لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الرابع والعشرون

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الرابع والعشرون

 

النبوة بخراب الهيكل

(عدد 1، 2؛ مرقس 1:13، 2؛ لوقا 5:21، 6)

«ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل. فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل فقال لهم يسوع أما تنظرون جميع هذه؟ الحق أقول لكم أنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض» (عدد 1، 2) قد صار ذلك الهيكل الجميل مغارة لصوص وتمكن فيه سلطان قتلة أنبياء الله فتركه الرب خرابًا إذ لم يعد هو بيت أبيه بل بيتهم هم، على أن قلوب التلاميذ لم تزل مُتعلقة به. ولما تقدموا إلى سيدهم لكي يروه أبنيته العظيمة عاد فأنبأهم بخرابه. ونرى فيهم كم هو شديد ذلك الميل الطبيعي في قلب الإنسان للأبنية الدينية الفخمة والعبادة المصحوبة بالاحتفالات الجمهورية! كان التلاميذ يُحبون المسيح ولكنهم كانوا مُفتخرين بالهيكل أيضًا. وما كان أقل تأثرهم بما قال المسيح سابقًا عن خرابه! وكان من الأمور الجائزة لليهودي، لا بل والواجب عليه أن يطلب سلام أورشليم، والحضور إلى هيكل الله. ولكنه صار ضروريًا لتلاميذ المسيح المرفوض أن يكفوا عن أفكارهم القديمة اليهودية ويتعلقوا كل التعلُق بمركزهم الجديد الذي هو شخص الرب الذي قام مقام الهيكل.

 

سؤال التلاميذ الثُلاثي ورد المسيح عليهم بخلاصة للموضوع كله مع إشارة

خاصة إلى «مُبتدأ الأوجاع»

 

«وفيما هو جالس على جبل الزيتون، تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين قُل لنا مَتَىَ يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟».

الآن قد انتبه التلاميذ إلى بعض كلمات الرب في شأن خراب الهيكل، وإتيانه ثانيةَ. فسأله أربعة منهم (مرقس 3:13) على انفراد ثلاثة أسئلة: الأول- مَتَىَ يكون هذا، أي خراب الهيكل. الثاني- ما هي علامة مجيئك؟ الثالث- ما هي علامة انقضاء الدهر؟؟ فربطوا بين الثلاثة كأنها حادثة واحدة ذات ثلاثة أوجه.

ولا يُخفى أن مرقس ولوقا يدرجان فقط السؤال الخاص بخراب الهيكل فينبغي أن لا نرتاب البتة بأن الوحي قد ألهم كل واحد من الثلاثة البشيرين في إدراج كل ما أدرج وفي عدم إدراج كل ما عدل عن إدراجه.

ولا يفوتنا أيضًا أن المسيح لم يُكلم التلاميذ في هذا الفصل كمسيحيين بل كإسرائيليين إذ كانت كل أفكارهم يهودية مُتعلقة بالنظام القديم وانتظار الملكوت على الأرض، لذلك نرى الرب يُخاطبهم كمن يُمثلون البقية الإسرائيلية التقية العتيدة أن تؤمن به بعد اختطاف الكنيسة.

«فأجاب يسوع وقال لهم انظروا لا يضلكم أحد. فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثيرين وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب، انظروا لا ترتاعوا، لأنه لا بد أن تكون هذه كلها. ولكن ليس المُنتهى بعد، لأنه تقوم أُمة على أُمة ومملكة على مملكة وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن. ولكن هذه كلها مُبتدأ الأوجاع. حينئذ يُسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مُبغضين من جميع الأُمم لأجل اسمي. وحينئذ يعثر كثيرون ويُسلمون بعضهم بعضًا ويُبغضون بعضهم بعضًا. ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرون. ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين. ولكن الذي يصبر إلى المُنتهى فهذا يخلُص، ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأُمم، ثم يأتي المُنتهى» (عدد 4-14).

كان الرب قد صرح بخراب مُركز عبادة اليهود وزوال كل ما كانت قلوب التلاميذ مُتعلقة به على الأرض فأخذت كلماته الخطيرة توقظهم من الغفلة الشديدة. وحملتهم على أن يطلبوا منه إيضاحًا أكثر لما نطق به باختصار. بل ونفس الظروف التي كانوا فيها جعلت تأثيرًا زائدًا لما سمعوا إذ كانوا جالسين على جبل الزيتون تجاه الهيكل المكشوف بكل جماله قدام نظرهم. إني لا أقول أنهم فهموا معاني أسئلتهم لأنه من الأمور الواضحة أنهم لم يزالوا على غاية الجهالة قبل صعود الرب إلى السماء وحلول الروح القُدس. فشرع الرب يُجيب على أسئلتهم ليس بحسب أفكارهم بل بحسب معرفته الكاملة كالنبي العظيم الذي أقامه الله لشعبه. ففي جوابه أول كل شيء حذرهم من التّزعزع عند حدوث الانقلابات العتيدة أن تقترن بتتميم هذه النبوات.

«انظروا، لايضلكم أحد لأن كثيرين سيأتون باسمي قائلين، أنا هو المسيح ويضلون كثيرين» أي أنهم يتخذون كل واحد اسم المسيح مُدعيًا أنه هو المُتنبأ عنه. وهذا تم جُزئيًا (يوحنا الأولى 18:2)، قبل خراب الهيكل وأورشليم في سنة 70م على يد الجنود الرومانيين كما سيتم مُستقبلاً في الصد الأكبر للمسيح أو المسيح الكذاب (يوحنا الأولى 22:2؛ تسالونيكي الثانية 6:2-8).

«وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا لا ترتاعوا, لأنه لا بد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المُنتهى بعد» هذا ما سيكون بعد الاختطاف (رؤيا 2:6-4). ولكن لا يُخفى أن حوادث مُكدرة كهذه صارت أيضًا ما بين صعود المسيح وخراب أورشليم عن يد الجنود الرومانيين.

«لا ترتاعوا لأنه تقوم أُمة على أُمة ومملكة على مملكة. وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن» هذا أيضًا سيكون بعد اختطاف الكنيسة (حجي22:2؛ رؤيا 5:6، 6، 12) ولكني أعود وأقول أنه من الأمور المعروفة أن حوادث كهذه تمت أيضًا في زمان خراب أورشليم على يد الرومان غير أن الرب هنا لا يذكر هذا الخراب صريحًا لأنه إنما ينظر هنا إلى أحوال الأمة اليهودية من ذلك الوقت إلى نهاية تأديبات الله لها في المُستقبل. وأما في لوقا فيذكر خراب أورشليم صريحًا مع العلامة التي أُعطيت لتدلهم عل ذلك للفرار منها (لوقا 20:21-24). غير أننا لا نقدر أن نبحث الآن في كلامه في شأن هذا الموضوع، لأن لا نفع لنا أن نتبع كلام كل من الثلاثة البشيرين في محله الخاص.

«ولكن هذه كلها مُبتدأ الأوجاع» أي للأُمة اليهودية لأن الله ابتدأ وقتئذ يؤدبها تأديبات خاصة لأجل رفضها المسيح إذ «غضب الملك وأرسل جنوده وأهلك أولئك القائلين وأحرق مدينتهم» (إصحاح 7:22). ولكن لم ينته أمرهم بتلك الحادثة ولو أنها كانت عظيمة جدًا كقول لوقا «ويقعون بفم السيف ويُسبون إلى جميع الأمم. وتكون أورشليم مدوسة من الأمم حتى تكمُل أزمنة الأمم» (لوقا 24:21). غير أن متَّى لا يذكر تشتتهم بين الأمم ولا أزمنة الأمم لأنه إنما يتتبع الحوادث المُتصلة بالهيكل وأورشليم. فبحسب قول هذا البشير قد ابتدأت أوجاعهم بخراب الهيكل ولكنها تنتهي بإقامة رجسة الخراب فيه فيما بعد كما سنرى.

«حينئذ يُسلمونكم إلى ضيق ويقتلونكم وتكونون مُبغضين من جميع الأمم لأجل اسمي وحينئذ يعثر كثيرون ويُسلمون بعضهم بعضًا ويُبغضون بعضهم بعضًا» سبق فحذرهم من جهة الأسباب التي من شأنها أن تُزعزعهم من الخارج. وهنا يُنبئهم عن حدوث أسباب مُكدرة أخرى فيما بينهم في الداخل إذ يعثر كثيرون منهم ويرتدون بسبب الاضطهادات العنيفة. ثم يُبغضون الذين كانوا سالكين معهم قبلاً ويُسلمونهم إلى المجالس والحُكام. (قابل هذا مع عبرانيين 25:10-31) حيث نرى أن مَنْ تزعزع في الإيمان ترك الاجتماع وتحول إلى خصم. وكما حدث هذا قبل الخراب السالف للهيكل هكذا سيحدث بعد اختطافنا في زمان المسيح الكذاب.

«ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين» الأنبياء الكذبة هنا هم المُعلمون المُضلون وليسوا هم القائلين أنا هو المسيح، المُشار إليهم في (عدد 5).

«ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين» نرى في (أعمال الرسل 20:21، 21) أن ربوات من اليهود اعترفوا بالمسيح وكانوا لا يزالون غيورين للناموس ولما طال الوقت وتكاثرت الضيقات على أُمتهم ولم يروا نجاةً تُزعزع كثيرون منهم وبردت محبتهم للمسيح وارتدوا عنه لأن قلوبهم كانت مُتعلقة بالأرض ولم يعرفوا المسيح المُرتفع إلى المجد ولا دعوة المؤمنين به وقت غيابه فكانت حالتهم كالمزروع في الأماكن المُحجرة الذي جف عند خيبة الآمال الجسدية (إصحاح 20:13، 21). وهكذا صار عند خراب الهيكل وأورشليم في ذلك الوقت، وهكذا سيصير أيضًا في المُستقبل (دانيال 10:12) لأنه ينبغي أن نُلاحظ كل المُلاحظة أن كلام الرب هنا يُماثل كلامه في (إصحاح 10) حيث رأينا انه ابتدأ بما يُناسب إرسالية التلاميذ أولاً ثم تقدم إلى ذكر ما يتم لأمثالهم عند المنتهى.

«ولكن الذي يصبر إلى المُنتهى فهذا يخلص» راجع (إصحاح 22:10). لفظة «المُنتهى» تذكر بالارتباط مع تاريخ إسرائيل. فهي تُشير إلى وقت مُعين ومعروف في تاريخ إسرائيل. فلا يجوز لنا أن نحيد عن معناها هذا. صحيح أن المبدأ الذي تتضمنه العبارة كلها يُناسب المُعترفين باسمه في كل زمان من حيث الثبات على اعترافهم خصوصًا في وقت الضيق والاضطهاد. فكان يجب على جميع التلاميذ الإسرائيليين أن يحتملوا الضيقات المُتعلقة بانقلاب نظامهم القديم. فإن كل من ارتد في هذه الظروف عن الإيمان المسيحي برهن على أنه تلميذ بالاسم فقط ولم تبق له سوى الدينونة المخيفة (انظر عبرانيين 4:6-8؛ 26:10-31). ومع أن ذلك كله صحيح إلا أني أقول أن الرب يُشير بكلمة «المُنتهى» إلى مُنتهى أوجاع إسرائيل كأُمة، ونجاة البقية التقية الثابتة إلى أن يظهر هو بالقوة لينقذهم. ونراه هنا ينتقل بنا من الأحوال التي اتصف بها خراب الهيكل وأورشليم سابقًا عن يد الرومانيين إلى أحوال أخرى نظيرها في المُستقبل.

«ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأُمم. ثم يأتي المُنتهى». بشارة الملكوت هي المُناداة بسيادة المسيح. لا شك أنه يجب أن نُنادي بذلك في كل حين (أعمال الرسل 25:20) ولكنه مذكور هنا بالارتباط مع الكرازة بعد اختطاف الكنيسة إلى جميع الأُمم شهادة لهم قبل المُنتهى. والكرازة بهذه البشارة الملكية ستتم على يد أُمناء اليهود في ذلك الوقت (رؤيا 6:14، 7).

«ثم يأتي المُنتهى» لنُلاحظ جيدًا أن خراب أورشليم قديمًا لم يكن هو المُنتهى بل مُبتدأ أوجاع إسرائيل. ولما أشار الرب إلى ذلك قال صريحًا «ولكن ليس المُنتهى بعد» (عدد 6) وكذلك في (مرقس 7:13؛ لوقا 9:21). أني مُعتقد بأن خرابها عن يد تيطس القائد الروماني كان حادثة عظيمة الأهمية في طرق الله مع إسرائيل، ولكنه لم يكن الكل. معلوم أن ذلك القائد الشهير لم يقصد حرق الهيكل ولكن الله قصده وأكمله رغمًا عن اجتهاد تيطس في تلافيه لأنه تعالى أراد أن يُتمم القول «لا يُترك حجر على حجر لا ينقض». وإن قيل أن تلك الحادثة هي المُنتهى. فيا ترى مُنتهى أي شيء؟ لأنها لا أنهت أوجاع أُمة إسرائيل ولا أنهت الاضطهادات التي كانت على المسيحيين. فإن هذه الاضطهادات للمسيحيين قد تكاثرت جدًا بعد خراب أورشليم إلى وقت الإمبراطور قُسطنطين في بداءة القرن الرابع. وأما تلك الأوجاع للأمة الإسرائيلية فلا زالت باقية إلى الآن.

 

رد المسيح على سؤالهم «مَتَىَ يكون هذا؟» بإشارته

إلى «الضيقة العظيمة» أو «الوحش والنبي الكذاب»

(عدد 15-26؛ مرقس 14:13-23)

«فمَتَى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المُقدس ليفهم القارئ. فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال. والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا. والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه. وويل للحبالى والمُرضعات في تلك الأيام. وصلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت. لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون. ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد ولكن لأجل المُختارين تقصر تلك الأيام» (عدد 15-22).

«فمَتَى نظرتم رجسة الخراب» انه من الحقائق المؤكدة أن الرب في هذا الفصل يُشير إلى الحوادث التي ستتم في وقت المُنتهى أي في النصف الأخير للأسبوع النبوي الذي تنبأ عنه دانيال. ورجسة الخراب عبارة عن إقامة عبادة الأصنام في الهيكل الذي سينيه اليهود بعد رجوعهم إلى أرضهم (تسالونيكي الثانية 3:2، 4؛ رؤيا 1:11، 2) والرجسة هي العبادة الصنمية. وتُضاف إليها هنا لفظة الخراب لأنها هي التي توجب الخراب. لا أقدر أن أبحث في نبوات دانيال في شأن هذا الموضوع لأن ذلك يقتضي وقتًا طويلاً. غير أني أقول انه واضح من كلامه في (إصحاح 24:9-27) أن الله قضى على شعبه مدة مُعينة قبل أن يحصلوا على البركة والراحة. ونرى أن الأهمية العظمى هي لقطع مسيحهم دون أن يأخذ شيئًا من المملكة على الأرض وبذلك تم تسعة وستون أسبوعًا من المُدة المذكورة وبقى أسبوع واحد عبارة عن سبع سنين. ثم يذكر النبي في (عدد 26) خراب المدينة والقدس أي الهيكل، الخراب الذي صار بواسطة الرومانيين وبعد ذلك يُشير إلى مدة غير محدودة تتصف بحرب وخرب. ثم في (عدد 27) يُشير إلى «رئيس آت» ولا شك عندي أنه الوحش الذي سبق وأشار إليه هو نفسه في (إصحاح 7)، وهو الوحش المُتنبأ عنه في سفر الرؤيا (إصحاح 13) وعند إتيانه إلى اليهود يكون عهد بينه وبينهم لمدة أسبوع واحد أي سبع سنين. وهذا هو الأسبوع الباقي من السبعين أسبوعًا الأصلية. وفي نصف هذه المدة يبطل الرئيس الآتي الذبيحة والتقدمة أي عبادة اليهود الطقسية لله في هيكلهم ويُقيم بدلها عبادة الأصنام، وفي نهايته يكون ظهور المسيح لبركتهم الأبدية (دانيال 24:9؛ 7:12).

قد قال البعض أن قول الرب عن رجسة الخراب في المكان المُقدس يُشير إلى حضور الجنود الرومانية إلى أورشليم والهيكل تحت قيادة تيطس المذكور آنفًا وان الراية الرومانية التي كانت تحمل صورة النسور هي الرجسة. فلما نظرها المسيحيون في المكان المُقدس أخذوها علامة من المدينة. فأقول:

أولاً- إن إحاطة أورشليم بالجيوش (لوقا 20:21) كانت هي العلامة للمؤمنين في ذلك الوقت لا إقامة رجسة الخراب في الهيكل أو في المكان المُقدس. معلوم أن القائد الروماني حاصر أورشليم أولاً. ثم بلغهُ الخبر بفتنة حدثت في جهة أخرى. فالتزم أن يتنحى عن أورشليم إلى حين فحسب الجيش ليخمد الفتنة. فعند ذلك انتهز جميع المسيحيين الفرصة للفرار إذ عرفوا من كلام الرب أن إحاطة المدينة علامة اقتراب خرابها. وأما اليهود الغير المؤمنين فاستنتجوا خلاف ذلك تمامًا إذ ظنوا أن الرومانيين قد ارتدوا عنهم خوفًا ولا يتجاسرون على الرجوع. فمكثوا في المدينة مُعتزين ومُفتخرين بقوتهم ولم يمضِ زمان طويل حتى رجع تيطس وحاصرهم ولم ينفك عنهم حتى أكمل عمله.

ثانيًا- ظهور الراية الرومانية خارج أورشليم أو داخلها لم يكن من الأمور الغريبة لليهود حتى يعدّ علامة. لأن الرومانيين كانوا قد فتحوا أورشليم واليهودية من زمان، وكان بيلاطس الوالي الروماني هناك وقت المسيح، وهو الذي حكم عليه بالموت. وكان عنده جيش روماني داخل المدينة مع أعلامهم المعروفة بعلامة النسور الرومانية. وكثيرًا ما قام اليهود ضد هذه الدولة لكي يتخلصوا من سلطتها ولم يقدروا وكان عصيانهم هو السبب الذي أوجب حضور تيطس في الوقت الذي نتكلم عنه.

ثالثًا- الراية الرومانية لم تقم في المكان المُقدس الذي هو الهيكل وقت مجيء تيطس. لأنه فتح ثغرة في سور المدينة بعد قتال عنيف جدًا. وظل اليهود يُقاومونه أشد مُقاومة ولما ارتد بعضهم إلى الهيكل مُدافعين عنه ببسالة تشبه الجنون أخذ بعض أفراد الجيش الروماني يشعلونه بالنار ضد أوامر قائدهم الذي كان قد أصدر أمرًا مُشددًا بحفظه كزينة أو تُحفة بحسب عادة الرومانيين. فلما بلغهُ انه يحترق سعى لإنقاذه ولم يقدر فإذًا الراية الرومانية لم تظهر في المكان المقدس كعلامة لتلاميذ المسيح وليست هي رجسة الخراب التي يُحسب قيامها في المكان المُقدس علامة للفرار من المدينة. لوقا يُشير إلى هروب المسيحيين قبل حضور تيطس (لوقا 20:21-23). وأما مَتَّى فيذكر هروبًا آخر عند المُنتهى. ولوقا يقول عن ذلك الوقت «انه يكون ضيق عظيم على الأرض وسخط على هذا الشعب» وكان كذلك. ولكنه لا يقول كمَتَّى أنه «ضيق عظيم لم يكن مثله ولن يكون» لا يُخفى انهما كلاهما يستعملان كلامًا واحدًا في بعض الحوادث.

ولكن يوجد بعض اختلافات مهمة بينها نفعل حسنًا إذا انتبهنا إليها. فيتفقان في ما يدل على الهروب بعجلٍ، وعلى الويل للذين أعاقهم سبب اليهود الأتقياء زمان الوحش والنبي الكذاب فلنلاحظ خصوصًا ما يتصف به الضيق انه «لم يكن مثله منذ ابتداء العالم ولن يكون» ونقابله مع (دانيال 1:12) فإنه يُظهر أن النبي دانيال يتكلم عن الضيق الأخير لشعبه، ولكنهم سينجون فإن ميخائيل الرئيس العظيم يقوم لأجلهم. فالواضح:

أولاً- إن هذا لم يتم وقت خراب أورشليم على يد تيطس. لأن شعب دانيال لم ينج في ذلك الوقت أُسلموا إلى أيدي أعدائهم تمامًا ولا يزالون هكذا إلى الآن.

ثانيًا- الضيق المذكور فريد لم يكن مثله بحسب دانيال وقد أضاف الوحي إلى ذلك في مَتَّى ومرقس «ولن يكون». فالضيق الذي من هذا القبيل لا يحدث إلا مرة واحدة. وفضلاً عن ذلك يقرن الوحي معه خلاص إسرائيل منه في جميع المواضع التي ورد فيها هذا الكلام بعد اجتيازه فيه 1260يومًا (دانيال 7:12، رؤيا 2:11، 3؛ 5:13). انظر أيضًا قوله «آه. لأن ذلك اليوم العظيم وليس مثله وهو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه. ويكون في ذلك اليوم، يقول رب الجنود، أني اكسر نيره عن عنقك واقطع ربطك ولا يستعبدك بعد الغرباء» (قابل إرميا 5:30-8 مع زكريا 2:14، 3).

«ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تُقصر أيام ضيق إسرائيل يصير بحسب قصد الله إذ يحصره في الوقت المحدد له وهو ثلاث سنين ونصف. لأنه لو طالت مدة الضربات العتيدة أن تنسكب عليهم لا يمكن أن يبقى أحد حيًا. ولا حاجة لي أن أقول للقارئ المسيحي إن قول الرب «لم يخلص جسد» لا يعني خلاص النفوس ولا مدخل له في حالتنا نحن كمسيحيين الآن لأن الضيق هو نصيبنا المعهود وهو نافع جدًا لنا روحيًا (انظر يوحنا 33:16؛ رومية 3:5؛ كورنثوس الثانية 11:4؛ بطرس الأولى 12:4-19؛ 8:5-10). فهو إذًا يخص إسرائيل في ظروفه الأرضية، في زمانه العتيد.

«ولكن لأجل المختارين تُقَصر تلك الأيام». المختارون هنا هم أتقياء اليهود الذين في ذلك الوقت سيرفضون السجود للوحش والنبي الكذاب. فالواضح إن كل من يفسر نبوة الرب هذه ويطلقها على الكنيسة المسيحية فهو لم يتعلق بعد ما هي دعوتنا الخاصة من حيث أننا قد صرنا متحدين مع المسيح في المجد ودُعينا إلى الذهاب إليه هناك. فالحروب وأخبار الحروب والحوادث التي تدل على اقتراب المنتهى والهرب في شتاء أو في سبت، والوعد بتقصير أيام الضيق العظيم المتنبأ عنه، هذه وكل ما شاكلها، ليست لنا كمسيحيين، لأننا ننتظر الرب من السماء ليأخذنا إليه، ومهما حدث لنا من الضيق إنما يُنقينا روحيًا ولا يستطيع أن يقطع سبيلنا أو يحرمنا من نصيبنا.

«حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا. لأنه سيقوم مُسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم. فإن قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا. ها هو في المخادع فلا تصدقوا» (عدد 23-26). حينئذ أي قبيل المنتهى حين يكون اليهود منتظرين حضور مسيحهم تعظم بينهم قوة الشيطان للغش والخداع فإنهم يكونون في تجربة شديدة أن يقبلوا من يأتيهم مدعيًا أنه هو المتنبأ عنه، الذي ينقذهم من شدائدهم ويريحهم من أعدائهم. سيقوم بينهم غواة كثيرون. ويجب أن نلاحظ كلام الرب عنهم أنهم يعطون آيات عظيمة وعجائب. لا شك أن واحدًا منهم سينجح أخيرًا ويفوق جميع رفقائه ويفوز بالقبول عند جميع اليهود عدا المختارين الذين سيحفظهم الله. وأما من جهة الآيات العظيمة والعجائب التي سَتُجرى بقوة الشيطان في ذلك الوقت (انظر تسالونيكي الثانية 9:2؛ رؤيا 13:13-16؛ 20:19) وان قيل أن هذا قد تم في المضلين الذين قاموا بين اليهود قبل خراب أورشليم. أقول لا. لأنه لم يرد هذا عنهم أن واحدًا منهم صنع آيات عظيمة وعجائب. راجع كلام الرب عنهم (عدد 5) فإنه لا ينسب لهم صنع العجائب ولا يلقبهم مسحاء كذبة مع أن كثيرين ادعوا بأنهم مسيح اليهود. لا شك أنهم سببوا تزعزعًا. وكان المؤمنون في تجربة أن يرتاعوا وكثيرون من اليهود الغير مؤمنين قد انخدعوا بهم وهاجوا ضد الرومانيين لهلاك ذواتهم. ولكن القوة الشيطانية لصنع العجائب لم تظهر عن يدهم.

«ها أنا سبقت وأخبرتكم» سيكون البعض من اليهود في أيام المسيح الكذاب متمسكين بكلمة الله وشهادة يسوع المسيح (رؤيا 9:6؛ 17:12) وهؤلاء في ذلك الوقت سيعتبرون أقوال المسيح النبوية هذه مساعدة على حفظهم من أضاليل الشيطان التي سَتَعظُم إلى هذا المقدار حتى أنها تُضل المختارين لو أمكن.

فائدة: مدة السبع السنين المذكورة في النبوات حين يكون اليهود في أرضهم تنقسم إلى نصفين يتميز أحدهما عن الآخر ففي نصفها الأول تكون شهادة في أورشليم ومدن إسرائيل من اليهود الأتقياء المتمسكين بأقوال الوحي والذين لم ينقادوا للكفر المستولي على الآخرين على يد المسيح الكذاب فيكون عليهم اضطهاد ويقتل أُناس منهم وأما عند بداءة النصف الثاني فيتمكن سلطان الوحش والنبي الكذاب وحينئذ تنتهي هذه الشهادة العامة بفرار المختارين من أورشليم واختبائهم (انظر رؤيا 12) حيث يعبر عنهم بالمرأة التي ستهرب ثلاث سنين ونصف من وجه الاضطهاد الشديد. وهؤلاء يكونون هم الأمة الإسرائيلية حقيقة أمام الله وليس الآخرون سوى جثة (عدد 28) ولكن في هذه المدة نفسها تكون شهادة أخرى في أورشليم (عدد 10-13) عن يد الشاهدين اللذين سيحفظهما الله كما حفظ موسى في مصر وإيليا في إسرائيل وتكون شهاداتهما شهادة ممتازة إذ أنهما يقفان أمام رب الأرض ويشهدان ضد اليهود والنصارى الذين سيكونون جميعًا وقتئذ في حالة الارتداد والعداوة للوحش والنبي الكذاب ويزدادون في الشر إلى أن يكلموا إثمهم بقتل الشاهدين وحينئذ يظهر الرب (رؤيا 1:11-18).

 

ردّ المسيح على سؤالهم

«ما هي علامة مجيئك، وانقضاء الدهر؟ »

(عدد 27-31؛ مرقس 24:13-37؛ لوقا 25:21-36)

«لأنه كما البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان. لأنه حيثما تكن الجثة فهناك تجتمع النسور» (عدد 27، 28).

لا يُخفى أن أتقياء اليهود يكونون منتظرين حضور المسيح إليهم بحسب النبوات القديمة التي تذكر وقوف قدميه على جبل الزيتون وضربه أعدائهم وإنقاذ أورشليم (زكريا 3:14-11؛ أعمال الرسل 9:1-12) فيحتاجون غاية الاحتياج إلى إنذارات كهذه لكي لا يصدقوا من قال هاهو قد حضر في البرية أو في المخادع لأنه ينبغي لهم أن يتعلموا جيدًا انه يقدم عليهم من السماء مثل البرق أي علنًا (لا سرًا كما في اختطاف المؤمنين) فلذلك يثبتون على إيمانهم إلى أن يظهر لهم بغتة من السماء. وعندئذ يضرب أعدائهم بغتة.

«لأنه حيثما تكون الجثة فهناك تجتمع النسور» فستكون ضرباته كانقضاض النسور على الجثة. والجثة عبارة عن الأثمة خصوصًا الأمة اليهودية المذنبة، والنسور كناية عن ضربات الله وأدوات نقمته المغيرة عليهم، فهو إذًا لن يخطئ الهدف (انظر عدد 40، 41) فأن دينونته ستكون من الدقة بحيث تميز بين أكثر الناس قربًا والتصاقًا لبعضهم غير أن الرب لم يصل بعد في كلامه إلى موضوع مجيئه فإنه إنما أشار إليه هنا باختصار ليخبرهم بكيفيته متى جاء لكي يصونهم من ضلال على كيفية أخرى.

«وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تُظلم الشمس والقمر لا يُعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماوات تتزعزع. وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير» (عدد 29، 30).

«وللوقت بعد ضيق تلك الأيام» هذا مما يؤيد أن الضيق العظيم الفريد المتنبأ عنه هو مستقبل بعد ويحصل قبل ظهور المسيح علانية. وان قال قائل أن الضيق المذكور قد أصاب اليهود وقت حصار أورشليم من الجيش الروماني فأني أسأله: وماذا صار للوقت بعد ضيق تلك الأيام؟ لأنه من الأمور المؤكدة كل التأكيد أن العلامات المذكور هنا لم يحصل، لا بل ومجيء الرب نفسه بقوة ومجد كثير لم يحصل حالاً بعد ذلك الضيق. فمن جهة اليهود إنما كانت تلك الحادثة لهم مبتدأ الأوجاع، والمسيحيون لم يكونوا في أورشليم وقت الحصار الأخير البتة كما قد رأينا. وإن قيل أن هذا الكلام الخطير عبارة عن انقلاب النظام اليهودي وانتصار تيطس على أورشليم فلا يليق بنا أن نحسب قولاً كهذا إلا من الأقوال الصبيانية التي تنتج عن الجهالة وتضع من شأن الوحي وتقود الناس إلى الاستخفاف به.

«تظلم الشمس والقمر لا يُعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماوات تتزعزع» هذه العلامات تسبق ظهور المسيح بقليل. قابل هذا الكلام الرسول بطرس الذي اقتبسه من نبوة يوئيل النبي عن انسكاب الروح القدس، وحصول تلك العلامات قبل يوم الرب العظيم الشهير الذي هو ظهور المسيح بقوة ومجد كثير من السماء (أعمال الرسل 17:2-21؛ رؤيا 11:19-16) وأما من جهة الروح القدس فقد انسكب يوم الخمسين. ولكن لم تحصل تلك العلامات لأنه إنما انسكب في ذلك الوقت لكي يبتدئ وقت النعمة أي الوقت المقبول الذي فيه كل مَنْ يدعو باسم الرب يخلُص ولكن بعد اختطاف الكنيسة بسبع سنين أي عند ظهور الرب تحصل تلك العلامات ثم ينسكب الروح القدس على الباقين وهم الأتقياء لجمعهم كالحنطة إلى المخزن.

ولقد وردت في النبوات شهادات أخرى كثيرة من جهة العلامات العتيدة أن تحدُث في الأجرام السماوية عند رجوع الرب لكي يتبوأ عرشهُ في ملكوته فينبغي أن نقبلها ببساطة ولا نُصغي دقيقة واحدة للاعتراضات الكُفرية المبنية على علم النجوم التي فحواها أن خالق السماوات والأرض لا يستطيع أن يُزعزعهن إذا شاء ذلك. ربما يقول قائل أنه من الأمور الممكنة أن الشمس تُظلم والقمر لا يُعطي ضوءهُ ولكن كيف تسقط النجوم بدون أن يُخرب الكون؟ ليُلاحظ القارئ المسيحي أن مَنْ اعترض اعتراضات كهذه يهتم كثيرًا جدًا بحفظ الكون على ترتيبه الحالي وتراه كأنه تكلف بهذه الوظيفة السامية (انظر بطرس الثانية 3:3-5). ولكنه لا يليق بنا أن نضطرب من كلام الذين يعتبرون العلوم الكاذبة الاسم أكثر من كلمة الله. فإنه هو سُبحانه وتعالى الذي «يُحصي عدد الكواكب. يدعو كلها بأسماء. عظيم هو ربنا وعظيم القوة. لفهمه لا إحصاء» (مزمور 4:147، 5) فكل ما سبق فأنبأ به لا بد أن يُتممه، ومع ذلك يظل مُحافظًا على أعمال يديه. نحن لا نشُك في وجود كلام مجازي في كلمة الله، ولكني لا أرى مجازًا في ما ورد من جهة العلامات التي ستسبق ظهور الرب بقوة ومجد كثير. وفي الحقيقة حضوره هكذا هو من أعجب الأعمال.

«وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء» المُحتمل أن علامة ابن الإنسان هي شُعاع مجده (عدد 27) فإنه سيأتي حينئذ كشمس البر (ملاخي 2:4) وكما كان يونان آية أو علامة لأهل نينوى بخروجه لهم من بطن الحوت بعد طرحه في أعماق البحر هكذا سيكون المسيح آية أو علامة لإسرائيل والعالم الذين صلبوه في مُفاجأتهم بظهوره لهم حيًا من السماء. وكان ما جاء في الأعداد من (27-30) هو رده على سؤالهم، ما هي علامة مجيئك؟

«وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويُبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير» «هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض» (رؤيا 7:1 انظر أيضًا مزمور 1:5-6) وشهادات أخرى كثيرة لا أقدر أن أُدرجها. ونرى هنا الفرق العظيم بين مجيء الرب سرًا لنا نحن المسيحيين كرجائنا المُبارك ليأخذنا إليه وبين ظُهوره علنًا كابن الإنسان لجميع قبائل الأرض فانه في هذا الظُهور يَقدِم على البشر بغتةً وهم في كل إثمهم ضده، وأما نحن فيجيئنا أولاً ونحن في انتظار قُدومهُ إلينا وفي غاية الشوق للقائه وقد لقننا الروح القدس أن نقول له «تعال، أيها الرب يسوع»

«فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مُختاريه من الأربع الرياح، من أقصاء السماوات إلى أقصائها».

مُختاروه هنا هم الهاربون من أسباط إسرائيل (رؤيا 1:12، 6؛ 1:7-8) الذين سيجمعهم بعد ظُهوره لا شك أنه مُزمع أن يُجري أعمالاً أخرى ليست مذكورة هنا. لأنه بنبوته هذه إنما يُشير بصفة خاصة إلى ما يختص بإسرائيل «ويكون في ذلك اليوم أنه يضرب ببوق عظيم فيأتي التائهون في أرض أشور والمنفيون في أرض مصر ويسجدون للرب في الجبل المُقدس في أورشليم» (إرميا 13:13؛ 19:66-21؛ حزقيال 34:20-38) هذا من جهة جمع أسباط إسرائيل لا بل البقية منهم لكي يتمتعوا بالبركات الأرضية تحت مُلك المسيح.

وإذا قابلنا كلام الوحي الوارد في شأن ذلك نرى أنه يختلف اختلافًا عظيمًا عما ورد في موضوع انتظارنا الرب ليُقيم الراقدين فيه ويخطفنا نحن الأحياء إليه لكي نكون مثلهً في المجد. (انظر تسالونيكي الأولى 15:4-18) على أن هذا ليس مجال البحث بتدقيق في اختطاف الكنيسة، ولا في جمع أسباط إسرائيل وحالتهم في مُدة الألف السنة.

 

مَثَل شجرة التين

(عدد 32-35؛ مرقس 28:13-31؛ لوقا 29:21-33)

«فمن شجرة التين تعلّموا المَثل مَتَى صار غُصنها رخصًا وأخرجت أوراقها تعلمون أن الصيف قريب. هكذا أنتم أيضًا مَتَىَ رأيتم هذا كله فأعلموا أنه قريب على الأبواب. الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله. السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول».

لنُلاحظ أن الرب لم يَقُل من شجرة التين تعلموا مثلاً، بل «المَثل» لأن شجرة التين هي المَثل المعروف المُختص بأُمة إسرائيل التي قد يبست بحُكم الرب كل هذه الأجيال. والصيف هو وقت الحصاد (رؤيا 14:14-16). والبيدر يُعبَّر به عن وقت الدينونة، فإذًا مَتَىَ ابتدأت هذه الأُمة تحيا وتنهض من حالة الذُل يكون ذلك دلالة على اقتراب الضيق العظيم الذي قد سبق ذكره. فبعد رجوعهم إلى أرضهم يكونون في تجربة عظيمة أن يفتخروا ظانين أن وقت راحتهم قد حان. ويعتمدوا على عهدهم مع الوحش المُقتدر، ولكنه لا يفي بعهده بل ينقضه في نصف الأسبوع ويزيدهم ضيقًا (انظر إشعياء 4:18-6؛ 14:28-22؛ دانيال 27:9؛ يوئيل 9:3-17) هذه مع شهادات أُخرى كثيرة جدًا تذكر صريحًا ما سيُصيب اليهود بعد رجوعهم إلى أرضهم وبالتحديد ما بين اختطاف الكنيسة وظُهور المسيح. لاحظ أيضًا أن مثل التينة ليس مذكورًا في الكلام عما اختص بخراب أورشليم عن يد الرومانيين لأنه لم يكن مناسبًا لحالتهم وقتئذٍ إذ أنهم لم يكونوا بعد قد تفرقوا من بلادهم ولا صاروا كتينة يابسة تمامًا.

«لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» يقصد أن الجيل أو الجنس اليهودي لا يتلاشى بل يظل محفوظًا بعناية الله إلى أن يتم كلام الرب هذا. لا يُخفى أنه قد قيل أن الرب إنما يُشير بهذا الجيل إلى أهل ذلك العصر قاصدًا أن الموجودين وقتئذ يبقون إلى خراب أورشليم العتيد أن يتم بعد ذلك بنحو أربعين سنة فأقول:

أولاً- أن لفظة جيل بمعنى جنس قد وردت في الكتاب (انظر تثنية 5:32، 20؛ مزمور 7:12) وفي هذا الإنجيل نفسه (إصحاح 16:11؛ 45:12؛ 35:23، 36).

ثانيًا- يتضح من قرائن الكلام أن المقصود بها هنا الجنس الإسرائيلي إذ يقول «لا يمضي هذا الجيل أي لا ينقرض هذا الجنس حتى يكون هذا كله» وقوله «هذا كله» يشمل كل ما سبق وذكره في هذا الإصحاح، وكله مُتعلق بالجنس الإسرائيلي حتى إتيان المسيح إليهم من السماء كابن الإنسان على السحاب بقوة ومجد كثير.

ثالثًا- قوله «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول» يؤيد هذا المعنى. قابل هذا مع كلامه الخطير في حفظه شعبه من المُلاشاة رغمًا عن التأديبات الشديدة المُستطيلة «هكذا قال الرب، الجاعل الشمس للإضاءة نهارًا، وفرائض القمر والنجوم للإضاءة ليلاً، الزاجر البحر حين تعُج أمواجه، رب الجنود اسمه. هكذا قال الرب، إن كانت السماوات تُقاس من فوق وتُفحص أساسات الأرض من أسفل فإني أنا أيضًا أرفض كل نسل إسرائيل من أجل كل ما عملوه يقول الرب» (إرميا 35:31-37). كان الله قد حَلَف لإبراهيم أنه يُبارك نسله ويجعلهم بركة للأُمم أيضًا (تكوين 16:22-18) فيليق بالرب وهو مُتنبئ عن ذلك الضيق العظيم الذي سيشتد إلى هذا المقدار حتى أنه لو طال لا يخلص جسد أن يضيف إلى كلامه هذا التأكيد. وقوله الذي يُكرره في العهد الجديد وأعنى به «الحق أقول لكم» هو كقوله في العهد القديم «هكذا يقول الرب». وبالحقيقة المُتكلم هو واحد. معلوم أن كل مَنْ يعترض على مجيئه ثانية وعلى الحقائق العظيمة المُتعلقة به يسند حججه إلى سير الطبيعة ونواميسها مُدعيًا أنها ثابتة وغير قابلة لحدوث شيء خارج مجراها المعروف، ويتعظم بمعرفته الجُزئية بالسماء والأرض المحكوم عليهما بالزوال، ويُقلل الاعتبار لكلمة الرب التي لا تزول. والرسول بطرس قد أشار إلى أمثال هذا بقوله «عالمين هذا أولاً أنه سيأتي في آخر الأيام قوم مُستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين، أين هو موعد مجيئه؟ لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باقٍ هكذا من بدء الخليقة» (بطرس الثانية 3:3، 4). هؤلاء لا يشتهون سرعة مجيء يوم الرب الذي فيه تزول جميع هذه الأشياء التي تتعلق بها قلوبهم وقد جهلوا بإرادتهم حقيقة عظيمة جدًا وهي أن كل شيء ليس باقيًا هكذا من بدء الخليقة لأن الله قد أهلك العالم القديم وقت الطوفان (بطرس الثانية 5:3-7) نعم وقد عمل أعمالاً كثيرة جدًا خارقة للعادة في مُعاملاته للبشر الأثمة وخُصوصًا لشعبه إسرائيل فلا غُرو إن كان يفعل كذلك أيضًا. ولكن شهادات كلمة الله الصريحة لا تفعل كثيرًا في المُعجب بذاته، فانه أهون عليه أن يُحرّف أو يُكذِّب كلمة الله من أن يُكذِّب نفسه ويُقر بأنه أمس ولا يفهم شيئًا (أيوب 9:8).

 

تحريضات على السهر والانتظار

(عدد 36-50؛ مرقس 32:13-37؛ لوقا 34:21-36)

«وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده. وكما كانت أيام نوح كذلك يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان. لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون ويُزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك. ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع. كذلك يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان. حينئذ يكون اثنان في الحقل. يؤخذ الواحد ويُترك الآخر. اثنتان تطحنان على الرحى. تؤخذ الواحدة وتُترك الأُخرى».

«لا يعلم بهما أحد .. إلا أبي وحده» قد جعل الآب الأزمنة والأوقات في سُطانهُ (أعمال الرسل 7:1). لا شك أنه قد عين يومًا فيه يدين المسكونة بيسوع المسيح (أعمال الرسل 31:17) ولكنه لم يشأ أن يجعل ساعة رجوع الرب من الحقائق المُعلنة، بل والابن نفسه كإنسان يشغل مركز العبد لا يعلم ما يعمل سيده لم يكن يَعلم ذلك (مرقس 32:13) حتى يُعلنه للتلاميذ. فإنه لم يتكلم بما يُعلنه له الآب وهذا لا يخل بحقيقة لاهوته البتة. لأنه كان قد أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس (فيلبي 5:2-8) بينما في ذات الوقت كان هو الله نفسه العالم بكل شيء (يوحنا 17:21؛ 2:42، 25؛ 30:16).

«وكما كانت أيام نوح كذلك الخ» يُرينا الرب هنا كيف يكون حال إسرائيل والعالم وقت مجيئه. فانه يكون كحال العالم زمان الطوفان تمامًا فانه يجدهم لاهين ومنهمكين بأمور هذه الحياة. لا يذكر هنا شرورهم وفُجورهم لأن قصده أن يظهر عدم انتباههم لأقوال الوحي في شأن إقبال الدينونة نظير الذين عاشوا في زمان نوح قبل الطوفان. كانت الدينونة مُقبلة ولم يعملوا لأنهم لم يُريدوا أن يصغوا لشهادة الله لهم. فلم يخلص منهم سوى بقية قليلة.

«حينئذ يكون اثنان في الحقل يؤخذ الواحد ويُترك الآخر» لا شك أن هذا من جهة الضربات لأن القرينة تدل على ذلك. لقد جاء الطوفان فأخذ به الأحياء على الأرض ولم يُترك إلا نوح وبيته لوراثة الأرض كما سوف لا يُترك على قيد الحياة بعد الضربات المُستقبلة إلا الأبرار للمُلك الألفي وأما في وقت اختطاف الكنيسة فسيكون الأمر بعكس ذلك تمامًا بحيث أن الذي يُخطف يصبح مع الرب إلى الأبد والذي يُترك يكون على الأرض في وقت الضربات. كان نوح مثالاً للذين سيخطفهم الرب ليرثوا الأرض وأما أخنوخ الذي نُقل إلى السماء قبل الطوفان فمثال لنا نحن من حيث أننا سوف لا تكون لنا علاقة بالأرض ولا وجود عليها عندما تنسكب ضربات غضب الله على الأرض.

«اسهروا إذًا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم. واعلموا هذا أنه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته يُنقب. لذلك كونوا أنتم أيضًا مُستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان» (عدد 42-44).

الرب من الآن فصاعدًا يتكلم بما يُناسب حالة تلاميذه طول مدة غيابه بحيث يجب عليهم أن يسهروا ويكونوا دائمًا مُستعدين لمجيئه. لأنه سيُقدم على العالم كلص في الليل ولكنه لا يأتينا نحن هكذا.

«فمَنْ هو العبد الأمين الحكيم الذي أقامه سيده على خدمه ليُعطيهم الطعام في حينه؟ طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا. الحق أقول لكم أنه يُقيمه على جميع أمواله. ولكن إن قال ذلك العبد الرديء في قلبه. سيدي يُبطئ قُدومه. فيبتدئ يضرب العبيد رُفقاءه ويأكل ويشرب مع السكارى. يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع المُرائين. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (عدد 45-51).

في الفصل السابق يتكلم الرب عن وجوب السهر على الجميع بالنظر إلى عدم معرفتهم ساعة مجيئه حتى أنه عندما يجيء لا يُفاجئهم كلص وأما هنا فيذكر بنوع خاص الذين لهم مركز خدمه في بيته مدة غيابه. فقصده بإقامة البعض في خدمه خاصة أن يعطوا أهل بيته الطعام المُناسب ويُمارسوا خدمتهم باعتبار مسئوليتهم لسيدهم العتيد أن يرجع ويُحاسبهم فالعبد الأمين الحكيم يُكمل خدمته هكذا ويحظى برضى السيد الذي سيُجازيه جزاءً عظيمًا، فانه يُقيمه على جميع أمواله. وجميع أموال الرب هي كل شيء لأن الآب دفع ليده كل شيء (يوحنا 3:13) فإذًا عندما يملك على كل شيء كابن الإنسان يشرك عبيده الأمناء معه. وعلى ذلك شهادات كثيرة.

«ولكن إن قال ذلك العبد1 الرديء في قلبه الخ» توجد هنا حقيقة أخرى هي أنه يمكن أن يكون واحد مُنتسبًا إليه كعبد ويتغافل عن سرعة مجيئه فإذ ذاك يبتدئ يتسلط على العبيد رفقائه ويُعاشر العالم «لأن الذين ينامون فبالليل ينامون والذين يسكرون فبالليل يسكرون» (تسالونيكي الأولى 7:5). لا يقول عن العبد الرديء أنه أنكر رجوع سيده بل أنه قال في قلبه «سيدي يُبطئ قُدومه» ومن ثمَّ استولى عليه روح هذا العالم وخالف قول الرب السابق «فلا يكون هكذا فيكم» (إصحاح 26:20).

وأما من جهة تخصيص هذا المثل الخطير فأقول:

أولاً- إن غايته العظمى هي إيضاح الخدمة الأمينة للرب في غيابه من حيث انتظار مجيئه دائمًا. سبق وحذرهم من الروح الناموسي كفعلة عاملين بحسب اتفاق رسمي في كرم لواحد أجنبي عنهم ليست لهم معه شركة. وأما هنا فيُشجعهم على الأمانة والسهر والاجتهاد إذ أن موضع خدمتهم هو بيت سيدهم. وان كانوا أمناء في القليل يُقيمهم أخيرًا على الكثير. ويُحذرهم وإيانا أيضًا من الفكر في القلب أنه يُبطئ قُدومه.

ثانيًا- التغافل عن سرعة رجوع الرب هو مما فتح الباب للرياسة الإكليركية. لا شك في ذلك لأن الرب يذكر صريحًا هنا أن العبد قال في قلبه أولاً «سيدي يُبطئ قُدومه» ومن ثمَّ أخذ يترأس على الذين هم داخل البيت ويُعاشر العالمين من خارج. ولكن مع هذا كله ينبغي لنا أن نذكر أن المراد بهذا المَثل ليس فريقًا من الأشخاص بل وصف الخدمة نفسها والروح المُطيع الذي يجب أن يتصف به الخادم في أي وقت كان. إننا لا نزال في تجربة شديدة عندما نقرأ هذا المثل وخلافه من الأمثال أن نتصور أشخاصًا ونظن أننا نقدر أن ندل عليهم ونقول هؤلاء عبيد أمناء وأما أولئك فهم ممن يُمثلهم الرب بالعبد الرديء. وبالحقيقة نُحاول أن نُقيم أنفسنا مقام قُضاة لنحكم. ولكن ليس هذا هو العمل اللائق بنا، لأن الله أعطانا كلمته لتجعلنا نحكم على أنفسنا لا على الآخرين. تود قلوبنا الخائنة أن تفتخر عندما نرى في أنفسنا شيئًا من الصفات الممدوحة ونظن أننا من الصف الممتاز ونأخذ نُفتش على الذين لا توجد فيهم هذه الصفات. فينبغي أن نحترس من ذلك كل الاحتراس، فمن صفات الخدمة الحقيقية أن الخادم يشعر بمسئوليته الشخصية للرب أن يعتني بأمور السيد وقت غيابه مُتذكرًا أنه لا بد أن يرجع ويُحاسبه على وكالته. لقد أوصى الرسول بولس ابنه تيموثاوس وصية مُشددة من جهة خدمته فقال له: «أوصيك أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظُهور ربنا يسوع المسيح» (تيموثاوس الأولى 14:6 انظر أيضًا تيموثاوس الثانية 1:4-8؛ بطرس الأولى 1:5-4) لأن الخدمة تقترن دائمًا مع ظُهور الرب. وليس مُراد كلامنا المعرفة التعليمية أو العقلية بحقيقة مجيء الرب فانه يمكن لنا أن نقر بذلك ونُعلمه للآخرين بغيرة شديدة بينما ليست أفكارنا وحياتنا مُرتبة بموجبة. ومن الجهة الأخرى فلا شك أنه قد كان للرب عبيد كثيرون خدموه بأمانة كل واحد حسب طاقته مع أن معرفتهم بكيفية مجيئه كانت قليلة جدًا. ولكنهم كانوا يحبون ظهوره العادل وواظبوا على خدمتهم له ناظرين إلى وقوفهم كعبيد أمامه لتقديم حسابهم. ولا بد لي أن أُكرر القول أن وقت المُحاسبة ليس عند الموت بل عند ظهور المسيح. فإن بطرس وبولس وتيموثاوس لا يزالون مُنتظرين تلك الساعة الخطيرة حين تظهر صفات خدمتهم وأثمارها. لا شك أن كثيرين من غير المُتجددين قد اتخذوا منصب خدمة وعاشوا وماتوا هكذا وذهبوا إلى مكانهم الخاص مثل يهوذا الاسخريوطي. ولكنهم لم يهلكوا لكونهم عبيدًا أردياء بل لعدم وجود الإيمان القلبي فيهم. إن سوء تصرفهم كعبيد يزيد عذابهم ولكنه لم يُسبب هلاكهم.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة