جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.

الصفحة الرئيسية : تفاسير : نشيد الأنشاد : ص 1، آية 6

خمائل الطيب: تفسير نشيد الأنشاد

ص 1، آية 6

6-"لا تنظرن إلي لكوني سوداء لان الشمس قد لوحتني. بنو أمي غضبوا علي. جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره".

أننا معرضون لان ننظر بعضنا إلى بعض من الناحية السوداء، ولا شيء يؤثر على وحدة المؤمنين ويضعف محبتهم لبعضهم البعض أكثر من ذلك. "لا تنظرن إلي لكوني سوداء" فان هذا ما يولد في نفوس المؤمنين روح الازدراء بأخوتهم. فلننظر في كل حين _ إلى بعضنا البعض من الوجه المنير، وإذا كان الرب نفسه لا ينظر إلى العروس في صورتها السوداء التي تلاشت أمام محبته الكاملة فيناجيها قائلا "ها أنت جميلة يا حبيبتي. ها أنت جميلة وعيناك حمامتان"(ع15) فعلينا ان نتمثل به فنرى بعضنا بعضا بهذه النظرة عينها "حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" (في2: 3) وحتى إذا رأينا أخا ساقطا فلا نكون قساة في معاملتنا له وفي حكمنا عليه، حاسبين أنه جسدي "أسود" وأننا نحن روحيون وأجمل منه، لأننا إذا كنا روحيين حقيقة فعلينا ان نصلح مثل هذا بروح الوداعة ناظرين إلى أنفسنا لئلا نجرب نحن أيضا، ولا شك ان أعظم الروحيين هم عرضة للسقوط كغيرهم، لان الشمس التي لوحت تلك العروس لها ذات التأثير على غيرها، وأي شخص في هذه الحياة لا يتعرض لتأثيرات الشمس المحرقة "لا شي يختفي من حرها"(مز19: 6).

*     *      *

ويمكننا ان نرى في فعل حرارة الشمس التي لوحت العروس إشارة إلى تأثير معاملات الله معنا وتدريباته لنا بالآلام، فأنه علاوة على معاملاته الحبية الحلوة معنا هناك طرق وتدريبات إلهية مذللة لنفوسنا، وهذه جوهرية ولازمة لنا كتلك أيضا، وأنه لمن الواضح والجلي في كلمة الله ان الذين هم موضوع محبته تعالى والذين يشاء ان يغمرهم بفيض بركاته فهؤلاء يحيزهم في تدريبات وآلام متنوعة.

ان كل طرق الله وتدريباته وان كانت مذلة لنفوسنا وتجعلنا ندرك حقارتنا في ذواتنا، وأننا لسنا شيئا من ذواتنا، إلا تجمل حياتنا بسجايا وفضائل روحية جليلة القدر. نعم ان التأديب، وان كان أليما ولكنه "أخيرا يعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام" أنه "لأجل المنفعة لكي نشترك من قداسته"(عب12: 10و 11).

ان ما جعل الرسول بولس وضيعا في عيني نفسه كما في عيون آخرين أيضا كان الواقع ربحا روحيا له، فقد استطاع مقاوموه عنه بان "حضور الجسد ضعيف والكلام حقير"(2كو10: 10) ولكنه إذ كان ضعيفا فقد حلت عليه قوة المسيح، وقد امتدح الغلاطيين لأنهم لم يزدروا بتجربته التي في جسده، ولا كرهوها، ولكنهم قبلوه كملاك من الله. "كالمسيح يسوع" فان كان السوداء ظاهرا فيه، فان الجمال كان باهرا أيضا إذ اجتذب قلوبهم لأنهم رأوا فيه جمال مسيح الله "المسيح يسوع" فإذا كانت طرق الله وتدريباته أليمة ومذلة إلا أنها تنقي حياتنا من كل ما هو من الجسد ومن كل ما لا يليق بالعروس بل بالحري تكسب النفس جمالا روحيا مقدسا. ان كل جمال يزين حياة العروس أنما هو من الوجه الواحد نتيجة لمعاملات المسيح الحبية الحلوة ومن الوجه الآخر لمعاملات الله التأديبية المؤلمة، وان ما يذللنا ويحقرنا في أعين ذواتنا يمهد السبيل للتمتع بغنى نعمة المسيح.

لقد اختبر أيوب قديما كيف ان شمس التجارب قد لوحته فقال "حرش جلدي علي وعظامي احترت من الحرارة في"(أي30: 30) وقد كان هذا لازما له لتنقيته من الاعتماد على بره الذاتي وإزالة ما كان في نفسه من زهو. كان لازما ان تحرقه الشمس بحرارتها اللافحة حتى يذبل "لان الشمس أشرقت بالحر فيبست العشب فسقط زهره وفني جمال منظره. هكذا يذبل الغني أيضا في كل طرقه" وماذا تكون نتيجة هذه التدريبات؟ "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة. لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه"(يع1: 11و 12)

*     *     *

وسيكون لسان حال البقية التقية في وقت محنتها القادمة "لا تنظرن إلي لكوني سوداء لان الشمس قد لوحتني" وهذا ما نراه بأكثر وضوح وتفصيل في سفر المزامير، فقد كانت ابنة صهيون ومرفوعة الرأس بين كل الأمم "وخرج لك اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملا ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب"(حز16: 14) ولكنها لعدم أمانتها نـزلت إلى مستوى العبد الملفوح، والنبي ارميا في مرثاته على سقوط أورشليم يصف بأسلوب مؤثر لا ما كانت عليه فقط بل أيضا ما صارت إليه بسبب الضيق والحزن. "كان نذرها ( 1) أنقى من الثلج وأكثر بياضا من اللبن وأجسامهم أشد حمرة من المرجان. جرزهم ( 2)  كالياقوت الأزرق. صارت صورتهم أشد ظلاما من السوداء. لم يعرفوا في الشوارع. لصق جلدهم بعظمهم. صار يابسا كالخشب"(مراثي4: 7و 8) الأمر الذي جعل النبي يتساءل في مرارة نفسه "كيف أكدر الذهب تغير الإبريز الجديد؟" (ع1).

ولكن تبارك اسم إلهنا فأنه لا يترك شعبه _ أي البقية الخائفة الله التي ستجتاز في أعماق الضيق "ضيق يعقوب" حيث يحرقهم لهيب تلك الضيقة العظيمة ويشويهم بعنف، فأنه سيشترك معهم بعواطفه "في كل ضيقهم تضايق" وعندئذ سيقول الرب ملكهم "عزوا شعبي يقول إلهكم. طيبوا قلب أورشليم ونادوها بان جهادها قد كمل ان أثمها قد عفى عنه أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها"(أش40: 1و 2) فالبقية التي لوحتها الشمس وصيرتها سوداء سترى عندئذ أنها جميلة _ "كشقق سليمان".

"بنوا أمي غضبوا علي"

ان كان العريس نفسه قد تألم من تعييرات اليهود أخوته "بني أمه" وقد اشتد غضبهم عليه حتى قتلوه "بأيدي آثمة" فلا غرابة ان كان المؤمنون يسيرون في نفس خطوات عريسهم المبارك "ان كان العالم يبغضكم فأعلموا أنه قد ابغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم. أذكروا الكلام الذي قلته لكم ليس عبد أعظم من سيده. ان كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم"(يو15: 8-20) وطوبى لنا ان تألمنا لأجل البر وعيرنا باسم المسيح لان روح المجد والله يحل علينا (1بط3: 14و 4: 14). ذلك خير لنا من ان نجاري أهل العالم لنكتسب رضاءهم لان "جميع الذين يريدون ان يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون"(2تي3: 12) وان كنا سنشترك مع المسيح في مجده فلا بد لنا أولا ان نشاركه في آلامه "ان كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضا معه"(رو8: 17). فالصليب أولا ثم الإكليل، ولا إكليل بدون الصليب.

*     *     *

وأنه لمن المؤلم حقا ان الذين غضبوا على العروس هو أقرب الناس إليها "بنوا أمها" وان كان أمرا غريبا إلا أنه حقيقة واقعية، فأنه متى وجدت الرغبة الصادقة في الشركة مع الرب والالتصاق به وتكريس الحياة له، والتمتع بمحبته فان المقاومة لا تأتي من الذين من الخارج فقط بل كثيرا ما تكون من الذين هم في داخل أيضا أو بالحري من مؤمنين، كم هو مؤلم حقا ان من يرغب في حياة لانفصال عن كل ما ليس من المسيح وفي العيشة بالقداسة والسلوك بالتدقيق وان تكون حياته بجملتها في رضى الرب، كثيرا ما يقابل حتى من بعض المؤمنين بالازدراء والتحقير ويحسب متطرفا وضيق الفكر. ليحفظنا إلهنا من الوصول إلى هذا المستوى الجسدي، وليعطنا بنعمته ان نرضي سيدنا في كل شيء مهما كلفنا ذلك من احتمال الإهانة والتعيير.

*      *      *

ولا بد ان تختبر البقية التقية هذه الحقيقة أثناء اجتيازها في تلك الضيقة المرة، فأنهم لا يقعون تحت ضغط اضطهاد ضد المسيح المقاوم الأكبر فقط، بل ان أخوتهم حسب الجسد سينقلبون ضدهم "اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون من كلامه. قال أخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي ليتمجد الرب. فيظهر لفرحكم وأما هم فيخزون"(أش66: 5). هذا هو المقصود بقول العروس "بنوا أمي غضبوا علي" ولكن ما أجمل وعد الرب الكريم سواء لتلك البقية أو لكل مسيحي مضطهد ومقاوم لأجل الرب ولأجل الحق "طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لان أجركم عظيم في السموات. فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم"(مت5: 11و 12).

"جعلوني ناطورة ( 1) الكروم وأما كرمي فلم أنطره"

يبذل عدو المسيح كل الجهد لكي يسلب من المؤمن أوقاته وقواه ومواهبه التي ائتمنه الرب عليها، فعوضا عن ان يستخدم المؤمن تلك الأوقات والمواهب لمجد الرب ولبركة نفسه فأنه ينفقها بكل سخاء في الأمور العالمية ظانا ان العالم سيعطيه أجرا على مجهوداته الباطلة، وما أكبر الخسارة التي تعود على نفس المؤمن الذي يتعب ويكد في الحصول على ثمرة مجهوداته الجسدية فإذا به يجد ان "الكل باطل وقبض الريح". من منِ المؤمنين الذين أنفقوا قواهم في الأمور العالمية لم يكن تعبهم باطلا؟ يا للأسف. قد أضاع الكثيرون حياتهم في خدمة العالم وخرجوا منه عراة بلا ثمر. ربما ظنوا في بادئ الأمر أنهم في تعبهم وكدهم في العالم يستطيعون ان يخدموا الرب، ولكن من ذا الذي يستطيع ان يحرس كرمين في ان واحد؟ "أما كرمي فلم أنطره". لقد حرست العروس كروم العالم فعجزت عن حراسة كرمها "لا يقدر أحد ان يخدم سيدين". ويا له من اعتراف مؤلم ومحزن "أما كرمي" العمل الذي لأجله أوجدني الرب هنا. الموهبة التي ائتمنني عليها لأخدمه بها "ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعضا كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة"(1بط4: 10) الأوقات التي أضعتها سدى وسيحاسبني الرب عليها. الأموال التي أوجدها بين يدي وجعلني وكيلا عليها (ليس أكثر). الأولاد الذين أعطانيهم الله لأربيهم في تأديب الرب وإنذاره. النفوس الضالة التي أوجدني الرب لاشهد لها بغنى نعمته تعالى. هل نحن أمناء في هذه وغيرها مما أودعنا إلهنا؟ ليعطينا بنعمته ان نكون صاحين وأمناء في شهادتنا وخدمتنا له، فلا نضيع أوقاتنا سدى بل نكون "مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين ان تعبنا ليس باطلا في الرب"(1كو15: 58).

*     *      *

ثم ان لهذه العبارة معنى عمليا آخر هو من الأهمية بمكان "جعلوني ناطورة الكروم وأما كرمي فلم أنطره". أنه من السهل علينا ان نقيم أنفسنا حراسا على الحالة الآخرين فنراقب كل حركاتهم بل ربما ننتقد الكثير من أعمالهم بينما نهمل السهر على حالة نفوسنا، مع أنه كان الأولى بنا ان نلاحظ حالة نفوسنا أولا "لأحظ نفسك (أولا) والتعليم (ثانيا) وداوم على ذلك. لأنك إذا فعلت هذا تخلص نفسك (أولا) والذين يسمعونك أيضا"(1تي4: 16) أما إذا لم نسهر على حالة نفوسنا وانشغلنا بمراقبة حالة الآخرين وتصرفاتهم فأنه يتم فينا قول الرب "يا مرائي أخرج أولا الخشبة من عينك. وحينئذ تبصر جيدا ان تخرج القذى من عين أخيك"(مت7: 4).

كم من المرات نهتم بخدمة أخوتنا سواء في الاجتماعات أو في الانفراد _ وهذا حسن في ذاته، ولكننا نهمل حالتنا الروحية فلا تسبق خدماتنا الجهارية أو الفردية خدمة الشركة السرية العميقة لنفوسنا، ولذا فأننا نجد ان معظم خدماتنا للآخرين مجدبة وبلا ثمر، أما إذا أردنا ان تكون خدمتنا مثمرة وسبب بركة وفرح لشعب الرب وخلاص نفوس كثيرة فعلينا ان نكون نحن في قوة الحياة الروحية أولا. لا نستطيع ان نتوقع بحق خلاص نفوس كثيرة ما لم نكن نحن أولا في الحالة الروحية التي نعها يستطيع الرب ان يستخدمنا في هداية النفوس البعيدة إليه، ولكي نكون كذلك يجب ان نسلم ذواتنا تسليما كليا للرب يسوع المسيح، ولا يمكن أيضا ان تكون اجتماعاتنا جذابة لأولئك البعيدين ومحبة إليهم فتمتلئ بهم أمكنة اجتماعاتنا ما لم نكن نحن أولا كجماعة لها شركة قوية مع الرب. ان الكنيسة الحية روحيا هي التي يستطيع الخطاة ان يجدوا في جوها المنعش ما يجتذبهم إلى المخلص الوحيد ومن الناحية الأخرى إذا كان المؤمنون ذوو المواهب الروحية، والمعتبرون أنهم أعمدة أو يحسبون متقدمين بين أخوتهم (أع15: 22) في حالة روحية سامية  ويقدمون أنفسهم قدوة للآخرين فأنهم بلا ريب يكونون سبب بركة وانتعاش روحي بين أخوتهم الآخرين، وفوق ذلك إذا كانت الكنيسة صاحية ومتعقلة للصلوات فإنها بلا شك تتمتع ببركات روحية وفيرة، فالرب يسوع يكون موضوع تعبد أفرادها والكتاب المقدس يصير أحب كتاب إليهم، والصلوات في المخادع وفي الاجتماعات لا تكون واجبا ثقيلا بل ملذة لهم، وترمم المذابح العائلية في بيوت المؤمنين، وحتى الطعام العادي يتناوله المؤمنون ببساطة القلب والابتهاج، وبالجملة يتمتع القديسون أفرادا وجماعة بأيام السماء على الأرض.

*     *     *

ثم ان هذا التعبير "جعلوني ناطورة الكروم وأما كرمي فلم أنطره" ينطبق تماما على حالة أورشليم ويهوذا، فاليهود كانوا يشغلون مركز "قائد للعميان. . . ومهذب للأغبياء"(رو2: 19و 20) لذا كان لزاما عليهم ان يكونوا شهودا أمناء لله بين كل أمة وقبيلة ولسان، ولكنهم مع الأسف لم يكونوا أمناء في مسئوليتهم أمام الله بأزاء كل العالم، كان واجبا عليهم ان يكونوا بركة لكل أمة تحت الشمس طبقا لوعد الرب لإبراهيم بان فيه تتبارك كل أمم الأرض، ولكنهم لم يحرسوا ذلك الكرم بل أكثر من ذلك لم يحتفظوا ببركاتهم التي اختصهم الرب بها.

إلا أنه سيجيء الوقت الذي فيه ترجع بقية منهم إلى الرب وعندئذ يتمتعون ببركاتهم التي وعدوا بها "لان هبات الله ودعوته هي بلا ندامة"(رو11: 29) وعندئذ لا تقول العروس "وأما كرمي فلم أنطره" بل بالحري تقول "كرمي الذي لي هو أمامي"(ص8: 12).


( 1)  جمع نذير، أو أمراؤها Princes

( 2)  أي منظرهم، أو لمعان وجوههم، أو جسمهم

( 1)  أي حارسة الكروم.