لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

عشــرون محاضــــرة في شــرح 

رســائل يوحنا الرسول

خادم المسيح وليم كيلي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الخطاب الخامس

1 يو 2: 7 – 11

« أيها الأحباء لست اكتب إليكم وصية جديدة، بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها. أيضاً وصية جيدة أكتب إليكم ما هو حق فيه وفيكم أن الظلمة قد مضت والنور الحقيقي الآن يضيء من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة. ومن يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة. وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة. وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أن يمض لأن الظلمة أعمت عينيه ».

رأينا في الأعداد السابقة أن الطاعة هي أول وأهم علامات الحصول على الحياة الإلهية، وأن جوهر الطاعة ليس مجرد صنع ما هو حق في ذاته بل صنعه بدافع الخضوع لسلطان الله والرغبة في إرضائه. ولست أتردد في القول أن الشخص الذي دائماً يفعل ما هو حق لمجرد كونه حقاً إنما هو في الواقع يفعل الخطأ لأنه لا يترك أهم أركان الطاعة بالنسبة لله نفسه وبالنسبة لأولاده، فإن أول جميع الحقوق هو أن يكون لله حقوقه، بينما إغفال الله هو بالضبط ما يفعله الإنسان الذي يتصرف بمقتضى حكمه الخاص بأن ما يفعله هو الصواب. من هو الإنسان في هذه القضية؟ وما هو حتى يحسب له حساب ويقام لحكمه تقدير؟ كلا. إن الأمر يتعلق بمشيئة الله، ولذلك فإن مخافة الله هي دائماً رأس الحكمة الروحية (أي بدائتها). فالطاعة إذن هي أول امتحان للحياة الجديدة الإلهية. كما يقول الرسول، وبخاصة بالنسبة لروح الإثم التي كانت عاملة حينئذ حتى بين المعرفين بالمسيحية. فإذا ما جلس الإنسان في كرسي القضاء واعتبر نفسه كمن لهو حق الحكم ناسياً الله الذي لا يرى. فقد تخلى عندئذ عن الأساس الوحيد الصحيح لكل حكم مقدس. لأنه حتى مع افتراضنا إنه إنسان مؤدب ومستقيم بحسب الظاهر فإن تصرفه بمقتضى حكمه الخاص على مجرد ما يعرض أمامه أنه هو على خلوه من روح الطاعة لله. وحيث لا توجد الطاعة لله فكل شيء خطأ ومتناقض في أساسه مع مسئولية المسيحي.

على أن هناك مبدأ أدبياً آخر يأتي بعد المبدأ الذي ناقشناه ولكنه في الواقع يتمشى معه جنباً إلى جنب وذلك لأن كليهما ينبعان من المسيح فالمسيح هو الحياة وتعبيره عن الحياة بأقواله وأفعاله لما كان هنا على الأرض يعطينا القياس الصحيح لمعرفة ماهية الحياة الأبدية في حقيقتها، لأن سيدنا لم يكن ينطلق بمجرد نظريات وعقائد بل كان يحيا الحياة عملياً والحياة هي أوثق الأشياء بالإنسان ولابد له منها لكي يحس أو يميز، أو لكي يفعل شيئاً أو ليكون شيئاَ في الوجود. على أن الناس جميعاً لهم حياة الإنسان الساقط تحت سلطان الخطية والموت، وماذا يفيد هذا النوع من الحياة بالنسبة لله أو الإنسان؟ إنها قد تفعل قدراً من الشر ولكنها لن تقود إلى ما يرضي الله. المسيح وحده هو الذي أرضى الله دائماً وإلى التمام. وحياة المسيح هذه، هي حياتنا الآن، وهو واهب الحياة لكل من يؤمن بقلبه. لقد جلب الإنسان الأول الموت، أما الإنسان الثاني فهو روح محيي. كانت فيه الحياة كالكلمة الأزلي، وكإنسان قبل من الآب أن تكون له الحياة في ذاته وهو يعطيها لكل من يقبلونه. وكما أن الآب يحيى، هكذا هو أيضاً يحيى.

والحق أنه لاشيء يميز الله بصورة مطلقة فريدة أكثر من كونه تعالى خالق الحياة وواهبها. أما الفلاسفة عديمو الإيمان فلم يصلوا بعد إلى معرفة كنة الحياة ولا أين هي، فإن بعضهم يكد ويجتهد متشوقاً إلى اكتشاف آثارها في بوتقة الاختبار متوقعاً أن يصل إلى معرفة سرها من تجاربه الكيميائية، وليس علماء ما وراء الطبيعة بأكثر حكمة منهم في قدح زناد الفكر والالتجاء إلى العقل البشري ومحاولة الاستضاءة بنوره. فالعقل البشري قد يكون ماهراً في استقراء الظواهر واستنباط النتائج إلا أنه لا يستطيع استكشاف الحق بوسائله الخاصة. قد تنجح هذه الوسائل والأساليب البشرية في الدوائر المادية أو العقلية المعلقة بالعناصر الطبيعية أما الحياة فهل يمكن اكتشافها ببحوث أو تجارب من هذا القبيل؟

كلا. إن حياة الإنسان صدرت أصلاً ومباشرة من الله، وقد أعطيت له بنسمة القدير، ومن أجل ذلك فإن الإنسان وحده ذو نفس خالدة. إن للحيوانات الأخرى نفساً وحياة تلائمها، لكنها حياة ليست صادرة من نسمة الله بل هي وليدة مجرد إرادته وسلطانه. إنه سمح بوجودها الوقتي إذ قال فكانت وأمر فصارت ولكن هذا يختلف كل الاختلاف عن النفخة الشخصية في أنف الإنسان ، وهي طريقة لم تتبع مطلقاً مع أي كائن آخر على الأرض. الإنسان هو وحده الذي نال هذه الخطوة وإدراك هذا الفارق يوضح أساس كيان الإنسان الأدبي ومسئوليته، وهذا الفارق هو خلود نفسه.

على أن هناك امتيازاً أسمى بكثير من مجرد الخلود الذي يعني به دوام وجود النفس. فقد يكون لهذا الدوام نتائج مرعبة أكثر مما يتصوره العقل. تفكر قليلاً في وجود دائم في بحيرة النار‍‍‍‍‍‍! فلا بد لكل إنسان يرفض ابن الله أن يقع تحت دينونة الله الأبدية، أي أنه يكون في هذه الحالة في وجود دائم أبدي غير منقطع وسط سعير من الآلام – آلام من يد الله لأنه أبي في عناد وتمرد أن يؤمن أن الابن العزيز احتمل بالنعمة ذلك القضاء لكي يعفي المجرمين من ملاقاة تلك الدينونة ويؤهلهم للبركة إلى الأبد! فإذا كنت لا أؤمن به، ولا بالبشارة الطيبة عما صنعه الله بواسطته، فأين أكون؟ طبعاً تحت سلطان الشيطان، ذلك العدو القاسي الذي يبغض الله والإنسان. على أن الإنسان لا يمكن أن يتلاشى من الوجود. وإنها لجريمة كبرى أن يتمنى الخاطئ أن يكون بلا وجود قد يقدم على الانتحار، ولكنه سيعطي لله حساباً عن ذلك. ما أروعه حساباً، لأن الله هو الذي وهبه الحياة، فمن أين له هذا الترخيص بالتخلص من الحياة بيده؟ وأي خير يمكن أن تؤدي إليه مثل هذه الفعلة الجهلاء النكراء؟ لئن كان القتل في شتى أنواعه يعد جريمة شنيعة مميتة فإن الانتحار صورة من أ[شع صوره لأنه إهانة مباشرة ضد الله. والخلاصة أن الرب يسوع كان الإنسان الوحيد الذي أطاع طاعة دائمة وكاملة وذلك لأن طاعته كانت نابعة من حياة هي بعينها الحياة الأبدية. أما بالنسبة لنا نحن المؤمنين فليس الأمر هكذا دائماً إذ قد يعمل الجسد أحياناً لخزينا وعارنا، ولكن الحياة الجديدة التي فينا لكونها أبدية، تبقى مصدراً للقوة والنشاط. قد ينطلق الإنسان العتيق من عقاله وقد يثور بسبب الغفلة وعدم السهر بالصلاة. لأن الحياة القديمة أو اهتمام الجسد لا زال موجوداً وهو بكل أسف عداوة لله (رو 8: 7). هذه الحياة القديمة هي إرادة الإنسان الذاتية، ولمن تكون طاعة الإنسان في هذه الحالة؟ للشيطان لا محالة لأن الإرادة تكون في خدمة الشيطان وأداة طيعة له. وهذه في الواقع هي حرية الإرادة التي يفخر الإنسان بها.

إن من واجبنا أن نردد هذه الحقيقة باستمرار وهي أن كل مؤمن يحصل على الحياة الأبدية من المسيح بمجرد إيمانه به. يحصل عليها كاملة ناجزة وفي الحال، وهي تبدأ نسمتها الأولى فينا عندما يبدأ الإيمان في النفس، وبعبارة أخرى عندما يخضع الخاطئ للمسيح كعطية الله بالنعمة. وقد رأينا أن مجرد هذا الخضوع يعتبره الله طاعة له فإن وصيته الصريحة لي هي أن أؤمن بالإنجيل وأن أتوب. وهنا يكون الخضوع الصحيح لله في النفس، والطاعة في هذه الحالة لا يشار بها إلى ما سأفعله لله من الآن فصاعداً بل يقصد بها انحناء نفسي أمام الله في اللحظة الأولى كالله المخلص بواسطة ابنه ما أبرك نحه إياي الحياة! وما أعجب جعله إياي غرضاً لمحبته! وأية محبة أعظم من أن يبذل ابنه لكي يأتي هنا ويعيش لأجلي، بل ولكي يقدم نفس هذا الابن الذي هو الحياة الأبدية لكي يموت من أجل خطاياي ولكي يمحوها محواً كاملاً بفداء أبدي، فتكون لي به حياة أبدية؟.

ولكن هذه الحياة الجديدة ليست مصدراً للطاعة فقط بل للمحبة الإلهية أيضاً، والمحبة المطلوبة هنا ليست فقط المحبة لله، (تلك المحبة التي لنا تتوفر في الإنسان إلا حينما تتأكد النفس أن الله في نعمته السامية المجانية قد أعطاها الحياة الأبدية كما أعطاها في الوقت نفسه كفارة عن خطاياها في ابنه الوحيد المحبوب) ولكن المحبة المقصودة هنا هي محبتنا لإخوتنا المسيحيين.

حينما يكون القديسون أحداثاً، ونظير المسيحيين الكورنثيين ليسوا روحانيين يحسبون أمراً سهلاً أن يحب أحدهم الآخر. ولكن الحقيقة تنجلي لهم إذ هم وضعوا أعناقهم يوماً فيوماً في ميدان الاختبار. وإذا أخلصوا في فحص ذواتهم قدام الله فسرعان ما يدركون أن كثيراً مما نحسبه محبة لا يزيد عن كونه محبة بالكلام واللسان. قد يبدو الأمر سهلاً حينما يكون كل شيء على ما يرام وسائراً في الاتجاه الذي يروقنا ولكن عندما تهب ريح مضادة تصدم رغباتنا فعندئذ يكون المحك لمن يحسبونه شيئاً يسيراً أن يحب أحدنا الآخر. قد نجد هذا النوع من الحب عند أي إنسان لطيف ودود، بل قد تجده عند كلب أو قط ولكنه حب مجرد من كل عنصر إلهي. أما حبنا لإخوتنا فقد يصطدم بالشيء الكثير من المعطلات فينا وفيهم فالأمر مع المسيحي يختلف عنه مع المسيح الذي قيل عنه وحده « وليس فيه خطية ». أما نحن فإن الخطية هي عين الشيء الذي فينا بحسب الطبيعة، ونحن نعجب لأي شخص لا يؤمن بهذه الحقيقة فإنه وأمثاله إنما يعيشون في فردوس زائف من جهة نفوسهم إذ يحسبون ذواتهم كاملين الآن من الناحية العملية بينما في الواقع هم ليسوا كاملين بهذا المعنى بل إنهم لم يتعلموا بعد معنى الكمال المسيحي وهو التخلي عن الذات والاستناد في كل شيء على المسيح وبخاصة في السلوك والاختبار اليومي، فإننا لن نكون كاملين في ذواتنا إلا بعد أن نتغير تماماً إلى صورته، ومتى فحصنا أنفسنا في النور فإنه لا يسعنا إلا أن نحزن بحق على تقصيرنا وفشلنا في أمور كثيرة.

على أن الرب قد جعلها وصية خطيرة على تلاميذه أن يحب أحدهم الآخر فإن الإيمان به كان كفيلاً لأن يتسع لعداوة اليهود كما لسائر الشعوب. إن محبة الإنسان لشعبه وأبناء جلدته لا تخلوا من التباهي والافتخار، ونحن ميالون لأن نقرن أنفسنا بما نعده مزايا خاصة أو فضائل باهرة ممتازة. وليس من شك في أن اليهود كانوا لا ينقصون عن غيرهم من الأمم في ميدان التفاخر بامتيازاتهم من أعدائهم. أما الحق فإنه ما من إنسان على صواب فيما يفتخر به، إلا أن يندم في التراب بسبب خطاياه ضد الله.

إن كان لأحد أن يفخر بصنائع الله فإن لإسرائيل بلا ريب أن يفتخر أكثر من غيره من الشعوب. غير أن هذا لا ينفي الحقيقة الثابتة وهي أننا إذا فحصنا الأمور في نور الله بأمانة فلا يسعنا إلا أن نتضع ونتذلل قدامه من أجل حقارتنا وعدم استحقاقنا. فنحن نجد الخطية في ذواتنا وفي أحدنا الآخر. ولهذا فلا بد من عمل روح الله لكي يرفع المؤمن فوق كل ما يستفز ويضايق، ليس فقط كل ما هو مضاد لما نحب بل كل ما نحسبه خطأ أيضاً.

هنا يأتي امتحان الرب القاسي. هل نثابر على حب بعضنا البعض ولو في هذه الحالة؟ من واجبنا ألا نتعامى عن إهانة شخص المسيح أو نكران حق الله أو العبث بالقداسة أو غير ذلك من أشكال الخطية المكشوفة. ولكننا مدعوون لأن نتقوى بالنعمة التي في المسيح يسوع، وأن نحتمل المشقات كجنود صالحين، وأن نصبر على كل شيء لأجل المختارين لكي يحصلوا هم أيضاً على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجد أبدي. وهذا ما تفعله المحبة في الواقع. إنها ترفع النفس إلى مستوى المساهمة في صبر الله، ذلك الصبر الذي اختبره المسيح إلى أقصى حد وأظهره في حياته كل يوم وفي كل شيء. غير أن هذا لم يمنعه من مناهضة الشر ضد الله. الأمر الذي لا يعد نقصاً في المحبة لأن عدم بغض الشر معناه الإساءة لطبيعة الله وكلمته، وعدم الاكتراث للشر هو عكس القداسة على خط مستقيم، بينما محبة الصلاح وإكرام البر جزء من القداسة العملية في كل شخص مولود من الله.

غير أن المحبة تسمو فوق كل ما يصيبنا في أشخاصنا أو يقاوم أفكارنا ورغائبنا فهذه كلها نستطيع أن نستودعها بين يدي الله بالإيمان، ويجب أن نستودعها كذلك في المحبة. قد نضطر أن نوبخ ما هو خط في إخوتنا ومن الواجب أن نوبخ إلا في الحالات التي لا يكون التوبيخ فيها لائقاً. ولكن مهما تكون الأمور محزنة وداعية للحسرة فعلينا أن نحفظ أنفسنا في محبة الله (يه 21) وذلك ليس لأرواحنا فقط بل لابد متى امتلأت نفوسنا من محبة الله أنها تفيض من نحو بعضنا البعض.

يبدأ الرسول العدد السابع مخاطباً المؤمنين كإخوة وهي كلمة تتناسب والمحبة التي يجب أن تسودهم. هم جميعاً مولودون من الله، أولاد أحباء، إخوة بعضهم لبعض وجميعهم أهداف المحبة الإلهية الهادفة، المحبة التي لا تتغير. محبة قد احتضنتهم جميعاً ويا له من باعث قوي مقتدر يشدد محبتهم بعضهم لبعض « أيها الإخوة لست أكتب إليكم وصية جديدة بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء ».

هذه الوصية القديمة نجدها في إنجيل هذا الكتاب الملهم. فهو الذي يبرزها أكثر من غيره، إن لم يكن الوحيد الذي يوردها بحروفها. فقد نقل إلينا أن الرب وضع في عنق تلاميذه هذه الوصية الحارة أن يحبوا بعضهم بعضاً. وإنه له المجد أوصى بهذه الوصية في أول إصحاح من تلك المجموعة البديعة من الإصحاحات التي يتكلم فيها مع تلاميذه بمناسبة رحيله عن العالم وذهابه إلى الآب. ففي (ص 13: 34 و 35) نقرأ الوصية الجديدة ولنرجع قليلاً إلى تلك القرينة المؤثرة « يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد ستطلبونني وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا أقول لكم أنتم الآن ». لقد كان ذهابه هذا شرطاً لابد منه للمسيحية، أي غيابه عن الأرض ووجوده في السماء فإلى ذلك الوقت لم تكن المسيحية بمعناها الصحيح قد بدأت فيما يتعلق برابطة التلاميذ ولو أن أصل البركة كان في شخصه العزيز، لكن موقفهم الصحيح بالنسبة للسيد وبالتبعية لكل شخص آخر – أي علاقتهم الكاملة – كان شيئاً جديداً عرفوه بعد الرب وقيامته وصعوده.

وإذ أشار إلى مغادرته إياهم ليصرح بما يريد فيهم ومنهم « وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضكم لبعض ». واضح من هنا أن الرسالة تشير بلا ريب إلى الإنجيل. وأن الوصية في الإنجيل هي نفسها المراد تطبيقها في الرسالة أعطى الرب في هذه الوصية لما كان على الأرض وفي هذا نرى توكيداً للملاحظة التي أشرنا إليها عندما التأمل في الكلمات الافتتاحية من الرسالة وهي أن هناك فارق بين « من البدء » و « في البدء ». على أن هذا الذي كان « من البدء » لم يكن ليوجد ما لم يسبقه وجود الكلمة والابن « في البدء » قبل السماوات والأرض. فالقول « من البدء » يعني من وقت وجود الكلمة الأزلي في أرضنا، وفي ملء النعمة والحق مع التلاميذ، أي منذ أن صار الكلمة جسداً وحل بيننا، فإلى هذه الفترة يشير الرسول عند قوله « بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء » « الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء » وواضح أن هذه الكلمة لم يسمعوها « في البدء ».

لقد سمعوها من المسيح. وقبل ذلك لم توجد وصية مثل هذه قط.

المحبة التي أوصانا بها سيدنا لم تكن مجرد محبة القريب. تلك محبة تختلف عن هذه في مقياسها ونوعها وأهدافها مهما كان مصدرها. أما المحبة موضوع الوصية هنا فمتجهة من وإلى الذين حصلوا على الحياة الأبدية في المسيح وقد أعد لهم فداءاً أبدياً بدمه. هم جماعة جديدة أفرادها قد أعدوا لكل ما هو مجهز لهم على أساس الحياة الأبدية التي نالها كل واحد منكم في شخص المحبوب. على أنه كان لابد من موته وقيامته لإقامة الأساس الإلهي لمواجهة كافة الصعاب والمطالب وكفالة جميع الامتيازات مهما كانت. لكن هذه المشورات وطرق الله ليست بوجه خاص مجال خدمة يوحنا، بل علينا الرجوع لرسائل بولس للبحث عنها. أما يوحنا فيعالج المبادئ المطلقة اللازمة للقديسين شخصياً في غير تعديل أو تخفيف، ولو أنه يلجأ إلى التعدي والتخفيف إلى حد ما بالنسبة لما نحن عليه وبالنسبة لحالة العالم الذي نعيش فيه. ومع ذلك فالمبادئ تظل ثابتة في مكانها وإليها يقود يوحنا جماعة المؤمنين. فهو يشدد على المبادئ الإلهية التي نحن مدعوون لأن نتمسك بها راسخين، وفي هذا لابد لنا في الاعتماد على إله أمين يعيننا في حل جميع الصعاب بواسطة الكلمة المعطاة لنا ولاسيما على يد الرسول بولس.

وهنا يتكلم رسولنا عن وصية المحبة وكيف يجب أن تكون هذه المحبة على قياس ومثال محبة المسيح لنا. إنها كانت « وصية قديمة » لأن المسيح قبل موته وقيامته كان لا يزال معهم على الأرض وهم كانوا لا يزالوا يهوداً ولكنهم كانوا قد حصلوا في نفوسهم على شيء هو أسمى من اليهودية بما لا يقاس. بحسب الظاهر كانوا مستمرين على عادتهم الأولى في الذهاب إلى الهيكل. بل أكثر من ذلك. إن غالبية التلاميذ إن لم يكن كلهم استمروا في هذا الطريق فترة طويلة وهم في أورشليم بعد وت الرب وقيامته وصعوده، بل إننا نقرأ عن قادة الرسل (حتى بعد نوال روح الموعد القدوس يوم الخمسين) يصعدون إلى الهيكل في ساعة الصلاة، كما كانوا متعودين أن يفعلوا قبل وبعد ما تبعوا الرب على الأرض.

« الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء ». ولإشارة هنا لا يمكن أن تنصرف إلى الأزلي. فهي وصية لم يأمر بها « في البدء » ولم يسمعها أحد في الأزل وإلى فإن ذلك معناه أنها وصية لا علاقة لها بالزمان أو المكان أو الناس. فواضح والحالة هذه أنه من الخطأ أن نخلط بين التعبيرين « من البدء » و « في البدء » كما يفعل الكثيرون.

على أننا نقرأ في العدد التالي، أي العدد الثامن، ما يبدو على أنه نوع من التناقض ويحنا لا يعبأ بهذا لأن ما يبدو متناقضاً أمام العقل البشري قد يكون هو الحق بعينه ولو أن الأذن الغير المختونة يحسبه متنافراً ومتناقضاً. غير أن السبيل الوحيد لفهم الأسفار الإلهية إنما هو الإيمان بما فيها. عندئذ نبدأ بفهمها أما إذا كنا لا نؤمن بها فكيف نستطيع أن نفهمها؟ إن الذهن الطبيعي ميال لأن يفضل الذات على الله ويأبى أن يتعلم ما يسمو فوق إدراكه بما لا يقاس. ولا شك أن تفضيل أذهاننا وأفكارنا وكلمتنا الخاصة على لكمة الله أمر يتناقض بالطلية مع الإيمان بوحي الله.

والشيء الوحيد الذي يليق بالمؤمن هو أن يقف بعزم راسخ في جانب الله وكلمته. قد يشعر بأنه لا يستطيع تفسير هذه الصعوبة أو تلك. لكنه يصدق الله ويستخون نفسه. ولهذا هو يتأنى وينتظر، واثقاً أن الرب سيعطيه نوراً بخصوص ما استغلق عليه إن كان ذلك لخيره، وحتى إذا لم يأتي النور إطلاقاً فإنه يثق ويؤمن أن للرب في ذلك غرضاً سامياً. فهو يعلم في قرارة نفسه أن الله دائماً على حق. أما عن نفسه فما أكثر ما يخطئ!

يقول الرسول في العدد الذي أمامنا « أيضاً وصية جديدة أكتب إليكما هو حق فيه وفيكم ». والواقع أن ما يبدو صعباً لأول وهلة إنما يفسر بعضه بعضاً تفسيراً كاملاً. فنحن ليس علينا أن ننتظر طويلاً أو نبحث بعيداً لنفهم كيف تكون الوصية القديمة وصية جديدة. من المحتمل جداً أن من يقبلون على درس كلمة الله بعقلية طلبة المدارس لن يفهموا المعنى المقصود حتى يوم القيامة. فهم يودون أن يفهموا دون أن يؤمنوا، والنتيجة أنهم يظلون في ظلامهم وغبائهم مهما تكن درجة تعلمهم. إن الوصية القديمة كانت حقاً في المسيح. فيوم أن نطق بها كان يحب تلاميذه جميعاً بحب لا يستطيعه غير الله. كان يحبهم حباً كاملا مطلقاً. وهل تتصور أنهم كانوا يحبون بعضهم بعضاً في ذلك الوقت؟ ألم يحسد أحدهم الآخر؟ لقد كانوا على استعداد أن يتخاصموا دائماً، بل أن يتشاحنوا ويتباحثوا بشدة فيمن يكون الأعظم بينهم. فهل كان شيء من المحبة في هذا؟ إن تنافساً كهذا لهو نقيض المحبة على خط مستقيم ويدل على نشاط الجسد والذات لا أكثر ولا أقل.

إن المحبة تعلم أن الله وحده هو الذي من حقه أن يقرر مركز كل واحد والكتاب يبين أن الله يقيم في الكنيسة مواهب كما يوافق مشيئته. أما التلاميذ فقد أرادوا جميعاً أن يكون كل واحد منهم الأعظم، الأمر الذي ما كان ممكناً أن يتم وهل من شيء يتنافى مع المحبة أكثر من أن يريد كل واحد أن يكون الأعظم وأن يأخذ المركز الأول لنفه؟ وكم يتعارض هذا مع فكر المسيح كما هو مرسوم في الإصحاح الثاني من فيلبي!

إذن فنرى هنا أن الشيء الذي كان وصية قديمة لما كان الرب على الأرض قد أصبح الآن وصية جديدة لأنها الآن حق ليس فيه فقط بل فيهم أيضاً. وما الذي جعلها حقاً فيهم؟ الجواب موت وقيامة الرب يسوع. هذا هو الذي يجعل كل شيء جديد. على أن القيامة ما كانت ممكنة لولا الموت، وما كان ممكناً لأمور القديمة أن تمضي لولا موت المسيح كما لم يكن ممكناً للأمور الجديدة أن تأتي لولا قيامته. لكنه هو القيامة والحياة وهذا هو مبدأ المسيحية المجيد. كل شيء يدور حول موت الرب يسوع وقيامته. هذا هو ما جعل القديم جديداً. وهذا ما جعله حقاً فيهم كما هو فيه. إنه له المجد كان لا يزال هو الحق، ولكن ما الحال معي ومعك أيها الأخ؟ هل نحن في الروح؟ أم تراني لازلت أنانياً أطلب ما لنفسي؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا ليس من المسيح ولا من المحبة.

وكم هو مبارك وجميل أن الوصية القديمة هي الآن جديدة، وحق فيه وفي خاصته! ولماذا هكذا؟ الجواب لأن المسيحيين يقفون جميعاً على حد سواء، كمن لهم حياة فيه وبما أن مساوئنا وشرورنا قد عولجت في صليبه فإن جميع الموانع التي تعطل عمل الحياة الإلهية وممارستها في المحبة وجريانها من نحو بعضنا البعض بحرية وبلا عائق – كل هذه الشرور والمعطلات قد دينت جميعها في صليب المسيح. وكما أن الكلمة تعلن هذه الحقيقة فإن الروح القدس يحققها اختبارياً في كل منا. ولاحظ أن الرسول يتكلم هنا أيضاً طبقاً للمبدأ دون الإشارة إلى الملابسات الوقتية العرضية التي قد تحيط بحالة كل مسيحي والتي لها علاجها في أماكن أخرى من الكلمة. غير أن يوحنا يعطينا المبدأ الصحيح في كل كماله لكي يتمتع به الإيمان ويمارسه بحسب قياس حالتنا الروحية، فيعلن أن الأمر حقا فينا أي في جميع المسيحيين كما هو حق في المسيح.

إنها في الواقع حقيقة منعشة بل مدهشة في الدائرة الروحية، ولكن بركتها لا تعرف عملياً إلا متى قبلتها النفس تصديقاً لكلمة الله وآمنت بها فيما يتعلق بالآخرين كما فيما يتعلق بالإنسان ذاته. يقول الرسول « ما هو الحق فيه وفيكم »، إن الوصية القديمة كانت بلا قوة إلى أن مات المسيح وقام، ولكن بعد موته وقيامته وبعد أن أظهر بذلك ملء البركة في ذاته، مائتاً وقائماً لأجلهم، فإنها وصلت إليهم هم أيضاً: إن حبة الحنطة بقيت وحدها إلى أن وقعت في الأرض وماتت، وإذا ماتت كما قال الرب أتت بثمر كثير. وأين ذلك « الثمر الكثير »؟ هو في جميع المسيحيين. في كل مسيحي حقيقي. قد تأتي الملابسات فتعطل، ومن المهم أن نتعلم كيف يمكن أن نتغلب على المعطلات ونسمو فوقها. فلا نعطي لأنفسنا راحة أو نكف عن الصراخ لله واستخدام الوسائل التي تزودنا بها كلمته ويمدنا بها روحه لمواجهة المعطلات في أنفسنا أو في الآخرين فقد أعطانا المسيح مثالاً، ونحن أيضاً ينبغي أن نغسل بعضنا أرجل بعض.

فهنا إذن أمامنا المبدأ، أي وصية المسيح في قوتها. أنها كانت كاملة على الدوام في المسيح لما لم تكن إلا الوصية القديمة كان هو وحده المنفذ لها. أما وقد مات وقام فهلم وانظر التغيير بين التلاميذ يومئذ « وقف بطرس مع الإحدى عشر رسولاً » وقفة رجل واحد. لقد تلاشى النزاع الجسدي والتنافس والأنانية. لم نسمع بهذا من قبل قط ولم نقرأ عن مثل هذا التغيير أيام خدمة سيدنا في الجسد، تلك الفترة المسماة هنا « من البدء ». لقد كانت حينذاك حقاً فيه وحده. أما الآن فبفضل قوة قيامته صارت حقاً فيهم كما فيه وهاك هو السبب « لأن الظلمة قد مضت » هذا هو الحق في كل مولود من الله. ولكن هل الظلمة مضت من العالم بصفة عامة ومن العالم المسيحي بصفة خاصة؟ لا هذا ولا ذاك فإن الظلمة لن تمض من العالم إلا بمجيء المسيح ثانية. يومئذ يقال « قومي استنيري لأنه قد جاء نورك » هناك سيكون نور لكل الأرض. قد يضيء بلمعان أكثر في أورشليم ولكنه سيعم المسكون بأسرها لأن مجد سيدنا سيملأ كل الأرض. أما الآن فواضح أن الحالة تختلف عن ذلك فيما يتعلق بالعالم. فالوثنية والأديان الزائفة موجودة في عصرنا وبابل ستوجد كما هي موجودة الآن ونحن نعرف ما هي فضلاً عن كل أنواع الشناعات المنتشرة في العالم المسيحي. وشر من هذا و ذاك، اقتراب يوم الأثيم الذي سيجلس في هيكل الله مظهراً نفسه أنه الله. وحتى في يومنا الحاضر تصم آذاننا أصوات الإلحاد والتشكك التي ترتفع من فوق المنابر كل يوم - ليس من بعض النكرات بل بالأسف من القادة و البارزين. وقليلون هم الذين يقفون ضد هذا التيار الأثيم معرضين أنفسهم للبغض والكراهية يوماً بعد يوم. ولكن مهما كانت عزلتهم وبساطة مسلكهم فإن شهادتهم هي أن هذا الإلحاد كله إنما هو خديعة إبليس ومقدمة الارتداد العتيد وطلائع الإنسان الخطية الذي يبيده الرب بظهوره بالمجد.

أما الظلمة فقد مضت، ولكن من أين مضت؟ من كل مسيحي يتجدد بالحق ويضم إلى الكنيسة. قد يؤمن بعض من مجاهل إفريقيا، وقد يؤمنوا في اليابان والصين حتى في روسيا. وهكذا حيثما تعمل النعمة، بغض النظر عن المكان، وحيثما يتجدد قديسون لله، فبهذا القدر تمضي الظلمة وهي تمضي فعلاً من كل مسيحي بالحق. والرسول هنا ينظر إلى المبدأ. فهو لا يبحث عن مدى تحقيق ذلك عالمياً. ليس هذا مهمة بل هو ينظر إلى أشياء كما ينبغي أن تكون في المسيحي عاملاً ومنفذاً المبدأ الإلهي الذي قبلته نفسه.

لكنه يضيف « والنور الحقيقي الآن يضيء » وذلك لكي يعطي المعنى المقصود كل قوله. إن هناك من المسيحيين من لا يحبون الدقة. ولكن أليس الأفضل أن يكون لدينا الحق في أقصى ما يمكن من البساطة والوضوح والكمال؟ والنقطة الهامة التي علينا أن نلاحظها هنا أن الكلام عن النور الحقيقي يلجأ بعد موت المسيح وقيامته.لألم يحاول العالم أن يطفئ ذلك النور بموت سيدنا؟ نعم لقد حاولوا ذلك وبذل قصارى جهده في تنفيذه. ولكن كل جهوده باءت بالفشل بفضل قيامة سيدنا وهاهو النور يضيء بلمعان أكثر وأقوى من ذي قبل « النور الحقيق الآن يضيء » فالقديسون الذين كانوا ضعفاء أصبحوا أقوياء ونسوا ذواتهم وجهالتهم في فيض سرورهم وفرحهم بالمخلص المقام. والروح الذي نالوه على أثر القيامة هو روح القوة والمحبة والنصح. ومن هنا نرى كيف أن وصية المحبة صارت الآن حقاً فيهم كما هي فيه. وهي في بلا شك لكن المشكلة كانت « فيهم ». فكيف يتسنى أن تكون حقاً فيهم؟ لقد قام المسيح آتياً بثمر كثير ومن هذا الثمر قد مضت الظلمة وحل محلها الر. وهكذا يطرد المسيح الظلمة بالنسبة لكل مسيحي وهو يضيء الآن لجميع المسيحيين، يضيء لهم وفيهم، أكثر من ذي قبل.

وبناء على ذلك يأتي في العدد التاسع الجواب عن من يقول أنه في النور وهو يبغض أخاه. إن هذه الرسالة تنظر إلى مجرد « القول » دون العمل نظرة قاسية ولكنها في محلها، فإن قديس الله الحقيقي لا يتكلم بخفة عن الوجود في النور. هو يعلم أنه في النور، ويبارك الله من أجل ذلك، لكنه ينظر نظرة جدية إلى هذا الأمر الخطير. إنه يدع الآخرين يقولون متفاخرين « نحن في النور » بينما هم يسلكون في الظلمة. وهل من شيء أكثر من هذا إهانة للرب أو أقل لياقة بالمسيحي؟ إن المسلك الصحيح الحقيقي لا أن نقول بل أن نظهر بأننا سالكون في النور وذلك بالسيرة التقوية أما « من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه » فإنما يقيم الدليل على أنه ليس في النور. فإنما ما يحمله بين جنبيه من بغض لأخيه يتعارض ليس فقط مع المحبة بل مع النور والحياة لأن هذا الثلاثة تسير معاً ولا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر. فكما أن الطاعة برهان الحياة، لذلك المحبة برهاننا الأخير، ومن خصائص النور الحقيقي الذي يضئ الآن أنه يكتشف ظلمة البغضاء. لاشك أنه إذا كان أخ قاسياً أو متهوراً أو مشوباً بأي نوع من أنواع النقص، فإن في ذلك امتحاناً لنفسك، ومن واجبك أن تكون أكثر حرصاً وحذراً، بل أكثر اهتماماً وعطفاً لاسيما إذا بدر منه شيئاً تراه سيئاً في نظرك. ولماذا يتسع قلبك لتربحه؟ ولماذا تتخلى عن المحبة حيث الحاجة إليها أشد وأدعى؟ إنه من واجبك أن تعطف على أخيك إذا كنت تحسب أنه أخطأ خطأ جسيماً. أو لا ينبغي أن يكون موضوع توسلاتك الحارة قدام الله، مهما كرهك لشره ورفضك لخطأه.

« من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة ». عبارة غاية في الاختصار ولكنها قاطعة كالسيف البتار. وهذا هو يوحنا الحبيب. لم يعد له أحد في اللطف والمحبة ،ولم يعد له أحد كذلك في الحزن والشدة.وهنا الفارق بين المحبة و عدم وهو الاكتراث.فهو لا يقول مجرد قول « إني أحب أخي » بل هو يحبه فعلاً « من يحب أخاه يثبت في النور » وهو يحب حتى مع وجود المتناقضات الأليمة التي ترهق المحبة وتثقل كاهلها، بل إن هذه المتناقضات والمنفرات تبرهن على وجود المحبة وتجعلها تظهر بلمعان أكثر وهذا معنى القول « وليس فيه عثرة ». لقد امتحنته تلك المضايقات في محبته، لكنه لم يعثر بل ظل يحب أخاه. مثل هذا « يثبت في النور وليس في عثرة ». لو أنه قابل الخطأ بمثله، أو لو أنه تمنى الشر والسوء لمن فشل وسقط، فحينئذ تكون الفرصة للعثرة. ولئن كانت هذه العثرات شأن الإنسان الطبيعي عندما تستفزه المضايقات، لكنها ليست من المسيح في شيء وبالتبعية ليست من المسيحي.

« وأما من يبغض أخاه ». هنا نرى الشر في صورته العنيفة. « وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة ». هذه هي حقيقة حالته، وهي القول الفصل في الموضوع فإن الذي يبغض أخاه هو من حيث المبدأ قاتل نفس كما يقول يوحنا في مكان آخر بعد ذلك (ص 3: 15). « ومن يبغض أخاه فهو في الظلمة » – ليس الكلام عما يفعل أو كيف يسلك بل أنه هو شخصياً في الظلمة، وهذه الحالة يدلل عليها بمسلكه العنيف الخالي من الرحمة وتعلنها أقواله وأفعاله. فأقواله لا تزيد عن كونه « يبغض أخاه ». وأفعاله لا تقل عن كونه « يبغض أخاه » أنه « في الظلمة يسلك ». ومسلكه برهان حقيقته، كما أن سلوكنا في النور نابع من حقيقة وجودنا في النور نعم فإن البغضاء الكامنة في قلبه ليست نظرية من النظريات بل حقيقة دفينة في أغوار طبيعته وكلمة « يسلك » لا تعني أقل من هذا – « ولا يعلم أين يمضي »أي أنه منحدر إلى الهلاك. وبكن هذا هو مصيره المحتوم وبخاصة وهو يدعي لنفسه مركز المسيحي لأنه إن كان لا يوجد شيء في الوجود أغبط وأبرك من صيرورة الإنسان مسيحياً فإنه لا يوجد أتعس وأبأس من ادعاء هذا المركز دون أن يكون الإنسان مسيحياً بالمعنى والحق. ومع ذلك فما أكثر الذين يضلون النفوس بهذه الصورة اليوم.

فكيف إذن يتأكد الإنسان أنه مسيحي فعلاً؟ أنا متأكد أني خاطئ هالك، ومتأكد أن الله يرحب بالخاطئ الهالك باسم يسوع لأن الله أعطانا ابن الله ليكون ابن الإنسان لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. فأنا محتاج لمسيح لأجل خلاصي وأؤمن به تصديقاً لكلمة الله عنه. أفليس من حقي إذن أن أتخذ مركز المسيحي؟ إذ قبلنا المسيح، قبلنا حياته، وهو في حساب الإيمان الكفارة الوحيد لخطايانا. وهكذا يعطى لقب أولاد الله لجميع الذين يؤمنون باسم المسيح، وهو يضمن لهم جميعاً النصيب المسيحي والبركة المسيحية وذلك لأن جميع امتيازات النعمة في شخصه العزيز تأتي عملياً مجتمعة معاً.

وعلى عكس ذلك، إن كان الإنسان يتخذ اسم المسيح بخفة ومجرد صورة دون أن يفكر تفكيراً جدياً في أمر خطاياه وحاجته القصوى إلى العتق والخلاص فلا شك إن مثل هذا الإنسان لا يزال يسلك في الظلمة رغم ادعائه الزائف. إنه في الظلمة ويسلك في الظلمة ولا يعلم إلى أين يمضي لأن الظلمة قد أعمت عينيه، وبالأكثر لأنه يدعي أنه مسيحي « لأنه إن كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون » أما المسيحي فقد ولد ليس من دم، ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله وذلك بالإيمان الحي بيسوع.

ليس القصد من ذلك تثبيط عزيمة أضعف مؤمن. حاشا فلا في العهد الجديد، ولا في العهد القديم، كلمة واحدة تحمل الناس على الشك والريبة، بل إن كل كلمة في الكتاب قصد بها أن تقودهم إلى الإيمان. فإذا آمنوا وخضعوا لإعلان الله أي كلمة حقه ونعمته، فالبركة لهم، لأن كلمة الحق هي إنجيل الخلاص، وكل ما هنالك أنها ككلمة الحق تكشف حقيقتك كخاطئ بائس ولكنها في الوقت نفسه تزيل كل لطخة وتمحو كل خطية وتضع يدك على الحياة الأبدية وتوقفك موقف المتبرر قدام الله. ليست الذات هي التي تبررني فأنا إنما أدين نفسي. الله هو الذي يبرر المؤمن بالرب يسوع. والمسيح وحده هو الذي في استطاعته أن يجعل عتقي من الدينونة حقيقة واقعية فإذا كنت قد حصلت على المسيح فإني أستطيع أن أخلي نفسي بالكلية، وكل الأشياء التي كنت أعتد بها وأفاخر، مهما كانت صورتها، فإني أرفضها جميعاً كأشياء لا قيمة لها إطلاقاً وخاطئة. ويا لها من غبطة وبركة وسعادة أن أجد أن جميع بركات الله هي في المسيح وأنه يمنحها جميعاً من مجرد نعمته المجانية! ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد. ولكن ها هنا شخص يجرؤ أن يدعي أنه تحت راية الاسم المقدس بدون أن يكون في نفسه شعور حقيقي بخطاياه أو بنعمة الله. هذا ليس إلا ادعاء أجوف وتضليل للذات. ومن أسف أن النظم الإكليركية في هذه الأيام تخلق هذه الحالة بضغطها على الجماهير البسيطة المغرورة فتحشرهم حشراً بين جماعة المؤمنين. فترى الواحد منهم يتسلل إلى دائرة الأخوية المسيحية ولكنه يفشل فشلاً ذريعاً. يبغض أخاه ومعنى ذلك أنه لم يزد عن كونه إنساناً طبيعياً فهو لا يزال في الظلمة وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أين يمضي لأن « الظلمة قد أعمت عينيه ».

لكننا بعد الإيمان نبصر جيداً، لأن الإيمان بالمسيح يطرد ويزيل كل عائق آخر فإن نعمة الله تعطينا المسيح ليس فقط كالحياة والكفارة بل كمن فيه الكفاية لمطاليب السلوك كل يوم ولمواجهة صعاب ومخاطر كل يوم. فما أعظم التشجيع الذي ينطوي عليه أسلوب الرسول البسيط العميق في عرضه لهاتين العلامتين اللتين تميزان المسيحي الحقيقي، وأعني بهما الطاعة ثم المحبة. ففي كلتيهما لا يوجد فيما بعد سلوك في الظلمة كأهل العالم، بل يكون للنفس نور الحياة، لأننا إذ نتبع المسيح مؤمنين طائعين نكون في الوقت نفسه سالكين في المحبة.

ولذلك فقد تعلمنا من أول الأمر أن طاعة الله البرهان الرئيسي والعلامة الأولى الجوهرية المميزة للشخص المسيحي وقد قصد بالطاعة أن تشمل جميع نواحي حياتنا وأن تربط تصرفاتنا وأعمالنا بواعثنا ونوايانا فنحكم عليها جميعاً بهذا المقياس: هل هذه مشيئة الله؟ هل هذا العمل يرضي الله؟ هل أنا في هذا الظرف أو ذاك مدعو لأن أعمل وأحتمل مهما كان العمل ومهما كان الاحتمال؟

والخضوع لكلمة الله فيه الجواب على كل سؤال. هكذا صار المسيح له المجد على الأرض. ونحن مدعوون كمسيحيين أن نسير في أثر خطواته. ولا ريب أن الخضوع المطلق لمشيئة أبيه وأبينا يجعل الأمر حلواً لنا كما يقول تبارك اسمه « احملوا نيري عليكم وتعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف » يا أخي، هل أنت تحمل هذا النير بإخلاص؟ إذن فطوبى لك، لأنه ما الذي يجعل النير هيناً علينا؟ لا شيء سوى المسيح، فإذا ما استقرت العين على المسيح هان الحمل علينا. أما إذا ابتعدت العين عن المسيح وتحولت إلى ذواتنا أو إلى شيء آخر، فعندئذ يصبح الحمل ثقيلاً لا يطاق، وتحت ضغط عدم الإيمان تنكسر السفينة.

ونستطيع أن نرى حكمة الروح القدس في إعطائنا كلتا العلامتين وفي الترتيب الذي يضعها فيه، أي الطاعة أولاً ثم المحبة. نحن عادة نضع المحبة في المركز الأول عند الكلام عن برامج حياتنا المسيحية، ثقة منا في صدق محبة إخوتنا. لا شك أن انطفاء جذوة المحبة في نفس الأخ المسيحي أمر يكسر القلب ويدعو للأسف والحسرة، وأنه لمن الأمور الشنيعة للغاية حقاً أن لا يكون الأخ المسيحي أخاً محباً، ولكن ما حال طاعته؟ هل هو الآن متميز بالطاعة لله بعد أن كان قبلاً موسوماً بالأنانية وفعل الإرادة الذاتية؟

نذكر جميعاً تلك الحجة القوية التي تسلح بها الرسل في تجاربهم القاسية أيام الكنيسة الأولى (أع 4 و 5) وهي أنه ينبغي أن يطاع الله. لقد كان تبشيرهم وتعليمهم بيسوع كالمسيح سهماً صائباً في نفوس رئيس الكهنة والكتبة والشيوخ والصدوقيين. ولذلك أمرهم القوم يومئذ ألا ينادوا بهذا الاسم. ولكن الله ظهر لهم وهم في السجن ظهوراً معجزياً أدهش القائمين على حراستهم. إذ أخرجهم من السجن ملاك وأمرهم أن يعودوا ليتكلموا ثانية في الهيكل. ولم يكن خروج الاثني عشر هذه المرة كخروج بطرس بعد ذلك منفرداً يتبع الملاك دون أن يراه أحد – مع ما في حادثته من معجزات عجيبة – ولكن خروجهم جميعاً هذه المرة كان على مرأى من الحراس الذين كانوا في نوبة حراستهم يروحون ويغدون دون أن يدركوا البتة ما كان الله يفعله. فهو يعرف جيداً كيف يطمس العيون ويخلص من الأغلال إذا أراد. وإذا وصلوا إلى الهيكل كما أخبرهم الملاك نادوا برسالة الله. غير أن قادة اليهود تعلموا حتى عن هذه الآية وأصروا على إسكات الرسل. وهنا لم يسع الرسول بطرس إلا أن يجهر بقوله المأثور « ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس ». أجل، فالطاعة هي حق الله على المخلوق وهي واجب المسيحي الذي لا يحيد عنه. فإذا لم نطع الله فإننا نسيء إليه في أهم حق من حقوقه علينا.

من المسلم به أنه يوجد على الأرض أشخاص من حقهم أن يأمروا، كما يوجد آخرون من واجبهم أن يطيعوا. فالطفل مثلاً يجب أن يطيع والديه، وكل إنسان يجب أن يخضع للسلطات المدنية. ولكن هذه الطاعة تختلف كل الاختلاف عن طاعة المسيحي التي يتحدث الرسول عنها هنا. فالطاعة الظاهرية أو الطبيعية قد تتم رغم أنف الشخص الطائع، أعني أنه قد يؤدي واجب الطاعة مستكرهاً بعض الأحيان. هذا النوع من الطاعة لم يعرف سبيلاً إلى طاعة المسيح. وينبغي ألا يكون له مكان في طاعة المسيحي الذي قد تقدس لطاعة المسيح وأصبح مطلوباً منه أن يثبت نظره على ناموس الحرية الكامل كمن نال طبيعة جديدة تحب أن تفعل مشيئة الله كما هي معلنة في كلمته بالمباينة مع إسرائيل تحت ناموس العبودية والتهديد بعقوبة الموت. ذلك أن الطبيعة الجديدة تجد في مشيئة الله بواعثها على العمل كما تجد في المسيح مثالها الكامل.

قد نتألم في طريق الطاعة لله، لكن هذا شرف لنا، كما حسب الرسل يوم جلدوهم بسبب إصرارهم على طاعة الله، وبكل وداعة تحملوا النتائج، كانت عقوبة جلد اليهودي في المجمع تعد إهانة كبرى في تلك الأيام، غير أن الرسل تحملوا الإهانة في صمت بل بالحري خرجوا فرحين لأنهم حسبوا أهلاً لأن يهانوا من أجل الاسم العظيم. ولم يكن موقفهم هذا مجرد « مقاومة سلبية » بل طاعة مقدسة واحتمالاً لنتائج بلا تذمر بل بسرور فائض. إذن فالطاعة تفترض كسر الإرادة الذاتية والخضوع لكلمة الله وبالتالي لله نفسه. والواقع أنه لا يوجد تواضع حقيقي بدون الطاعة، ومع ذلك فالطاعة هي التي تسلح النفس بالقوة والشجاعة ضد جميع عوامل الجذب المضادة وتعطي ثباتاً ورسوخاً لأضعف قديس ضد كل عدو أو خصم. هذا ما نراه في المسيح نفسه، ذاك الذي أكرم المكتوب إكراماً كاملاً والذي يجب على المسيحي أن ينهج على قياسه. إن الطاعة تركز الذهن على مشيئة الله وتغار على صون سلطانه في كل ما نطق به فمه عالمة أن له وحده الكمال الإلهي المطلق في الجلال والقداسة والحق والأمانة – ذلك الكمال الذي ظهر بتمامه في الكسيح الذي هو صورته.

لكن المحبة ليست هي هذه الناحية من الطبيعة التي نسميها الطهارة ولو أنها لا تنفصل عنها – تلك الناحية التي عبر عنها تعبيراً قوياً بالنور الذي من خصائصه أن يظهر ذاته كما يظهر كل إنسان وكل شيء آخر أينما أضاء. أما المحبة فهي نشاط اللاهوت في صلاحه الذاتي ليس فقط بالنسبة للذين لهم به علاقة أو تجانس بل هو صلاح يتخطى كل الحواجز وبالنعمة الكاملة يخلص أشر الخطاة الذين يقبلون المسيح ويحررهم من أفظع الشرور بفضل الفداء بدمه، وبالحياة الأبدية التي هي في الابن ولكنها أعطيت للمؤمن كحياته الجديدة وبالروح القدس الذي يقوده من تلك اللحظة كابن الله ويعمل فيه وبه في وحدانية جسد المسيح، والكنيسة، بينما هو ينتظر رجوع سيده ليأخذه لنفسه ويدخله مع جميع القديسين السماويين إلى بيت الآب في الأعالي ونستطيع أن نقول إن جاز هذا التعبير أنه إن كانت الطاعة في النور بمثابة القوة المركزية الجاذبة في المسيحي فإن المحبة هي القوة المركزية الدافعة، باعتبارنا متمثلين بالله كأولاد أحباء وسالكين في محبة كما أحبنا المسيح وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة.

ليت الرب يباركنا حتى تتم فينا، لا العلامة الأولى فحسب، بل أيضاً العلامة الثانية أي المحبة التي هي عامل النشاط في الطبيعة الإلهية. ولنذكر أن القديسين التسالونيكيين كانوا حديثي الإيمان ومع ذلك فقد كتب إليهم الرسول يقول « أما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها لأنكم أنفسكم متعلمون من الله أن يحب بعضكم بعضاً » (1 تس 4: 9). أما نحن فقد قطعنا في الطريق شوطاً أطول مما قطعوا. فليعطينا الرب نعمة ونحن متعلمون من الله نزداد في المحبة أكثر. عالمين أن الشكر يتبع المحبة دائماً، وأن المحبة التي ليست من هذا النوع لا تزيد عن كونها « لطافة » كما يسميها الناس أو روحاً طيبة كريمة لا تريد أن تتعب أو تتعب غيرها ومستعدة أن تدع كل إنسان وشأنه. وهو يحسبون ذلك محبة!! ليت الرب يساعدنا لتمييز وإدراك ما لروح الله.

أ -  ب - مقدمة - الخطاب 1- 2 -  3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16- 17 - 18 * 19 * 20

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

 

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.