لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

عشــرون محاضــــرة في شــرح 

رســائل يوحنا الرسول

خادم المسيح وليم كيلي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الخطاب السابع عشر

1 يو 5: 6 – 12
 

« هذا هو الذي أتى بماء ودم يسوع المسيح لا بالماء فقط بل بالماء والدم. والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق. فإن الذين يشهدون (في السماء) هم ثلاثة: (الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد). والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: (الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد). إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه: من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه. وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن فله الحياة ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة ».

حدثتنا الأعداد الأولى من إصحاحنا عن أمرين: عن الأشخاص الذين من واجبنا أن نحبهم بحسب الله ثم شرحت لنا كيف أن هذه المحبة منفصلة عن واجب الطاعة نحو الله، بحيث أم المحبة الإلهية في المسيحي لا يمكن أن تكون بغير إطاعة وصايا الله. والأمر ليس هكذا مع المحبة الطبيعية والعواطف البشرية لأن هذه مستقلة استقلالا تاماً عن الطاعة. فالمحبة المسيحية هي النشاط الروحي للإنسان الجديد، وحيث أنها تتجه لجميع أولاد الله لأنهم خاصته فإنها لا تستطيع أن تتجه لأي واحد منهم بالانفصال عن الخضوع لمشيئة الله، أي أنه يتحتم على المحبة أن تتخذ شكلاً آخر إذا كانت تعالج عصياناً لدى أولئك الذين في أعناقهم أن يطيعوا الله، فالمفروض في كل حالة المحبة الإلهية والطاعة الإلهية صنوان متلازمان في نفس المؤمن ولا يمكن أن تنفصل إحداهما عن الأخرى.

ثم رأينا بعد ذلك أن سبيلنا في هذين الميدانيين، ميدان المحبة وميدان الطاعة، يعترضه عدو حاضر، نحن معرضون لأن نتجاهله من ناحيته الخبيثة الماكرة. فللأحداث عذرهم إذا ما أحسوا أن ذلك الشيء الذي يسميه الكتاب « الجسد » هو مصدر لشر أناني بغيض ولو أنه من اليسير مع الأسف أن نكتشف بشاعته في غيرنا دون أن نكتشفها في أنفسنا. والواقع أن مظاهر حركاته الخداعة أننا نسرع في استكشاف (إن لم يكن في تخيل) مساوئه في الآخرين بقدر ما نبطئ في إدانته إدانة كاملة في حالة أنفسنا.

أما العالم فهو الغالب فخ أمكر، له أساليبه الخاصة في اللباقة والكياسة في حين يستطيع أن يقدم للطبيعة البشرية، بل ولكثيرين من المسيحيين الحقيقيين، ألواناً مما يروق ويلذ. أما ديانته (وهي أبغض ما فيه لدى الله) فلها جاذبيتها القوية. فالعالم إذاً عدو أخطر بكثير من الجسد. فإن جنوح الجسد وشروده ليس أمراً مخجلاً قدام الناس فقط بل مذلاً ومحزناً قدام الله حتى بالنسبة لصغار المؤمنين وأقلهم روحانية. غير أن العالم يبدو في معظم الحالات محترماً ولذلك ترى جانباً كبيراً من القديسين الذين لا يتأخرون لحظة في اكتشاف حركات الجسد العادية ينتحلون المعاذير للانغماس في العالم ومسايرة تياره. والعالم كما نعلم هو العدو المباشر للآب لدرجة أن محبة الآب لا يمكن أن يكون لها قوتها ولا يمكن التمتع بها حيث يسود روح العالم. لقد لاحظ الكثيرون، وهي ملاحظة صحيحة وواضحة – إن الكتاب كما يصور لنا العالم عدواً للآب، يصور لنا الجسد عدواً للروح والشيطان عدواً لابن الله. على أن هذه المقاومة الثلاثية الشريرة التي يتزعمها الشيطان ضد اللاهوت المقدس يثيرها للضرر بواسطة العالم والجسد. ومن الجهة الأخرى لنا هذه التعزية أن الآب يعمل للخير بربنا يسوع بالروح القدس. فقد نستطيع أن نميز أشكال الشر المتنوعة لكنها في الواقع تتلاقى معاً في العمل، وهكذا الحال أيضاً في أعمال اللاهوت – ولكن الذي فينا أعظم من الذي في العالم.

وهذا يأتي بنا إلى شهادة الله في العالم التي تتجه نحو الناس وتكون منهم عائلة. وهي لذلك شهادة قوامها الإيمان بالكلمة التي تعلن يسوع ابن الله، وليس قوامها المناقشة أو العاطفة ولا طقس من الطقوس يجريه فريق خاص من الناس. إنها شهادة الله المتعاملة مع ضمير الخاطئ مطهرة القلب بالإيمان الذي يستند للغفران على موت الرب يسوع الكفاري. « هذا هو الذي أتى بماء ودم، يسوع المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم ». فإن الله يعطي شهوداً خصوصيين لكي يؤثر على الإنسان الواقع تحت ضغط الدنس والإثم: مؤمنين وغير مؤمنين – هؤلاء لكي ينحنوا أمامه وأمام حقه وأولئك لكي يتطهروا في ضمائرهم ويتشددوا في إيمانهم.

لذلك ننتقل هنا من شخص المسيح – كما كان موضوع الأعداد السابقة – إلى عمل المسيح الذي يختص بشخصه الكريم. ذلك لأن عمله هو الذي يأتي بالشهود وفي هذا يتنازل الله تبارك اسمه فيعطينا أكثر من شهادة كافية، بين الإنسان وأخيه الإنسان كان يكفي أن يقوم شاهدان، ولو أن ثلاثة كانوا أفضل. هنا نرى الله يقدم الأفضل والشهادة الأكمل. يدم للإنسان ثلاثة من أعظم الشهود الذين يمكن أن يخطروا على البال لكي يقودوه إلى الحق. يقول الوحي « هذا هو الذي أتى » ليس بالتجسد أو القدرة أو الحكمة ولا حتى بالقوة الإلهية أو المجد. فلم يكن بتجسده ولا بخدمته الممتازة التي لا مثيل لها. بل « هذا هو الذي أتى بماء ودم، يسوع المسيح ». فذاك الذي كان الإله الحقيقي والحياة الأبدية أتى ليموت موتاً حقيقياً كأي إنسان، ولكنه موت انفرد هو به دون سواه. إذ جعله الله خطية ليخلص الخطاة ويغسلهم، فيجعلهم لا مطهرين فقط في الداخل، بل في نظر الله أبيض كالثلج بواسطة دمه الثمين. أجل، أتى ليموت لأن موته وحده هو الذي كان يستطيع أن يمحو خطايانا ويمجد الله من جهة الخطية (يو 13: 31 و 32). والإشارة في هذا العدد هي بلا شك إلى موقف ربنا على الصليب، فإنه بعدما مات فعلاً، تقدم أحد العسكر وطعنه بحربة لكي يستوثق من موته وللوقت خرج من جنبه دم وماء. وفي الحادث التاريخي كان الدم هو طبعاً أول ما وقعت عليه العين ومن أجل ذلك فهو يذكر هناك أولاً. ولكن الماء رؤى وهو يسيل أيضاً. وهل من عجيبة رأتها العين أو سمعت بها الأذن أعجب من هذه، وهي أن دماً وماء يخرجان من جنب إنسان ميت؟ ولكن هكذا كان مع ربنا يسوع.

إن إنجيل يوحنا (ص 19: 33 - 37)يشير إلى هذه الأعجوبة ويلفت النظر إليها أكثر من أية معزة أخرى من معجزات سيدنا الكبرى، حيث يقول « وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات. لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء. والذي عاين شهد وشهادته حق وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم ». إن هذا حصل فعلاً وجرى الدم والماء حقيقة من الإنسان الميت على الصليب. وقد شاء الله أن يهيئ هذه الظاهرة الغير طبيعية آية للعمل العجيب الذي انفرد به ابن الله المتجسد. وقد رآها الروح القدس هكذا مهمة لمجد سيدنا ومصالحة الإنسان حتى حرص على تسجيلها بهذه الصورة القوية أولاً في الإنجيل ثم تطبيقها عملياً بعد ذلك في الرسالة التي أمامنا.

« هذا هو الذي أتى بماء ودم ». إن آدم لم يصر أباً للجنس البشري إلا بعد أن دخلت الخطية وأخذ الموت يعمل عمله. هكذا سيدنا صار رأساً للخليقة الجديدة لما قام كالبكر بين إخوة بعد أن حمل خطايانا. وبواسطة « الموت » (وليس بواسطة الميلاد كما يزعم البعض) أباد ذاك الذي له سلطان الموت. ولكن قبل ذلك كان النظام اللاوي بكهنته وذبائحه وقدسه العالمي قائماً بموافقة الله. وعندئذ فقط – عند موته وقيامته – تم العمل وبدأت المسيحية على أساس ذبيحة كفارية واحدة ومخلص مقام سرعان ما تمجد في السماء.وكما رأينا بولس وهو يعيد الإنجيل إلى مسامع الكورنثيين المتقلبين يبدأ بالمسيح مائتاً من أجل خطايانا حسب الكتب، هكذا الرسول يوحنا في طريق تدعيم شهادة الله يتجاوز عن كل شيء آخر ويأتي إلى حقيقة موت الرب للتطهير والتكفير. وهو هنا يبدأ بالماء، الرمز المشهور عن قوة الكلمة في التطهير، كما نقرأ في الكتاب على الأقل في (يو 3: 5) حيث نرى الروح القدس عاملاً مع الكلمة كما نرى « الدم » هنا تابعاً للماء، إن كلمة الله تتعامل أولاً مع النفوس. فيها يتكلم الله إلى ضمائرنا ويواجهنا بذنبنا. وليس من شك في أن كلمته – لا تقاليد الإنسان – هي التي تثبت ما نحن عليه من صمم وعناد ودنس في نظر الله. ولكن ما أحلاها على قلوبنا وأكرمها في عيوننا من تلك اللحظة فصاعداً باعتبارها نابعة منه كمن مات لأجلنا على الصليب!

إذاً فغسل الماء مصدره ذلك الجنب المطعون، جنب ربنا الذي مات من أجل الخطاة. وهذا مما يضاعف في قيمة هذه العملية إلى أقصى حد. من أجل ذلك وضع سيدنا هذا المبدأ قبل موته: « الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه ». فالإنسان يغتسل (أي يستحم) مرة واحدة، أما الأرجل فتحتاج إلى الغسل طوال الرحلة الأرضية. أي أن شفاعة المسيح هي التي تعالج مسألة السقطات اليومية وليس عشاء الرب كما يزعم بعض البسطاء الذين يسيئون استخدامه. والروح القدس يطبق الكلمة على أساس موت الرب كلما دعت الحاجة. أما « غسل التجديد » فلا يحدث إلا مرة واحدة للمسيحي. وليس سوى موت المسيح يبرئنا من الخطية. صحيح إننا قد نحس بالخطية ونكرهها وندين أنفسنا بسببها. غير أنه لا تبرئة للنفس أو تطهير من الخطية بدون موت المسيح. لذلك قيل « هذا هو الذي أتى بماء ودم ». ذلك كان الحق السامي أمام الله في موت المسيح لأجل شهادة الله تتلخص هنا في موته. يا له من حق عميق! وما أعمق النعمة التي استطاعت أن تتكلم إلينا هكذا ولكنه ليس صحيحاً فقط أن هذه هي القوة المطهرة التي عملت فينا عملها المبارك ونحن على عتبة المسيحية بل أن موته كان لازماً بالنسبة لله كما كان لازماً بالنسبة لنا، مع الفارق أنه من جانب الله لم يكن طبعاً للتطهير بل للتكفير. لقد دخلت الخطية إلى العالم فدخلت الفوضى في ركابها وعم الخراب كل شيء هنا على الأرض. وجاء الصليب فأعاد النظام الإلهي إلى نصابه وأثبته إلى الأبد. فلولا الصليب كيف كان يمكن للمحبة والنور والنعمة والحق أن تعمل معاً؟ كيف كان يمكن للمحبة أن تأتي إلى السماء بالخاطئ الذي أظهر النور أنه غير مستحق إلا لنار جهنم؟ وإذا كانت النعمة تطلب الرحمة لهذا الخاطئ فمن ذا الذي كان يستطيع أن يفند أو ينكر الحقيقة أنه عدو خصيم بلا قلب ولا رحمة؟ أما في الصليب فقد تلاقت طبيعة الله وصفاته في انسجام تام. هناك تمجد الله في ابن الإنسان، وقد أصبح من بره وعدله أن يبرر أفجر وأردأ الخطاة الذين يؤمنون إيماناً صادقاً بالرب يسوع.

ومن هنا أتى المسيح « بالدم » ويضيف الرسول « ليس بالماء فقط بل بالماء والدم » لقد كان الأمر يمس جلال الله وسلطانه وكلمته وقداسته وبره كما كان يمس محبته. أما الآن في موت ابن الإنسان فقد تلاقت هذه الصفات جميعها في انسجام تام وتمجدت في كمال مطلق لم يكن ممكناً بأية طريقة أخرى. وإذا كان الله قد استراح في هذا العمل راحة كاملة وفي مسرة أبدية فهو من جانبه يعمل الآن بالروح القدس المرسل من السماء لإعلان ذلك العمل بكلمته لجميع الذين يقبلون المسيح وكلمته بالإيمان.

لكن بماذا يحدثنا مجيء الرب بالماء والدم عن الإنسان – لأن ذلك المجيء كان معناه نهاية حياته الأرضية له المجد؟ يحدثنا عن هذا الحق المخيف الرهيب وهو أن الإنسان كان في حالة من الانحطاط والشر بحيث لم يستطع الرب العظيم والسيد المبارك الكريم الذي تنازل وصار إنساناً في محبته للإنسان « لم يستطع وهو حي بينهم أن يجتذب الإنسان من شره وعدائه ». أي نعم، كان الأمر يتطلب مخلصاً مائتاً على الصليب لقد قال لهم الرب في حياته « لا تريدون أن تأتوا إلي لتكون لكم حياة » (يو 5: 4) « إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها » (يو 2: 24) « وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع » (يو 12: 32) فموت المسيح هو أقوى برهان على موت الإنسان أدبياً وهو الآن بالنعمة أساس أفضل بركات الله للإنسان ويا له من دليل أيضاً على ناموس الله لم يستطع إلا أن يدين الإنسان! وهكذا قد أثبت موت المسيح خراب الطبيعة البشرية الكاملة في كل طبقة من طبقات الناس. فمع أن ملء اللاهوت حل في الرب يسوع جسدياً إلا أنه كان لابد من موت المسيح لكي يخلص الإنسان من خطاياه وبعد أن قام المسيح من الأموات أصبح ملء ومثال الإنسان الجديد السماوي وفقاً لمشورات النعمة الإلهية.

وليس من السهل تبيان الفرق بين حرفي الجر المستعملين في العدد السادس من إصحاحنا والمترجمين في الحالتين بحرف الجر « ب » في لغتنا العربية. فهو في النصف الأول (هذا هو الذي أتى بماء ودم) معناه « بواسطة أو عن طريق » وفي النصف الثاني (لا بالماء فقط بل بالماء والدم) معناه « بقوة » أي أن الرب يسوع جاء لكي يموت هذا الموت العجيب الذي كان لابد منه لمواجهة حاجة الإنسان القصوى ولكي يوفر للمؤمن خلاصاً كاملاً من الذنب والدنس. وذلك ليس « بقوة » الماء فقط بل بقوة الماء والدم. فقد كان الإنسان هالكاً لدرجة أن المسيح وقد جاء من اجله، ومع كونه الله وإنسان في شخص واحد، كان لابد له من الموت لكي يطهره ويكفر عن خطاياه. وهكذا هو جاء فعلاً بواسطة أو عن طريق موته في ملء هذه القوة الكاملة – قوة الماء والدم. نعم، فقد جاء موته كافياً في ذاته لأشر الخطاة وأكثرهم ذنباً حتى ولو لم تؤمن نفساً واحدة ولكن هكذا أرادت نعمة الله وعملت حتى يكون هناك إيمان به، ومن هنا كان العمل بقوة الماء والدم.

ولكن هناك إضافة أخرى في غاية الأهمية وهي « والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق ». نعلم جميعنا أن الرب يسوع قال عن نفسه أنه « الحق ». فكيف يقال هنا أيضاً عن الروح يستخدمها الروح القدس لتمجيد المسيح أمام خاصته وفيهم، وذلك أمر من السهل إدراكه. غير أن الفارق هو هذا: إن الرب يسوع الابن هو الحق « موضوعياً » أي هدفاً وغرضاً، في حين أن الروح القدس هو الحق باطنياً باعتباره القوة العاملة في القديس لإدراك المسيح والتمتع به. فلكي نتبارك من الله يعوزنا تسديد حاجتين عميقتين: يعوزنا الحق من الله للضمير والقلب والفكر، وهذا نجده كاملاً في ربنا يسوع المسيح باعتباره الحق موضوعياً لكن هناك « الخطية » في الطبيعة القديمة التي تقاوم كل ما من شأنه إدانتنا. وحتى عندما يولد الإنسان من الله يحتاج الأمر إلى السهر اليقظة ضد حركات الطبيعة باستمرار هنا على الأرض. فكيف تسدد هذه الحاجة؟ تسدد بروح الله الذي هو الحق داخلنا باعتباره القوة الباطنة العاملة في توصيل وتطبيق الحق الموجود في شخص المسيح خارجاً عنا. إي أن الروح القدس يجعلنا نتقبل غرض الإيمان وموضوعه ونقدره حق قدره. وبعبارة أخرى هو قوة التخصيص في الإنسان الجديد الذي هو الحياة في المسيح، وبهذا المعنى هو أيضاً الحق داخلنا. ويمكننا أن نلخص هذا الفارق في كلمات بسيطة فنحن ننظر إلى الرب كالغرض الموضوع أمام عين الإيمان بينما الروح هو القوة في داخل قلوبنا وبما أن الحق هو إعلان كل شخص وكل شيء أو إظهاره على حقيقته فمن هنا نفهم لماذا تطلق هذه التسمية على الابن والروح القدس سواء بسواء ولا تطلق على الله كالله ولا على الآب.

ولكنك إن أصغيت إلى علم اللاهوت – وهو « العلم » الذي ابتدعه أصحابه من العقلين والطقسيين قياساً قياساً إلى العلوم البشرية – فإنك تسمعهم يتكلمون عن الله كالحق. وبهذا المناسبة أذكر أنني منذ سنوات التقيت برجل من رجال الأدب المشهورين، ولكنه من الفلاسفة الأجانب الملحدين، ومع أنه في كلامه معي كان يندد بآراء فولتير وروسو إلا أنه كان يشدد النبرة في كلامه على الله باعتباره الحق. وبعد نهاية مقابلتنا عرض له أن تقابل مع أحد أصدقائنا، فساقه الحديث إلى ما كان بيننا من نقاش، وهنا أراد أن يبين لصديقنا الفارق بينه وبيني، فقال في عبارة مختصرة منمقة وإن كان ينقصها الوقار، إنه هو رأى الله لنفسه، أي عرفه من تلقاء ذاته، أما أنا فقد رأيته فقط « بمنظار يسوع المسيح ». نعم، فهو كان يخادع نفسه أنه رأى الله أو عرفه. فالله في ذاته يجل عن كل معرفة وهو فوق تفكير البشر. وهو أسمى من إدراك الناس وأعظم بمراحل من تناول أفهامهم. إن الإنسان في حاجة إلى وسيط يجمع بين الناسوت واللاهوت في وقت واحد ليتسنى له بالروح القدس أن يعرف الإله الحق. بهذه الوسيلة وحدها يمكن للحق أم يعرف. فالله كالله ليس هو إعلان الحق (ولا هو ضمير الإنسان ولا عقله) بل هو المسيح كالغرض والروح كالقوة الباطنية للطبيعة الجديدة. فكيف ظهر الله؟ في المسيح. المسيح هو المعلن خارجياً والروح القدس هو العامل داخلياً، والكلمة هي إعلان الله أو الحق. قد يكون المسيح نصب عيوننا في كل لحظة من حياتنا، ومع ذلك فلا يفيدنا هذا شيئاً ما لم يعمل الروح القدس فينا بواسطة الكلمة ليعيننا على قبول الحق بالإيمان والانتقال بذلك إلى الحياة الجديدة.

غير أن الرسول يقصد أن يقول أكثر من هذا في كلماته الموجزة الحافلة بالمعاني، « فإن الذين يشهدون هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد ». في هذه العبارة نلاحظ أن الترتيب معكوس. فمن الوجهة التاريخية كان الدم أولاً ثم الماء ثم الروح مرسلاً من السماء تكريماً لفداء المسيح ولكي يقيم في القديسين كالمعزي الماكث فيهم وينشر أخبار الإنجيل للخليقة كلها بقوة الله، وليس بقوة الإنسان وإن كان بواسطة الإنسان. وفي هذا يعطي الله ثلاثة شهود يتفقون في شهادة واحدة. هذا هو الترتيب التاريخي، أما من حيث الحقيقة الروحية فالترتيب هو الروح أولاً ثم الماء ثم الدم. طبيعي أن الروح القدس هو الشاهد الشخصي الوحيد بين الثلاثة وهو أيضاً القوة الحاضرة الحية. أما الماء والدم فيسميان شاهدين مجازياً وبهذا الاعتبار يشار إليهما كشخصين. على أن الروح القدس أقنوم في اللاهوت ومن أعماله الخاصة أن يشهد على الأرض نظير الابن: هو يشهد عن المسيح والمسيح يشهد هم الله والآب – « والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق ».

على أن الفصل الذي أمامنا قد زيدت عليه بعض الكلمات سواء بقصد أو بغير قصد وهي التي تراها في الكتاب المشوهد بين قوسين، وكما وضعنا نحن في رأس هذا الموضوع فمن المسلم به تحقيقاً أن الفقرة المبتدئة بكلمتي « في السماء » في العدد السابع والمنتهية بكلمتي « على الأرض » في العدد الثامن ليست جزءاً من النص الأصلي فربما كانت في مبدأ الأمر هامشاً على إحدى النسخ فجاء أحد النساخ وأدخلها في المتن ظاناً أنها منه. وقد تناول إعلام التحقيق الكتابيون هذه القضية بالبحث والتحري فخرجوا بهذه النتيجة وهي أن الفقرة جاءت عرضاً بطريق الاستنتاج البشري، على أن أي مسيحي ولو لم يكن يعرف كلمة واحدة من اللغة اللاتينية يستطيع أن يحكم على الفور إنها كلمات مضافة، وهو ليس بحاجة إلى رجال العلم أو أبحاثهم ليقرر أن الفقرة زائدة. فإن كلمة الله جامعة مانعة وتحمل في ذاتها دليل كفايتها.

أما أولاً فما معنى الشهادة « في السماء »؟ تأمل جيداً في التعبير ألا ترى أنه ليس فقط غير كتابي بل يدل على الجهالة؟ هل من حاجة إلى شهادة في السماء؟ إن سكان السماء الطبيعيين ملائكة ولم يكونوا يوماً من الأيام بحاجة إلى شهادة. هم مختارون ومقدسون فلا داعي للشهادة لهم. ثم أن الملائكة الساقطين قد هلكوا هلاكاً لا قيامة لهم منه إذ تركوا رياستهم أو مكانهم الأول، بعضهم محفوظون في سلال الظلام، والآخرون – كالشيطان مثلاً – لازال مسموحاً لهم بالشكوى على القديسين الذين يجربونهم ويضلون المسكونة. فلا شهادة لهم جميعاً. وأرواح القديسين الذين انطلقوا ليكونوا مع المسيح، هل تحتاج إلى شهادة؟ إن الشهادة لازمة لسكان الأرض وقد أعطيت بنعمة الله لأن الناس غارقون في الظلام ويعوزهم الحق. فعندما نطق بيلاطس بسؤاله المأثور « ما هو الحق » إنما كان يعبر عن جهالة كل العالم وعدم معرفة للحق. لقد كان مكسالاً وكمعظم الناس لم ينتظر حتى يحصل على الجواب. وما كان لأحد في الواقع أن يفوز بمعرفة الحق لو لم يعط اله شهوده الثلاثة الأكفاء وهم « الروح والماء والدم ».

إذاً فالوضع الصحيح للعدد هو هكذا: « فالذين يشهدون هم ثلاثة............ » بغير داع لإضافة الكلمتين « على الأرض » لأنهما غير ضروريتين إذاً المفروض أن الأرض هي مكان الشهادة التي غايتها تقديم الحق للذين يجهلون. إن الشكر والتسبيح هما طابع السماء وليس الشهادة. فإذا قبلنا نحن الذين على الأرض شهادة الله فإن محبة المسيح تحصرنا لكي نحمل الشهادة للآخرين الذين لا يزالون خطاة كما كنا نحن. والآن لنرجع إلى ما كتبه الروح. فليس فيما كتبه سوى الحق*.

رأينا فيما سبق صحة الترتيب في العدد السادس الذي يذكر الروح القدس أخيراً وذلك لأن حضور الروح كالشاهد الإلهي على الأرض لم يل فقط عمل المسيح على الصليب ولكنه منذ ذلك التاريخ يعطى للفرد على أساس الإيمان بكلمة الحق، إنجيل خلاصنا. ولذلك كان لابد أن يسبقه الماء والدم، لأن هذا ما يحصل فعلاً في معاملة النعمة للمؤمن. أليس بهذا الترتيب يقبل الإنسان حق الإنجيل؟ فأولاً تدخل كلمة عن طريق الضمير فيأتي الإنسان إلى الله كخاطئ باسم المخلص. ثم يقدم إليه دم المسيح فردياً أو يكرز له به جهارياً كالذبيحة الكاملة لعلاج حالته. وإذا خضع لبر الله عوض السعي لتثبيت بره الذاتي فإنه يعطي الروح القدس كروح الحرية والشركة. وهذه الهبة ما كان ممكناً أن يعطاها لولا استناده على دم المسيح الذي يطهر من كل خطية. ومن هذا نرى أن خطوا النفس في الحصول على البركة بواسطة النعمة تتفق في ترتيبها مع العدد السادس الذي يذكر الماء أولاً ثم الدم ثم الروح. وهذا عين ما كان يحدث في العهد القديم في أمر تكريس أبناء هرون الكهنة، فقد كان الغسل بالماء أولاً،ثم دم كبش الملء (أو التكريس) الذي كان يوضع على شحمة الأذن اليمنى وعلى إبهام اليد اليمنى وعلى إبهام الرجل اليمنى (أي على أعضاء الاستماع والخدمة والسلوك) وأخيراً دهن المسحة مع الدم المأخوذ من المذبح يرش عليهم وعلى ثيابهم. فمن منا لا يلمس اتفاق الرمز القديم مع حقيقة العهد الجديد في المسيحيين وقد أقيموا كهنوتاً مقدساً لتقديم ذبائح روحية، وهم الكهنة الوحيدون وذبائح سجودهم هي الوحيدة على الأرض المقبولة الآن لدى الله يسوع المسيح.

أما في العدد الثامن فنقرأ عن الشهود الثلاثة في ترتيب يمشى لا مع معاملات الله التاريخية بل مع العمل الذي يجري في المسيحي فردياً. وإذا ما تكلمنا عن ثلاثة يشهدون فإن الروح يأتي بالضرورة في طليعتهم، ليس فقط بالنظر لمركزه الإلهي ومقامه الجدير به، بل لأنه هو الذي يعرفنا بالماء والدم لبركة نفوسنا. وإلى هذا يرجع الفارق في العدد الثامن: « والذين يشهدون هم ثلاثة الروح والدم والماء والثلاثة هم في الواحد (أو يتفقون في الواحد) » – شهود ثلاثة ولكن شهادة واحدة متحدة « إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم ». ولعلي أستطيع هنا أن أعيد إلى ذاكرتي مبلغ الراحة والعتق الإلهي الذين وجدتهما في هذه الكلمات منذ نيف وستين سنة، يوم كنت وأنا متجدد، معذباً منزعجاً تحت ثقل الإحساس بالخطية التي كانت تقلق راحة نفسي على الرب يسوع. لقد طردت هذه الكلمات كل شك وجعلتني أخجل من ريبتي في شهادة الله. ففيها وجدت أن الله هو الذي يخصص الحق لنفسي ولست أنا الذي أفعل ذلك، ولو أني لم أكن أشك البتة في قيمة موت المسيح في حد ذاته لأجل الخاطئ. فليس الأمر متعلقاً برؤيتي أنا لكفاية الدم كما ينبغي أن أراه بل براحتي بالإيمان على رؤية الله له وتقديره إياه حق قدره.

فما هي إذن الشهادة التي نقرأ عنها في مطلع العدد التاسع هي هذه « لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن الله ابنه ». تتجدد النفس،ولكونها أصبحت حية وليست بعد ميتة، تشتاق أن تعرف شهادة الله عن نفسها، غير أن هذه المشغولية بالذات تعيقها عن سماع شهادة الله عن ابنه. ولكن حينما يعتبر الإنسان نفسه لاشيء قدام الله وأنه مجرد خاطئ هالك ولا يسكن فيه أي في جسده شيء صالح فعندئذ تكون شهادة الله عن ابنه هي كل شيء لديه وأحي شيء لأذنيه. وإذ يقبل المسيح هكذا على أساس شهادة الله يتسنى له أن ينتهي من ذاته إطلاقاً.وهنا الراحة الكاملة فالمسيح وعمله يهبان السلام. ثم أن موت الرب أقوى دليل على أنه لا حياة في الإنسان الأول ولا في جنسه. فمن قايين إلى الصليب قد دلل الإنسان – رغم سقوطه ورداءته من كل وجه آخر – على أن أقبح وأردأ ما فيه هو ادعاؤه بالتدين واتخاذه من الدين سنداً وفخراً. ومن هابيل إلى دم يسوع الثمين نتعلم كراهة الإنسان لنعمة الله وحقه في المسيح. ولكن كل شيء يصبح جلياً واضحاً للإيمان إن لم يكن فوراً وفي كل الأحايين. « من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد الله عن ابنه ». هل من شهادة أبسط وأوضح وأقوى من شهادة الله في هذه الكلمات القليلة الواضحة؟ أليست موجهة لكل إنسان يشعر بحاجته لمثل هذه الرحمة؟ ولكن آه من عدم الإيمان الذي يدعو الإيمان ادعاء (!) والذي يشك في أن حق الإنسان أن يصدق الله وان يأخذ بكلمته ويعترف بصدقه وأمانته إذ يقبل شهادته عن ابنه. وهل من دليل أقوى من هذا على أن الإنسان – مهما كان متديناً بحسب الجسد – يصدق الشيطان ويكذب الله؟ إننا قلما نستسيغ في حياتنا العادية أن يشك إنسان في شهادة رجل عظيم الشأن والخطر. وكن العجب العجاب أن هذا هو الشيء العادي فيما يتعلق بشهادة الله المقدمة للإنسان لخلاص نفسه، وما أسرع القوم في اتهام المؤمن بالادعاء إن لم يكن بالرياء!

ويا لها من حماقة أيضاً أن يستمع الإنسان لهمس الشيطان بأنه خاطئ جداً لدرجة أن المسيح لا يمكن أن يخلصه. لقد جاء له المجد ليخلص ما قد هلك، فهل يمكن لأحد أن يكون أردأ من « هالك »؟ وأي شيء من الخطأ يمكن أن يخرج عن دائرة « هالك » تأمل في المرأة السامرية. وفي المرأة الخاطئة التي كانت في المدينة، وفي مريم المجدلية. ثلاث حالات يائسة، وكلهن خلصن وعرفن أنهن خلصن. وعرفن أنهن خلصن. وقد سجل الروح القدس قصتهن لكي تؤمن أنت أيضاً وتخلص. لقد خلصت كل منهن « بالنعمة » – نعمة الله لا نعمتهن، و « بالإيمان » لا المشاعر أو المحبة أو الخدمة أو الطقوس أو الفرائض. لقد كان الرسول بولس يشكر الله أنه لم يُعمِّد سوى نفر قليل من الكورنثيين الكثيرين الذين آمنوا واعتمدوا، ذلك لأن المسيح لم يرسله ليعمد بل ليبشر. إنه في المسيح ولدهم بالإنجيل وليس بالمعمودية مع عظمتها وأهميتها للغرض الذي وضعت من أجله. لكن المعمودية لم تهب ولن تهب حياة لنفس واحدة. المسيح هو واهب الحياة لكل من يؤمن، عاملاً في كل واحد بمفرده بواسطة كلمته والروح القدس، كما أنه سيدين جميع الذين يرفضونه لهلاكهم. ما الذي سيقوله لأولئك الذين بالتقليد يبطلون كلمته، وعوض الإيمان بالله يصنعون طقساً ليعطي الحياة كما يزعمون، به يهينون الله ويمجدون أنفسهم ووظيفتهم، كما لو كانوا وسطاء بين الأموات والأحياء؟ هذا هو الادعاء الحقيقي، وليس الإيمان الذي يعطي المجد لله.

إن الحياة الأبدية هي في ابن الله، الإنسان الثاني، هذا هو التعليم الأول لرسالة يوحنا الأولى، وها هو يعود بنا إليه مرة ثانية بعد أن حدثنا عن قيمة الدم والماء الخارجين من المسيح مائتاً على الصليب، وعن عطية الروح القدس الموهوب كنتيجة لخدمة الماء والدم – يعود بنا إلى القضية التي تتميز بها رسالته أي قضية الحياة الأبدية في ابن الله، وإنها في الحقيقة لقضية من أخطر قضايا الكتاب المقدس وأعظمها أهمية للقديسين في يومنا. ولقد تعلمنا بالاختبار مبلغ الضرر الذي يسببه أولئك الذين يحاولون الانتقاص من هذه الحقيقة أو حجبها بستار من الدعوى العريضة بوجود حق جديد طلعوا علينا به فلم يكن في حقيقة أمره سوى أسطورة بالية يحاولون أن يزيحوا عنها تراب القدم: خدعة من الشيطان يكررها من آن لآن لعله يُنفذ بها مآربه الماكرة الخبيثة.

ولكن ماذا يخبرنا الكتاب: « إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم ». وهل من شهادة طيبة وحكيمة وأكيدة ومطمئنة كشهادة الله؟ إنه يعرف كل الحق، وكإله كل نعمة أعطانا ابنه لكي يعلن الحق ويؤهلنا لقبوله في حياة جديدة. ثم على أثر الفداء أعطانا روحه القدوس كالقوة الإلهية للتمتع بالحق وإعلانه للآخرين من بني جنسنا. ومن هنا نفهم قيمة القول أن « شهادة الله أعظم »، فهي أعظم من جميع الصعاب.

وهذه الشهادة المثلوثة هي أولاً عن الموت مكتوباً على جميع الجنس البشري بواسطة ذاك الذي شرب الكأس الرهيب حتى الثمالة فأنتج موته لنا حياة بلا خطية وإن كان هو له المجد لم يكن بحاجة للموت. فتلك الحياة الأبدية لم تتطلب أي عمل لنفسها، وإنما حالتنا نحن، حالة الخطية والموت، هي التي اقتضت موته للانتصار على كل شر لمجد الله.

« لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه. من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه ». مرة قال الرب لنيقوديموس: « أنتم لا تقبلون شهادتنا ». فلا بد أن يولد الإنسان ثانية، وبدون ذلك لم يمكنه البتة التعلم بحسب الله. والإيمان بكلمة الله هو وحده الذي يقو الإنسان للتعلم من الله. والكنيسة، نظير الرب، كان ينبغي أن تكون شاهداً أميناً صادقاً، غير أن حالتها قد وصلت إلى درجة جعلت شهادتنا غير موثوق بها. فيا لها من تعزية كبرى للمؤمن بصفة خاصة أن تكون له الشهادة، شهادة الله، « في نفسه »!

أما حيث تكون الحاجة ماسة، كما هي الحالة هنا، وحيث تكون لنا بالنعمة « شهادة الله » فمن التبجج والخيانة أن نطالب أحداً وترغمه أن « يسمع من الكنيسة » فإن كلمة الله نفسها هي التي تصور لنا المركز الذي دعيت الكنيسة لأن تشغله في العالم تصور لنا في الوقت نفسه الوقت نفسه وبروح النبوة مبلغ ما ستصل إليه الكنيسة من فوضى وتشويش. ومن العجب أن رسالتي بولس إلى تيموثاوس تصور لنا هذي الوجهين: فالأولى تصور الكنيسة في حالة من الترتيب الإلهي « عمود الحق وقاعدته » في حين تصور الثانية في حالة من التشويش المحزن. ولكن الكنيسة ليست هي الحق الذي من واجب المسيحي أن يستمتع إليه ويقبله، ولو أنها الشاهد الجمعي للحق كما أن المسيحي هو الشاهد الفردي له. والكنيسة والمسيحي مدعوان كلاهما لأن يسمعا كلمة الله وحدها باعتبارها الحق. ففي رسالة تيموثاوس الثانية نتعلم أن الاعتراف المسيحي قد أصبح كبيت مملوء بأواني للكرامة وأخرى للهوان. ولذلك فحين أبيح للخمير أن يدخل ويتغلغل عوض أن يعزل فتطهر الجماعة نفسها منه (1 كو 5) أصبح لزاماً على كل فرد أن يطهر نفسه من هذه الشرور الخطيرة لكي يكون إناء للكرامة. على أن ذلك ليس للإنفراد والاعتزال بل للاشتراك مع « الذين يدعون الرب من قلب نقي ».

ولكن حاشا للكتاب أن يجيز مثل هذا الادعاء الجريء، ادعاء الاستماع لكنيسة باعتبارها الحق، بل هو على عكس ذلك يعلمنا في آخر أسفاره، أي سفر الرؤيا، إن كل نفس أمينة مكلفة بأن تسمع لا إلى ما تقوله الكنيسة بل بالحري إلى « ما يقوله الروح للكنائس » ويتكرر هذا التحريض بنصه في كل رسالة من رسائل الرب للسبع كنائس. فهل من شيء أكثر مناقضة لفكر الرب من هذا الادعاء الخاطئ الذي جعل النصرانية أضحوكة بين الناس!

ولكن مهما تكن حالة النصرانية أو العالم المسيحي. فإن كلمة الله تظل صادقة دائماً أبداً وسارية على كل مسيحي في كل جيل وزمان: « من يؤمن.... فعنده الشهادة في نفسه ». فلو وجد المؤمن في أرض لا يستطيع فيها التمتع بشركة القديسين وليست له فرصة ليستمع إلى أي معلم مسيحي، ولا يعرف أخاً واحداً في الرب، فإن ابن الله الذي آمن به يبقى هو هو، وعنده الشهادة في نفسه كما لو كان محاطاً بجميع الامتيازات المسيحية الممكنة على الأرض. فهو لا يعتمد على كائن ما تحت الشمس، بل له الابن. فما أحكم وأكرم هذه الشهادة من جانب الله! لأنه في مثل هذه الحالة ما أكثر الذين يتصايحون: يا له من ادعاء جريء! هذه هي نظرتهم للمؤمن يرمونه للادعاء ولكن الله نفسه يقول: « من يؤمن..... فعنده الشهادة في نفسه ». إنما الأدعياء هم الرافضون لشهادة الله، وهم وقحاء ومتجاسرون لأن « من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه » وهل هناك أشر من ذلك؟ إنه يكفي أن يكذب الإنسان فيما يتعلق بنفسه فيقول نظير البرهمي أنه لم يخطئ ولو أنه بذلك يكذب الكلمة. ولكن أقبح من ذلك أن نجعل الله كاذباً. وهذا عين ما يفعله – سلباً وإيجابياً – كل رافضٍ لشهادة الله عن المسيح ابنه.

« وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هي في ابنه ». (ع 11) هل من قول أكثر جلاء ودقة؟ « أن الله أعطانا » – أي أعطى كل مسيحي – « حياة أبدية. وهذه الحياة هي في ابنه ». حتى الكافر، بقلبه القاسي لا يسعه حين يسمع هذه اللغة الهادئة إلا أن يتأثر لما تنطوي عليه من اليقين الهادئ العميق السعيد الذي يبعثه الإيمان في النفس، فهو يدرك تعاسته وشقاءه إذ ما فكر في حالته على الإطلاق، في حين يتوقف سلام المؤمن في جملته على امتلاكه ابن الله وامتلاك الحياة الأبدية فيه. ومن الأسف أن قام البعض مؤخرً واستخلصوا من قول الرسول هذا مبدأ خطيراً للغاية زاعمين أنه ما دامت « هذه الحياة هي في ابنه ». فهي ليست فينا. ويبدو أنهم سروا للفكرة إذ استنتجوا منها النتيجة التي توافق تعليمهم وهي أن المسيحي ليس له حياة أبدية دائمة. ولست أدري لماذا يسرون بها إلا أن يكون العدو قد أعمى بقوته عيونهم. كذلك لست أنسى – وهذا ما يملأه النفس حزناً وأسى. إن سرورهم كان يوماً بالحق الذي له الآن يتنكرون. أليس هو أمراً مرعباً أن نحرف فصلاً من الكتاب لنجعله مناقضاً لفصل آخر؟ إننا نقرأ هنا « أن هذه الحياة هي في ابنه » – وذلك لأن الروح القدس يقصد بهذا أن يفرح المؤمن بضمان تلك الحياة وكفالتها في شخص الابن العزيز بالاستقلال عن المؤمن ذاته وعن أي مخلوق آخر. فهذه الحياة في الابن حيث لا يمكن أن يقرب شر وحيث لا يمكن أن يدنو خطر. ومن بهجة المؤمن وسروره أن يعلم أن حياته، الحياة الأبدية، هي في ذاك الذي ليس فقط منبعها الدائم، بل أيضاً حافظها وضامنها الإلهي ضد جميع مكائد الشيطان. وأكثر من ذلك، إنه في شركة مع الله الآب وأنه موضوع محبته وتكريمه أكثر من ذي قبل منذ الفداء.

على أن (يو 5: 24) يؤكد كذلك أن لنا هذه الحياة وأن الله أعطانا إياها ونحن هنا على الأرض، كما أن هناك شواهد كتابية أخرى كثيرة تبين أن الفداء جعل الحياة الأبدية من نصيبنا باعتبارها الحياة الوحيدة التي يمكن للروح القدس أن بتعامل معها ويعمل بها. ولنأخذ مثالاً عن الحياة الطبيعية لإيضاح ذلك. فالحياة كما هو معلوم تعمل من الرأس إلى أطراف أصابع اليدين والقدمين. ولكن هذه الأصابع ليست مقر أو مركز الحياة، لا حتى الذراع أو الساق، التي يمكن استئصالها دون إلحاق أي ضرر بمركز الحياة. مع الفارق أنه في المسيح لا يوجد مثل هذا الاستئصال فيما يتعلق بالحياة التي لنا فيه، والتي تسمو كثيراً على الحياة الطبيعية. إن المسيح هو مركز الحياة الأبدية، ولكن حتى الأطفال في المسيح يملكون هذه الحياة كما يملكها الأحداث والآباء ولن يهلك واحد منهم. إن غبطتنا وسرورنا هما اليقين بأن حياتنا هي في ابن الله. وهذا ضمانها وهذا مبعث الثقة والسلام الأبدي لدى كل مؤمن. أما أن يأتي قوم فيحرفون الحق ويتخذون من هذا العدد بالذات دليلاً على أن المؤمن ليس الآن الحياة الأبدية، فأمر أقل ما يقال فيه أنه يدل ليس فقط على عدم الإيمان بل على سوء استعمال لكلمة الله.

« من له الابن فله الحياة ». نعم، إن الحياة ليست منفصلة عن الابن. ولن يتسنى لأحد أن تكون له الحياة ما لم يكون له الابن الذي هو الطريق والحق والحياة. وهو يهب الحياة ليس فقط باعتباره الله، بل أيضاً كالممجد لله، ابن الإنسان الذي هو أيضاً ابن الله. والله يشهد بهذا عنه وليس عن سواه. والمؤمن يكرم الابن حين يؤمن فينال الحياة الأبدية. وغير المؤمن يهينه ويرفض هبة الحياة والنتيجة هلاك نفسه، ولكنه في يوم قادم سيجثو غضباً عنه حينما يقام للدينونة. ثم لو إن الحياة فصلت عن ابن الله بحيث تكون فينا فقط وليست في الابن، لكان من المحقق أن تصاب بالأذى والانحلال، ولكن بما أنها في الابن فهي باقية إلى الأبد، مقدسة وخالدة. وهي لنا بهذه الصورة، ونعلم أنه لنا على أساس كلمته. وكل عمل صالح، وكل عاطفة كريمة، وكل خدمة صادقة، وكل سجود مقبول – منبعها جميعاً الحياة الأبدية في قوة الروح. وغير ممكن للمسيحي أن يرضي الله وأبا ربنا يسوع بغير عمل الحياة الأبدية، فإذا قد جاءت الآن هذه الحياة في شخص ابن الله، فإن سرور الآب أيضاً أن يراها فينا ولن يرضى بغيرها بديلاً. ذلك لأن الحياة تجد فرحها وبهجتها في معرفة وخدمة وعبادة الآب والابن بقيادة الروح القدس.

ولكن لا يفوتن أحداً الجانب الآخر الخطير: « ومن ليس له ابن الله فليس له الحياة ». إن كنت يا من تقرأ هذه الأقوال غير مؤمن، فإني أتوسل إليك أن تحذر، لماذا تهلك هلاكاً أبدياً. لماذا ترفض محبة الله التي أعطت وأرسلت ابنه المحبوب؟ ولماذا ترفض ذاك الذي لأجلك ذاق الموت؟ ومع ذلك فهو لم يفعل لك شيئاً سوى الخير، في حين أنك لم تظهِر نحو اسمه سوى الإهمال والاحتقار والكراهة بقدر ما استطعت. إني أستعطفك أن تصدق ما يقوله الله لك عن ابنه، إن آمنت به فهو يكون لك. ومن المستحيل أن يكون لك ابن الله ولا تكون الحياة الأبدية. ولكن « من ليس له ابن الله فليست له الحياة »، إنها حقيقة صادقة بقدر ما هي مرعبة، إن عديم الإيمان « لن يرى حياة » « الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده. الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية. والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله » (يو 3: 35 و 36).

وقبل الختام أود أن أشير إلى أمرين عظيمي الأهمية والخطورة. أولهما حرص الوحي ودقته البالغة في تقدم الحياة الأبدية موضوعياً في كلمة الحياة، ابن الله، في الإصحاح الأول. لقد أفاض الرسول في الكلام عن الرب يفي الإنجيل كواهب الحياة الأبدية للمؤمن في الإصحاحات 3، 5، 6،، 10، أما هنا فهو يبدأ بتقديم الكلمة نفسه باعتباره تلك الحياة دون أ، يشير إشارة واحدة إلى حقيقة توصيلها لنا. غير أن هذه الحقيقة كانت معروفة ومألوفة قبل كتابة الرسالة. إذن فقد كان أمام الروح القدس غرض إلهي مبارك في عدم قوله كلمة واحدة في الإصحاح الأول عن نوالنا الحياة ولو أن الكاتب والقديسين كانوا يعرفون ذلك جيداً. ومن هذا يبدو أن غاية الروح القدس في ذلك الاستهلال البارع هو تقديم الرب كالغرض الموضوع أمامنا لكي نجد مسرة نفوسنا فيه باعتباره الحياة الأبدية التي كانت في جوهره الإلهي عند الآب وظهرت في كمالها بظهوره هنا على الأرض كإنسان بين الناس. فكم كانت تكون الخسارة لو لم يكن هناك بالفعل هذا الظهور الموضوعي للحياة الأبدية التي يتميز بها إنجيل يوحنا ويطالعنا بجمالها الرائع في كل صفحة من صفحاته. كذلك كم كانت تكون الخسارة التعليمية في هذه الرسالة لو لم يكن المسيح نقطة ابتدائها وأساسها، وإنما غاية التدرج بأتي بنا الرسول إلى الكلام الصريح عن طريقة نوالنا الحياة الأبدية، والواقع أنه لم يعالجها بصراحة إلا في الإصحاح الخامس الذي هو ختام تعليمها كما أن الحديث عنها موضوعياً في المسيح هو بداءته.

والأمر الآخر لا يقل أهمية وخطراً. فإنه إذا كان بين أسفار الكتاب سفر يمتاز عن بقية الأسفار في التفرد بإظهار الحياة الأبدية في المسيح وفي خاصته الذين هم له بالنعمة فإنما هو إنجيل يوحنا ورسالة يوحنا الأولى. ومع ذلك فقد اختفت في كلتيهما المعمودية المسيحية كما اختفى عشاء الرب. إن موضوعها الحياة الأبدية بكل ملئها وقوتها في يسوع ابن الله أكثر من سائر الأناجيل والرسائل. وهما كذلك يعينان أكثر من سواهما بالشهادة عن توصيلها للمؤمن. ومع ذلك فلا الإنجيل ولا الرسالة يشيران إلى تلك الفريضة المسيحية التي إليها تعزو بعض الطوائف منح الحياة الأبدية.

فإذا كانت المعمودية المسيحي – ما ينادي التقليديون – هي وسيلة إحياء النفوس، فكيف بهذين السفرين الحافلين بالكلام عن الحياة الأبدية وعن منح الحياة، يغفلانها إطلاقاً ويوسعان في الكلام عن الحياة الأبدية باعتبارها عمل إلهي مباشر يجريه الروح القدس باستخدام الكلمة لإعلان المسيح للمؤمن؟ والواقع أنه من الخطأ الفاحش حشر المعمودية في « ماء » (يوحنا 3: 5) أو « الماء » في (يو 5: 6 و 8)، فإن الرسول يترك الفرائض تركاً مطلقاً ليتحدث عن حق جوهري ذي أثر أبدي، ولو أنه أشار مرة إشارة عابرة وفي سياق الحديث إلى معمودية التلاميذ أيام خدمة سيدنا (يو 4: 1 و 2) وحتى في هذه الإشارة احتاط للأمر فأخبرنا أن الرب نفسه لم يكن يعمد مع أنه هو محيي الأموات. ثم أن المعمودية السابقة لموته وقيامته كانت بمعمودية يوحنا عادوا فتعمدوا بالمعمودية المسيحية بواسطة الرسول العظيم (أع 19: 5) الذي شكر الله لأنه لم يعمد في كورنثوس سوى نفر قليل، معلناً أن المسيح لم يرسله ليعمد بل ليبشر (1 كو 1: 14 و 17) وأنه (هو) قد ولدهم في المسيح يسوع بالإنجيل. فالمعمودية المسيحية هي في الحقيقة معمودية لموت المسيح كما نتعلم بوضوح من رسالة رومية (الإصحاح السادس) إذا كنا نصدق كلمة الله. إنها معمودية لموته ولا شأن لها بمنح الحياة للنفس الميتة في خطاياها.

أ -  ب - مقدمة - الخطاب 1- 2 -  3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16- 17 - 18 * 19 * 20

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

 

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.