لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

عشــرون محاضــــرة في شــرح 

رســائل يوحنا الرسول

خادم المسيح وليم كيلي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الخطاب الرابع عشر

1 يو 4: 1 – 16

« أيها الأحباء إن كان الله قد أحبنا هكذا ينبغي لنا أيضاً أن يحب بعضنا بعضاً. الله لم ينظره أحد قط. إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبته قد تكملت فينا، بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه. ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم. من اعترف أن يسوع هو ابن الله فالله يثبت فيه وهو في الله. ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا. الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه ».

قد رأينا في الفصل السابق أن الرسول لكي يعطي المحبة التي دعينا إليها وصفها الحقيقي يذكرنا بها معلنة في المسيح لغرضين، أولاً لكي يهبنا حية ينما كنا أمواتاً وثانياً لكي يهبنا الكفارة التي رفعت كل خطايانا بعد إذ حصلنا على الحياة وأحسسنا بثقل خطايانا وشرها أكثر جداً من ذي قبل. وهذا هو الترتيب الصحيح لعمل الله في النفس. وهو يرينا كم هو هام للغاية نوال الحياة، لأنه بدون الحياة لا يكون هناك ما يسمع أو يستجيب في الأمور الإلهية إذ يكون الموت سائداً على النفس. والقول بأن روح الله يقوم بدور الحياة أو بالحري يعمل بدونها قول هراء، فإن روح الله إنما يعمل حيث توجد حياة يجري عليها عمله.

إن المسيح لا شك هو حياة المؤمن. وبالإيمان تعتبر « أنا » القديمة كأنها غير موجودة أمام الله. هي فعلاً موجودة ولكنها بنعمة المسيح لا حق لها أن تعيش. ونحن كمسيحيين ننكرها باسم المسيح ونعتبرها بلا قيمة على الإطلاق ونتركها باعتبارها كتلة شر في نظرنا الآن كما كانت دائماً في نظر الله مهما كان رأي الناس فينا. قد يكون الإنسان عبقرياً عظيماً، وقد يكون على جانب عظيم من الجد والنشاط حتى في أمور الله، ولكن الذات هي دائماً أبداً بدون الله وضده ولا يمكنها بحال من الأحوال أن تدخل إلى حضرته أو يكون لها مكان قدامه. فكيف يمكن والحالة هذه أن يكون الإنسان العتيق غرضاً للروح القدس يأخذه ويقدسه لله؟ إن هذا مستحيل ولذلك لا نرى الكتاب يحدثنا في أي مكان عن تقديس الحياة القديمة الساقطة وإنما يحدثنا عن الإنسان العتيق وإياه مصلوباً مع المسيح، وعن الخطية في الجسد وقد دانها الله في المسيح باعتباره ذبيحة عن الخطية ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستبعد أيضاً للخطية. فليست « أنا » الخاطئة فيما بعد بل « المسيح يحيا فيّ ».

وهكذا توجد الحياة الجديدة التي يتسنى للروح القدس بفضل الفداء أن يتعامل معها ويقرن نفسه بها. ومن هنا تتضح ضرورة الحياة الجديدة في المسيح إذ بدونها لا يكون هناك سوى الإنسان العتيق. وفي الواقع كان جميع أفاضل العهد القديم حاصلين على  الحياة ككل قديس في الوقت الحاضر. وهل من مؤمن يعرف حياة أخرى للإنسان الخاطئ غير حياة المسيح؟ ومع أن هذه الحياة – نظير الخلود – قد أنيرت بواسطة الإنجيل (بمعنى أن الإنجيل هو الذي أوضحهما وأنار حقيقتهما)  لكنها كانت تعمل في جميع المؤمنين قبل الإنجيل، وغلا فما كان يمكن أن يعتبروا قديسين بدونها. ومهما كان الفارق الذي تم من حيث الشكل، فواضح أن نصيب الذين جاءوا بعدهم عندما صار سيدنا إنساناً هو النصيب الأفضل، لأنه واضح عندئذ أكثر من ذي قبل معنى الحياة الجديدة ومن هم الذين ينالونها بالإيمان. فهي للناس وليس للملائكة « والحياة كانت نور الناس » الناس فقط كما يقول الكتاب. إن الملائكة – أي المختارين منهم – لم يسقطوا، وإذ هم محفوظين من الخطية فلا حاجة بهم إلى حياة جديدة. أما الملائكة الذين سقطوا فلا توبة لهم ولا هبة نعمة إن للملائكة حياة لا نعرف عنها شيئاً ولا هو من شأننا أن نتدخل فيما لا يعنينا بعقولنا القاصرة، إذ مالنا ومثل هذه البحوث؟ (انظر كو 2: 18). إنها محاولة عابثة أن ينشغل الناس بالملائكة. ومع ذلك فقد عرفت مسيحياً شغله هذا الموضوع لدرجة كبرى حتى تطورت مشغوليته إلى أن يتصور في وهمه تصورات خيالية زاعماً أنه يرى في كل ليلة ملائكة أخياراً وأشراراً، وأنه يعرف أسماءهم، ولكن هذه كلها لم تكن سوى مشاعر وخيالات. وما أكثر ما هنالك من حماقات مضحكة وأوهام  خيالية غبية حول عالم الأرواح والكائنات الغير المنظورة.

ولكن هنا نجد الحقيقة المباركة عن مبلغ اهتمام الله وصنيع محبته في قضية الإنسان. أولاً وقبل كل شيء من الناحية المطلقة واهباً إيانا الحياة إذ كنا أمواتاً. وثانياً، بعد حصولنا على الحياة، منقذاً إيانا من كل ذنب وإثم، لأن الرب يسوع نفسه الذي جاء بالحياة صار هو أيضاً الكفارة لخطايانا. ذلك لأن الحياة المقدسة التي نلناها جعلتنا نحس بأن عبء خطايانا لا يطاق. لكن بدمه الذي أريق مرة فوق الصليب قد تمت الكفارة، ونحن مدعوون لأن نؤمن بنعمة الله ونتمتع بكل حقائقها المباركة.

على أن هناك أكثر من ذلك، ولو أن الرسول قصد أن يتدرج بنا للوصول إلى الحقيقة الباقية وهي التي بدأها في العدد الأخير من الإصحاح الثالث بقوله « من يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه ». فالشخص الذي له هذه البركة شخص مطيع. هذه صفته وهذه شيمته، ومن هو الذي يطيع الآن؟ لا أحد بطبيعة الحال سوى المسيحي. ليس بعض المسيحيين بل جميع المسيحيين الحقيقيين. هؤلاء يطيعون الله كمن لهم طبيعته أي الحياة التي هي المسيح والتي أعطيت لهم.

ولكن الرسول لم يتوسع في شرح هذه الحقيقة عند ذكره ذلك العدد في ختام الإصحاح الثالث بل أجل الشرح إلى مكانه الخاص مكتفياً بأن أضاف إشارة صغيرة ولكنها خطيرة إلى الجزء الأخير من العدد إذ يقول « وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا ». ولنلاحظ القوة في كلمة « يثبت ». الله يثبت فينا هذه هي الحقيقة البسيطة المؤكدة. فهي ليست مجرد مرور أو زيارات عابرة لفترات قصيرة بل إقامة دائمة ثابتة. والواقع أن كلمته « يثبت » هي من مميزات المسيحية الدالة على أبديتها. لقد عرف إسرائيل شيئاً كان عظيماً للغاية ولكن لوقت معين، وقد أخذ منهم فعلاً، أو على حد تعبير رسالة العبرانيين « وأما من عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال ». تلك كانت اليهودية التي كان لا بد أن تخلي مكاناً للمسيحية الثابتة الأبدية في ذاتها وفي نفوس مؤمنيها، إن الثبات هو صفة كل بركة مسيحية فيما خلا البركات القائمة على شرط، وأنت تعلم أنه يوجد أيضاً هذا النوع من البركات الشرطية. ولكن الأبدية هي طابع العهد الجديد ولاسيما الحياة التي لنا في المسيح ولذلك فهي تسمى بهذا الاسم العجيب. ويجدر بنا أن نتلذذ بها على هذا الاعتبار. وجميعنا والحمد لله قد وجدنا مسرتنا فيها ولا يسعنا إلا أن ننادي بها ونرفع الشكر لإلهنا من أجلها وإن كان يحزننا كثيراً أن نجد قوماً لا يفيضون بالشكر لله من أجل أعظم بركة ينالها المؤمن بيسوع المسيح ربنا، وذلك لا شك من عمل الشيطان الذي هو عدو النفوس وعدو كل خير.

ولكن هناك ما هو أكثر من الحياة الأبدية ولو أن الحياة في المسيح هي الطابع المميز لجوهر بركتنا. وهذه الحياة كانت شخصه له المجد معلناً في كل عمل من أعماله هنا على الأرض. وكان الاتكال المطلق على الله بالطاعة الكاملة الدائمة طابعها ومميزها. وإذا كان المسيح يدعونا لأن نطيع كما أطاع، وإذا كان قد أعطانا وصايا، فهذه كلها لا شأن لها بالوصايا العشر. إن الناموس كان يتعامل مع الجسد، لذلك كانت الحياة على الأرض وعداً ومكافأة لم ينالها إنسان قط « افعل هذا فتحيا ». هذا كان صوت الناموس. أما وصايا المسيح فهي توجيهات لأناس قد وهبوا فعلاً حياة جديدة بالنعمة بالإيمان. أناس نالوا فعلاً أعظم وأسمى بركة بين جميع البركات بنوالهم لمسيح كحياتهم. والواقع أنه ليس هناك شيئاً مؤكداً ومضموناً أكثر من أن الله قد أعطى المسيح للمؤمنين. هذا حق عجيب، ولكنه بسيط للغاية. وهذه هي كلمة الحق، إنجيل خلاصنا. أما إذا استعاض الناس عن الإيمان بالوهم والتخمين فلا عجب إن كان يفوتهم حق الإنجيل الواضح الصريح.

ولهذا السبب عينه، أي لأن الحياة هي حياة اتكال، فإننا نحتاج بجانبها إلى حضور الله وقوته لأن الطريق محفوفة بالمخاطر والصعاب. فنحن من الواجهة الروحية نحتاج إلى القوة بجانب حاجتنا إلى الحياة. وإن لم توجد هذه القوة الدافعة فإننا نفشل في التغلب على العراقيل والصعاب،وتكون النتيجة أننا نقف حيالها مكتوفي الأيدي أو نستخدم نشاطنا الجسدي. ومهما كان الاتكال مباركاً في حد ذاته فهو ليس القوة. أما قوة المسيحي الحقيقية فهي روح الله الساكن فينا، وليس الحياة كحقيقة معنوية ولو أن الحياة في المسيح هي أساس مقامنا الجديد وشرطه الجوهري. نعم فنحن نحتاج للروح القدس لإنشاء القوة فينا. عند إبداع الخليقة كان للروح القدس حصته في العمل. وعندما وقعت الواقعة وأصيبت الخليقة الأولى بالفوضى والخراب كان الروح يرف على مشهد الخراب والظلمة. ولما شاء الله أن يقيم لسكناه الرمزية خيمة في وسط شعبه، لم يترك لإسرائيل أن يعملوا تصميم المسكن طبقاً لحكمتهم بل رتب كل كبيرة وصغيرة بنفسه. وفضلاً عن التوجيهات والتعليمات، ليعملوا الذهب والفضة والنحاس، للنجارين والنساجين والموشين ومن إليهم ............ وبالاختصار لكل من قام بدور في إعداد أجزاء المسكن المختلفة. لكن شيئاً لم يترك لابتكار الإنسان. الكل صنعه روح الله بواسطة الإنسان.

على أن لروح الله الآن هدفاً أسمى بما لا يقاس من ذلك الهدف القديم، إذ لم تعد المسألة بعد مسألة إقامة مسكن أرضي أو حتى هيكل فخم، مع علمنا بأن روح الله كان الموحي والمرشد في الحالتين. ولكن الأمر أمجد من ذلك الآن بكثير فإن روح الله متنازل ليسكن في المؤمنين. فهو الذي يختم كل مسيحي ليوم الفداء. امتياز لم يكن لقديسي العهد القديم، حتى أنهم مع حصولهم على الحياة لم يكونوا يعرفون عنها إلا القليل أو لاشيء على الإطلاق. أما ميزة المسيحية فهي إننا نستطيع الآن أن نقول أن الله قد أعلن لنا ما كان مكتوماً عنهم كما هو مكتوب « ما لم تر عين ولم يخطر على بال إنسان » قد أعلنه لنا الآن بروحه. فهو ليس لنا الآن روح القوة والمحبة والنصح. وحيث أن هذا هو عين ما كان يعوزنا،فهو أيضاً حينما وهبه الله لنا. « بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه ».

هنا نرى الرسول يمهد الطريق للحق الذي لم يشرحه بعد وهو الخاص بالمحبة الأخوية. وهو يفعل ذلك ممهداً له بصوت المحبة وندائها العذب « أيها الأحباء ». هذه هي أيضاً كلمة الخطاب هنا. ذلك كان الشأن حينما خاطبهم الله في الأعداد السابقة محذراً إياهم من الأنبياء الكذبة المدفوعين بالأرواح الشريرة كان الرسول في تلك الأعداد يحدث القديسين عن خطر واهم تجلبه الأرواح الشريرة. كان الرسول في تلك الأعداد يحدث القديسين عن خطر واهم تجلبه الأرواح الشريرة إذا ما تصدى لها القديس بثقة الإنسان الأول عوضاً عن الإيمان بالإنسان الثاني. فإن يسوع وحده هو قاهر الشيطان وكذلك المؤمن يستطيع أن ينتصر ويعظم انتصاره وإنما بالذي أحبه ومات لأجل خطاياه. والعلامة المميزة للأرواح الشريرة هي عدم اعترافها بالرب يسوع. الروح القدس وحده هو الذي يعترف به آتياً في الجسد – أي جاء في الجسد. هنا الحصانة ضد الأنبياء الكذبة الذين يرفعون الإنسان الساقط ويخفضون الكلمة الذي صار جسداً. هذا هو موضوع الأعداد السابقة التي بدأها بالقول « أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح ». ولكنه يكرر هذا النداء الحبي عندما يدعو القديسين لأن يحبوا  بعضهم بعضاً في العدد السابع، أولاً « لأن المحبة هي من الله » وثانياً لأن الذي يحب يقيم الدليل على أنه مولود من الله وإنه يعرف الله، كما أن الذي لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة. وهنا، إذ يواصل نفس القضية في عدد 11، يستعمل نفس النداء الحبي الجميل « أيها الأحباء ».

« أيها الأحباء، إن كان الله قد أحبنا هكذا، ينبغي لنا أيضاً أن يحب بعضنا بعضاً ». هو لا يقول في أي مكان أنه ينبغي لنا أن نحب الله بل يفترض دائماً أننا نحبه فعلاً. وهذا هو في الواقع شأن كل مؤمن عرف محبة الله من نحوه يوم كان في خطاياه وعدائه ضد الله، وتعلم في الإنجيل  تلك المحبة التي اتجهت نحونا في حالتنا الأثيمة الهالكة، وبذلت المسيح ابن الله ليموت عنا « لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار » (رو 5: 6). وهذا « الوقت المعين » للمحبة التي كنا بحاجة قصوى إليها، المحبة التي في ذاتها لا تستقصى، المحبة الجديرة بالله وابنه، كان يوم اتحد الإنسان، الأمم واليهود على السواء، وتضافروا معاً في صلب المخلص، وبذلك قطعوا أنفسهم من كل استحقاق للرحمة إلا على أساس نعمته المطلقة. كان اليهودي يفاخر بالناموس ولكنه تعداه وكسره في كل زمان وبصفة خاصة عندما قام بصلب مسياه. وكان الروماني يفاخر بقانونه وحكومته، ولكن، رغم شجاعته التي كان يدعيها، تبخرت هذه المفاخرة الجوفاء أمام صياح الجماهير التي كان يعلم يقيناً أن يسوع لم يكن مذنباً. وهكذا اتحد الأممي واليهودي في اقتراف الإثم الرهيب الشنيع ضد الله. عند هذه النقطة وفي ذلك الوقت عينه بين الله محبته لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا. فيا له من غباء إذاً أن يزعم إنسان أن الله يطلب من الخاطئ أن يحسن نفسه أما الله بعمل شيء صالح أو عظيم ناسياً أن الله هو في ابنه عمل الشيء الوحيد العظيم بل أحسن وأعظم شيء كان يمكنه أن يعمله لخلاص الخاطئ، وذلك في الذبيحة التامة التي قدمها نيابة عن كل من يؤمن. وحينما تقبل النفس هذه الحقيقة’ يستطيع القلب الذي كان متكبراً ومظلماً، بل أشد القلوب كبرياء وظلمة، يستطيع أن يحب ولا يسعه إلا أن يحب.

وليس هذا هو السبب الوحيد الذي يجعل المسيح يحب الله. فهو بقبوله المسيح قد قبل الحياة الأبدية. ولد من الله وأصبح أحد أولاده. وهو لذلك يحب الله كأبيه وإذا كان الابن الطبيعي يحب والديه رغم ما قد يقع من أخطاء من الجانبين، فكم بالحري تكون الطبيعة الجديدة حافزة للمسيحي أن يحب ليس فقط أباه كلي الصلاح والنعمة بل كذلك إخوته الذين لهم نفس الحياة ونفس الروح.

« أيها الأحباء، إن كامن الله قد أحبنا هكذا ينبغي لنا أيضاً أن يحب بعضنا بعضاً ». من السهل أن نرى أن كل ما ينطوي عليه الكتاب من التحريضات المسيحية تفترض أصلاً امتلاك النعمة الإلهية مقدماً. فالله لا يدعونا أن نحب إلا بعد أن أثبت محبته نحونا في المسيح وأعطانا أن نعرف محبته. وقد رأينا في العددين التاسع والعاشر كيف سدد الله حاجة الخاطئ المزدوجة (الحياة وكفارة الخطايا). فليس من المبالغة والحالة هذا نفهم السبب الذي من أجله لا نرى الرسول يحرضنا أن نحب الله أو المسي، فالأمر الواقع هو أننا نحبه لأنه هو أحبنا أولاً.

طبيعي أن الأمر ليس هكذا بالنسبة للإنسان بحس الجسد، كما كان حالنا قبل تجديدنا. فحتى نحن الذين كان لنا لحسن الحظ أبوان مؤمنان، وكان لنا امتياز كلمة الله والصلاة منذ الطفولة وبكور الحياة لم نتحرر من الضمير الشرير إلا بعد أن وصل الحق إلى أعماق قلوبنا. كنا نخاف من الله بسبب خطايانا، ومع ذلك فطالما أهملنا خلاصاً هذا مقداره، وكنا نفزع من الموت والدينونة كلما هفا أحدهما على خاطرنا لولا لحظة. إنه لمن المستحيل على النفوس في مثل هذه الحالة أن تحب الله الذي دينونته تلاحقها وترعبها من حين لآخر وهي لازالت تركض وراء اللذة والنجاح العالمي والثروة وما إلى ذلك من أمور الزهور وتعظ المعيشة التي نميل إليها بحسب الطبيعة. فإذا كان عندنا شيء من المحبة في ذلك الوقت فقد كانت في أفضل حالاتها من نتاج لطبيعة وبلا أية علاقة بقلب الله، ومثل هذه المحبة هي مجرد عاطفة تسمو في نوعها عن عاطفة الحيوان بقدر ما تسمو طبيعة الإنسان عن طبيعة الحيوان. أما محبة الطبيعة الجديدة فهي محبة فوق الطبيعة وتستمد نوعها وبواعثها ومصدرها من المسيح. ومن هنا خطأ بل وخطر نسبة الإحسان الطبيعي للنعمة، إن محبة المسيح هي من نوع محبة الله لنا يوم لم يكن فينا شيء يحب، لأننا كما نقرأ « كنا نحن أيضاً قبلاً أغبياء غير طائعين ضالين مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة عائشين في البث والحسد ممقوتين مبغضين بعضاً بعضاً ». هكذا يقول واحد كان من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم. ولكن نور مجد المسيح الذي أشرق في قلبه كشف فساده، ومن ثم حسب هذه الأمور وكل ما عداها مما يتفاخر بها الإنسان نفاية، وظل يحسبها نفاية، بالمقارنة مع المسيح، حتى أنه لم يعبأ بأي ألم يصادفه في طريقه إلى القيامة من بين الأموات وبالاختصار في طريقه إلى المسيح في المجد.

يقول الرسول يوحنا أنه إذا كان الله قد أحبنا  هكذا، ينبغي لنا أيضاً أن يحب بعضنا بعضاً. فمع أننا نتشارك في نفس الحياة المباركة في المسيح، وفي نفس الكفارة عن خطايانا، فإن الجسد والعالم يسببان مشاكل ومصاعب متنوعة. وأنه لمن عدم الإيمان الشنيع أن ننفر أو نجزع من إلهنا حتى ونحن نحاول أن نعترف له بأية جهالة أو خطية نكون قد انزلقنا فيها، لأنه تبارك اسمه لا يتخل عن نسبته كآب ونسبتنا كأولاد بينما يحاول العدو أن يبعدنا عنه. غير أن أولاد الله معرضون لفخاخ كثيرة بسبب الجسد. ففي عدم الحرص واليقظة يكونون عرضة للتجسس على أخطاء إخوتهم وتغطية أخطائهم هم. وهذه ليست محبة لبعضنا البعض على الإطلاق، ولا هي كما أحبنا المسيح التي هي مقياس المسيحي كما كان الناموس يفرض على الإسرائيلي أن يحب قريبه كنفسه، مع الفارق الكبير بين المحبة المسيحية والمحبة تحت الناموس، فقد كان إسرائيل شعباً في الجسد وتحت الناموس بينما نحن في الروح (رو 8: 9) وتحت النعمة (رو 6: 14) إن كان روح الله ساكناً فينا، عندئذ تجيء المحبة لعائلة الله فائضة من نعمة الله التي اتجهت إلينا شخصياً، إن الناموس لم يكمل شيئاً (عب 7: 19) ولا كان موضوعاً للأبرار بل للأثمة والمتمردين ومن على شاكلتهم لكي يدينهم ويقودهم إلى ملجأ الخطاة الوحيد.

ومن أسف بالغ أن النصرانية المنحرفة عن الحق اعتادت قديماً وحديثاً أن تضع الأبرار تحت الناموس الأمر الذي يصفه الرسول بأنه عمل غير قانوني. أما الواقع وحقيقة الأمر فهو أننا تحت النعمة التي تقوينا رغم كل العوائق لأن يحب بعضنا بعضاً.

إنه لا يسعنا بطبيعة الحال إلا أن نحب ذاك الذي أحبنا أولاً حتى ينما كنا نرتدي الأسمال ونحيا حياة الانحطاط بين الخنازير ولا نجد شيئاً من الرثاء والعطف من أولئك الذين تمتعوا بوفير خيراتنا ونحن في الخطية والجهالة ولكن عندما ابتدأنا نحتاج لم نجد من يعطينا شيئاً. هذا هو العالم، ولكن ليس هكذا الآب، فعندما فكر الابن الضال وحكم ولو بقدر طفيف على طرقه الشريرة ونتائجها المحزنة اتجه قلبه إلى ذاك الذي تركه طويلاً ونسيه. « أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك. ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك أبناً، أجعلني كأحد أجراك فقام وجاء إلى أبيه. وإذا كان لم يزل بعيداً رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقلبه ». هذه هي محبة الله كما صورها من عرفها أفضل من سواه والتي كان يعلنها للعشارين والخطاة الذين كانوا يدنون منه ليسمعوا أخبار النعمة العجيبة بين الكتبة والفريسيين المتذمرين. وإذا لم يقنع الآب بمجرد الغفران والعفو عن ابنه الضال، ولم يعطه فرصة لعرض اقتراحه في أن يكون مركزه بين العبيد الأجراء، دوى أمره الكريم ونطقه السامي العجيب « أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه واجعلوا خاتماً في يده وحذاء في رجليه، وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح. لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد ». هذه نعمة لا ناموس. فيها نرى ما هو الله كآب في أقوال من نطق ابنه الكريم. وإذا هو كذلك بالنسبة لأشر الخطاة الضالين الذين يأتون إليه، فكم هو أمر محزن أن يكون هناك ارتياب في النعمة التي يقيم فيها المؤمنون، أو أي شك في محبته المشفقة العطوفة نحو مسيحي يضل الطريق، هو واحد من أولاده المحبوبين!

ولكن إن كان الآب لا يتغير فمن المحزن أن أولاده يتغيرون. ومن أجل ذلك كانت دعوة صائبة وضرورية أن يحبوا بعضهم بعضاً كما فعل الرسول الذي في اتضاع وتواضع يضم نفسه مع سائر لأولاد الله قائلاً « ينبغي لنا أن نحب بعضنا بعضاً ». أنه يضع نفسه مع أولاد الله تحت هذا الالتزام المبارك الذي قد لا يكون القيام به سهلاً ميسوراً في جميع لأحوال كما يتصور البعض.لأن المحبة بحسب الله ليست مجرد « مودة أخوية » مهما تكن هذه المودة سامية وفي محلها عند ممارستها ممارسة صحيحة. وها هو الرسول بطرس في (2 بط 1: 7) يضع خطاً فاصلاً بين المودة الأخوية والمحبة، معطياً للمحبة المنزلة الأسمى والأعمق « وفي التقوى مودة أخوية وفي المودة الأخوية محبة ». فحيث المودة الأخوية تتقدم للتصافح قد تتأخر المحبة وتتراجع لأنها ترى شركاً خطيراً وخطية محزنة لم تستطع المودة الأخوية لفرط مشغوليتها أن تميزها في نور الله. فإن المحبة الإلهية تنظر دائماً إلى الجانب الإلهي عوض الاستسلام لمجرد العواطف والحساسيات. ومن واجبنا أن نقف عند النبع باستمرار إذ شئنا أن نكون في جدة الانتعاش لأنفسنا وأن نعيش الآخرين ونتعامل بالمحبة التي من الله بعين بسيطة. وحينئذ نستطيع أن نكون في مأمن ن عسل الطبيعة البشرية واللطف الإنساني الذي لا يؤثر على الضمير ولا يحول دون إتمام الإرادة الذاتية. « إن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله ». هكذا هو الحال فيما يتعلق بمحبتنا بحسب الله فإنها دائماً تحس بإحساس الله وتعمل لأجل الله. ولكن إن كان هو قد « أحينا هكذا، ينبغي لنا أيضاً أن يحب بعضنا بعضاً ». هذا هو نبع المحبة وهذا هو مقياسها الصحيح. لقد عرف جيداً كل ما فينا من نقائص وتقصيرات كأولاده، كما عرف كل خطايانا وآثامنا يوم كنا أبناء الغضب، ومع ذلك فقد أحبنا حتى بذل ابنه لأجلنا. فمن واجبنا والأمر هكذا أن نحب بعضنا بعضاً باعتبارنا موضوع نفس المحبة الواحدة.

هكذا يقول الرسول بولس للقديسين في أفسس « فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء. واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة ». فإن ما من شيء يستدر المحبة مثل المحبة ذاتها. كما أنه لا توجد محبة فعالة ومثمرة كمحبة الله في المسيح الذي هو كمال المحبة. ونحن قد عرفنا المحبة لا كمتفرجين نظير الملائكة بل باعتبارنا موضوع تلك المحبة في عمقها وفي علوها، على الأرض وفي الأعالي، بدرجة فائقة أمام عيون الملائكة. ألم نكن يوماً ما في أغوار الانحطاط والإثم والجسارة والرعناء؟ ومع ذلك فقد انحنى المسيح ابنه تحت عبء جميع خطايانا محتملاً من أجلها دينونة الله على الصليب. وألم يقم من الأموات ويرتفع فوق كل علو في المجد السماوي وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له لذاك الذي صرنا متحدين به بالروح القدس، روحاً واحداً مع الرب؟.

إن العدد الثاني عشر خليق بكل تأمل.فهو يذكرنا بما جاء في (يوحنا 1: 18) « الله لم يره أحد قط ». وكيف سدد الله حاجة عظمى كهذه من حاجات الإنسان ألم يحس إله كل صلاح بحاجة الإنسان من هذه الناحية؟ لقد أحس بها وفي فرط غناه سددها وعرفنا بنفسه له المجد بطريقة ممجدة لذاته ولابنه، طريقة فعالة في ذاتها، مليئة بالمحبة للإنسان ومناسبة لحالته وظروفه، وذلك بإرسال ابنه صائراً إنساناً بين الناس. « الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر (أي أعلن الله) ».فلو أن كل نفس منذ آدم إلى اليوم سألت عن أفضل طريقة يعلن الله بها ذاته أفضل إعلان وأضمنه، وفي أكمل محبة للإنسان في كل حاجته وتعاسته، لما استطاع أحد أن يجرؤ فيقترح طريقة تقارن بالطريقة التي رآها في حكمته ونعمته. ومع ذلك، يا للعجب، فإن الشيطان استناداً على شهوات الإنسان وميوله، وإرادته الذاتية وصوالحه المزعومة وديانته المبتكرة بصفة خاصة، استطاع أن يجد الوسيلة ليجعل الإنسان يتجاهل ويرفض ابن الله مما يؤدي إلى خرابه وهلاك نفسه.

على أن ابن الله الذي جاء بالمحبة الإلهية قد مضى إلى الآب. وها هو الرسول يردد نفس العبارة القديمة « الله لم ينظره أحد قط » مشيراً بوضوح إلى عبارة الإنجيل. ولكن الابن، الابن المرفوض، ليس هو بعد على الأرض ليعلن الله. فكيف السبيل الآن إلى تسديد نفس تلك الحالة القديمة في قلب الإنسان؟ اسمع الجواب « إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبته قد تكملت فينا ». أليست هذه وسيلة عجيبة وخطيرة لسد الحاجة المشار إليها؟ أليست تتجه مباشرة وبكيفية فعالة قوية مؤثرة إلى قلوبكم يا إخوتي الأحباء وإلى قلبي وقلب كل ابن آخر من أولاد الله؟ أننا لم نغسل فقط من خطايانا بدم ابنه بل صرنا جميعاً بفضل نعمته أولاد الله وإخوة بعضنا لبعض، ومن امتيازنا بممارسة محبتنا المشتركة بحسب الله، أن نعرفه ونشهد له في عالم يجهله ولا يعرفه. إن من واجب الأولاد الآن أن يعكسوا محبة الله هنا على الأرض. لما كان الرب على الأرض قام بهذه المهمة إلى التمام، فماذا نحن فاعلون في دورنا؟ هل نعرف حقيقة محبة الله التي ظهرت في ربنا المحبوب، وهل نحن ثابتون فيها هكذا؟

ولقد تأملنا في الشطر الأول من جواب الرسول في هذا العدد والآن نتأمل في شطره الثاني. « إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبته قد تكملت فينا ». إن محبة المسيحيين المتبادلة هي قوة الشركة والبرهان على أن الله يثبت فينا عوض أن يخنقها الجسد أو غرور العالم. إن الكرازة لعديمي الإيمان والتبشير للخطاة الهالكين ليس هو موضوع الحديث هنا ولا هو العلاج المطلوب للحالة التي نحن بصددها.فلن يقوم التبشير مقام المحبة الأخوية في إعلان الله. إذن فأين وكيف يمكن أن يرى الله الآن؟ إنه رغم كل جهود الشيطان في أن يثير أولاد الله بعضهم ضد بعض فإن محبتهم أحدهم للآخر كما أحبهم الله وكما أعلن المسيح هذه المحبة، هي الإعلان عن أن الله ثابت فينا وأن محبته قد تكملت فينا. فكم من التشجيع نجده في هذا العدد للسير بكل تواضع في الحبة التي هي من الله! ويا له من توبيخ لكل من يستهين بأهمية المحبة وبركتها!. على أن (1 يو 4: 12) لم يكن ممكناً أن يتم بدون (يو 1: 18) وكذلك بدون ما أعقب ذلك من موت المسيح لأجلنا وعطية الروح لنا. فالمسيح يجب أولاً أن يكون حياتنا ليتسنى لنا تمثيل هذه الحياة هنا على الأرض. فنحن نعلم أن التلاميذ برغم أنهم لمسوا كمال المحبة في شخص المسيح لم يستطيعوا أن يحققوها أو أن يثبتوا فيها. صحيح أنه عندما مات وقام صارت لهم بها معرفة أحسن ولكنهم لما مسحوا بالروح تمتعوا بها على أكمل وجه واستطاعوا أن يسلكوا في المحبة وأن يثبتوا فيها باعتبار أنها نشاط طبيعة الله. وهكذا الحال معنا الآن من حيث المبدأ وكذلك من حيث العمل والسلوك طبقاً لدرجة روحانيتنا.

يظن بعض المبشرين أن أول غايات محبتهم هي السعي وراء تجديد النفوس. ونحن لا ننكر أن التبشير خدمة جليلة جداً إذ كنا نؤديها في الإيمان والمحبة للمسيح ولكنها ليست هي المحبة الأولى التي أوصى بها الرب باعتبارها أقرب شيء لقلبه.

وما أسهل أن نرى كيف أن محبة الله التي فينا من نحو إخوتنا تسمو فوق مجرد الواجب. فلو أن الروح القدس لم يكتب هذه الأقوال بواسطة الرسول لكان من الجائز أن نعدها مبالغة عظيمة أن تعطى المحبة الأخوية مثل هذه القيمة بحيث نقول أنه إذا كنا نحب بعضنا البعض فالله يثب فينا ومحبته قد تكملت فينا.

فيا ليتنا بكل بساطة نؤمن بكلمته إيماناً تاماً حتى يتسنى لنا أن نحب هكذا ونقنع نفوسنا أنه كما أن المحبة هي من الله هكذا هو يثبت فينا لكي نسلك فيها بالانفصال عن العالم الذي إن اختلطت محبتنا بمبادئه بدلاً ممن أن تكتمل محبة الله فينا. هذا ونحن عالمون أنه ليس في متناول أحد أن يتقاسم هذه المحبة أو يفهمها ما لم يسلك بإيمان المسيح وبذلك يكون ناظراً إلى الأمور التي لا ترى و الأبدية لأن نظرة العيان وفكر الجسد يتلفان صفة المحبة وطابعها.

نحن مسئولون أن نعرف الله، والذين يؤمنون بالمسيح لهم فرح معرفة الله. وكل كلمة وكل عمل وكل نظرة من نظرات المسيح المسجلة في الكتاب إنما تزيد في معرفتنا والفتنا بالله، فإن كتبة الوحي لديهم الكثير مما يخبروننا به عن الله حتى في مجرد سردهم لطرق المسيح وأعماله هنا على الأرض، فهناك إعلان في كل منها لا فارق بين صغيرها وكبيرها. ولكن الرب قد مضى، والذي كان على الأرض يعلن الله هو الآن في السماء. أفليست لله بعد ذلك شهادة حية في الوقت الحاضر؟ إن الرسول يكرر هنا في الرسالة نفس العبارة التي ذكرها في الإنجيل. فما معنى ذلك؟ لقد ظهرت محبة الله في كمالها في سيدنا، ظهرت في كل كمالها بالمقابلة مع كل نقائص البشر فما هو حالي حالك نحن الذين جاء دورنا في الرسالة. نحن الذين كما أرسله الآب إلى العالم أرسلنا هو أيضاً إلى العالم؟ من أين تصدر الآن شهادة الله الحية؟ من المحبة الأخوية « إن أحب بعضنا بعضاً ». أفليس هو أمر خطير أن يشير الله إلى المسيحيين كمن أصبحت في أعناقهم مسئولية تعريف العالم المظلم ما هو الله لقد دعينا خصيصاً بفعل المحبة الإلهية في نفوسنا وطرقنا لنكون شهود الله للعالم الذي يسوده الشك في كل ما يختص بالله.

لما كان المسيح يعلن الله على الأرض كان في كل شيء كاملاً كمال الله ذاته، فكيف الحال معنا رغم كل ضعف فينا؟ « إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبته قد تكملت فينا ». والرسول ينظر هنا إلى المبدأ وليس إلى مبلغ فشل القديسين في تطبيقه، كما رأينا أن هذه هي طريقة يوحنا في كل كتاباته. فهو لا ينسى مطلقاً النبع الأصلي في الله والمجرى الذي هو شخص المسيح، هكذا يرسم أمام القديسين فيض النعمة بحسب الطبيعة الجديدة (بغض النظر عن متعلقات الإنسان العتيق وكل معطلاته).

ولماذا نقنع بالاعتراف المستمر بأننا لسنا نفعل الحق؟ لماذا نكتفي بالوقوف عند هذا الاعتراف؟ أليس في هذا ما يحزن روح الله؟ إننا نفعل حسناً لو فحصنا الأمر في نور حضرة الله وكمنا على أنفسنا قدامه، ذاكرين أم الكلمة قد سبق وحذرتنا ضد إحزان الروح وأن الجسد هو الذي بوجه خاص يقاوم الروح كما هو مكتوب: « اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم احدهما الآخر حتى لا تفعلون ما تريدون ». إن الجسد هو المقاوم الأعظم للروح. فهو أحيانا يبدي لطفاً ومودة وقد يكون وهو يفعل ذلك بعيداً عن المحبة الحقيقية، وأحياناً قد يظهر الخشونة وعدم اللياقة وليس من يقول أن هذه أو تلك من مظاهر المحبة. أما إذا كنا نحب بعضنا بعضاً برغم جميع محاولات روح الضلال والخبث والرياء، فتلك هي محبة الله القائمة لا على أساس ما نراه في بعضنا البعض بل على أساس ما قبلناه جميعنا من الله في المسيح. تأمل فيما كنا عليه قبلاً نحن الذين أصبحنا أولاد لله. لقد كنا أشرار وخبثاء تماماً كالذين يهملون اليوم خلاصاً هذا مقداره، بل كان بعضنا أشد جرأة في الإثم وشراسة الخلق. هكذا كنا مهما قيل أننا كنا مؤدبين أو متدينين بحسب الجسد متفاخرين بما لم يكن يزيد ن كونه ستاراً يخفي وراءه آثاماً كباراً، بل كنا في نظر الله أردأ، بسبب الادعاء، من أصحاب الشر العلني. ولكننا قد « اغتسلنا بل تقدسنا بل تبررنا باسم الرب يسوع وبروح إلهنا ». هكذا يكتب الرسول معترفاً بما فعلته محبة الله في كثيرين من نزلاء مدينة كورنثوس الفاسدة ولو أنه قصد بذلك أن ينبههم إلى انحرافهم الشنيع يومئذ، وقد فرح إذ علم فيما بعد أن محبته الأمينة (التي جعلته يتألم أكثر منهم) لم تكن عبثاً ولكنها أحزنتهم للتوبة، بل ولتوبة للخلاص بلا ندامة، لو أنه فيما بينه وبين نفسه في صراع عواطفه الشخصية ندم على الرسالة إلى حين، ولكنه الآن بالنعمة يذكرها بفرح مقيم ذلك لأن المحبة الكبيرة التي كانت فيهم، وعندئذ كم من الاجتهاد أنشأت في نفوسهم، وكم من الاحتجاج بل من الغيظ بل من الخوف بل من الشوق بل من الغيرة بل من الانتقام، في كل شيء مظهرين أنفسهم أبرياء حيث كانوا قبلاً جد ملومين! تلك ولا شك صورة قاسية ومؤلمة من صور محبتنا بعضنا لبعض ولكنها صورة حقيقية، وما أسعدنا بما لا يقاس أن نكون دائماً في غنى عن اللجوء إليها وذلك بالانتباه إلى كلمة الله وإطاعتها من القلب لكي نحفظ من كل شر.

« إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ». هذه هي الطريقة العادية حيث يعمل الإيمان لا الجسد. وهذا يقود الرسول إلى افتتاح الكلام عن الحقيقة العظمى بشأن الروح المعطى لنا والذي به يثبت الله فينا.

وليس هذا هو كل ما يقول بل يضيف قائلاً « ومحبته قد تكملت فينا »، لقد سبق أن قال هذا القول وفي مناسبة أخرى. ففي (ص 2: 5) قال « وأما من حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكملت محبة الله ». ذلك لأن حفظ كلمته هو طابع الطاعة والمميز الأكبر لها. فكل من يحفظ ليس فقط وصاياه في تفصيلاتها بل يحفظ كلمته في مجوعها « في هذا قد تكملت محبة الله ». وهذا طبعاً لا يعني تلك الضلالة الغريبة الخاصة بكمال الإنسان الذاتي. إن الجسد لا يستأصل أو يباد طالما نحن نعيش على الأرض، ولكن الله قد دانه قي صليب المسيح، وقد صار علينا كمن لنا الحياة في المسيح أن نميت أعضائنا التي على الأرض، ولكن الجسد فينا وإن كان نحن لسنا فيه فيما بعد. والجسد لا يتغير أبداً إلى روح ولن يتلاشى طالما نحن هنا في خيمة اللحم والدم لكننا تحت التزام بالنعمة ألا نسمح له بالعمل، بل بالإيمان نضعه دائماً تحت قوة موت المسيح. بهذه الكيفية تتكمل محبة الله فينا بمعنى أننا ننفذها بحسب فكر الله. ليس لنا في ذواتنا ما نفتخر به. بل من القلب نطيع ومن القلب نحب، وذلك بقوة محبته نحونا وفينا. وهذا يفترض بالضرورة أننا نكون باستمرار متطلعين إلى الله وأنه يستجيب لصلواتنا وبهذا تتكمل محبته فينا. وهكذا تتم الطاعة وتجري المحبة بحسب فكرة.

والآن يتقدم الرسول إلى عطية الروح حيث يقول « بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه أعطانا من روحه ».

نرى هنا شيئاً يزيد عما جاء في (ص 3: 24) بشأن عطية الروح القدس. فالأمر هنا ليس قاصراً على « الروح » بل « من روحه ». لقد عمل الله في كثيرين بواسطة الروح لكن لا يقال عن أولئك أنه أعطاهم « من روحه ». فكثيراً ما نقرأ عن عمل الروح في العهد القديم وأكثر منه في العهد الجديد. وكذلك نقرأ عن شركاء الروح القدس وقوات الدهر الآتي (عب 6: 4 و 5) الذين سقطوا سقوطاً أبدياً. هؤلاء لا يقال عنهم مطلقاً أنهم ولدوا من الروح ولا أن الله أعطاهم « من روحه » لأن هذا التعبير يفترض الشركة الحقيقية الفعلية مع الله، والعهد الجديد يعطى لعبارة « من روحه » قوة أعمق مما يعطيها العهد القديم، وذلك لأنه بهذه الطريقة يثبت الله في المسيحي. ومع ذلك فهناك حالات كانت تستدعي لأغراض خارجية أن الله لا يعمل بقوة الروح بطريقة أو بأخرى. وفي كل حالة من هذه الحالات كان العامل هو روح الله، وهو روح القوة، ولذلك كانت تختلف عن عمله نتائج وتأثيرات تفوق بمراحل مقدرة الإنسان وتفوق أيضاً ما تستطيع الحياة الأبدية أن تفعله بدون الروح.

يقول الرسول إن الله يثبت فينا ونحن فيه، ولاحظ أنه يبدأ بالثبات فينا. وليس بثباتنا نحن الله فينا. وكأننا بذلك ننسحب من دائرة الذات ومن كل متعلقات الخليقة حولنا ونجعل الله مستقر قلوبنا حتى ونحن هنا على الأرض. وهذا هو المعنى المقصود من ثباتنا في الله، وجدير بنا أن نتطلع إلى الله باستمرار لننال نعمة تعيننا على الثبات فيه بهذه الصورة. ومتى ثبتنا فيه هكذا فهو يعمل فينا بقوة الشركة. ومن هنا يقال أنه أعطانامن روحه. وهذا التعبير له معناه الخاص المستمد من تركيبه اللغوي إذ يدل بوضوح على أن ما نساهم فيه إنما هو من ذات نفسه له المجد. فما يقال أننا نساهم فيه هنا هو « من روحه ».

ومع ذلك فهناك خطر كبير من أن نسيء فهم امتياز عظيم كهذا. فهناك أتقياء كثيرون يخلطون بين نوع معين من السعادة الداخلية في نفوسهم وبين ثبات الله فيهم، وهو نوع من الصوفية الغامضة، وهنا يكمن الخطر على أمثال هؤلاء المؤمنين البسطاء. فهم أشخاص عاطفيون تنحصر مشغوليتهم في فحص ذواتهم. وكل من قرأ مؤلفات وليم لو المشهور William law يدرك ما نقول، فقد كان واحداً من هؤلاء المتصوفين ولكنه كان مخطئاً خطأ جسيماً في إخفاء بل قل في إغفال نعمة الله في المسيح والاكتفاء الممارسات الطقسية ومشاعر الإنسان الداخلية، وقد فاته هو وأمثاله وإدراك حقيقة خراب الإنسان الكلي وحقيقة الفداء الكامل والحياة الأبدية في المسيح. إنهم يبذلون الجهد في أن يحبوا الله. فهي مجرد محاولة من جانبهم واستعداد للبرهنة على إخلاصهم في هذه المحاولة، ولكنه ليس الإيمان بمحبة الله الفادية ودينونة الجسد الحاسمة والحصول على نصيب أفضل بما لا يقاس في المسيح الرب. إنهم يدينون بما يسمونه « التقديس المسيحي » وهو ليس تقيساً كتابياً على الإطلاق بل مجرد ظن حسن بحالتهم أساسه شعورهم بشيء من الغبطة في نفوسهم، وسبب هذا ونتيجة مشغوليتهم القصوى بنفوسهم واختباراتهم التي يخبرون بها بعضهم البعض للبنيان المشترك. ومن عجب أن لهذا التخبير أو الشهادة أهمية بالغة في نظرهم حتى أنهم ينظمون اجتماعات خاصة تحت قيادة كبير منهم يدلي كل منهم في خلالها بما يظنونه عملاً خاصاً قد أجراه روح الله في نفوسهم أسبوعاً فأسبوعاً. ولا يستطيعوا بطبيعة الحال أن يدلوك على أي مستند كتابي لتدعيم مثل هذا المبدأ في العهد الجديد.

ولكن روح الله يمجد المسيخ إذ يأخذ مما له ويخبرنا. وهو يقود إلى كل الحق. أما هذا النوع من التصوف فلا يمجد إلا الذات لأنه يدور حول مشاعرنا الخاصة. وهو لذلك عرضة لأن يقود إلى عبادة الذات لدى البعض أو إلى الغم وانكسار الخاطر لدى البعض الآخر ممن لا يقنعون بسهولة بما وصلوا إليه. ومن الخير أن نعلم أنه لا يوجد شيء في نفوسنا يدعو إلى القناعة أو الرضاء الروحي حتى بذلك نجعل المسيح كل شيء لنا كما هو فعلاً كل شيء. أما المشغولة بالقلب، ما لم تكن لإذلال أنفسنا بسبب ما، فهي إهانة لله بقدر ما هي خطر على نفوسنا.فالمشغولية بالذات ليست فقط غير مثمرة بل من شأنها أن تعوق النمو في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. ومع ذلك فليس من شك في أن كثيرين من المسيحيين الحقيقيين قد وقعوا في شرك هذا الاختراع البشري الذي يدور بطبيعة الحال حول المشغولية بالذات دلاً من المشغولية بالمسيح يسوع وحول الفرح الخاص بدلاً من الفرح في الرب كل حين.

ولاحظ حرص الوحي الذي استخدمه للوقاية من هذا المبدأ الصوفي في العدد التالي مباشرة. ففي العدد الرابع عشر يحدثنا الروح القدس عن ابن الله الذي جاء من الآب مخلصاً للعالم. والواقع أن الحق المبارك عن المسيح كما هو معلن في الأناجيل هو خير علاج لسوء استخدام هذا الفحص الذاتي لأنه يثبت القلب على أساسه الإلهي كما أن كمال الفرح في المسيح يباعد بيننا وبين المشغولية بذواتنا أو حالتنا الحسنة كما تبدو بحسب تقديرنا ولذلك نرى الروح القدس يعود بنا من جديد إلى الاستقرار على ما فعله الله لأجلنا أي إلى ذات أساس الإنجيل نفسه وهل من شيء آخر يستطيع أن يعالج علاجاً كاملاً مثل هذه النظرات إلى الداخل؟ « ونحن قد نظرنا » – هنا اليقين الكامل – « ونشهد أن الرب قد أرسل الابن مخلصاً إلى العالم ». كأن الرسول يقصد أن يقول: دع الآخرين يشغلون أنفسهم بما شاءوا وشاءت خيالاتهم، أما نحن فقد نظرنا ونشهد أن الأب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم.

وما هي، أو ماذا ينبغي أن تكون، نتيجة حق كهذا يا ترى؟ أليس من شأنه أن يملأنا بحمد الآب والابن؟ ألا يشعرنا بأننا لا شيء في ذواتنا؟ فهو يرينا أننا لم نكن إلا مجرد خطاة ولكننا خلصنا بالإيمان بالنعمة. وقد نتساءل هل كنا حقيقة أردياء إلى هذا الحد وهل كان الله هكذا صالحاً؟ ولكننا إذا كنا بالروح القدس نؤمن إيماناً بسيطاً فلن نجد في نفوسنا ما هو جدير بمشغوليتنا ويحدثنا بالمقارنة مع نعمة هكذا غنية وأبدية أيضاً، وبهذه الطريقة يفطما الله عن أنفسنا وعن العالم وعن كل غرض آخر، ليلذذ نفوسنا فيه وفي ابنه. فإنه حتى العلم قد ينفخ وهو ينفخ فعلاً،أما المحبة، أي محبة الآب والابن فتبنى.

وكذلك من شأن هذا الحق أن بخلص النفوس من مبدأ آخر مناقض وهو مبدأ الذين يشغلون أنفسهم كمن تحت الناموس وبدلاً من أن يبحثوا عن شيء صالح في دواخلهم يحاولون أن يرضوا الله ويريحوا أنفسهم بنوع من التشاؤم اليائس فلا يكادون يرتفعون فوق القول « ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت؟ » فهم يتجاهلون ما يعلنه الرسول للمؤمنين بفضل عمل المسيح، وأنه بدلاً من أن يخدموا كعبيد أجراء بقلوب مظلمة مدنسة قد صار من حقهم بفضل مخلص العالم أن يرتدوا « الحلة الأولى » وأن يأكلوا من « العجل المسمن » ويقاسموا الآب أفراحه لمجد الابن « لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت » (رو 8: 2) ومما يضاعف غبطة العق أن ذات الشخص الذي عتق وتحرر حين تحول من الذات إلى المسيح هو نفسه الذي كان يئن تحت الناموس قبل ذلك (رو 7: 24). أو ليس ذلك أفضل بكثير من مبادئ الانفعالات العاطفية أو الأنين التي تقود أصحابها إلى المشغولية بذواتهم بمختلف الطرق والأساليب؟ أليس خيراً منها أن يفرغوا من الذات بإدانة الجسد إدانة قاطعة كاملة كامل فعل الله على الصليب وأن يجدوا المسيح جديراً بكل تفكيرهم ومصدراً لسلام مقيم وفرح دائم؟ عندئذ تختبر أن مشيئة الآب وعمل الابن وشهادة الروح هي الأمور التي نحن مدعوون لأن نفرح

والواقع أن الحق المبارك عن المسيح كما هو معلن في الأناجيل هو خير علاج لسوء استخدام هذا الفحص الذاتي لأنه يثبت القلب على أساسه الإلهي كما أن كمال الفرح في المسيح يباعد بيننا وبين المشغولية بذواتنا أو حالتنا الحسنة كما تبدو بحسب تقديرنا ولذلك نرى الروح القدس يعود بنا من جديد إلى الاستقرار على ما فعله الله لأجلنا أي إلى ذات أساس الإنجيل نفسه وهل من شيء آخر يستطيع أن يعالج علاجاً كاملاً مثل هذه النظرات إلى الداخل؟ « ونحن قد نظرنا » – هنا اليقين الكامل – « ونشهد أن الرب قد أرسل الابن مخلصاً إلى العالم ». كأن الرسول يقصد أن يقول: دع الآخرين يشغلون أنفسهم بما شاءوا وشاءت خيالاتهم، أما نحن فقد نظرنا ونشهد أن الأب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم.

وما هي، أو ماذا ينبغي أن تكون، نتيجة حق كهذا يا ترى؟ أليس من شأنه أن يملأنا بحمد الآب والابن؟ ألا يشعرنا بأننا لا شيء في ذواتنا؟ فهو يرينا أننا لم نكن إلا مجرد خطاة ولكننا خلصنا بالإيمان بالنعمة. وقد نتساءل هل كنا حقيقة أردياء إلى هذا الحد وهل كان الله هكذا صالحاً؟ ولكننا إذا كنا بالروح القدس نؤمن إيماناً بسيطاً فلن نجد في نفوسنا ما هو جدير بمشغوليتنا ويحدثنا بالمقارنة مع نعمة هكذا غنية وأبدية أيضاً، وبهذه الطريقة يفطما الله عن أنفسنا وعن العالم وعن كل غرض آخر، ليلذذ نفوسنا فيه وفي ابنه. فإنه حتى العلم قد ينفخ وهو ينفخ فعلاً،أما المحبة، أي محبة الآب والابن فتبنى.

وكذلك من شأن هذا الحق أن بخلص النفوس من مبدأ آخر مناقض وهو مبدأ الذين يشغلون أنفسهم كمن تحت الناموس وبدلاً من أن يبحثوا عن شيء صالح في دواخلهم يحاولون أن يرضوا الله ويريحوا أنفسهم بنوع من التشاؤم اليائس فلا يكادون يرتفعون فوق القول « ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت؟ » فهم يتجاهلون ما يعلنه الرسول للمؤمنين بفضل عمل المسيح، وأنه بدلاً من أن يخدموا كعبيد أجراء بقلوب مظلمة مدنسة قد صار من حقهم بفضل مخلص العالم أن يرتدوا « الحلة الأولى » وأن يأكلوا من « العجل المسمن » ويقاسموا الآب أفراحه لمجد الابن « لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت » (رو 8: 2) ومما يضاعف غبطة العق أن ذات الشخص الذي عتق وتحرر حين تحول من الذات إلى المسيح هو نفسه الذي كان يئن تحت الناموس قبل ذلك (رو 7: 24). أو ليس ذلك أفضل بكثير من مبادئ الانفعالات العاطفية أو الأنين التي تقود أصحابها إلى المشغولية بذواتهم بمختلف الطرق والأساليب؟ أليس خيراً منها أن يفرغوا من الذات بإدانة الجسد إدانة قاطعة كاملة كامل فعل الله على الصليب وأن يجدوا المسيح جديراً بكل تفكيرهم ومصدراً لسلام مقيم وفرح دائم؟ عندئذ تختبر أن مشيئة الآب وعمل الابن وشهادة الروح هي الأمور التي نحن مدعوون لأن نفرح بها من الآن، كما سنفرح بها إلى الأبد.

وإنها لمقارنة جميلة مع مقارنات الكتاب أن أول مكان فيه وجد الرب نفسه معترفاً به كمخلص العالم كان في السامرة. وقد جاء هذا الاعتراف عقب مشهد البئر العجيب حيث نرى المرأة التاعسة التي لها خمسة أزواج والذي لها الآن هو ليس زوجها قد نالت الحياة الأبدية بالإيمان بالرب يسوع. وكذلك قد أخبرها المخلص المجيد يومئذ بانحلال ديانتي فلسطين المتعارضتين، لا فارق بين جبل السامرة أو أورشليم، وأنه من الآن فصاعداً سيكون هناك سجود يختلف عن الأول كل الاختلاف، سجود قد أعلن الرب نوعه وجوهره من تلك اللحظة عينها – « تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له ».

بهذه الصورة أعلن ملء النعمة للمرأة السامرية المسكينة التي كان الحق قد بدأ يعمل فيها. لقد نخست فس ضميرها وتنبهت في نفسها، ولكنها بعد ذلك عرفت من هو الذي كان يتكلم من الله إلى قلبها والذي قبلته الآن بكل بساطة الإيمان، كما أصبحت فيما بعد رسولاً للآخرين تكلمهم عن ذاك الذي آمنت به. وتبارك اسم سيدنا فقد عامل أولئك السامريين بكرم نعمته وعمل معهم ما لا نجده قد عمله في أي مكان آخر أثناء خدمته، إذ مكث عندهم يومين. ومن ثم أخذوا يشهدون عنه ليس بسبب كلامها فقط حين أخبرها بكل ما فعلت بل لأنهم « سمعوا وعلموا أن هذا هو بالحقيقة مخلص العالم ». نعم فقد اعترف أولئك السامريون في ذلك اليوم الباكر بلقب الرب الكريم الذي يذكره الرسول هنا « مخلص العالم » مع فارق واحد بطبيعة الحال وهو خلو اعترافهم من الحقيقة الخاصة بإرسال الآب للابن، وهي حقيقة لم يكونوا يعرفونها وما كانوا يجسرون أن يتوقعوها. فلا هم ولا سواهم كانوا يومئذ حاصلين على الروح القدس الذي به « نصرخ يا أبا الآب » ولكنهم اعترفوا، وكان لهم الشرف بأن كانوا أول من اعترفوا، بأن يسوع هو « مخلص العالم ». فالأمر عندهم لم يكن أمر يهود أو سامريين، بل مجرد خطاة، ولهذا فإن الخلاص لهم كما لكل إنسان آخر وكان هذا الاعتراف بالرب كمخلص العالم سابقاً لدخوله تبارك اسمه في ميدان خدمته الجهارية فإن هذه الإصحاحات الأولى من إنجيل يوحنا تحدثنا عن أعمال الرب قبل تسليم يوحنا المعمدان وبالتبعية قبل ذهاب السيد إلى الجليل، الأمر الذي يضفي جمالاً على هذا الاعتراف والمناداة بحق عظيم كهذا وهو أن الرب يسوع هو مخلص العالم.

إذاً فقد كان اعتراف السامريين صورة مبكرة للإنجيل مبعثها الإحساس الصحيح بنعمة الرب وفضله الشخصي. فهو ليس قط مخلصاً، وليس فقط مخلصاً لشعب إسرائيل الذي كان ينتظر المسيا، بل « مخلص العالم ». حتى في ذلك الوقت سطع الحق من خلال السحب وأضاء النور في قلوب السامريين المحتقرين الجهال فكانوا أول من اعترفوا به هكذا. أما هنا في الرسالة فنجد الشهادة الرسولية « ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم ».

ولكن كيف يتسنى لنا أن نعرف أن خاطئاً قد خصص لنفسه نعمة المسيح وحقه؟ كيف يتسنى لنا أن نقتنع بأن حق الله المخلص قد وصل إلى نفس شخص ما وأدخله إلى دائرة الشركة الوثيقة مع الله كما يصفها الرسول؟ الجواب نجده في العدد التالي: « من اعتراف أن يسوع هو ابن الله فالله يثبت فيه وهو في الله ».

والآن أليس هذا ضماناً عجيباً تتلقاه النفس؟ لقد رأينا في العدد السابق المؤمن المخلص البسيط يتقبل الأخبار المفرحة بأن الآب أرسل الابن ليكون مخلصاً للعالم لكنه ليس مجرد الخضوع للمسيا ملك إسرائيل الآتي بل الإيمان به كابن الله. وتبارك اسم إلهنا فلا حدود لنعمته إذ هي تشمل « كل من » ولا يوجد ما هو أوسع مدى من « كل من ». وهو ليس يؤمن فقط بل « يعترف » فهو قد تخطى كل الصعاب والشكوك والمخاوف. لقد وزن الحق وأحس بالنعمة ودان نفسه ولم يبق عنده أقل تردد بعد. وها هي بركة الرب تسكب على رأسهبغنى. هكذا قال الرسول « إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وأمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت » مؤكداً جواب الله على عمل المسيح. أما هنا فإن الرسول يوحنا كعادته يضع نصب عينه مجد شخص الابن، لكن في ملء نعمته في الإنجيل نحو الهالكين. والخاطئ إذ تحول من ذاته ومن كل أسانيد الخليقة يعترف أن يسوع هو ابن الله. وماذا تكون النتيجة؟ « الله يثبت فيه وهو في الله » على أنه ما من شخص يستطيع بحق أن يعترف به اعترافاً مخلصاً كابن الله دون أن يؤمن أيضاً يعمل الفداء الذي أتمه وقبله الله. أما لعديم الإيمان فهي أشياء غامضة من أولها لآخرها. قد يتفوه الناس بأقوال الاعترافية لكنهم لا يدركون الحق الذي تنطوي عليه. فالمفروض والحالة هذه أن يكون الاعتراف صادراً من أعماق قلب المؤمن الحقيقي بحسب الله. أعني أنه يقرر أن يسوع، ذاك الذي لم تعده الجموع سوى مجرد إنسان ولو عظيماً، هو بالحقيقة ابن الله. من ذا يستطيع أن يشك عندئذ في كفاية فدائه؟ والحقيقة السامية العجيبة التي يطالعنا بها هذا العدد هي أن كل من يعترف بيسوع كابن الله ليس له فقط الحياة ومغفرة الخطايا وعطية الروح القدس بل أسمى الامتيازات الروحية التي يمكن أن تخطر على بال. فهل هناك ما هو أسمى من ثبات الله في المؤمن وثبات المؤمن في الله؟ لا شك أنه على قدر سمو حالتك روحياً على قدر ما يكون إدراكك لهذه الحقيقة وتمتعك بها. ولكن الرسول هنا يخبر المسيحي المعترف بأن هذا هو نصيبه. فليتنا نتمتع بهذا الحق ونجتر عليه! ويا ليت إلهنا يقطع كل ما من شأنه أن يبلد حاسيتنا أو يقلل تقديرنا لهذا الامتياز المبارك العجيب!

وفي العدد السابع عشر يتابع الرسول تطبيق هذا الحق عملياً فيقول « ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة لله فينا ». فليست هناك أية رائحة من الغموض في الجواب على المبدأ العام، بل بكل يقين وثبات يقرر الرسول « ونحن (بلغة التخصيص والتحقيق) قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا ». أجل، فهي محبة ليست فقط من « نحونا » بل » فينا » ويزيد في بهجتنا وتقديرنا أن هذه المحبة فاضت نحونا أولاً لما كنا أبناء الغضب. وبعد ذلك يكرر كلمته المأثورة « الله محبة » مقرنا إياها هذه المرة بالقول « ومن يثبت في المحبة يثبت في الله ». هذا أسلوب جديد في الكلام عن المحبة. فالرسول يقصد أن يقول أنه إذا كان المؤمن ثابتاً في المحبة التي من الله فلا يسعه إلا أن يكون مع الله في حالة الاطمئنان والثقة الكاملة، فإن المحبة الصادرة من صلاحه والتي بذلت المسيح لكي يموت حتى أحصل على هبة البر الكامل تغفر خطاياي وتجعلني ابناً لله دون استحقاق من جانبي وتجعله له المجد يثبت في، والمحبة التي فيه تولد محبة في، وإذ أثبت في المحبة أثبت في الله والله في. هذه ليست مجرد زيارة بين الفينة والفينة بل ثبات واستقرار وسكنى دائمة للمسيحي. فهي عادته ومقره ودائرة سكناه وإقامته الدائمة. وبعبارة أخرى تكون المحبة منزلة. فهل هناك بركة أكرم من هذه؟ ومع ذلك فما أبسطها إذ كنا نصدق ونؤمن. هي بركة من شأنها أن تهدم كل علو يرتفع ضد معرفة الله. والرسول هنا لا يخاطب اللاهوتيين أو الفلاسفة أو علماء الدين بل يكتب إلى أولاد الله حتى لا يتخلف أحد منهم عن إدراك قافلة الإيمان والمحبة، بل بالأحرى لكي يزداد الكل في معرفة محبة الله التي بدأوا بها ولكي يزدادوا تمتعاً بإله المحبة.

على أنه يجدر بنا أن نلاحظ بعض الفوارق المعينة بين ثباتنا في الله وثبات الله فينا. فهناك ثلاث صور مختلفة لهذه البركة. وأولى هذه الصور من حيث الزمن هي أن الله يثبت في المسيحي. وقد رأينا من لحظات مضت أن كل من يعترف أن يسوع هو ابن الله يتمتع بالبركة بصورة مزدوجة (ع 15) أي أن الله يثبت فيه وهو في الله.

وكيف يثبت الله فيه؟ بالروح الذي أعطانا كما (ص 3: 24) حيث نعرف أن الله يثبت فينا. ثم في (ص4: 13) يتقدم خطوة أوسع فيقول « بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه ».

ثم في العدد الذي نحن بصدده نقرأ عن ثباتنا فيه الأمر الذي لم يكن ليتم لولا أنه بالنعمة السامية تنازل ليثبت فينا بواسطة هبة الروح، ذلك الروح الذي يجذبنا بالتبعية لكي نثبت فيه. فكيف إذن علل الترتيب الذي سلكه الله فينا ولكن بقوة الشرك المستمدة من شركتنا معه في روحه (إذ هو أعطانا من روحه) ليس فقط يثبت المؤمن في الله بل الله فيه وذلك بالصورة الثالثة من هذه القوة الخاصة وهذا تؤيده الإشارة الخاصة الأخرى الواردة في العدد 16 حيث يقول: « ومن يثبت في المحبة ثبت في الله والله فيه » نظير ما جاء في العدد 13. فكلا العددين (13 و 16) يتضمنان أسبقية بركات ثبات الله فينا ولكنها يضيفان البركتين الأخريين. أما القوة الروحية فهي النتيجة الثالثة وهي حالة خاصة. فمن جهة عامة نرى أن « كل من يعترف أن يسوع هو ابن الله » يتمتع بالصورتين الأولى والثانية من البركة أي ثبات الله فيه وثباته هو في الله. أما الصورة الثالثة فتضاف هنا فقط حيث الأمر ليس قاصراً على الروح بل « من روحه » وهو تعبير قوي يدل على عمق الشركة.

إن ثبات الله في المسيحي يتم بنواله عطية الروح، بهذا نعرف أن الله يثبت فينا، وهي حقيقة عجيبة ولو أنها ليست كل البركة كما يقول لنا الرسول. ثم هناك ما لهذه الحقيقة من تأثير فينا إذ ونحن نعرف محبته نثبت فيه. ونستطيع أن نقول عن الصورة الأولى من البركة أنها عملية نعمة يجريها الله من جانبه تكريماً لخدمة يسوع المعترف به كابنه المحبوب فهو يختمنا بالروح كمفديين بدمه، على حد تعبير الرسول بطرس في هذا الشأن. وهذا كله معناه ثبات الله في المؤمن. أما الصورة الثانية من البركة فهي صدى وجواب قلب المسيحي الذي يعتمد دائماً على الله في خضوع وثقة المحبة عوضاً عن التحول إلى الذات أو الآخرين لمواجهة الصعاب. وهذا هو الثبات في الله، أي استحضار كل شيء أمام ذاك الذي من فرط محبته اتخذ من المؤمن مقراً لسكناه. فكما أنه تنازل في نعمته واقترب منا إلى هذا الحد حتى جعلنا مسكناً له هكذا نحن بترحيب منه نجعله مسكننا. هذا على ما يبدو هو الفرق بين ثبات الله فينا وثباتنا في الله.

وهكذا تتم الصورة الثالثة للامتياز الإلهي، أي القوة الناتجة عن هذه الشركة العجيبة. فالأولى هي عمل إلهي مطلق، والثانية هي تأثير واختبار الثقة فيه، والثالثة هي القوة المترتبة على بركة عظمى كهذه. هنا يبدو ضعفنا الملموس فإننا في الواقع معرضون لأن نقصر دون الوصول للنتيجة الكاملة في هذا العالم الفاشل – الأمر الذي ينبغي ألا يكون والذي من شأنه أن يذللنا ويجعل وجهنا في التراب، لأننا إذا كنا قليلي التكريس وضعيفي القوة الروحية فالسبب فينا وليس في أحد سوانا.إن الأخطاء في الآخرين ليست هي السبب ولا هي عذر مقبول وإنما الفشل فشلنا نحن. فإن أثارنا أحد فلا بد فينا من شيء يثار. وهذا لا يمكن أن يكون ولو أننا ثابتون في الله والله فينا. على أنه إذا كان ثبات الله فينا وثباتنا فيه هو نصيب كل مسيحي كما يوح الرسول، فكم هو محزن أن يكون الأمر كذلك من حيث المبدأ فقط وليس من حيث العمل والسلوك. ليتنا نحرض بعضنا بعضاً على أن يثمر المبدأ فينا اختباراً عملياً وسلوكاً فعلياً، عالمين أن نعمته كفيلة بأن تحقق هذا كله لمجد اسمه العظيم طالما كنا على استعداد للتذلل ووضع أنفسنا في التراب كلما شعرنا بإهانتنا إياه، فإنه والحق يقال أمر لا يليق بمن تباركوا كمسيحيين أن يقل في نفوسهم الشعور بالندم والحكم على الذات. ولكن ليتنا بالحري نفرح باختبارنا أمانة الله من نحو كلمته واستعداده لتحقيق مثل هذه الامتيازات العجيبة في حياتنا.

أ -  ب - مقدمة - الخطاب 1- 2 -  3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16- 17 - 18 * 19 * 20

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

 

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.