الكلمة! أن نظاماً مباركاً يجري في كل سفر وفي كل إصحاح في الكتاب المقدس، وهو نظام تتميز به هذه الرسالة بصورة عجيبة سيما وأنه لا يبدو على السطح بل هو متغلغل في أنسجتها، وهو لحمتها وسداها. وللروح القدس غاية في ذلك كما في كل رسالة أو سفر آخر، وغايته هنا تتركز وتدور حول أعماق وسمو الحق في حياة سيدنا بصورة يندر توفرها في أي رسالة أو سفر آخر ولو في العهد الجديد.

« إن علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه ». إن المسلك البار يبرن على مصدر الحياة الجديدة التي هذا مسلكها. وقد نسأل: من المقصود هنا بالقول « هو »؟ طبيعي أنه ما من مسيحي إلا ويقول أن المقصود هو المسيح، وهو قول صائب بكل تحقيق. على أنه يوجد عدد غير قليل من المسيحيين يرى أن « الله » هو المقصود بكل « بار » لأن الولادة منه مشار إليها في نفس القرينة والولادة هي من الله بطبيعة الحال. لسنا ننكر وجاهة هذا السبب في الحالات العادية سيما وأنه ليس هناك من ينكر أن الله بار. ولكن من يقول هذا قد فاته إدراك الخاصية العجيبة التي تمتاز بها هذه الرسالة وهي أنه في حالات كثيرة لا يمكن البت بصورة قاطعة إذا كان المقصود هو الله أو المسيح، وأساس ذلك ثمين للغاية، وهو أن المسيح هو الله. وليس في ذلك أي استبعاد للآب، لأن الآب والابن متشاركان في الطبيعة الإلهية، الأمر الذي لا ينكره أي مسيحي، ومن أجل ذلك نرى الرسول، الذي يحلو له أكثر من غيره أن يلهج ويتأمل في طبيعة الله، يسير متنقلاً (إن جاز لنا استعمال هذا التعبير بكل وقار واحترام) وفي تلك الدائرة الجديرة بتعبدنا، متنقلاً من المسيح إلى الله، ومن الله إلى المسيح، ثم يعود إلى الله، مكتفياً بالضمير « هو » من أول الرسالة إلى آخرها.رأينا هذا في مطلع الإصحاح الثاني وها نحن نراه مرة ثانية في ختام الإصحاح، وسنراه مرة أخرى في مستهل الإصحاح الثالث، وهكذا حتى نهاية الرسالة حتى لا يتردد الرسول في أن يقول عن المسيح هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية » ولئن كان العلّامة اللوذعي غير المتجدد يرى في هذا الأسلوب نوعاً من الخلط والاضطراب، فإن المؤمن البسيط يرى في جمال الحق وروعته لأنه يعلم أن هذا هو الأسلوب الوحيد اللائق لأن المسيح هو الابن المساوي للآب في الجوهر. من أجل هذا رأينا الرب نفسه يشير في (يو 5: 23) إلى ما يفعله الآب في طريق تكريم ابنه « لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب ». فلهذا السبب بالذات، أي لأن اللاهوت صفة الأقنومين، كان من المستحيل وضع أي حد فاصل بينهما. وما دام كلاهما أقنومين في اللاهوت وعاملين معاً في المحبة، فإن الرسول يتنقل هكذا قصداً من الواحد إلى الآخر بطريقة غير محسوسة « إن علمتم أنه بار هو فعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه ». ولئن كنا نميل بكل بساطة لأن نقول أن الضمير في الشق الأول من العدد يشير إلى المسيح، فبنفس البساطة نقول أن الضمير في الشق الثاني يشير إلى الله.

وما من شك أن الكتب الملهم كان يستعمل هذا الأسلوب الكتابي غير المألوف مدفوعاً بباعث إلهي، والذي يحملنا على استخلاص هذه الحقيقة أنه لم يستعمله مرة عارضة بل هي عادته خلال الرسالة بأجمعها مما يدل على أنه كان يستعمل هذا الأسلوب عن قصد وعمد وفي غير أدنى ترد. نحن نعرف أن أي كاتب مدقق في الموضوعات العادية يحرص على مجانبة مثل هذا الأسلوب، فإن الكاتب الأديب يفاخر كمبدأ عام بأن أسلوبه من اليسر والبساطة والوضوح بحيث لا يمكن لأقل الناس علماً أن يفوته المقصود من أي ضمير. ولا شك أن الرسول لم يكن من أولئك الذين يصيغون كتاباتهم في أقوال غامضة لكي يظهروا للناس بأن تفكيرهم من النوع العميق، ولكن مما لا ريب فيه أن أساسه الذي أقام عليه أسلوبه الخاص في هذا العدد وأمثاله من الرسالة هو اللاهوت الذي يتعادل فيه الآب والابن. وفي هذا الميدان، أين الحكيم، أين الكاتب، أين مباحث هذا الدهر؟ إن يوحنا ما كان ليرضى أن يضع الابن الوحيد في مستوى الإنسان العادي الذي يخضع لمقتضيات أساليب الكتابة البشرية، والسبب بسيط هو أنه الله . صحيح أن يوحنا يعلم أنه له المجد قد صار إنساناً في نعمته التي لا حد لها، ولكنه في ذلك يأبى أن يضع حداً فاصلاً بين ناسوته ولاهوته، بل هو يقصد بأسلوبه المتعارض في ظاهره، المتناسق في حقيقته، أن يقودنا لأن نرى، في هذا الخلط الظاهري كيف كان يجب أن يقدم الله المسيح هكذا متحدين بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفصلهما عن بعضهما بلغته البشرية مقتضياتها.

« إن علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه ». كيف استطاع أن يتكلم بهذه الصورة؟ ذلك لأن القديس مولود من الله وله حياة المسيح. ها هو الحق الأساسي الذي يخلل الرسالة كلها، وقد ترتب على إعطاء المسيح حياته لنا أن صار « المسيح حياتنا » ومن أبرز مميزات حياة المسيح، كما تجلت في كل خطواته، البر المطلق الكامل. وهو الحياة التي صارت حياتنا، الحياة الوحيدة التي نجرؤ أنة نفتخر بها. وهي حياة إلهية لأنها من الله الذي في نعمته الثانية أعطانا أفضل وأسمى وأشرف وأعز وأكمل حياة وجدت. هذه الحياة كانت في الابن منذ الأزل، وهو يعطيها لنا الآن حتى كما أنه بار هو، هكذا كل من يصنع البر يظهر ويبرهن أنه مصدر هذا البر في شخصه المحبوب.

ومن أسف أن قوماً يرتابون في هذا الأمر وقد فاتهم أن ريبتهم هذه هي في الحقيقة ريبة في المسيحية ذاتها. هذا هو في الواقع معناها، ولا يخفف من واقعها ما قد يتعللون به من مبررات ومعاذير لأن الخطأ واضح وأساسي وخطير بحيث لا يمك ن التخلص منه بالاستناد على غموض في الأسلوب أو بأنه جانب من الحق أساء فهمه الآخرون. أنه خطأ قاتل يقتضي استنكاراً ودحضاً ويتطلب جهوداً مخلصة متواصلة لإنقاذ كل من سقط في شرك مهلك كهذا فهنا نرى بكل جلاء ووضوح بأن السلوك البار هو الدليل القوي على أن الحياة مستمدة من مشاركتنا في الطبيعة الأدبية مع المسيح، حتى كما أن المسيح بار يقال عن الذين يسلكون بالبر أنهم مولودون من الله فمن الواضح للجميع أن هذا العدد لا يتعرض للتبرير بل يتناول البر العملي. صحيح أنه بفضل ما عمله الله بالمسيح إذ جعله خطية لأحلنا كفارياً قد صرنا بالإيمان بر الله في المسيح. هذا حق لا شك فيه، هذا هو مقامنا بالنعمة، غير أن العدد الذي أمامنا يتناول سلوكنا ونحن متبررون، والرسول يشدد على إبراز هذه الحقيقة البالغة الأهمية والخطورة وهي أن البر العملي هو الانسجام والتوافق مع نسبتنا للمسيح وغير منفصل عن ولادتنا من الله.

تلك هي صفة وطبيعة النسبة أو العلاقة الجديدة المعروضة أمامنا، نحن مولودون من الله، ونحن أولاده. وهل يخطر ببالنا وجود ذرة واحدة من عدم البر في الله أو المسيح فكما أن كل من يصنع البر مولود من الله، كذلك يسوغ لنا أن نقول أن كل من ولد من الله يصنع البر. والأمر هنا ليس مجرد كلام أو ادعاء، بل عمل ليس وظيفة أو مركز تدل عليه شارة ظاهرية أو طقس من الطقوس بل حياة عملية تحققها النعمة بطبيعة جديدة تظهر آثارها في سلوكنا الذي يدل على أن مصدرها تلك الطبيعة الجديدة وليس شيئاً آخر. والحق أنه لا يوجد ما يؤثر على الضمير أكثر من هذه العبارات حينما تكون النفس حاصلة على حياة جديدة من الله. وقد كتبت للإيمان وليس للتشكيك، ولو أنه قصد بها بكل يقين أن تؤثر على الضمير تأثيراً قوياً، فإن البر معناه الانسجام لا تسمح بأقل عبث أو استخفاف بالخطية.

غير أن العدد التالي مباشر (وهو العدد الأول من الصحاح الثالث) فيبين لنا حاجتنا إلى أكمل نعمة. فبقدر ما نشتاق أن يكون للضمير تأثيره الحر المخلص بقدر ما نحتاج إلى الراحة التي تهبها النعمة الكاملة. من أجل هذا نرى الرسول يقدم لنا هذه النعمة الغنية في اقتضاب ملحوظ وغايته من ذلك إبراز علاقتنا الجديدة في محبة الآب، ليس فقط باعتبار هذه العلاقة أساساً لسلوكنا بل لأنها لازمة أيضاً لاستمتاعنا محبة الآب التي تسمو على كل ما يتصوره الفكر البشري والتي تصل بنا إلى أسمى النتائج وأمجدها. ولئن كان هذا العدد يتضمن بحسب الظاهر حديثاً انتقالياً خاطفاً، على غرار ما نجده أحياناً في كتابات رسولنا، إلا أنه بحكمة إلهية لأن النعمة التي يطالعنا بها هي عين ما يعوزنا يومياً « انظروا أية محبة أعطانا الآب ». فليس مقياس هذه المحبة هو العجيب فيها فقط بل ونوعها أيضاً. لقد بانت وتجلت في هذا، أن الآب أعطانا هذه المحبة اللانهائية « حتى ندعو أولاد الله » ولاحظ دقة التعبير في قوله « أولاد » وليس « أبناء » إن يوحنا يستخدم عادة كلمة « ابن » بالنسبة للمسيح فقط – ليس لأنه غيور على مجد المسيح فحسب بل أن حرصه الشديد على الحق المعلن قاده لأن يقول أننا أولاد الله دون أن يتعرض لبنوتنا. وعلى أية حال فإن كوني ولداً في العائلة أوثق بكثير من كوني ابناً متبنى. نحن أبناء بالتبني ولكننا أولاد تربطنا بالآب أوثق رابطة عائلية ولو أن أساس كلتا العلاقتين هو الابن إذن فهذه الصورة العجيبة من المحبة قد أعطت لنا حتى ندعى أولاد الله.

« من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه » يا له من شرف عظيم أن نقاسم المسيح جهل العالم له ! إن مقامنا وطبيعتنا ووثاقة قربنا لله أمور لا يعرفها العالم ولا يفهمها. لكن دعنا من العالم وهلم بنا نسمع ما يقوله لنا الرسول الملهم « أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله » وهو توكيد خطير يجب أن تعرفه النفوس لأن كلمة « الآن » الواردة فيه هي في الواقع من الأهمية بمكان فليس فقط أننا أولاد بل « الآن نحن أولاد » وهي عبارة جديرة بانتباهنا بالمقابلة مع العبارة التي سبقتها مباشرة وهي أنه « من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه » ويا له من تشابه عجيب مع سيدنا توحي به إلينا هذه العبارة المؤثرة! أن العالم لم يفهم المسيح وهو كذلك لا يفهم المسيحي. والواقع أن الإنسان لا يمكن أن يدرك المسيح إدراكاً صحيحاً مهما ادعى ذلك. ليس أحد غير الآب يعرفه معرفة كاملة. ولئن كان العالم قد عرف الشيء الكثير من كلام سيدنا ومن حياته إلا أنه لم يسعه رغم ذلك إلا أن يبغضه. من أجل هذا السبب ولأسباب أخرى كان مجهولاً من العالم الذي لم ير فيه شخصاً يستحق أن يكون موضع الاحترام والتكريم والمحبة. كان في نظر العالم لا شيء، هذا هو عين تقدير العالم للمسيحي الأمين. فكما أن النعمة قد أعطتنا أن نشاركه في علاقته بالآب كذلك من واجبنا وامتيازنا أن نشاركه في رفضه هنا من العالم وكما كان قوة مجهولة في العالم، كذلك نحن. أفلا ينبغي علينا أن نعتبر ذلك شرفاً عظيماً لنا؟

إن العالم كما نعلم يكافح كفاحاً لا هوادة فيه سعياً وراء السلطان والصيت والراحة واللذة. وليس هناك ما يجمع معظم الناس على تقدير أكثر من المال الوفير أو ما يشاكله من أمجاد العالم ومفاخره. ولعلي لا أقسو إذا قلت أن هذا هو حال الكثيرين من المسيحيين. أما المسيح فلم يكن يفعل هكذا – ليس فقط إنه لم يسع مطلقاً وراء هذه الأباطيل بل كان دائماً يرفضها. كان دائماً العبد المخلص والخادم الحقيقي على الأرض حتى لقد تسنى له أن يقول « كما أرسلني الآب الحي وأنا حي (أو أحيا) بالآب فمن يأكلني (طعام الحياة) فهو يحيا بي » (يو 6: 57). ومن هنا نرى أن محبة الآب ومحبة العالم على طرفي نقيض، أو أن كلاً منهما ضد الأخرى على خط مستقيم. فحيث لا توجد محبة الآب، هناك تبرز محبة العالم، وحيث تستقر محبة الآب تختفي محبة العالم. إن العالم تجاهل سيدنا، وكذلك هو يتجاهل الأمناء – وأقول الأمناء لأن هذه هي الصفة التي يجب أن يكون عليها أولاد الله حقاً وهل لدى العالم من طريقة يعبر بها عن شعوره أكثر وأقوى من تجاهل سيدنا وشعبه التجاهل التام وعلى طول الطريق. إن العالم يعتقد في نفسه الكفاية التامة لأن يستغني عنه وعن خاصته. فهو وهم سبب قلق وانزعاج للعالم، لا أكثر ولا أقل.

« أيها الأحباء » – ويحلو لنا أن نكرر هذه الكلمة، لأن الرسول يستخدمها هنا قصداً كما سبق واستخدمها قبلاً. إنه يزمع أن يتكلم عن نسبتنا الحالية الرفيعة وعن رجاءنا العتيد المجيد الذي ليس لغير محبة الآب أن تهبه. « أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو» (ع 2).  وهنا ترد « إذا » مرة أخرى، وهي ليست « متى » بل كلمة مختلفة لا يمكن بحال من الأحوال التدليل على أنها جاءت بمعنى « متى » في أي مكان. ولكن كلمة « إذا » وإن بدت غريبة على نوع ما لقلة استعمالها فإنها في محلها تماماً كما سنرى. فلو أننا استبدلنا بها كلمة « متى » وجعلنا العدد هكذا « ولكن نعلم أنه متى أظهر نكون مثله » فقد يعطي هذا التعبير فكرة خاطئة فيما يتعلق بالوقت الذي سنكون فيه مثله ولا شك أن الوضع بهذه الصورة كان خليقاً أن يحير الكثيرين ويربكهم، لأننا نعلم من (1 كو 15: 51 و 52، 1 تس 4: 16 و 17، 2 تس 2: 1)، إن تغييرنا سيتم في لحظة مجيئه أو حضوره لأجلنا. حينئذ تتغير أجسادنا لتكون على صورة جسد مجده ونكون مثله. فإذا كنا نصير مثله عند مجيئه فإننا بكل يقين، ومن باب أولى، نكون هكذا حينما يظهر أو يستعلن. وهذا هو المقال والمقصود هنا بالضبط. فإن العالم سيرانا مستعلنين معه مثله، لأن الاستعلان في ذات المجد الواحد سيكون للعالم كله لكي يراه (يو 17: 22 و 23، كو 3: 4) وعندما يتم هذا الاستعلان نكون نحن معه ومثله. ولكن التغيير لا يتم في ذلك الوقت ولكن قبله. ومن هنا كانت الدقة في استخدام كلمة « إذاً » بدلاً من كلمة « متى » وكأن الرسول يقصد أن يقول أنه أظهر المسيح – ومن المحقق أنه سيظهر – فإننا نكون مثله. ونتعلم من شواهد كتابية أخرى كالتي ذكرناها أننا سنكون مثله قبل أن يضرنا إلى السماء وقبل أن يدخل بنا إلى بين الآب. لأنه بعد ذلك سيأتي من السماء وفي ركابه هؤلاء القديسون. وحين يستعلن هكذا، سنكون مثله، ولكن ليس لأول مرة بل نكون قد سبق وصرنا مثله حينما رأيناه نحن آتياً لأجلنا. وعلى ذلك فإن كلمة « متى » في هذه الحالة كانت تؤدي إلى تضليل خطير، فنحن سنكون مثله لدخول السماء كما سنكون مثله للخروج منها.

فما أسماها امتيازات هذه، أيها الإخوة الأحباء! وإزاءها ماذا نقول عن أمانتنا وتكريسنا الآن؟ على أنه مما لا شك فيه أن قرار قلوبنا وشوقها هو أننا إذ نسمع صوته نتبعه، وأننا على قدر تفرسنا في المسيح بالإيمان ومشغوليتنا به نتغير في الوقت الحاضر من مجد إلى مجد كما من الرب الروح. ولكنه لا يقال مطلقاً إننا مثله الآن قد نتشبه به كمن تألم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكي نتبع خطواته. والرسول بولس على قدر ما كان يتمثل بالمسيح يطلب إلينا أن نتمثل به. ولكن لا يقال عنا مطلقاً إننا مثل المسيح بعد. سنكون مثله عندما نتغير ونخطف ولكن ليس قبل ذلك، وأنه لادعاء جسور أن يزعم احد أنه مثل المسيح الآن. بعد قليل ستأتي وسنكون حينئذ في حالة مجد سيدنا وغير مختلفين مطلقاً عن صورته. فالعدد الذي إمامنا إذن هو تعبير كامل وثمين للغاية عن التغيير العظيم الذي ينتظر المسيحيين حينما يأتي الرب لأجلنا، فإنه إذا أظهر – ومن المحقق أنه سيظهر – سنكون مثله لأننا سنظهر في ذات المجد. وسيرى العالم كله هذه الحالة حينئذ. ولكن نتغير حينما نراه لأننا سنراه كما هو. وأليس واضحاً أن رؤيتنا له سوف لا تكون يوم استعلانه للعالم بل في المرحلة الأولى من حضوره حينما يأتي ليأخذنا إليه في الأعالي؟ حينئذ أيضاً نكون مثله. أما ظهوره في المجد – ونحن معه – فستراه كل عين.

ومع ذلك فلهذا الرجاء تأثيره الروحي في الوقت الحاضر، وهو تأثير هام وخطير ومن واجب كل مسيحي أن يتدبره ويعطيه مكانه اللائق به « وكل من عنده هذا الرجاء به، يطهر نفسه كما هو طاهر » (ع 3). وهذا ليس رجاء في الإنسان بل في المسيح أو بالحري به. رجاء متجه إلى المسيح ومؤسس عليه. بهذا الرجاء به يطهر المسيحي نفسه كما هو طاهر. وهذه النتيجة ذاتها تدل على أننا لسنا مثله الآن. أن المسيح لم يكن بحاجة قط لأن يطهر نفسه، ولكنه قدس أو أفرز نفسه في السماء ليكون النموذج الأعظم لنا ونحن على الأرض، حتى نكون نحن أيضاً مقدسين أو مفروزين للآب بالحق أو في الحق (يو 17: 19) ولكن علينا أيضاً أن نطهر أنفسنا على الأرض لأنه بجانب ملكيتنا لحياة المسيح فإنه فينا أيضاً الطبيعة القديمة التي علينا أن نقاومها ونميتها ونخضعها حتى لا تظهر بطرقها الشريرة. من أجل هذا كان علينا أن نطهر ذواتنا من كل دنس يجلبه علينا عدم سهرنا وتقصيرنا في الصلاة، ونطهرها « كما هو طاهر » لأن المسيح هو مقياسنا. لقد كان دائماً طاهراً طهارة مطلقة. وهذا أيضاً ينطبق انطباقاً كاملاً على الله لأن الله نور، وهو الطهارة عينها، الأمر الذي لا يشك فيه مسيحي قط، ولكن المسيح هو المشار إليه هنا وهو طاهر أيضاً نفس هذه الطهارة المطلقة، وهذا ما يجعل الأمر عجيباً وإن كان مؤكداً، لأن المسيح كان إنساناً حقيقياً ولكنه رغم كونه ولد من امرأة، فإنه الطهارة في أسمة درجاتها.

هذا يقود بطبيعة الحال إلى الكلام عما هو عكس الطهارة على خط مستقيم إذ يحدثنا الرسول حديثاً هاماً وخطيراً عن ماهية الخطية وحقيقتها (ع 4). وهنا أقرر أني أكاد لا أعرف عدداً في العهد الجديد كله قد أسيء فهمه وانحرف به الناس عن معناه الحقيقي مثل هذا العدد الذي نحن بصدده، ولا شك أن السبب الذي أدى إلى هذا الخطأ وجعل له قبولاً في مسامع الناس هو محاولة تهويد المسيحية. أو لسنا نرى كثيراً من الطوائف النصرانية على اختلافها تعتبر ناموس قانوناً للحياة المسيحية؟ إن المسيح هو قانون الحياة المسيحية الحقيقي، وكلمته هي دستورها في كل تفاصيلها. أليس (يو 1: 17) يفارق بين الناموس وبين « النعمة والحق اللذين بيسوع المسيح صارا »؟ أما الناموس، على عكس ذلك، فهو خدمة موت ودينونة (2 كو 3: 7 - 9). هو ناموس الموت للخاطئ، وقد دل على أنه كذلك للإسرائيلي. ليس فقط الناموس الطقسي بل بالذات الكلمات العشر المنقوشة في ألواح حجرية كما يقول الرسول بولس.

« كل من يفعل الخطية يفعل التعدي أيضاً. والخطية هي التعدي ». هذا لا يعني مطلقاً أن الخطية هي تعدي الناموس. ومع ذلك فإن كثيراً من الكتب المسماة « تعليم أصول الدين بالسؤال والجواب » تحدد الخطية وتعرفها بأنها تعدي الناموس. ولكنه تعريف خاطئ من كل الوجوه، وهو ليس ما يقصد إليه الرسول مطلقاً فالكلمة الأصلية معناها الإباحة أو فعل الإرادة الذاتية أو عدم التقيد بأي ناموس كان (Lawlessness) وهي كلمة تذهب إلى ما هو أعمق وأدهى وأوسع مدى من كسر الناموس، فهي تعني ليس فقط العمل الشرير في ذاته بل نشاط إرادة الطبيعة العاصية، ولذلك فإنها تنطبق انطباقاً كاملاً حتى على الذين لم يسمعوا شيئاً عن الناموس والذين ينقادون إلى إرادتهم الشريرة بلا حاجز. وإلا فكيف يسوغ أن نتهم أناساً بتعدي الناموس لم يسبق لهم أن سمعوا حتى عن وجوده؟ لذلك فمن الصعب أن نسمى شرهم تعدياً على الناموس. إن خطية التعدي على الناموس يعبر عنها بعبارات أخرى صريحة تختلف كل الاختلاف عن الكلمة الأصلية التي يذكرها الرسول هنا والتي تعني « صنع الإرادة الذاتية ».

وإني افترض أن كل مسيحي فطن قد سمع المعنى الصحيح المقصود من هذا العدد لأن كثيراً من خدام الله ظلوا ينادون به سنين عديدة وبإصرار يحمدون عليه فالخطية ليست مجرد الشهوات الجسدية والعالمية التي حذرنا الرسول ضدها في العدد 16 من الإصحاح الثاني. إن العبارة هنا ذات شقين متبادلين أولهما أن « الخطية هي التعدي » وثانيهما أن « التعدي هو الخطية » فالخطية تبعاً لذلك هي صنع الإرادة الذاتية سواء كان ذلك ناتجاً عن الجهل بإرادة الله أو عن عدن الاكتراث بها. وهنا ليس المقصود صنع خطية معينة بل « فعل » الخطية فماذا يفعل سوى الخطية؟ كيف يتجنبها طالما هو لا يزال خاطئاً؟ إن الخطية هي حالة طبيعته. وإذ هو ساقط – ولا أكثر – فلا يسعه إلا أن يخطئ. إنه لا يفعل البر، وهو أبعد ما يستطيع عن القداسة، ولا يفعل سوى الخطية. وكل من يفعل الخطية (سواء كان يهودياً أو أممياً) يفعل المعصية أو الإرادة الذاتية. أما اليهودي فيضاعف جريمته لأنه بخطيته يكسر الناموس أيضاً ، في حين أن الأممي الذي هو « بلا ناموس » فيكفي أنه يفعل إرادته الذاتية لكي يحسب خاطئاً ولو أنه لا يمكن أن يتهم بتعدي الناموس. والكتاب لا يصف الأمم هكذا بل ينعتهم بالقول « أمم خطاة » وإلا فأين نقرأ أنهم وصفوا بهذا الوصف كما نقرأ عن اليهود؟ ومع ذلك فهم جميعاً مذنبون. جميعهم تمموا إرادتهم وعملوا مشيئات الجو للإنسان ليفعل ما يسره، وما فعله لأنه يحبه، ولكن من يجرؤ على مقاومة الله؟ إن الله لا يشمخ عليه، ،لا بد أنه سيأتي به يوماً ما إلى الدينونة لقاء ما فعل. قد يصم أذنيه الآن، ولكن الأمر سيكون مرعباً له في يوم آخر. من هنا نرى أن الإباحة أو إتمام الإرادة الذاتية تعني ما هو أكثر من التعدي، سيما وأن عبارات كثيرة ذكرت في الكتاب عن تعدي الناموس، مثال ذلك ما ورد في (رؤ 2: 23، 19، عب 2: 2، 9: 15)، أما الكلمة الأصلية في العدد الذي أمامنا فمعناها الإباحة أو عدم التقيد بأي إرادة أو ناموس وهو معنى يختلف كل الاختلاف عن تعدي الناموس.

ثم أن الجزء الأخير من العدد « والخطية هي التعدي » يجلو هذا المعنى لأنها تتناول كل شخص خاطئ وكل حياته إذ هي سلسلة إباحة وعمل الإرادة الذاتية. ولكن مثل هذا الشر هو نقيض المسيح على خط مستقيم. لذلك نرى الرسول يسارع فيذكره في العدد التالي (ع 5) دون أن يسميه صراحة « وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية » إذن فهو قد أظهر لكي يرفع خطايانا – ليس فقط لكي « يحملها » كما في (1 بط 2: 24) بل لكي يرفعها وقد أتم الأمرين بعملية واحدة إتماماً كاملاً. ولا ريب لدينا في من هو المقصود بهذا ومن هو الذي تألم هكذا. ليس هو الله الآب، بل الابن وليس غيره، الرب يسوع هو وحده الذي حمل ورفع إلى الأبد خطايانا على الصليب. وهنا يستبعد الوحي كل فكرة ترمي إلى إلصاق هذه العملية بكل حياته فهو قد حمل خطايانا ورفعها أثناء وجوده على الصليب فقط. عملية وقتية لم تستغرق سوى ساعات معدودة ولكن أثرها يدوم على الدهر وكفايتها تبقى إلى الأبد. أما عن حياته فهناك القول « وليس فيه خطية » هذا ينطبق على شخصه العزيز طوال حياته من ولادته إلى أن مات وقام وصعد إلى المجد السماوي.

ليس بين المؤمنين من يشك في أن هذا الوصف صحيح فيما يتعلق بحالته الإلهية كالابن الأزلي، غير أنه لم يخل الحال بكل أسف من شكوك أثارها البعض فيما يتعلق بناسوته بسبب ولادته من مريم وبرغم معجزة التجسد (لو 1: 35) ولكن ها هو الوحي يقول « ليس فيه خطية » – لم يكن فيه ولن يكون ولا يمكن أن يكون. ففي المسيح هنا على الأرض تجد الصورة المضادة للخاطئ على خط مستقيم، فإن الخاطئ ليس فيه سوى الخطية. وحتى في عواطفه وكل أفكاره لا يوجد الله بل ذاته. وهذه ليست المحبة التي كانت في الله وفي المسيح والتي يستمدها المسيحيون من شخصه الكريم. قد نرى في بعض الناس عواطف الوداد والإيناس. ولكن حتى هذه نجدها في بعض الحيوانات كالكلاب أو القطط لأنها ليست جميعها شرسة. إن نفس الإنسان خالدة تعطي لعواطفه صفة أسمى وأنبل من الحيوان، ولكن الإنسان خاطئ في حين أن الوحوش ليست خاطئة!! ومع ذلك فإن للإنسان نفس خالدة، بغض النظر عمن يكون هو أو هي. ولهذا السبب سيأتي يقين إلى الدينونة. أما الكلب أو أي حيوان آخر فلا. الإنسان وحده، من بين ساكني الأرض جميعاً، هو الذي سيدنا. أنا هنا لا أتكلم عن الملائكة، فإن الملائكة الساقطين سوف يدانون هم أيضاً. ولكن من بين جميع الكائنات الأرضية، الإنسان وحده هو الذي تكوّن هكذا، أي بنفس خالدة ومن أجل ذلك هو المسئول مباشرة أمام الله.

إذن فنحن هنا أمام هذه الصورة الصحيحة الفريدة للمسيح – ليس فقط إنه كان بلا خطية بل إنه جاء لكي يرفع خطايانا مهما كلفه الأمر. وفي الواقع نحن مدينون بكل شيء للمسيح ومن واجبنا أن نحرص كل الحرص لكي يكون سلوكنا متفقاً مع علاقات النعمة التي صارت لنا الآن بفضل عمله فينا ولأجلنا عالمين أن « كل من يثبت فيه لا يخطئ ». أما إذا رأينا إنساناً لا يثبت فيه بل ينحرف إلى مسالك ضالة، فهل نعجب إن هو أخطأ إنه حينئذ لا يكون سالكاً كمسيحي إذ هو لا يثبت في المسيح. أي نعم. ارني شخصاً واثقاً بالرب متكلاً اتكالا قلبياً عليه مبتهجاً وفرحاً في شخص ابن الله، أريك فيه شخصاً لا تزل قدماه، فما من شيء يحصن المؤمن ضد الخطأ ويحفظ قدميه من الزلل سوى الثبات في المسيح، لأن « كل من يثبت فيه لا يخطئ. كل من يخطئ لم يبصره ولا عرفه ». إن الرسول يتكلم هنا عن الطبيعة الجديدة وعن الحياة من حيث المبدأ. فهو ينظر إلى الإنسان في نور طبيعته الجديدة لا غير، أما الطبيعة الأخرى، الطبيعة القديمة، فهي مصدر خجله ومبعث حزنه، وهو يدين كل مظهر من مظاهرها إدانة كاملة سواء في نفسه أو في رفقائه المسيحيين. لكن الطبيعة الجديدة تتميز بالمسيح وهي لا تخطئ ولا تستطيع أن تخطئ.

« كل من يخطئ لم يبصره ولا يعرفه ». إن ارتكاب الخطية يتنافى مع حب المسيح حبا صادقا. والمقصود بالخطية حالة الاستقلال الذاتي التي يعيش فيها الإنسان البعيد عن الله. هذه طبيعته وهذه عادته، فالخاطئ شخص لا يبصر المسيح ولا عرفه. فلو انه قبل المسيح فعلا كابن الله، لأمن به. ولو انه عرفه كهذ ا، لحصل على حياة فيه، ومن ثم كان يبغض الخطية، ولو انه حصل على حياة فيه وبذلك صارت له هذه الطبيعة الجديدة المقدسة التي لا تنفر من الخطية وتنكرها، لكان يتطلع على الدوام إلى المسيح ويعتمد عليه لكي يصونه من الشر ويحفظه بارا كما هو بار. أما بدون المسيح فلا يستطيع الإنسان أن يفعل شيئا ولا أن يثمر لله. قد يبقى الشخص المتجدد بعض الوقت مربوطا بربط الذات مشدودا إليها ببعض التعاليم الخاطئة وقد يبقى تبعا لذلك ضعيفا، شقيا كما في رو 7 :7 – 24، لكنه حينما يتخلى بالنعمة عن الذات كشيء رديء لا رجاء فيه ويستعيض عنها بالمسيح في قوة المنقذ ة، فعندئذ يتحرر من ناموس الخطية والموت ويتمتع بالحرية المسيحية. إن الرسول بولس وحده هو الذي تناول عملية الإنقاذ والتحرير بالشرح الوافي والتفصيل الكافي. أما يوحنا فيتجاوز هذه القضية وينظر إلى كل عائلة الله كحاصلين على السلام الثابت وقائمين على الأساس المسيحي الصحيح. حتى الأطفال فيهم، وذلك لان الحياة الجديدة في المسيح هي موضوعه الرئيسي.

ومن هنا كانت الناحية الثمينة لشهادة الرسول يوحنا التي يستمدها من قول الرب في يو20:14 « في ذلك اليوم (وقد بدأ من يوم الخمسين) تعلمون أني أنا في أبى وانتم في وأنا فيكم ». فإذا كان هذا نصيبا فعلا فقد صارت لنا « أنا » الجديدة ليس بعد في الجسد والخوف من الدينونة المفزعة بسب فشلي، بل في المسيح المقام الذي هو حياتي في الروح. ولكن علينا أن نحذر من الظن أن هذا التغيير هو مجرد إدراك عقلي أو معرفة ذهنية بل هو امتلاك فعلى حقيقي لفكر المسيح و حياة المسيح بحسب الروح، ولا هو الناموس طالبا مني ما هو صواب وحق بل ناموس روح الحياة في المسيح يسوع الذي حررني من الناموس الخطية والموت.

واضح أن الرسول يذهب الأعداد إلى ما هو أبعد من الشهوات وغرور الناس بدون المسيح كما رأينا في الإصحاح الثاني. فهو هنا يقدم المسيح لجميع القديسين في طهارته المطلقة المنزهة عن الخطية وفي خدمته لرفع خطايانا. كذلك هو يصور لنا أصل الخطية تصويرا كاملا، مشيرا إلى رئيسها وقائدها الشخصي بكل وضوح، ذلك الرئيس الذي تنعكس كبرياؤه واستقلاله العاصي عن الله في أولئك الذين يقال عنهم « من إبليس » (عدد 8). ولكن هاهو الوحي بجانب ذلك يؤكد لنا أن ذاك الذي أظهر لكي يرفع خطايا خاصته قد أظهر أيضا لكي ينقض أعمال إبليس، وهي عملية تتجاوز خطايا الإنسان وتتناول كل نشاط خبيث أو سعي ماكر الإهانة الله وإيذاء الإنسان. وهنا لا يفوتنا أن نرى بوضوح أن ابن الله يقف شخصيا في هذه المقابلة ضدا لإبليس كما أن محبة العالم تقف موقف العداوة السافرة لمحبة لآب في الإصحاح الثاني.

وفي العدد الثالث من إصحاحنا يتجلى السبب السري في هذا الفارق الكلي » كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله » فليس الأمر في ما بعد أمر الإنسان الأول، مشيئة الجسد أو مشيئة الرجل. لا هذا ولا ذاك فاللحم والدم ليس فيهما ما يمكن أن يكون مصدرا للحياة الجديدة على الإطلاق. قد يكون هناك شيء من الإقناع الأدبي ولكن الإقناع الأدبي مجرد من القوة ككل فريضة أو وصية دينية لان » المولود من الجسد جسد ». فلا بد من أن يولد الإنسان من الله. ولكن هذه الولادة هي بالإيمان بابنه موضوعيا، أي كغرض القلب ورجاء النفس، ويعمل روحه بالكلمة داخليا كزرع الحياة. على هذا المنوال يولد المؤمن من الروح. وهنا يصدق القول أيضا أن المولود من الروح هو الروح (يو6:3) طبيعتان مختلفتان كل الاختلاف من حيث مصدرها وهدفها، ولا يحتملان أي تبديل أو تحسين أو اختلاط أو تعديل - كل منها تبقى محتفظة بعناصرها وميولها وأهدافها تبعا لي لأصلها ومصدرها.

فليس الأمر مجرد تبرير بالإيمان ولا هو أيضا مجرد تطهير القلب بهذا الإيمان صحيح أن عمل الرب الكفارى لأجل الخاطئ وعمل الروح القدس فيه أمران حقيقيان لا شك فيهما. غير أن هناك ما هو أكثر من ذلك هنالك حياة جديدة ليست من الإنسان الأول بل من الثاني، حياة توهب للخاطئ لأول مرة عند إيمانه بالفادي وقد كان إلى ذلك الوقت ميتا روحيا كما علم الرب في (يو 5: 24 و25) بصراحة وجلاء. هذا ما يفسر لغة الرسول هنا في قوله أن المولود من الله لا يخطئ، فهو ينظر إليه بموجب الطبيعة الإلهية التي أعطته النعمة أن يكون شريكاً فيها ( 2بط 4:1) والمفروض فيه أنه يرفض ويبغض طبيعته القديمة، طبيعة الخطية، ويحيا الحياة الجديدة التي له في شخص الابن، ساهراً ضد مكائد إبليس وتجاربه وغواياته العديدة المنوعة التي يؤثر بها على الإنسان العتيق.

فباعتباره حاصلاً على حياة المسيح أصبح مسئولا أن يميز حركات الطبيعة القديمة ويبغضها ويقمعها، ومع ذلك فهي ليست مسؤولية ثقيلة مفروضة عليه فرضا ًبل هي طبيعة أمينة لنفسها كما هو شأن الطبائع وتكوينها. وبما أن الطبيعة الجديدة هي الآن طبيعته المعطاة له من الله فهو يحيا طبقاً لها. لا شك إنها تختلف في ماهيتها عن الخليقة القديمة الساقطة غير أن إيمانه يؤكد له أنها لا تقل عن هذه من حيث حقيقتها وجودها الفعلي بل إنها تزيد عنها بما لا يقاس من حيث أهميتها وخطورتها، عل هذا الأساس، وهو أساس حق للغاية، يقال عنه ليس فقط انه » لا يخطئ » بل أنه » لا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله ». والسبب في انه لا يخطئ هو « لأن زرعه يثبت فيه » أي حياة المسيح الموهوبة له بقوة الله المنعمة، والتي لا تخضع لي الانحلال والموت نظير الخليقة العتيقة. هذه الحياة هي زرعه وهي ثابتة فيه. فالطبيعة الجديدة منزهة عن الخطية ولا تستطيع أن تخطئ، وكل من له هذه الطبيعة في المسيح يتميز بها وحدها مع إغفال الخطية في الجسد باعتبار أن الله قد سبق ودانها في المسيح الذي جعل ذبيحة خطية على الصليب. هذه هي طريقة العتق الإلهي من ناحيتها السلبية ولكن الرسول يوحنا لا يقول شيئاً هنا عن طريقة العتق الإلهي هذه، ولا عن طبيعتنا الخاطئة التي يجب أن نكتب عليها حكم الموت وإنما هو يحدثنا عن المؤمن متميزاً بالإنسان الجديد، الذي يعيش في ذاك الذي هو مصدره ومتكله الدائم أما حينما يكف المؤمن عن السلوك بالإيمان والاستناد على الرب، فحين إذن تنزلق الطبيعة القديمة أو تسقط في الخطية.

ولكن مع أن الحياة هي لنا فقط في المسيح كمن هو فينا فإنه من المهم للغاية أن نرى كيف يحرص الروح القدس على أن يحفظ شخص الابن قدام عيوننا لكي يحرسنا من فلسفة التأله أو « الحلول » التي شرك الصوفيين أو من العجاب الذاتي الذي هو اكبر شرك في سبيل النفوس التقية، لذلك فأنه يثبت أنظارنا على ذلك الرجاء الأسمى وهو صيرورتنا مثل المسيح حينما نراه كما هو. وهنا يجدر بنا وبالقارئ العزيز أن يلاحظ النبرة المشددة في قول الرسول « وليس فيه خطية » – هذه الحقيقة الثمينة الغالية على قلب المؤمن وهو ينظر إلى الإنسان، المسيح يسوع، كالصورة الفريدة المنيرة اللامعة بالمقابلة مع كل صورة أخرى في الوجود. أي نعم، فكم هي مفزعة وبغيضة لروح المؤمن تلك المحاولة الماكرة من جانب الشيطان الذي جعل البعض يزعمون تحت ستار العطف علينا والرثاء لضعفنا – أنا المسيح لم يكن معصوما لأنه – مع اعترافهم بان الله الحقيقي – تنازل لكي يربط الطبيعة الناسوتية بلا هوته! هذه هجمة خبيثة من هجمات العدو القديمة الجديدة ولكننا لا نجهل أفكاره ويكفينا لصدها واحتقارها قول الوحي الكريم « وليس فيه خطية ». وكل قول أو ظن غير ذلك يتنافى مع شخصه الإلهي ويهدم الكفارى من أساسها. ليت الرب يحفظ جميع البسطاء من أضاليل أضداد المسيح، وليته يحفظنا من تحويل أبصارنا عنه حتى ننجو من كل غرور وعثار.

أ -  ب - مقدمة - الخطاب 1- 2 -  3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16- 17 - 18 * 19 * 20

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

 

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.