لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير سفر القضاة

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب وليم كيلي

الفصل الثاني

(من الإصحاح التاسع إلى السادس عشر)

 «وذهب أبيمالك بن يربعل إلى شكيم إلى اخوة أمهِ، وكلمهم وجميع عشيرة بيت أبي أمهِ قائلاً: تكلوا الآن في آذان جميع أهل شكيم أيُّما هو خيرٌ لكم أَأَن يتسلط عليكم سبعون رجلاً جميع بني يربعل؟ أم أن يتسلط عليكم رجل واحد؟ واذكروا أني أنا عظمكم ولحمكم. فتكلم اخوة أمهِ عنهُ في آذان كل أهل شكيم بجميع هذا الكلام، فمال قلبهم وراءَ أبيمالك؛ لأنهم قالوا أخونا هو، وأعطوهُ سبعين شاقل فضة من بيت بعل بريث، فاستأجر بها أبيمالك رجالاً بطالين طائشين فسعوا ورائَهُ، ثم جاءَ إلى بيت أبيهِ في عفرة وقتل اخوتهُ بني يربعل سبعين رجلاً عَلَى حجرٍ واحد، وبقي يوثام بن يربعل الأصغر لأنهُ اختبأْ، فاجتمع جميع أهل شكيم وكل سكان القلعة، وذهبوا وجعلوا أبيمالك ملكاً عند بلوطة النصب الذي في شكيم» (قضاة 1:9-6)

يوجد فرق عظيم بين القوة لإجراءِ الأعمال الظاهرة وبين القوة الداخلية الأدبية لضبط الذات وإحسان السلوك. الله يقدر أن يلّبس أيّاً شاءَ قوة لقهر أعدائهِ مهما كانت صفاتهُ الشخصية كما عمل بأبيمالك بن سرّية جدعون، فإنهُ انتهز فرصةً بواسطة شهرة أبيهِ ليجعل نفسهُ متسلطاً عَلَى إسرائيل، وأخذ من أيديهم سبعين شاقل فضة من بيت بعل بريث، واستأجر بها رجالاً بطالين طائشين فصار لهم قائدا،ً ولما تمكن سلطانهُ قتل جميع أبناءِ أبيهِ سوى يوثام، فلم يكن مفتكراً في خير إسرائيل بقدر ما كان مفتكراً في مجد نفسهِ، ولم يذكر صيت أبيهِ الحسن إلاَّ واسطة لرفع ذاتهِ.

«وأخبروا يوثام فذهب ووقف عَلَى رأس جبل جرزّيم، ورفع صوتهُ ونادى وقال لهم: اسمعوا لي يا أهل شكيم يسمع لكم الله، مرة ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكاً، فقالت للزيتونة املكي علينا، فقالت لها الزيتونة: أاترك دهني الذي بهِ يكرمون بي الله والناس وأذهب لكي أملك عَلَى الأشجار؟ ثم قالت الأشجار للتينة: تعالي أنتِ واملكي علينا، فقالت لها التينة: أاترك حلاوتي وثمري الطيب وأذهب لكي أملك عَلَى الأشجار؟ فقالت الأشجار للكرمة: تعالي أنتِ واملكي علينا فقالت لها الكرمة أاترك مسطاري الذي يفرّح الله والناس وأذهب لكي أملك عَلَى الأشجار؟ ثم قالت جميع الأشجار للعوسج: تعال أنت واملك علينا، فقال العوسج للأشجار: إن كنتم بالحق تمسحونني عليكم ملكاً فتعالوا واحتموا تحت ظلي، وإلاَّ فتخرج نارٌ من العوسج وتأكل أرز لبنان، فالآن إن كنتم قد عملتم بالحق والصحة إذ جعلتم أبيمالك ملكاً، وإن كنتم قد فعلتم خيراً مع يربعل ومع بيتهِ وإن كنتم قد فعلتم لهُ حسب عمل يديه، لأن أبي قد حارب عنكم وخاطر بنفسهِ وأنقذكم من يد مديان، وأنتم قد قمتم اليوم عَلَى بيت أبي وقتلتم بنيهِ سبعين رجل عَلَى حجرٍ واحد، وملكتم أبيمالك ابن أمتهِ عَلَى شكيم لأنهُ أخوكم، فإن كنتم قد عملتم بالحق والصحة مع يربعل ومع بيتهِ في هذا اليوم فافرحوا أنتم بأبيمالك وليفرح هو أيضاً بكم، وإلاَّ فتخرج نارٌ من أبيمالك وتأكل أهل شكيم وسكان القلعة، وتخرج نار من أهل شكيم ومن سكان القلعة وتأكل أبيمالك. ثم هرب يوثام وفرَّ وذهب إلى بير وأقام هناك من وجه أبيمالك أخيهِ» (قضاة 7:9-21)

أظهر يوثام حكمةً وفطنةً بمثلهِ هذا، فإنهُ علم أنهُ لا يليق بأن واحداً يتسلط عَلَى شعب الله؛ لأن الله كان ملكهم. الأشجار الجيدة المثمرة عبارة عن الرجال الصالحين الذين لم يشأْ أحد منهم أن يترك أشغالهُ الواجبة ويتعرض لما لا يعنيهِ، وأما العوسج العديم النفع فلم يأْبَ أن يكون ملكاً، ولكن عَلَى شرط أنهُ يتسلط تسلطاً مطلقاً وتظم بكلامهِ بقدر ما كان مفتخر القلب وعديم النفع، وصدق ذلك تماماً عَلَى أبيمالك. ثم صرح يوثام بما لا بدَّ أن ينتج لهُ ولرجال أفرايم من النتائج المرَّة وتمَّ كلامهُ هذا فيهم بعد قليل، إذ حصدوا ما زرعوه. أنظر(قضاة 22:9-57) فإن أبيمالك مات ولكن ميتة مهينة جدًّا لمن يفتخر ببأسهِ وبسالتهِ، إذ طرحت امرأة رحىً عَلَى رأسهِ فشجَّت جمجمتهُ، فردَّ الله شرَّ أبيمالك الذي فعلهُ ببيت أبيهِ لقتلهِ اخوتهُ السبعين، وكل شر أهل شكيم رده الله عَلَى رؤُوسهم وأتت عليهم لعنة يوثام بن يربعل. من جهة دعوتنا نحن فلا يجوز لنا أن نلعن الناس؛ لأن الله قد دعانا للبركة، ولكن مع كل ذلك لم يترك الله زمام السياسة للعالم، ولم يكف القول عن كونهِ صادقاً، من يرتفع يتضع.

«وقام بعد أبيمالك لتخليص إسرائيل تولعالخ»( قضاة 1:10-16) فيبان أن تولع ويائير القاضيين المذكورين هنا لم ينفعا إسرائيل كثيراً؛ لأن إسرائيل استمروا عَلَى عبادة الآلهة الغريبة فتضايقوا جدًّا من أعدائهم حتى قِيلَ عن الرب أن نفسهُ ضاقت بسبب مشقة إسرائيل، فشرع حينئذٍ من شفقتهِ بإقامة مخلّص آخر ليخلصهم (عدد 17و18)

«وكان يفتاح الجلعادي جبار بأْس وهو ابن امرأة زانية، وجلعاد ولد يفتاح، ثم ولدت امرأة جلعاد لهُ بنين، فلما كبر بنو المرأة طردوا يفتاح وقالوا لهُ: لا ترث في بيت أبينا؛ لأنك أنت ابن امرأة أُخرى. فهرب يفتاح من وجه اخوتهِ وأقام في أرض طوب، فاجتمع إلى يفتاح رجال بطالون وكانوا يخرجون معهُ» (قضاة 1:11-3)

فنرى في يفتاح ما سبقنا فقلناه عن صفات اللذين شاءَ الرب أن يستخدمهم لتخليص إسرائيل بحيث أن صفاتهم الأدبية توافق أحوال إسرائيل بالنظر إلى كونهم قد ابتعدوا عن الرب. كان أبيمالك بن جدعون ابناً من سرية، وأما يفتاح هذا فكان ابن امرأة زانية، ولما طردهُ أولاد أبيهِ صار رئيس غزاة وعاش بسيفهِ، ولكن هكذا شاء الرب، ولا شك أنهُ استخدم أشخاصاً معيبين هكذا لكي يظهر ليس لطفهُ لشعبهِ فقط بل حكمهُ عَلَى حالتهم الأدبية أيضاً.

«وكان بعد أيام أن بني عمون حاربوا إسرائيل، ولما حارب بنو عمون إسرائيل ذهب شيوخ جلعاد ليأتوا بيفتاح من أرض طوب، وقالوا ليفتاح: تعال وكن لنا قائداً فنحارب بني عمون. فقال يفتاح لشيوخ جلعاد: أما أبغضتموني أنتم وطردتموني من بيت أبي، فلماذا أتيتم إليَّ الآن إذ تضايقتم؟الخ» (قضاة 4:11-11)

فيبان من هذه المحاورة بينهُ وبين شيوخ جلعاد أنهُ كان إنساناً عاقلاً وقلبهُ عَلَى شعب الله، ولم يكن من المستعبدين للآلهة الغريبة؛ لأنهُ آمن بأن الرب قادرٌ أن يدفع الأعداء في يدهِ. وبعد قطع العهد مع الشيوخ ذهب بهم وتكلم بكلام العهد أمام الرب في المصفاة.

«فأرسل يفتاح رسلاً إلى ملك بني عمون يقول: ما لي ولك إنك أتيت إليَّ للمحاربة في أرضيالخ» (قضاة 12:11-28). كان بنو عمون من ذرّية لوط، ولم يسمح الله لإسرائيل بأن يحاربوهم ويأخذوا أرضهم وقت صعودهم من مصر، وذلك بسبب القرابة التي كانت بين إبراهيم ولوط وبين نسليهما، ولكن بعد ثلاث مائة سنة أتى ملك بني عمون واستغنم الفرصة بسبب ضعف إسرائيل ليأْخذ منهم بعض الأراضي شرقي الأردن، زاعماً أنها كانت لبني عمون أصلاً، فجاوبهُ يفتاح بالصواب أن إسرائيل لم يأخذوها من يد بني عمون بل من الأموريين وذلك حسب أمر الرب وكان يجب عَلَى ملك عمون أن يكتفي بالأرض التي كانت لهُ من كموش إلههم ويترك إسرائيل ممتلكين الأرض التي كانت لهم من الرب إلههم، ولكنهُ لم يسمع لكلام يفتاح وإذ ذاك سلَّم يفتاح القضاء للرب قائلاً: ليقض الرب القاضي اليوم بين بني إسرائيل وبني عمون، فلم يبادر يفتاح إلى الحرب حتى أظهر أن الحق معهُ حسب كلمة الله، ولم يشأْ أن يعمل شيئاً مخالفاً لحقوق القرابة بين إسرائيل وبني عمون.

فكان روح الرب عَلَى يفتاح، فعبر جلعاد ومنسى وعبر مصفاة جلعاد ومن مصفاة جلعاد عبر إلى بني عمون، ونذر يفتاح نذراً للرب قائلاً: إن دفعت بني عمون ليدي فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعدهُ محرقةً. ثم عبر يفتاح إلى بني عمون لمحاربتهم، فدفعهم الرب ليدهِ، فضربهم من عروعير إلى مجيئك إلى منّيت عشرين مدينة وإلى آبل الكروم ضربة عظيمة جدًّا، فذلَّ بنو عمون أمام بني إسرائيل.

«ثم أتى يفتاح إلى المصفاة إلى بيتهِ، وإذ بابنتهِ خارجة للقائهِ بدفوف ورقص وهي وحيدة لم يكن لهُ ابن ولا ابنة غيرها، وكان لما رآها أنهُ مزَّق ثيابهُ وقال: آه يا بنتي قد أحزنتِني حزناً وصرتِ بين مكدّريَّ؛ لأني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع. فقالت لهُ: يا أبي هل فتحت فاك إلى الرب؟ فافعل بي كما خرج من فيك بما أن الرب قد انتقم لك من أعدائك بني عمون. ثم قالت لأبيها: فليفعل لي هذا الأمر، اتركني شهرين فأذهب وانزل عَلَى الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي. فقال: اذهبي، وأرسلها إلى شهرين فذهبت هي وصاحباتها وبكت عذراويتها عَلَى الجبال، وكان عند نهاية الشهرين أنها رجعت إلى أبيها ففعل بها نذرهُ الذي نذر وهي لم تعرف رجلاً، فصارت عادة في إسرائيل أن بنات إسرائيل يذهبنَ من سنة إلى سنة لينحن عَلَى بنت يفتاح الجلعادي أربعة أيام في السنة» (قضاة 29:11-40). كان يفتاح من الذين اشتهروا بالإيمان ولكن ظهر فيهِ الضعف الإنساني خصوصاً من جهة النذر الذي نذرهُ للرب؛ لأنهُ لم يكن ضرورياً لهُ وعدا دلك أنتج لهُ عواقب مرّة فيما بعد. الإنسان وإن كان مستخدماً كآلة في يد الله فهو ضعيف، وإن عمل عملاً ما من قوتهِ أو حكمتهِ لا بد أن يغلط. لم يكن الرب قد طلب من يفتاح أو من غيرهِ أن ينذر لهُ نذراً شرطاً ناموسياً لإنقاذه شعبهُ من يد أعدائهم، كان مسموحاً لبني إسرائيل أن ينذروا نذوراً تبرعية، وقد وضع الله قوانين مخصوصة لذلك، ولكن نذر يفتاح هذا كان أعمى مطلقاً ليس حسب القوانين ولا في وقت مناسب إذ قال: إن دفعت بني عمون ليدي فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعدهُ محرقةً، فلم يكن لزوم لهذا النذر ولا لخلافهِ؛ لأن الربح كان قد ألبسهُ قوةً وليس عليهِ إلاَّ أن يتقدم للقتال واثقاً بأن الرب يدفع بني عمون في يدهِ، ولو لم يكن محمولاً من طياشتهِ لما نطق بنذرٍ كهذا، فأنهُ كان من المرجح أن واحداً من عائلتهِ يخرج للقائهِ لا شيئاً من الحيوانات المناسبة لمحرقة وهكذا صار، خرجت ابنتهُ الوحيدة فحزن يفتاح وتكدَّر جداً ومع ذلك كلهِ عمل معها حسب نذرهِ. لا شك أنهُ أصعدها محرقةً، قد اجتهد البعض أن يلطفوا هذهِ المسألة المحزنة إذ قالوا أن واو العطف يحتمل أن يكون في الأصل أو، وإذ ذاك يكون قول يفتاح "فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي يكون للرب أو أصعدهُ محرقةً" ولكن لا يوجد دليل يقتضي هذا التغيير. أقول أولاً أن النذر في أصلهِ لم يكن حسب إرادة الله، ولا حسب قوانين النذور. وثانياً إتمامهُ لم يكن مرضياً للرب. حاشا وكلاَّ لأنهُ تعالى لم يطلب ذبائح بشرية. ثالثاً إن سئلَ كيف حدث أن واحداً مثل يفتاح يتجرَّأ ويقدم محرقةً كهذه أقول: إن كان أحد يترك كلمة الله لا توجد ورطة من الضلال إلاَّ ويمكنهُ أن يسقط فيها. وكان يفتاح وأفضل رجال إسرائيل بعيدين عن كلمة الله والسلوك حسب ترتيبهِ الأصلي، وكانت أفكارهم قد فسدت كثيراً من معاشرة الكنعانيين جيرانهم الذين كانوا معتادين أن يذبحوا أولادهم عبادةً لآلهتهم، وتمكنت هذه العادة الفظيعة بين بني إسرائيل كما سيبان فيما بعد، حتى في أيام ملوكهم إذ كان عندهم نور أكثر مما كان في أيام يفتاح الكتاب المقدس يذكر تاريخ إسرائيل كما هو حتى زلاَّت المؤْمنين، ولا يتكفل بأن الذين شاء الرب أن يستخدمهم كانوا معصومين من الخطأِ بل بالعكس يشهر كثيراً من عيوبهم، ويظهر لنا في حادثة هذا النذر الأعمى ما هي العواقب المرّة الناتجة من الحيدان عن كلمة الرب ومن التجاسر في أمورهِ. لم يشأ الله أن يذكر إتمام النذر بالتفصيل، بل إنما يقول: ففعل بها نذرهُ الذي نذر. كان النذر بدون الله واتمامهُ كذلك، ولم يكن من الأمور اللائقة بالوحي أن يطيل الشرح عَلَى حادثة مكروهة عند الله كهذه.

«واجتمع رجال أفرايم وعبروا إلى جهة الشمال وقالوا ليفتاح: لماذا عبرت لمحاربة بني عمون ولم تدعُنا للذهاب معك؟ نحرق بيتك عليك. فقال لهم يفتاح: صاحب خصام شديد كنت أنا وشعبي مع بني عمون، وناديتكم فلم تخلصوني من يدهم، ولما رأيت أنكم لا تخلصوني وضعت نفسي في يدي وعبرت إلى بني عمون فدفعهم الرب ليدي، فلماذا صعدتم عليَّ اليوم هذا لمحاربتي؟ وجمع يفتاح كلَّ رجال جلعاد وحارب أفرايم لأنهم قالوا أنهم منفلتو أفرايم، جلعاد بين أفرايم ومنسى، فأخذ الجلعاديون مخاوض الأردن لأفرايم، وكان إذ قال منفلتو أفرايم دعوني أعبر كان رجال جلعاد يقولون لهُ: أأنت أفرايمي فإن قال لا كانوا يقولون لهُ: قلْ إذاً شِبُّولَت فيقول: سبّولت ولم يتحفظ للفظ بحق، فكانوا يأخذونهُ ويذبحونهُ عَلَى مخاوض الأردن، فسقط في ذلك الوقت من أفرايم اثنان وأربعون ألفاً، وقضى يفتاح الإسرائيلي ست سنوات ومات يفتاح الجلعادي ودفن في إحدى مدن جلعاد» (قضاة 1:12-7) فأظهر رجال أفرايم الحسد والخصام كما في أيام جدعون، ولم يجاوبهم يفتاح جواباً ليناً ليلاطفهم كما عمل جدعون، وكانت النتيجة مرَّة جدًّا، ربما شرَّ رجال أفرايم كان قد كمل وسمح الرب بما صار قصاصاً لهم. وأسفاه عَلَى إسرائيل إذ قتل بعضهم البعض، وقد ظهر في يفتاح ما يظهر فينا بحيث نقدر أن نظهر الشجاعة في محاربة الأعداء أكثر من الوداعة لنحو اخوتنا.

«وقضى بعدهُ لإسرائيل أبصان من بيت لحمالخ» (قضاة 8:12-15) يذكر هنا ثلاثة قضاة: أبصان، أيلون، وعبدون، ولم يحدث شيء يستحق الذكر في أيام قضائهم.

«ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة، وكان رجل من صرعة من عشيرة الدانيين اسمهُ منوح وامرأتهُ عاقر لم تلد، فتراءَى ملاك الرب للمرأَة وقال لها: ها أنتِ عاقر لم تلدي، ولكنكِ تحبلين وتلدين ابناً. والآن فاحذري ولا تشربي خمراً ولا مسكراً ولا تأكلي شيئاً نجساً، فها إنكِ تحبلين وتلدين ابناً ولا يعلُ موسى رأسهُ؛ لأن الصبي نذيراً لله من البطن وهو يبدأُ يخلص إسرائيل من يد الفلسطينيين» (قضاة 1:13-5)

نرى في هذا الإصحاح ولادة شمشون الشهير الذي أقامهُ الله ليخلص لإسرائيل من يد الفلسطينيين، وكان مختلفاً عن القضاة الآخرين لكونهِ نذيراً للرب أي مفروزاً لهُ قبل ولادتهِ، وكان ذلك دلالة عَلَى سوءِ حالة إسرائيل أدبياً وابتعادهم عن الله. كان قانون النذير في إسرائيل أن يفرز ذاتهُ للرب إلى وقت معين، وأما شمشون فكان نذيراً فوق القانون إذ كان مفرزاً للرب كل حياتهِ، ولكن أي نذير كان شمشون؟ فإنهُ كان مخصصاً خارجياً فقط وأما في الداخل فكان أضعف الضعفاءِ أدبياً وتاريخهُ غريب جداً ومحزن للغاية، وقوتهُ الجسدية الفائقة لم تساعدهُ لضبط شهواتهِ، ولم يكن من جميع المخلصين الذين أقامتهم نعمة الله أحد أقوى منهُ جسداً وأضعف منهُ أدباً، وقد ارتكب شروراً مهينة ومعيبة لرجل إسرائيلي عامي ليس بمنصب، وأما شمشون هذا الذي كان نذيراً من بطن أمهِ وهو آخر القضاة المذكورين فقد اجتمعت فيهِ القوة الجسدية والضعف الأدبي إلى أعظم درجة.

كانت ظروف ولادتهِ غير اعتيادية من كل الأوجه، وكان إسرائيل قد استعبدوا للفلسطينيين الذين كانوا أظلم وأردأَ جيرانهم أجمع، وقد أُقيم شمشون مخصصاً لتخليص إسرائيل من يد هؤلاءِ الأعداءِ، ولكنهُ لم يخلصهم. كان شمشون من سبط دان الذي اشتهر أكثر من غيرهِ بالارتخاء أدبياً كما سيذكر فيما بعد.

«فدخلت المرأة وكلمت رجلها قائلة: جاءَ إليَّ رجل الله ومنظرهُ كمنظر ملاك الله مرهب جدًّا، ولم أسألهُ من أين هو ولا هو أخبرني عن اسمهِ، وقال لي: ها أنتِ تحبلين وتلدين ابناً، والآن فلا تشربي خمراً ولا مسكراً ولا تأكلي شيئاً نجساً؛ لأن الصبي يكون نذيراً لله من البطن إلى يوم موتهِالخ» (قضاة 6:13-25) وعاد الملاك فظهر إجابة لصلاة منوح وأوصاهما وصية مدققة من جهة تربية الولد، ووُلد شمشون في الوقت المعين وباركهُ الرب وابتدأ روح الرب يحركهُ في محلة دان بين صرعة وأشتاول.

«ونزل شمشون إلى تمنة، ورأَى امرأَة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فصعد وأخبر أباهُ وأمهُ وقال: قد رأَيت امرأَة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فالآن خذاها لي امرأَة. فقال لهُ أبوهُ وأمهُ: أَليس في بنات اخوتك وفي كل شعبي امرأة حتى انك ذاهب لتأخذ امرأة من الفلسطينيين الغلف؟ فقال شمشون لأبيهِ: اياها خذ لي فقد حسنت في عينيَّ، ولم يعلم أبوهُ وأمهُ أن ذلك من الرب؛ لأنهُ كان يطلب علّةً عَلَى الفلسطينيين. وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين عَلَى إسرائيل» (قضاة 1:14-4).

من هنا يبتدئُ تاريخ شمشون الغريب المشكَّل، طلب بنتاً فلسطينية امرأَةً ولم يقبل من والديه إلاَّ أن يأخذاها لهُ، فإنهُ كان قوي الإرادة بقدر ما كان قوي الجسم، كان ذلك من الرب أي سمح الرب بأنهُ يكون محمولاً من شهواتهِ وإرادته القوية قاصداً أن يحوّل النتيجة إلى علة حرب بينهُ وبين الفلسطينيين. استنسب الرب أن يستعمل إنساناً مثل هذا النذير الإسرائيلي الذي انحطّ أدبياً بهذا المقدار حتى طلب امرأة من الفلسطينيين الغرل. لم يشأْ الوحي أن يشرح شرحاً وافياً عن عملهِ هذا غير اللائق ليوضح لنا أنهُ مخالف لكلمة الله، وناتج من سوءِ أخلاق شمشون؛ لأن القارئ الروحي يفهم بسهولة أنهُ كذلك أن شرَّ الإنسان ليس من الله، حاشا وكلاَّ، ولكنهُ تعالى قادر إن شاءَ أن يستعمل كلَّ شيءٍ حتى شرور الإنسان لإجراء مقاصدهِ، وقد شاء أن يستعمل شمشون محمولاً من إرادتهِ وشهواتهِ غير المقيدة، عَلَى أنهُ لم يسمح بأنهُ يتزوج بالإمرأَة الأجنبية. ما أعظم الهوة التي يسقط فيها الإنسان الذي يهمل كلمة الله ليسلك طريقاً استحسنهُ هو، وإذا تُرك لذاتهِ إلى حين لا بد أن يحصد بخجلٍ وألمٍ الذي زرعهُ بحماقة قلبهِ، ولكنهُ قد تعطل أدبياً وليس سلوكهُ إلاَّ إهانة لاسم الرب، وبينما يقصد اللذات الجسدية يتداخل الرب ويحولها إلى مرارة ويكمل مقاصدهُ هو رغماً عن أفكار عبدهِ الحمقى. وعَلَى أي حال لا ينبع الخير من إرادة الإنسان بل من إرادة الله الذي هو وحدهُ كامل الحكمة كما أنهُ قدوس وصالح. فإذاً لا يعثر أحد المؤْمنين فلا عجب من عثرتهم هنا كما في سائر الكتب المقدسة، فمهما كانت مقاصد هذا الخادم دنية كان الرب يطلب علة عَلَى الفلسطينيين.

«فنزل شمشون وأبوهُ وأمهُ إلى تمنة وأتوا إلى كروم تمنة، وإذا بشبل أسد يزمجر للقائهِ، فحلَّ عليهِ روح الرب فشقهُ كشقّ الجدي وليس في يدهِ شيءٌ، ولم يخبر أباهُ وأمهُ بما فعل» (قضاة 5:14و6) كان سالكاً في طريق عناد قلبهِ وصار لهُ تنبيهٌ إذ زمجر عليهِ شبل أسد، لكنهُ لم يستفد أدبياً مما صار بل إنما شقَّ عدوَّهُ واستمرَّ في طريقهِ كما لو لم يحدث شيءٌ. وكثيراً ما يحدث معنا بعناية الله مثل ذلك إذ يزمجر أسد علينا تنبيهاً لنا ونحن في طريق العناد، ومن الأمور العجيبة كيف كان ممكناً للروح أن يحلّ عَلَى شمشون في ظروف كهذه؟ ينبغي أن نلاحظ هنا أنهُ لم يحلّ عليهِ كما حلَّ عَلَى المؤمنين يوم الخمسين ليملأهم من الفرح الروحي ويستقرُّ فيهم جاعلاً إياهم متحدين مع المسيح في المجد، بل حلَّ عليهِ ليلبسهُ قوة جسدية مؤقتاً حسب إرادة الله، ها شمشون متوجهاً لنحو الفلسطينيين والرب طالب علة عليهم وليس عَلَى بال شمشون إلا شهواتهُ وهو وحدهُ أيضاً. كانت حالة إسرائيل رديئة في أيام جدعون، ولكن ليس كما هي الآن، فإنهُ اجتمع وراءَ جدعون ثلاث مائة رجل فيهم إيمان وغيرة كجدعون، وأما الآن فلا نسمع عن واحد من بني إسرائيل يريد أن ينحاز إلى مخلصهم حتى أن أباهُ وأمهُ لم يدركا إلا أمر الزواج فقط، ولكن كان الله وراء كل ذلك وفوقهُ قاصداً أن يبتدئَ بتخليص شعبه بواسطة هذا الشخص الفريد المنحرف الأخلاق.

«ونزل أبوهُ إلى المرأة فعمل هناك شمشون وليمة؛ لأنهُ هكذا كان يفعل الفتيان، فلما رأوهُ أحضروا ثلاثين من الأصحاب فكانوا معهُ، فقال لهم شمشون: لأُحاجينّكم أُحجية، فإذا حللتموها لي في سبعة أيام الوليمة وأصبتموها أعطيكم ثلاثين قميصاً وثلاثين حلة ثياب. فقالوا لهُ: حاجِ أحجيتك فنسمعها، فقال لهم: من الآكل خرج أُكل ومن الجافي خرجت حلاوة، فلم يستطيعوا أن يحلُّوا الأحجية في ثلاث أيامالخ» (قضاة 10:14-20) لما مرَّ شمشون بالموضع الذي فيهِ شق الأسد وجد في جثتهِ عسلاً وأخذ منه وأكل وأعطى أبويهِ أيضاً، وفي ذلك فائدة لنا بحيث إذا زمجر الشيطان للقائنا وقاومناه نغلبه ولكن ليس بقوتنا بل بالقوة المعطاة لنا من الله وبكلمته، وتكون عاقبة ذلك حلاوة لنا. لم يكن شيءٌ في يد شمشون إلاَّ القوة المعطاة لهُ من الله، وبذلك غلب ونحن نغلب بالمقاومة لا بالمشاركة. كان يجب عَلَى ذلك النذير الإسرائيلي أن ينتبه إلى ما صار، ويعرف يقيناً أنهُ معرض للشيطان وأنهُ ينبغي أن لا يشارك الأعداء بل يقاومهم كل المقاومة، ولكنهُ لم ينتبه بل استمر في طريقهِ وكان يلاعب المجرّب، عرف أن يحاجي الفلسطينيين بينما كان يعاشرهم معاشرة ردية. لماذا لم يتعلم أن يسلك بحكمة ومخافة الرب؟ كذلك المسيحي الذي هو نذير لله بطريق أسنى مما كان شمشون يجب عليهِ أن يمتنع عن المعاشرات الردية التي تفسد الأخلاق الجيدة، لو انتبه شمشون واستخرج المعنى الحقيقي من تجربة قوتهِ الأولى لكانت لهُ فوائد عظيمة حفظتهُ من أحزان شديدة لأنهُ لم يكن من الضرورة أن ينجس نفسهُ بالارتباط مع بنت من بنات الفلسطينيين لكي يقاصهم، فكان بذلك مثل الذين عندهم معرفة جيدة بما يعلّمون العالميين ويحاجونهم أحجية من كلمة الله ولكن ليس فيهم إيمان ولا مخافة الرب لكي يسلكوا بالحق منفصلين عن العالم. قلما فهم شمشون من حادثة شق الأسد ووجدان العسل في جثتهِ. كان شديداً في وقت العمل وضعيفاً بعد ذلك، لا يفرق إلاَّ قليلاً عن آلة جامدة عديمة العقل، أحجيتهُ عبارة عن حالة شعب الله في ذلك الوقت، إذ كان العدو يسطو عليهم وإن قام أحدهم ليخلصهم من يديهِ يزمجر للقائه وكان هذا الإنسان وحده قادراً أن يشقه كشق الجدي وتنتج من ذلك نتائج حلوة، لكنه كان ينبغي عَلَى كل حال أن يحفظ نفسهُ منفرزاً لله.

قد تمتْ هذه الأحجية بطريق أسنى بواسطة ربنا يسوع المسيح لهُ المجد المخلص المقتدر لشعب الله. كان العدو يسطو عليهم فقام هو قاصداً تخليصهم وزمجر إبليس للقائه كالأسد. ما أجمل سلوك هذا المخلص! الذي قاوم إبليس وغلبهُ غلبة تامة، فإنه كان متصفاً بالطاعة الكاملة، عاش بكل كلمة تخرج من فم الله، نزل إلى ميدان القتال حتى الموت الذي كان عاصمة مملكة الشيطان، ولكنه تقدم إلى هناك ليس من إرادتهِ الذاتية بل بموجب وصية قبلها من أبيهِ، وظهر أولاً أن العدو غلبهُ لأنهُ مات، ولكنه قام أيضاً وشق سلطان الظلمة كشق الجدي. «أباد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس» (عبرانيين 14:2) «لأنه وإن كان قد صُلب من ضعف لكنهُ حيٌّ بقوة الله» (كورنثوس الثانية 4:13)

لم ينتفع شمشون من أحجيتهِ؛ لأن الامرأَة الأجنبية خانتهُ. كذلك نحن إذا عاشرنا العالم روحيّاً لا نجد منهم سوى الخيانة وهو أحيل منا فيغلبنا.

«وكان بعد مدة في  أيام حصاد الحنطة أن شمشون افتقد امرأَته بجدي معزى، وقال: أدخل إلى امرأَتي إلى حجرتها، ولكن أباها لم يدعه أن يدخلالخ» (قضاة 1:15-8) فيبان أنه لم يكن قد تزوج بها بعد؛ لأنهُ قام وتركها بالغيظ المرة الأولى وأعطاها أبوها لواحد آخر، ولما عرف ذلك شمشون غضب وأضرَّ أضراراً بليغاً بزروع الفلسطينيين فقاموا وانتقموا من التمني وبنتهِ إذ أحرقوهما بالنار، فجلبا الهلاك عَلَى نفسيهما عاقبة خيانتهما؛ لأن طرق الرب عادلة وكل إنسان يحصد ما قد زرعه، فعاد شمشون وانتقم منهم إذ ضربهم ساقاً عَلَى فخذ ضرباً عظيماً، ثم نزل وأقام في شقّ صخرة عيطم.

«وصعد الفلسطينيون ونزلوا في يهوذا وتفرقوا في لحي، فقال رجال يهوذا: لماذا صعدتم علينا؟ فقالوا: صعدنا لكي نوثق شمشون لنفعل بهِ كما فعل بنا، فنزل ثلاثة آلاف رجل من يهوذا إلى شق صخرة عيطم وقالوا لشمشون: أما علمت أن الفلسطينيين متسلطون علينا؟ فماذا فعلت بنا؟ فقال لهم: كما فعلوا بي هكذا فعلت بهم، فقالوا له: نزلنا لكي نوثقك ونسلمك إلى يد الفلسطينيين، فقال لهم شمشون: احلفوا لي أنكم أنتم أيضاً لا تقعون عليّ، فكلموهُ قائلين: كلاَّ ولكننا نوثقك ونسلمك إلى يدهم وقتلاً لا نقتلك، فأوثقوهُ بحبلين جديدين وأصعدوهُ من الصخرة» (قضاة 9:15-13) صار قاضي إسرائيل منفصلاً وحدهُ؛ لأنهم ارتضوا أن يكونوا تحت سطوة أعدائهم خوفاً من مكابدة بعض المشقات التي لا بد منها إذا صارت حرب. فيبان انحطاط حالة إسرائيل إذ كان الله قد أقام لهم مخلصاً، وقد فضلوا العبودية عَلَى الحرية والخلاص. وهذا دأْب الإنسان في كل حين فإنهُ يفضل الراحة الحالية ولو كانت تحت سلطة إبليس القاسي عَلَى الخلاص تحت عناية المخلص الحنون، إذ الخلاص يقتضي مقاومة إبليس ويهيج غضبهُ في الحال، وكذلك إذا استولى العالم عَلَى الكنيسة لا يوجد طريق حينئذٍ لأولاد الله إلاَّ أن ينفصلوا عن الشر ويحتملوا العواقب مهما كانت، ولكن ذلك صعب عَلَى البشر. لم يكن شمشون واثقاً باخوتهِ أكثر من الفلسطينيين، ولكنهُ لم يشأ أن يستعمل قوتهُ لإبادتهم كما عمل يفتاح، وإذ ذاك استحلفهم أن لا يحاولون قتلهُ. يا للعجب! كيف أنهم ما خجلوا وانحازوا إلى مخلصهم طالبين منهُ أن يقودهم ضد ظالميهم؟ ولكن شعب الله إذا استعبدوا للعالم فقدوا كل حياءٍ وكل الاحساسات الجيدة حتى حب الوطن أيضاً. وبلا خجل قالوا له: أما علمت أن الفلسطينيين متسلطون علينا؟ فأين إله إسرائيل؟ أين غيرتهم عَلَى وطنهم وجنسهم؟ ألم يعملوا مثل ذلك مع المخلص الأعظم جدًّا من شمشون، إذ أوثقوهُ ومضوا بهِ إلى محكمة بيلاطس وسلموهُ لإرادة الأمم؟

فيبان من قول شمشون: كما فعلوا بي هكذا فعلت بهم أنهُ كان يحسب الفلسطينيين أعدائَهُ شخصياً، وقلما اعتبرهم أعداء الرب وظالمي شعبهِ، نعم كان فيهِ إيمان غير أنهُ كان يحب النقمة الشخصية، ففي كل ذلك لا تُرَى في شمشون تلك المزايا الحميدة والارتقاء الأدبي التي تستحق الاعتبار والمدح منا، ومع كونهِ مؤْمناً اعتمد عَلَى القوة المعطاة لهُ من الله أكثر مما اعتمد عَلَى الله ذاتهِ الذي هو مصدرها وقادرٌ أيضاً أن يكون لهُ ليس قوة وقت القتال فقط بل ملجأَ نفسهِ وسرور قلبهِ في كل حين، لا نراهُ ينزل عَلَى الأعداءِ مثل جدعون كون ذلك من واجباتهِ لله ولشعبهِ بل استشاط غضباً مما كدَّره شخصياً ثم انتهض كجبار مستيقظ من الخمر وضرب أعدائَهُ ساقاً عَلَى فخذ ثم رجع لذاتهِ الجسدية كحيوان غير ناطق حتى بين أعدائهِ أنفسهم. وبالاختصار لم يظهر أحد من قضاة إسرائيل أدنى منهُ أدبيّاً.

فأوثقهُ رجال يهوذا وذهبوا بهِ ليسلموهُ ليد الفلسطينيين، ولكن الله الرؤوف لم يترك عبدهُ المسكين المتروك من جنسهِ والعتيد أن يسلَّم ليد الأجانب.

«ولما جاء إلى لحي صاح الفلسطينيين للقائهِ، فحل عليهِ روح الرب فكان الحبلان اللذان عَلَى ذراعيهِ ككتان أُحرق بالنار فانحلَّ الوثاق عن يديهِ ووجد لحي حمار طريّاً فمدَّ يدهُ وأخذهُ وضرب بهِ ألف رجلالخ» (قضاة 14:15-20)

صاح للقائهِ الفلسطينيين ظانين أنهُ في طاقة أيديهم ولكن انقلب عليهم منتظرهم، مثلهم مثل الأسد الذي زمجر للقائهِ قبلاً فإن شدة ثقتهم إنما أوقعتهم بأكثر سرعة في نفس الحفرة التي حفروها لعدوهم. يجب أن نلاحظ أيضاً آلات شمشون التي ضرب بها أعدائَهُ، قد رأينا آلات جدعون والذين معهُ أنها كانت ضعيفة وحقيرة، وأما آلات شمشون فأحقر من تلك، لا نسمع عن وجود سيف في يدهِ قط، ثم بعد الغلبة عطش جدّاً وصرخ إلى الله فاستجاب لهُ وأخرج لهُ ماءً من تلك الآلة الحقيرة نفسها التي بها ضرب الفلسطينيين. لم يزل متروكاً من اخوتهِ الذين ابتعدوا عنهُ ساعة القتال ولم يعودوا ليسألوا عنهُ هل هو حيٌّ أم ميت؟ ومع ذلك لم يتركهُ الرب بل اعتنى بهِ اعتناءً تاماً. ليتهُ كان قد انتبه إلى حنوّ قلب السيد الذي دعاهُ لخدمتهِ ولم يتخلَّ عنهُ مهما كانت الظروف.

«وقضى لإسرائيل في أيام الفلسطينيين عشرين سنة» (قضاة 20:15)

ينبغي أن نلاحظ هذا القول، فإن الوحي يذكر مدة قضاءِ شمشون هنا كأَن هذا الوقت هو آخر حياتهِ، نعم أنهُ عاش بعد ذلك ولكن كل ما سيذكر من أعمالهِ مخالف ومحزن بهذا المقدار حتى أن الوحي شاءَ أن يحسب قضاءهُ قد انتهى هنا مع أن الله لم يزل يستعملهُ فيما بعد. كنا نظن أنهُ شبع من معاشرة الفلسطينيين ولا يعود يقصدهم لا للمحاربة ولكنهُ لم يستفد شيئاً مما قد حدث، حقاً إن أهمل شعب الله كلمة إلههم وانصبوا وراء الشهوات يكونون أحمق جدًّا من أهل العالم، ولو فُرض أن شمشون وحش لكان يُظنُّ أنهُ ينتبه ولا يعود يرمي نفسهُ بين الفلسطينيين أيضاً، ولكن اللذات الجسدية مثل المسكرات التي مهما تضرر الإنسان منها بعد أن يستيقظ قليلاً يعود فيطلبها أيضاً. أنظر (أمثال 29:23-35) هكذا عمل شمشون

«ثم ذهب شمشون إلى غزة ورأى هناك امرأة زانية فدخل إليها، فقيل للغزيين قد أتى شمشون إلى هنا، فأحاطوا به وكمنوا لهُ الليل كلهُ عند باب المدينة، فهدءوا الليل كله قائلين: عند ضوءِ الصباح نقتله، فاضطجع شمشون إلى نصف الليل ثم قام في نصف الليل وأخذ مصراعي باب المدينة والقائمتين وقلعهما مع العارضة ووضعهما عَلَى كتفهِ وصعد بها إلى رأْس الجبل الذي مقابل حبرون» (قضاة 1:16-3) يبان أنهُ لم يكن قد اصطلح أدبياً بل بالعكس تقدم إلى أكثر فجور. كان في المرة الأولى قد حاول أن يتخذ بنتاً فلسطينية ولكن بالزواج المحلل، وأما الآن فقصد زانية وذلك محرم تحت أية ظروف كانت، تجاسر إلى أقصى درجة متكلاً عَلَى قوتهِ الفائقة، ولكن بعد أن يقع في فخٍ لا يتخلص منهُ بقوته وإن كانت عجيبة جدّاً.

«وكان بعد ذلك أنهُ أحبَّ امرأَة في وادي سورق اسمها دليلة، فصعد إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها: تملّقيهِ وانظري بماذا قوتهُ العظيمة، وبماذا نتمكن منه لكي نوثقهُ لإذلالهِ، فنعطيك كل واحد ألفاً ومائة شاقل فضةالخ» (قضاة 4:16-20) صدقَ عَلَى شمشون مثل سليمان الحكيم «إن دققتَ الأحمق في تهاون بين السميذ بمدقٍ لا تبرح عنهُ حماقتهُ» (أمثال 22:27) لا نقدر أن نتتبع قصتهُ المحزنة بالتفصيل، فعلى القارئ أن يطالعها في محلها. انظروا النذير الإسرائيلي جبار البأْس ذلك الذي لم يخشَ أن يلاقي وحدهُ جيشاً غفيراً في ميدان القتال ولو كان موثقاً بحبالٍ جديدة وليس في يدهِ سلاح، فأين هو الآن؟ إنهُ نائمٌ في حضن امرأَة فلسطينية قد باعت نفسها لأقطاب أُمتها وهي باذلة جهدها لتكتشف سر قوتهِ، فأين شبل الأسد ذلك الذي زمجر للقائه بالأمس؟ حقاً قد تحوّل إلى حية فسيغلب جبار إسرائيل ليس بقوة الأسد بل بحيلة الحية. كنا نرتاب من كونه مؤْمناً لولا ذكر اسمه بين المؤْمنين (عبرانيين 32:11) نعم كان مؤمناً ولكنهُ انخدع من غرور الخطية وسقط في فخ ذلك الصياد القتّال والمحتال، الذي يجب علينا أن نحترز منهُ كل حين لأننا لسنا أحسن من شمشون إذا أهملنا كلمة الله وطريق الطاعة، فإن قوته الجسدية وقوتنا الروحية سرهما واحد وهو الطاعة لله، فإنهُ كان قد أرخى خصل شعرهِ علامة الخضوع لله، وما لم يعلُ عليها موسى لا يمكن للعدو أن يغلبهُ، أما نحن فقوتنا غير جسدية ولا علامة ظاهرة تميزنا جسداً عن الآخرين، ولكن مع ذلك عندنا سرٌّ لا يعرفه العالم «سر الرب لخائفيه وعهده لتعليمهم» (مزمور 14:25) هذا الذي يفصلنا عن العالم ويحفظنا من مسالك المهلك. كان سر شمشون في خصلهِ المرخية حسب أمر الرب لهُ، ولكنهُ قد كُشف للعدو بواسطة تلك الامرأَة الزانية التي اغتصبتهُ من قلبه الغبي، كانت طماعة بالمال وعملت بالحيلة ما لم يقدر بنو شعبها أن يعملوه بكل قوتهم، فإنها غلبت نذير الله وسلبت منهُ سرَّ قوتهِ. فمهما كان شمشون قد توغل في شهواتهِ قبلاً لم يفارقه الرب ساعة القتال مع الفلسطينيين لأنه لم يزل محافظاً عَلَى الشرط الوحيد لمداومة قوته فيه، ولكن لما تغافل عما يليق بإله إسرائيل بهذا المقدار حتى أنع شارك أعدائه وأخبرهم بسره حينئذٍ فارقه.

«وقالت: الفلسطينيين عليك يا شمشون، فانتبه من نومه وقال: أخرج حسب كل مرة وأنتفض، ولم يعلم أن الرب قد فارقه، فأخذه الفلسطينيون وقلعوا عينيه ونزلوا به إلى غزة وأوثقوه بسلاسل نحاس وكان يطحن في بيت السجن» (قضاة 20:16و21) مسكين شمشون دق فقد عينيه ولا يعود ينظر نور النهار إلى الأبد، ولكنهُ كان قد عمي روحياً وأدبياً قبل ذلك؛ لأن العمى الجسدي لم ينتج إلا من العمى الروحي الذي رماه في مخالب المجرب، هاهو في إهانة لا مزيد عليها، فإن الذي امتلأت أرض الفلسطينيين منه خوفاً يطحن كثور في بيت سجنهِ، ومن يخاف شمشون الأعمى الآن؟ ولكن لم ينسَ الله عبدهُ المسكين المهان وكان مزمعاً أن يتداخل بين ظروف تلك الحوادث المهينة لاسمه القدوس بقدر ما كانت محزنة ومذللة لعبده.

«وابتدأَ شعر رأَسه ينبت بعد أن حُلق، وأما أقطاب الفلسطينيين فاجتمعوا ليذبحوا ذبيحة عظيمة لداجون إلههم ويفرحوا وقالوا: قد دفع إلهنا ليدنا شمشون عدونا، ولما رآهُ الشعب مجدوا إلههم لأنهم قالوا قد دفع إلهنا ليدنا عدونا الذي خرب أرضنا وكثر قتلانا، وكان لما طابت قلوبهم أنهم قالوا: ادعوا شمشون ليلعب لنا، فدعوا شمشون من بيت السجن فلعب أمامهم وأوقفوه بين الأعمدة، فقال شمشون للغلام الماسك بيده: دعني ألمس الأعمدة التي البيت قائم عليها لأستند عليها. وكان البيت مملوءاً رجالاً ونساءً وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين، وعَلَى السطح نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأَة ينظرون لعب شمشون، فدعا شمشون الرب وقال: يا سيدي الرب اذكرني وشدّدني يا الله هذه المرة فقط فأنتقم نقمة واحدة من عينيّ من الفلسطينيين، وقبض شمشون عَلَى العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائماً عليهما، واستند عليهما الواحد بيمينهِ والآخر بيسارهِ، وقال شمشون: لتمتْ نفسي مع الفلسطينيين، وانحنى بقوة فسقط البيت عَلَى الأقطاب وعَلَى كل الشعب الذي فيهِ، فكان الموتى الذين أماتهم في موتهِ أكثر من الذين أماتهم في حياتهِ، فنزل اخوتهُ وكل بيت أبيهِ وحملوهُ وصعدوا بهِ ودفنوه بين صرعة وأشتأْول في قبر منوح أبيهِ، وهو قضى لإسرائيل عشرين سنة» (قضاة 22:16-31)

سبحان الله الذي لم يدع الأعداء يشمتون إلى النهاية، كان لهم وقت أولاً لذلك واغتنموا الفرصة ليذللوا أسيرهم الشيخ ويهينوا إله إسرائيل أيضاً، فابتدأ شعر رأْسهِ ينبت، ولا شك أنهُ صار يعرف قيمة سرّهِ الآن، لم يفقد نظر عينيهِ عبثاً، ولا صرف تلك الأيام المحزنة يطحن في بيت سجنهِ بلا فائدة عظيمة، فإنهُ صار يبصر أحسن بلا عينيهِ مما كان قد أبصر بهما قبلاً، فقد أساءَ استعمالهما في أيام جهالتهِ وفقد نظرهما إلى الأبد، ولكنهُ لم يفقد إيمانهُ بالرب إلههِ، فدعا شمشون الرب وقال: يا سيدي الرب اذكرني وشدَّدني هذه المرة فقط فأنتقم نقمة واحدة عن عينيَّ من الفلسطينيين، نعم كان لهُ إيمان ولكنهُ كان لم يزل مفتكراً بنفسهِ وطلب الانتقام من أعدائهِ لما عملوا بهِ شخصياً، كان ذلك أهمَّ الأشياءَ عندهُ وأعظمها، ومع ذلك لم يتغاض الرب عن صراخهِ. لا ننسَ وجود طبيعة ردية فينا تحملنا عَلَى ارتكاب ما يهين الله ويجلب التأديب علينا، وشمشون هو مثلنا إذا حدنا عن طريق الطاعة كما حاد هو، ولكن إله شمشون هو إلهنا أيضاً، فإنهُ لم يمتنع عن أن يمجد نفسهُ فيهِ ساعة ضيقتهِ العظمى حين أصبح لعبة لأولئك الفلسطينيين الغرل الذين ظنوا أن إلههم داجون انتصر عَلَى إله إسرائيل. كان شمشون يشعر في ظروف كهذه أنهُ أيسر عليهِ أن يموت من أن يعيش بعد أسيراً مهاناً في بلاد الفلسطينيين، وشاءَ الله أن يجري أموراً عظيمة بموتهِ، عَلَى أن موتهُ كان نوعاً من التأديب؛ لأنهُ من الأمور المذللة أن يكون موتهُ أهمَّ من حياتهِ فإنهُ لم يبق طريق لإبقائهِ في الحياة بعد لمجد الله ولخير لإسرائيل. لم ينهِ حياتهُ بشيبة صالحة مثل جدعون وغيرهِ من قضاة إسرائيل بل مات بين الغرل كما يموت الأحمق، ولكن شاءَ الله أن الموتى الذين أماتهم في موتهِ كانوا أكثر من الذين أماتهم في حياتهِ.

عاد الوحي فذكر هنا مدة قضائهِ؛ لأن حياتهُ كانت قد انتهت أدبياً في آخر الإصحاح الخامس عشر، قد انتهى تاريخ القضاة الذين آخرهم شمشون، وقد رأَينا انحطاط إسرائيل التام في هذا السفر.

ملاحظة: أن الله قد أقام كنيستهُ في العالم لكي تكون نذيرة لهُ كل مدة إقامتها هنا، وقد منحها الروح القدس ليحفظها عروساً عفيفة للمسيح ويقويها لتغلب العالم حال كونها منفصلة عنهُ، ولكن العالم قد غلب عليها وأحرمها بصرها الروحي، وذلك لأنها تركت مقامها ونسيت دعوتها وصارت تلاعب المجرب، فإذا نظرنا إليها كنظام ظاهر في العالم نراها خربانة وأسيرة عمياء في يد العدو الذي لا يكف عن أن يشمت فيها لا بل يستعملها آله لمقاصدهِ نظير شمشون في بيت سجنهِ، ولكن دينونة العالم مقبلة. لا شك أن النظام المسمى الكنيسة يتلاشى أيضاً في وقت دينونة العالم؛ لأنها قد اختلطت معهُ ولا نقدر أن نميز بينهما، ولكن مقصد الله أن يدين العالم وينتقم منهُ لكونهِ قد رفض ابنهُ وأفسد كنيستهُ ويشمت باسمهِ وبكلمتهِ بسبب سوء حالة الكنيسة نفسها، فالويل للعالم بسبب العثرات.

ثم إذا نظرنا إلى سلوك المؤْمنين بمفردهم نرى أن هذا المبدأ نفسهُ يصدق عليهم؛ لأن الآب يحكم من غير محاباة في بيتهِ الآن. إن كان أحد أولاد الله يعاشر العالم معاشرة ممنوعة لا يقدر أن ينجح إلى النهاية؛ لأن الله لا بد أن يحوّل المعاشرة والصداقة إلى المرارة إذ يؤَدب المؤْمن بالشيء نفسهِ الذي أهان الله بهِ. فليتأمل القارئ المسيحي في هذا لأن الله لم يشمخ عليهِ، فإن محبة العالم عداوة لله لأن العالم عدوَهُ، والمؤمن إذا انحاز إلى العالم قد خان إلهه وزنى عنهُ روحيّاً ولا بد من التأْديبات التي من شأنها أن تفكره بزناه وتسقيه المر مما كان يحسبهُ حلواً. لا نقدر أن نغلب العالم إلا بواسطة انفصالنا عنهُ روحيّاً ومقاومتنا إياهُ، وإذ ذاك يضطهدنا ولكن الضيقات نفسها الناتجة لنا من ذلك تظهر لنا ما هو العالم وتنقي قلوبنا من محبتهِ. إذا تساهلنا مع العالم نفقد النظر والتمييز ونصبح نظير شمشون الأسير الأعمى لعبة للعالم . نعم المؤْمن الحقيقي لن يهلك لأن الله قد أعطاهُ الحياة الأبدية، ولكن ليس من مقصدهِ أن يتركنا لنعيش لأنفسنا وللعالم، حاشا وكلاَّ؛ لأن مجرد كوننا نذراءَ لله يقتضي إجراء التأديب بحيث أن الله يحافظ عَلَى مجدهِ في أولادهِ عَلَى كل حال، وبما أنهُ ليس مزمعاً أن يدينهم مع العالم في المستقبل يحكم عليهم بالتأديب الآن؛ «لأننا لو كنا حكمنا عَلَى أنفسنا لما حُكم علينا، ولكن إذ قد حُكم علينا نؤَدَّب من الرب لكي لا ندان مع العالم» (كورنثوس الأولى 31:11و32) أرجو القارئ لا يستهين بموضوع تأديب الرب؛«لأن مخيف هو الوقوع في يدي الله الحيَّ» (عبرانيين 31:10) قيل هذا عن معاملة الله للذين عندهم نور كلمتهُ إن كانوا مؤمنين حقيقيين أو غير حقيقيين وصدر منهم ما أهانهُ وأغاظهُ.

أخيراً أقول أن قانون الله لإجراء التأْديب عَلَى شعبهِ أو النقمة عَلَى أعدائهِ هو مقدار النور المعطى لهم، فالمسيحي الذي عندهُ نور الإنجيل الكامل لا يقدر أن يعيش كالذي ليس عندهُ ذلك، فإن الله يطالبهُ في أكثر. إن التأديب من الله عَلَى أولادهِ جارٍ الآن عَلَى أنهم قد تغافلوا عن كلمتهِ في شأن هذا الموضوع إلى هذا المقدار حتى بالكاد يدرون أو يلتفتون إلى يد ضاربهم.

فليراجع القارئ (أيوب 14:33-30) حيث توضيح لمعاملة الله مع الإنسان من هذا القبيل، يتكلم الله مع الإنسان مرة و مرتين ولكنهُ لا ينتبه، ثم يتخذ وسائط غير اعتيادية كالأحلام بالليل قاصداً بها أن يوقظهُ من الغفلة ويرجعهُ عن طريقهِ، ولكنهُ يستمر عَلَى عناد قلبهِ ثم يتلف الله جسدهُ بأوجاع إلى أن يتوب ويقول : «قد أخطأت وعوَّجت المستقيم» فعند ذلك يعود الرب يقيمهُ ويفرح قلبهُ. نعرف من مواضع أخر أنهُ ممكن أن التأديب يشتد حتى إلى موت جسد المؤْمن، أنظر ( أعمال الرسل 1:5-11) و( كورنثوس الأولى 5:5و11:30-34) و(عبرانيين 5:12-11) و( يوحنا الأولى 16:5و17) يجب أن نتقي الرب ونسلك بمخافتهِ يا اخوتي؛ لأنهُ ليس أقلّ غيرة عَلَى مجدهِ في الذين هم لهُ الآن مما كان في الأيام القديمة. ما أحزن حالنا إذا تمكن فينا العمى والعصيان! إلى أن لا يكون طريق لله أن يبقينا في الحياة بعد لمجدهِ، فإذ ذاك يكون موتنا أنسب من حياتنا، ليس المعنى أن موت جميع المؤمنين هو عَلَى سبيل التأديب؛ لأن الموت لا بد منهُ إن لم يأتِ الرب قبلُ، ولكنهُ أمر واضح من الكتاب أن الله بعض الأوقات يؤدّب شعبهُ حتى إلى الموت، كذلك النظام المسيحي في العالم بحيث أن الله صابر عليهِ مع جميع الإهانات التي صارت لمجدهِ بسببهِ، لكن متى كَمُل إثمهُ ينزعهُ الله بضرباتهِ مع أنهُ سينهي وجود النظام العالمي في ذلك الوقت نفسهِ ويبدئُ العالم العتيد الذي نتكلم عنهُ، ومن العلامات الدالة عَلَى قرب وقت الدينونة عموم النصارى قد فقدوا بصرهم واستعبدوا للعالم الحاضر الشرير


 

الفصل الثالث

(من الإصحاح 17إلى الإصحاح 21)

 

إن مقصد الوحي بهذا السفر يعطينا أخبار قضاة إسرائيل مع زلاتهم وسقطاتهم الشخصية، وقد انتهى تاريخهم مع شمشون الذي مع إنهُ أشهر القضاة كان أكثر اعوجاجاً منهم ولم يزل ينحط أدبياً حتى أصبح عَلَى حالة الذل والإهانة التي لا مزيد عليها، ولم يبقَ طريق لله أن ينجي قاضي إسرائيل ويحافظ عَلَى مجد اسمهِ تعالى إلاَّ أن يميتهُ مع جمهور من الأعداءِ. وأما الإصحاحات الباقية من هذا السفر فهي ملحقة فقط وتتضمن حوادث شتى ليس لها تاريخ خصوصي، فقط يقال عنها أنها حدثت في تلك الأيام التي لم يكن ملك في إسرائيل، وما يذكر فيها يوضح سوء حالة الشعب الأدبية عموماً، ومن حيث قصدنا الاختصار في الكلام عَلَى قدر الإمكان نسأَل القارئ أن يطالع هذه الإصحاحات في محلها، وهنا نقدم عليها بعض الملاحظات المختصرة فنقول.

أن الإصحاح السابع عشر يظهر امتداد عبادة الأصنام بين شعب إسرائيل، كان رجل من جبل أفرايم اسمهُ ميخا اختلس الفضة من أمهِ التي كانت قد كرستها للرب ولكن لأي عمل؟ لعمل تمثال منحوت وتمثال مسبوك الأمر المخالف عَلَى خط مستقيم لوصايا الله كما لا يخفى. فلم يكن اسم الرب منسياً بينهم، لكنهم أهملوا كلامهُ وأخذوا يضيفون طقوساً حسب استحسانهم وعبادة وثنية ونسبوا الكل لاسم الرب، وهذا طريق انحطاط شعب الله وابتعادهم عنهُ في كل جيل، بحيث أنهم لا ينكرون اسمهُ نكراناً ظاهراً، بل يخترعون طقوساً وفرائض مرتبة عَلَى حسب عقولهم المنحرفة وقلوبهم الغبية، لأن ممارسة الطقوس هينة عَلَى الإنسان إذ تجعلهُ يظن أنهُ ممكناً لهُ أن يبقى مستمراً عَلَى الإقرار باسم الرب، فيخدمهُ حسب شهوات قلبهِ التي لا تناسب النور الإلهي. فرد ميخا هذه الفضة لأمهِ فأعطتها للصائغ فعملها تمثالاً منحوتاً وتمثالاً مسبوكاً وكانا في بيت ميخا، وكان للرجل ميخا بيتاً للآلهة فعمل افوداً وترافيم وملأ يد واحد من بنيهِ فصار لهُ كاهناً. لا يقدر الإنسان أن يقف في طريق الانحطاط متى حاد عن كلمة الله؛ لأن إبليس يسوقهُ من شرٍّ إلى شرٍّ ولا يكون موقف لرجليهِ حتى يصل إلى جهنم النار. إن كانت عندك طقوس بشرية يلزمك كاهن بشري أيضاً، فلم تكن أفكار ميخا مطمئنة تماماً حتى صار لهُ كاهن من سبط لاوي ثم فرح قائلاً: الآن علمت أن الرب يحسن إليَّ؛ لأنهُ صار لي اللاوي كاهناً. كلما كان ترتيب أقرب إلى كلمة الله حسب الظاهر ولو كان عَلَى مبدأ فاسد ينغشُّ بهِ الإنسان أكثر؛ لأنهُ يظن بأن الله مضطرٌّ أن يصادق عليهِ لمجرد كونهِ منسوباً لهُ. نعم كان سبط لاوي مخصصاً لعبادة الله، ولكن حسب كلمتهِ تعالى تماماً لا حسب أفكار الناس. توهم ميخا أن وجود اللاوي كاهناً في بيتهِ يتكفل بحلول البركة عليهِ ولكنهُ إنما غش نفسهُ بأوهام باطلة كما يظهر من الإصحاح الثامن عشر؛ لأن كاهنهُ اللاوي لم يكن مفتكراً في صوالح بيت ميخا بقدر ما كان مفتكراً في صوالح نفسهِ أي في بطنهِ وشرفهِ العالمي، فإنهُ لما أتى الرجال الدانيُّون وعرضوا عليهِ أن يكون كاهناً لسبطٍ كامل خان سيدهُ الأول وأخذ الأفود والتماثيل وذهب بها طيب القلب (عدد 19و20) ولا عجب في ذلك لأنهُ كان من الرعاة الذين يرعون أنفسهم تاركين الغنم، فأصبح ميخا متكدراً محزوناً أخيراً بقدر ما كان مسروراً أولاً، وغير قادر أن يسترجع لا آلهتهُ ولا كاهنهُ من يد الدانيين (عدد 23-26)

ثم جاء بنو بليعال هؤلاءِ إلى لايش إلى شعب مستريح ومطمئن وضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار (قضاة 27:18) ونصبوا هناك عبادتهم الأصنامية وأكثروا الكهنة وهكذا تقدموا بذلك إلى أن حان وقت قصاصهم فسبُوا من أوطانهم (قضاة 28:18-31) فيوضح الوحي زرع الضلال ونموّهُ أيضاً لأن الضلال يأتي بثمر. كانت عبادة الأصنام موجودة بكثرة في باقي أسباط إسرائيل، ولكنها صارت نظاماً في سبط الدانيين أولاً، وإذ ذاك أخبرنا الوحي بهذه القصة. كان محرّماً عَلَى إسرائيل أن يسجدوا لتمثال أو لشيء ما غير الله تعالى، ولكنهم عملوا ذلك وزادوهُ إهانة إذ كرّسوا كهنة لاويين ليجعلوا عبادتهم الكاذبة متعلقة باسم الرب ظاهراً مع أنها كانت شيطانية حقيقةً، ثم نرى قضاء الله العادل لم يتغاضى عن الذين تهاونوا بمجد اسمهِ؛ لأن لا جبروت الدانيين ولا نظامهم الصنمي خلصهم من القصاص الإلهي. ولا بد أن هذا القضاء نفسهِ يدرك النصارى عموماً لكونهم قد أهملوا كلمة الله وتهاونوا بمجد اسم المسيح بإضافتهم طقوساً وفرائض بشرية لا أصل لها في الكتاب ناسبين إياها لله مع أنها مخالفة لكلمتهِ بقدر ما كانت عبادة الدانيين مخالفة لها، نعم وأكثر من تلك نظراً إلى وجود نور الوحي الكامل عندنا.

ثم نقرأ في الإصحاح التاسع عشر قصة فظيعة يبان منها سوء حالة سبط بنيامين، فإنهم كانوا مفسَدين جميعاً متوغلين بفواحش ممنوع ذكرها نظير أهل سدوم وعمورة الذين أبادهم الرب بالنار والكبريت من السماءِ. إن عبادة الأصنام هي تعدٍّ عَلَى حقوق الرب، والظلم والفساد لنحو الإنسان أيضاً، وكلاهما أي التعدي عَلَى حقوق الله والظلم لنحو الإنسان ضدّ كلمة الله عَلَى حدٍّ سوى، ولكن بني إسرائيل لم يقشعرُّوا من عبادة ميخا كما اقشعروا من ظلم أهل بنيامين لنحو أخيهم الغريب الرجل اللاوي وسريتهِ؛ لأن الإنسان طبعاً يشعر بأن الظلم للبشر محرّم بينما يستخف بالتعدي عَلَى حقوق الله في عبادتهِ، فسمح الرب بحدوث ذلك العمل الفظيع في سبط بنيامين ليوقظ جميع الأسباط من غفلتهم ويبين لهم سوء الحالة التي كانوا قد وصلوا إليها. استعمل الرجل اللاوي المظلوم وسائط غير اعتيادية لا أريد أذكرها بالتفصيل لكي ينبه بها جميع الأسباط ويذكرهم أنهم شعب واحد وأن الظلم الذي صار لواحد منهم كان إهانة للجميع.

«فقام جميع الشعب كرجلٍ واحد وقالوا: لا يذهب أحد منا إلى خيمتهِ ولا يميل أحد إلى بيتهِ، والآن هذا هو الأمر الذي نعملهُ بجبعة عليها بالقرعة فنأخذ عشرة رجال من المائة من جميع أسباط إسرائيل، ومائة من الألف، وألفاً من الربوة لأجل أخذ زاد للشعب ليفعلوا عند دخولهم جبعة بنيامين بحسب كل القباحة التي فعلت بإسرائيل، فاجتمع جميع رجال إسرائيل عَلَى المدينة متحدين كرجل واحد، وأرسل أسباط إسرائيل رجالاً إلى جميع أسباط بنيامين قائلين: ما هذا الشرّ الذي صار فيكم؟ فالآن سلموا القوم بني بليعال الذين في جبعة لكي نقتلهم وننزع الشر من إسرائيل، فلم يُرِدْ بنو بنيامين أن يسمعوا لصوت اخوتهم بني إسرائيل، فاجتمع بنو بنيامين من المدن إلى جبعة لكي يخرجوا لمحاربة بني إسرائيل» (قضاة 8:20-14)

حصلت منهم غيرة شديدة ولكنها كانت بشرية جسدية فقط؛ لأنهم بادروا إلى الحرب حسب حكمتهم غير طالبين الإرشاد الإلهي وغير معترفين بخطاياهم الخاصة قبل إجراء القصاص الواجب عَلَى اخوتهم المذنبين. نعم صعدوا إلى بيت إيل وسألوا الله قائلين: من منا يصعد أولاً لمحاربة بني بنيامين؟ كما في عدد 18، لكنهم فعلوا ذلك بعدما استعدُّوا وحضّروا كل شيءٍ حسب أفكارهم حينما كان الواجب أن يسألوا الرب قبل كل شيءٍ، فالرب جاوبهم حسب سؤالهم تاركاً إياهم ليجربوا حكمتهم ويكابدوا انكسارات ومشقات محزنة في إتمام العمل الذي ظهر لهم أولاً حسب حكمتهم أنهُ سهل جدًّا. مثلهم مثلنا أوقاتاً كثيرة إذ نهيئُ كل شيء لإجراء ما استنسبت حكمتنا ثم نطلب من الرب أن يرشدنا في إجرائهِ ويبارك عَلَى مشروعنا، ولكن لا بدَّ من مشقات وخيب الآمال في العمل ولو كان حسناً بذاتهِ؛ لأننا لم نطلب الإرشاد قبل كل شيءٍ من الرب، وإذ ذاك يجاوبنا الرب حسب حالتنا الروحية الدنية ويجعلنا نتعلم عدم حكمتنا غصباً عن جسارتنا وثقتنا الذاتية، ولا بد أخيراً أن يكمل مقاصده لكن ليس كما كنا ننتظر.

انكسر الجيش الوافر من الأسباط الأحد عشر، وانهزم أمام سبط بنيامين الصغير مرّة بعد أُخرى إلى أن «صعد جميع بني إسرائيل وكل الشعب وجاءُوا إلى بيت إيل وبكوا وجلسوا هناك أمام الرب وصاموا ذلك اليوم إلى المساءِ وأصعدوا محرقات وذبائح سلامة أمام الرب» (قضاة 26:20) كان الأليق بأنهم يعملون هكذا عندما بلغهم الخبر عن الشر الفظيع الحادث بينهم، إن إجراء التأْديب عَلَى اخوتنا إن أذنبوا هو من الأمور الواجبة غير أنهُ ينبغي لنا أولاً أن نتضع أمام الرب معترفين بخطايانا الخاصة ، فيكون الرب حينئذٍ معنا ويرشدنا بحكمتهِ الكاملة.

«وسأَل بنو إسرائيل الرب، وهناك تابوت عهد الله في تلك الأيام وفينحاس بن ألعازار بن هارون واقف أمامهُ في تلك الأيام قائلين: أَأَعود أيضاً للخروج لمحاربة بني بنيامين؟» (قضاة 27:20و28)  هذا القول مما يؤكد لنا أن الحوادث المذكورة في هذه الإصحاحات الأخيرة حدثت قبل أيام القضاة المتقدم تاريخهم لأنها صارت في زمان كهانة فينحاس الذي عاش في أيام دخولهم إلى كنعان تحت قيادة يشوع. يكفي أن نقول أنهم صعدوا إلى بنيامين وضربوا بحد السيف جميع الرجال إلاَّ عدداً قليلاً نحو ست مائة رجل نجوا هاربين، ثم نرى في الإصحاح الأخير حزن الأسباط الآخرين عَلَى فقدان سبط واحد من إسرائيل واضطرمت الاحساسات الأخوية وحبهم لجنسهم واستعملوا الوسائط المقتضي استعمالها لحفظ سبط بنيامين من الاضمحلال.

نستفيد من هذه القصة المحزنة أولاً- أن حدوث شر بين شعب الله يجب أن يعتبر إذلالا للجميع، وثانياً- أننا لا نقدر أن نجري التأْديب عَلَى اخوتنا مهما كانوا مذنبين ما لم نتذلل نحن أمام الرب ونعترف بخطايانا، وإن بادرنا إلى ذلك حسب حكمتنا وغيرتنا البشرية لا ينتج سوى الانكسار والذل الزائد .

الفصل الأول

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.