لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الثاني والعشرين

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الثاني والعشرين

 

وليمة عُرس ابن الملك (عدد 1-14)

«وجعل يسوع يُكلمهم أيضًا بأمثال قائلاً: يشبه ملكوت السماوات إنسانًا مَلِكًا صنع عُرسًا لابنه. وأرسل عبيده ليدعو المدعوين إلى العُرس فلم يُريدوا أن يأتوا. فأرسل أيضًا عبيدًا آخرين قائلاً: قولوا للمدعوين هوذا غدائي أعددته ثيراني ومُسمناتي قد ذُبحت وكل شيء مُعد. تعالوا إلى العُرس، ولكنهم تهاونوا ومضوا واحدًا إلى حقله وآخرون إلى تجارته. والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم. فلما سمع المَلك غضب وأرسل جنوده وأهلَكَ أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم» (عدد 1-7). كان الرب قد أوضح بمَثل الكرم مسئولية إسرائيل ورؤسائهم أن يأتوا بالثمر مُصورًا نفسه فيه أنه (كالناموس والأنبياء ويوحنا المعمدان) أتاهم في طريق البر (أي طالبًا ثمرًا)، وأما في مَثل العُرس فأتاهم في طريق النعمة. فإننا في هذا المَثل لا نرى الله طالبًا ثمرًا بل مُقدمًا دعوة النعمة للجميع، أولاً لليهود ثم لغيرهم.

«يشبه ملكوت السماوات إنسانًا مَلِكًا صنع عُرسًا لابنه» (عدد 2) فالعُرس أو الوليمة الملكية عبارة عن البركات المُرتبطة بحضور المسيح بالمُقابلة مع البركات التي كانت قبل ذلك ولنُلاحظ جيدًا أنه لا توجد علاقة بين مَثل غداء عُرس ابن المَلِك المذكور هنا وعشاء عُرس الخروف المذكور في (رؤيا 1:19-9).

أما هذا المَثل فإن الغرض منه هو أن الله أعد وليمة عظيمة تليق للمَلِك وابنه ثم إرسال الدعوة إلى الجميع ليتمتعوا بما في الوليمة مجانًا، وقبول الدعوة أو رفضها ومُحاكمة الذين تهاونوا بها، وكل هذا مما يجرى على الأرض لا في السماء.

«وأرسل عبيده ليدعو المدعوين إلى العُرس فلم يُريدوا أن يأتوا» (عدد 3) فقد تم هذا في زمان حياة المسيح. كان اليهود شعبًا مدعوًا من قبل، ولما حضر المسيح بالبركات الجديدة أرسل تلاميذه ليدعوا إسرائيل أن يأتوا إليه لكي يتمتعوا بها كما قد رأينا في هذا الإنجيل، ولكن لم يُريدوا.

«فأرسل أيضًا عبيدًا آخرين قائلاً، قولوا للمدعوين، هوذا غدائي أعددته، ثيراني ومُسمناتي قد ذبحت إلخ» (عدد 4) هذا تم بعد موت المسيح وارتفاعه وحلول روحه حين أخذ الرُسل يدعون إسرائيل إلى التوبة وقبول المسيح ولنُلاحظ أن هذه الدعوة الثانية هي أيضًا لنفس المدعوين الأول. ونرى هنا أيضًا صبر الله الذي صبرهُ على شعبه القديم إذ أرسل لهم أيضًا دعوة أخرى في زمان الإنجيل على يد عبيد آخرين كما عمل معهم قديمًا في زمان الناموس حين كان يرسل لهم عبيده الأنبياء ليطلب منهم ثمرًا، ولكنه في إرساليته لهم الآن لا يطلب منهم شيئًا إلا أن يتمتعوا مجانًا بالبركات التي كان قد أعدها بواسطة موت المسيح من حيث كونه الأساس الوحيد لكل بركاتنا.

«ولكنهم تهاونوا ومضوا واحدًا إلى حقله وآخر إلى تجارته والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم» (عدد 5، 6). هكذا عمل اليهود مع الذين بشروهم بالإنجيل إذ أن البعض لم يُبالوا به، والآخرون اضطهدوا المُبشرين كما كانوا قد اضطهدوا المسيح (تسالونيكي الأولى 14:2، 15).

«فلما سمع المَلِك غضب وأرسل جنوده وأهلَكَ أولئك القاتلين أحرق مدينتهم» (عدد 7) تم هذا بخراب أورشليم، وتشتت اليهود فإن المدينة المحبوبة المُختارة التي بكى الرب يسوع عليها مرة أصبحت أخيرًا مدينة القاتلين فقط (إشعياء 21:1) ولا يُخفى أن جنوده المذكورة هنا هي جيش الرومانيين الذي استخدمه الله بعنايته لخراب أورشليم.

«ثم قال لعبيده وأما العُرس فمُستعد وأما المدعوون فلم يكونوا مُستحقين فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدتموه فادعوه إلى العرس، (عدد 8، 9). لا يُخفى أن هذا يُشير إلى المناداة بالإنجيل للأمم. وهذا يوافق ما ورد في سفر الأعمال إذ كلما رفض اليهود والإنجيل اتجه الرسل والمبشرون نحو الأمم (أعمال الرسل 46:13؛ 28:28).

«فاذهبوا إلى مفارق الطرق» فالمدينة عبارة عن اليهود جميعًا من حيث امتيازاتهم القديمة كشعب مُختار ومدعوا أيضًا وكان ينبغي للمبشرين الأولين أن ينادوهم أولاً كقول الرب. «وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم» (لوقا 47:24). وأما مفارق الطرق فعبارة عن الناس خارج تلك الامتيازات.

«فخرج أولئك العبيد إلى الطرق وجمعوا كل الذين وجدوهم أشرارًا وصالحين فامتلأ العرس من المتكئين. فلما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنسانًا لم يكن لابسًا لباس العرس. فقال له يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس. فسكت. حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون» (ع10-14)

«وجمعوا كل الذين وجدوهم أشرارًا وصالحين» (عدد 10) أي أتوا بالناس كما هم بغض النظر عن صفاتهم. ولا يعني أن البعض صالحون حسب حالتهم الطبيعية قبل أن تبلغهم الدعوة لأن الشيء الوحيد الذي يؤهل للحضور هو دعوة الملك ولباس العرس.

«فامتلأ العرس من المتكئين» يصدق هذا على مدة المناداة بالإنجيل كلها. قابل هذا مع قوله في مثل الشبكة «فلما امتلأت أصعدوها إلى الشاطئ» (إصحاح 48:13). يجب أن نلاحظ جيدًا أن العرس لا يُعني شيئًا عن دخول السماء فإنه عبارة عن بركات الإنجيل التي يدعو الله الناس إلى التمتع بها هنا، ونرى أن وقت النعمة لابد أن ينتهي ويليه وقت القضاء.

«فلما دخل الملك لينظر المتكئين» (عدد 11) مهما كانت الدعوة عامة ولطيفة فلابد أن صاحب الوليمة ينظر المتكئين، هل افتكروا في ما يليق بشأن العرس الملكي من اللباس المعين لهم أم لا؟

«ورأى إنسانًا هناك لم يكن لابسًا لباس العرس» لا يُخفى أن هذا الإنسان الواحد عبارة عن جميع الذين عملوا مثله وإلا فكنا نستنتج من هذا المثل أنه لا يوجد وقت القضاء إلا شخص واحد قد تهاون بنعمة الله، ولكننا قد عرفنا أن كثيرين سيوجدون على هذه الحالة في ذلك اليوم (انظر إصحاح 21:7-23) ولنلاحظ أيضًا أن المثل لا يفرض مرور زمان طويل، فإن صورة الكلام إنما تشير إلى إعداد العرس وإرسال الدعوة مرة لا بل مرتين للمدعوين ثم إجراء القصاص على الأولين وإرسال الدعوة لآخرين. والحوادث المذكورة تُجرى على الأرض لا في السماء.

«فقال له يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟ فسكت» (عدد 12) كان المدعوون الأولون قد تهاونوا بدعوة الملك وشتموا وقتلوا عبيده وهكذا أظهروا بغضهم له وأما هذا فتهاون بها على كيفية أخرى من حيث أنه لم يفتكر في ما يجب عليه من الاحترام للملك وابنه. ولباس العرس عبارة عن المسيح نفسه، فكل من تظاهر بأنه قبل بشارة نعمة الله ولم يتخذ المسيح برصا له قدام الله فهو على حالة هذا الإنسان الذي دخل العرس بثيابه (بره الذاتي) تاركًا لباس العرس. ويتضح من سكوته أنه لم يكن له أي عذر فيما فعل، لأن لباس العرس كان مما معد للمدعوين مجانًا كالاً كل تمامًا.

«حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه إلخ» (عدد 13)، وكلمة «الخدام» في الأصل اليوناني تختلف عن كلمة «العبيد» (عدد 10) لأن العبيد الذين دعوا الناس إلى الوليمة هم المبشرون بالإنجيل أما الخدام الذين يؤمرون بربط المغضوب عليهم وطرحهم في الظلمة الخارجية أو أتون النار فهم الملائكة (إصحاح 40:13-42، 49، 50)، ولا شك أن كل من يؤمن بالمسيح إيمانًا قلبيًا يهلك إلى الأبد بعد موته، ولكن ليس هذا هو الموضوع هنا. قد أجرى الله الحكم على اليهود ومدينتهم لأنهم رفضوا الإنجيل. وهو مزمع أن يحاكم عموم الذين تظاهروا بقبوله مع أنهم لم يخضعوا خضوعًا صحيحًا للمسيح كَبرُهم قد دان الأولين لأنهم لم يدخلوا، وسَيَدِين هؤلاء لأنهم دخلوا، ولكن على هيئة مهيئة لنعمته. وكما أن تلك المحاكمة أجريت على الأرض هكذا سَتُجرى هذه أيضا «فهو ذا لطف الله وصرامته. أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف وإلا فأنت أيضًا ستقطع» (رومية 22:11).

«لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون» (عدد 14) قد كرر الرب هذا القول مرارًا عديدة ويصرح به أن كل شيء يتوقف على نعمة الله الفعالة. فإن الدعوة الإنجيلية مهما كانت جامعة ولطيفة لا تكفي وحدها إذ أنه يمكن رفضها صريحًا أو التظاهر بقبولها مع أن القلب لا يزال معتدًا ببره الذاتي. جميع المعترفين بالمسيح قد حضروا بحسب الظاهر إلى العرس الإنجيلي وقد فازوا بامتيازاته ولكن لو دخل صاحب العرس لينظر المتكئين فما أقل عدد الذين قد لبسوا المسيح حقيقة، المسيح الذي يؤهلهم وحده أمام الله. ولكن القصد الخاص من المثل هو أن يُظهر أنه لابد من إتيان المحاسبة عند انتهاء وقت النعمة.

يذكر لوقا في (إصحاح 15:14-24) مثلاً مشابهًا ولكن على هيئة أخرى حيث يُعَبر عن البركات المتعلقة بحضور المسيح بعشاء عظيم ليس بعرس ابن ملك، ولا يذكر المحاكمة إلا أن الذين تهاونوا بالدعوة لا يذوقون من العشاء لأن قصد الوحي بإدراجه ذلك المثل في لوقا إيضاح النعمة الإلهية فقط. وأما في متى فيوضح هذا مع بعض معاملات الله على الأرض لليهود وللأمم أيضًا، كل منهما بحسب نظامه أو التدبير الديني الرسمي الذي له من الله. ومما يؤيد أن مثل متى غير مثل لوقا ليس فقط إن مثل ضرب في الهيكل في أورشليم (لوقا 23:21) أما مثل لوقا فضرب في بيت أحد الفريسيين أثناء صعود الرب إلى أورشليم (لوقا 22:13 مع1:14) بل أيضًا أن الأول غداء أما الثاني فعشاء. وكان الداعي في الأول عبيدًا كثيرين أما في الثاني فبعد واحد. في الأول تعدى المدعوون على الداعين أما في الثاني فقد اعتذروا فقط. في الأول أملك المدعوون، كما في مثل الكرم (إصحاح 41:21) أما في الثاني فقد حرموا فقط ولكن نهائيًا من أكل العشاء.

رد المسيح على الفريسيين والهيرودسيين فيما يتعلق بما يتعلق بما لقيصر وما لله

(عدد 15-22؛ مرقس 13:12-17؛ لوقا 20:20-26)

«حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين، يا معلم نعلم أنك صادق وتُعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا ماذا تظن؟ أيجوز أن تُعطى الجزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال، لماذا تجربونني يا مراؤون؟ أروني معاملة الجزية. فقدموا له دينارًا. فقال لهم، لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له، لقيصر. فقال لهم، أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا» (عدد 15-22).

كان اليهود منقسمين إلى مذاهب مختلفة يفتخر كل مذهب على الآخر في ما اختلف به عنه ولكنهم كانوا جميعًا مخطئين أمام الله في ذات الأشياء التي كانوا مفتخرين بها. كانوا تحت نير الأمم من زمان سبي بابل. وكان ذلك الاستعباد أعظم عار لهم كشعب منتسب لله. وكان يجب أن يعترفوا بأن خطاياهم هي التي جلبت عليهم هذا القصاص. ولم يكن منهم في كنعان سوى بقية صغيرة ردها الله من السبي، وحفظها ليأتي منها بالمسيح وليقدمه لهم كملكهم الشرعي. ولكنهم على قدر ما كانوا مفتخرين بامتيازاتهم كانوا منحطين في أخلاقهم وزادوا على ذلك أنهم رفضوا رجاء إسرائيل الحقيقي. كان يليق بهم أن يتواضعوا تحت يد الله القوية حاملين نيرهم القاسي إلى أن ينقذهم الله. فالهيرودسيون تساهلوا في شأن عبودية إسرائيل وقبلوا أسيادهم الأجنبيين كما لو كان الاستعباد ودفع الجزية من الأمور التي يليق بهم وهكذا خانوا الله مع أنهم كانوا قد فقدوها بحكم الله العادل لأجل خطاياهم. ومع أنهم أبغضوا الهيرودسيين كل البغض وحسبوهم خونة لله منافقين دائرين مع الزمان إلا أنهم اتفقوا معهم في مقاومة الرب.

«أيجوز أن تُعطى الجزية لقيصر أم لا؟ أرسلوا جواسيس من تلاميذهم (لوقا 20:20) مع الهيرودسيين إلى يسوع لكي يصطادوه بكلمة، وظنوا بحسب حماقة أفكارهم أنه لا يستطيع أن ينجو من شبكتهم، فإنه كيفما كان جوابه لهم سيكون بحسب فكرهم ملومًا لأنه إن قال لا يجوز أن تُعطى الجزية لقيصر يشتكي عليه الهيرودسيون للحكام كخائن للقيصر ومهيج فتنة عليه كما افتروا عليه كلهم بذلك فيما بعد (لوقا 1:23، 5؛ يوحنا 12:19) وإن قال يجوز أن تُعطى له الجزية فيكون في نظرهم قد أنكر حقوقه كالوارث الشرعي لعرش داود، وفي هذه الحالة لا يكون هو مخلص إسرائيل الذي ينقذهم من نير الأمم ظاليمهم، ويستطيع الفريسيون حينئذ أن يبرهنوا من النبوات على أنه مُضل مادام ليس له صفات القوة التي يجب توافرها في مسيحهم الحقيقي.

«لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له، لقيصر، فقال لهم، أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فبجوابه هذا وضع كل شيء في محله. فترك إسرائيل تحت يد الإمبراطور الروماني الذي كانت معاملته (أي عملته) هي المتداولة بينهم وكأنه يقول لهم مادام الله سلط عليكم قيصر بسبب خطاياكم فاخضعوا لله والدينار الذي لقيصر إذ عليه صورته أعطوه لقيصر ومن الجهة الأخرى لله حق عليكم أن تحبوه وتطيعوه فيما له كما قال في موضع آخر عن المطلوب منهم أيضًا بالنسبة له «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (يوحنا 29:6).

ويستفاد من عبارة الرب هذه لهم أن المسيحي وإن كان ليس من هذا العالم (يوحنا 14:17)، وغريب فيه (بطرس الأولى 11:2)، وانتسابه هو للسماء (فيلبي 20:3) إلا أنه من واجبه أن يخضع للسلاطين الكائنة التي هي مرتبة من الله حتى أن من يُقاوم ترتيب الله (انظر رومية 1:13-7؛ بطرس الأولى 13:2-17).

 

رد المسيح على الصدوقيين فيما يتعلق بخلود النفس وقيامة الجسد

(عدد 23-33؛ مرقس 18:12-27؛ لوقا 27:20-38)

«في ذلك اليوم جاء إليه الصدوقيون الذين يقولون ليس قيامة. فسألوه قائلين يا مُعَلم قال موسى إن مات أحد وليس له أولاد يتزوج أخوه بامرأته ويُقيم نسلاً لأخيه، فكان عندنا سبعة إخوة وتزوج الأول ومات. وإذا لم يكن نسل ترك امرأته لأخيه. وكذلك الثاني والثالث إلى السبعة. وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا. ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة فإنها كانت للجميع» (عدد 23-28). كان الصدوقيون مَذهبًا ثالثًا من اليهود، واتصفوا برفضهم الاعتقاد بقيامة الأموات والمُحتمل أنهم رفضوا الوحي أيضًا وخلود النفس لأنهم قاوموا الفريسيين في كل عقيدة دينية. وكانوا بالحقيقة هم الكفرة بين اليهود (انظر أيضًا أعمال الرسل 8:23) ولكن البحث بتفصيل في تاريخهم وآرائهم لا ينفعنا. فأتى قوم منهم إلى الرب لكي يُجربوه بحكمتهم فما أوقح الإنسان لأنه لا يمتنع عن أن يُجاوب الله نفسه! وكانت مشكاتهم هذه بحسب أفكارهم دحضًا كاملاً لعقيدة القيامة. وطالما جادلوا بها أخصامهم وربما لم يوجد أحد منهم أمكنه أن يرد عليها ردًا سديدًا. وأما الرب فأبطلها بكل سهولة وبرهن على أنها قائمة على أساس فاسد.

«فأجاب يسوع وقال لهم تضلون إذ لا تعرفون الكُتب ولا قوة الله. لأنهم في القيامة لا يُزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء» (عدد 29، 30) فهذا هو الجواب لسؤالهم «ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة؟» «الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحيًا» (كورنثوس الأولى 14:2). كان هؤلاء طبيعيين، وقاسوا كل شيء على الحالة الحاضرة، ورفضوا كل ما يوافق العقل بينما قيامة الأموات من الحقائق التي لا نقدر أن نعرفها إلا بإعلان من الله ولا تتم إلا بقوته.

والرب بجوابه هذا أظهر أن حالة المُقامين من الأموات بقوة الله في القيامة الأولى، ستكون حالة سامية مُقدسة فيها يكون كل شيء مُنتسب للأرض والزمان قد زال وانتهى إلى الأبد، حتى الترتيبات المُرتبة من الله للإنسان هنا كالزواج سوف لا يوجد لها موضع هناك، فإن الجسد نفسه يتغير ويصير على صورة جسد مجد الرب (فيلبي 1:3، 21؛ كولوسي 44:15) لكي يكون على حالة تُناسب المجد السماوي. ولا يوجد ناموس من نواميس الطبيعة يوجب إقامة هذه الأجساد التُرابية من بعد ما انحلت واندثرت وربما تفرقت موادها الأصلية إلى الأربع الرياح. ولكن الرب سيُقيمها بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء.

«وأما من جهة قيامة الأموات، أفما قرأتم ما قيل لكم من قِبل الله القائل أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب؟ ليس الله إله أموات بل إله أحياء فلما سمع الجموع بُهتوا من تعليمه» (عدد 31-33).

عاد الرب فأثبت حقيقة وأظهر أنها من الإعلانات القديمة، ومن أصول إيمانهم كنسل إبراهيم. كان الله قد اختار آباءهم وأقامهم أمامه في نسبة خاصة معه يعامل نسلهم بموجبها إلى الأبد. فبعد موت إبراهيم وإسحاق ويعقوب بزمان طويل قال الله لموسى «أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب» وأضاف إلى ذلك قوله «هذا اسمي إلى الأبد. وهذا ذكري إلى دور فدور» (خروج 15:3) فاسمه التذكاري يدحض كفر الصدوقيين لأنه لو كان إبراهيم وإسحاق ويعقوب قد كفوا بالموت عن الوجود لما كان من الأمور اللأئقة بالله أن يقول لموسى، أنا إلههم لأنه ليس إله غير الموجودين. كان يمكن أن يقول، أنا كنت إلههم. فإذًا الموت أو انحلال الجسم الفاني لم يقطع العلاقة الكائنة بين الله وبينهم وهذه العلاقة نفسها توجب إقامتهم لأن الموت حالة استثنائية دخيلة على الإنسان لأن الله خلقه جسدًا ونفسًا وروحًا. ومن ثم فلابد أن يقيم الجسد حتى يكون مفديوه أمامه إلى الأبد في حالة الكمال بحسب القصد الذي قصده للإنسان لما خلقه غير أنه تعالى في القيامة سيغير الأجساد بقوته لتكون على هيئة تناسب المجد (كورنثوس الأولى 35:15-55) ولنا مثال ذلك في جسد الرب بعد قيامته. فقوله «ليس الله إله أموات بل إله أحياء» يُشير إلى هذه النسبة الحقيقية الدائمة بين الله والإنسان خليقته قبل وأثناء وبعد الموت.

 

الوصيتان العظيمتان

(عدد 34-40؛ مرقس 28:12-34؛ لوقا 25:10-28)

«أما الفريسيون فلما سمعوا انه أبكم الصدوقيين اجتمعوا معًا وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجربه قائلاً. يا معلم. أية وصية هي العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع، تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها. تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء».

«أية وصية هي العظمى في الناموس؟ » لا يُخفى أن الفريسيين افتخروا بالناموس واستعملوه كقائمة أعمال صالحة يصنعون بها لنفسهم برًا قدام الله وطالما تجادلوا معًا من جهة المسألة الباطلة وهي، ما هي الأعمال الفضلى التي إذا عملها الإنسان يكون له فضل أكثر عند الله؟ كأنه يمكن لهم أن يقفوا أمامه بحسب أعمالهم بل ويمتاز بعضهم على البعض واتضح أنهم لم يعرفوا الناموس ولا ما هو الإنسان «لأن بالناموس معرفة الخطية» (رومية 20:3) وليس هو للإنسان سوى الدينونة والموت (كورنثوس الثانية 4:3-9) وعوضًا عن أن يكسب به البركة إنما يحصل على اللعنة.

ولم يكن سؤالهم عن إخلاص بل لكي يجربوا الرب على أمل أنهم يحصلون على شيء من جوابه يمكنهم أن يشتكوا به عليه. وأما الرب فقد اقتبس في جوابه شهادتين من التوراة، من (تثنية 5:6؛ لاويين ا18:19). واستخرج منهما جوهر الناموس بحسب فكر الله. فيتضمن في الأولى ما يجب على الإنسان من نحو الله وهو محبته له تعالى من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الفكر، وفي الشهادة الثانية يتضمن ما يجب على الإنسان من نحو الآخرين وهو محبته لقريبه كمحبته لنفسه.

والرب في جوابه قد ابطل أيضًا تقسيمهم الناموس إلى وصايا متفاوتة، عظمى وصغرى (إصحاح 17:5-20) لأنه إن كانت الوصية الواحدة عظيمة جدًا فالثانية مثلها. وإن كان الله يأتينا من باب الطلب فإنه لا يمكن أن يطلب أقل من الكمال في كل ما وضعه علينا. ومن عثر في نقطة واحدة فقد صار مجرمًا في الكل (يعقوب 10:2).

والرب يسوع في تقسيمه لهم الناموس إلى وصيتي المحبة لله والمحبة للقريب أثبت عليهم كسرهم للناموس في رفضهم لشخصه إذ كان هو الله والقريب في شخص واحد.

«بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله» لأن الأولى تشمل الوصايا الأربع الأولى منه. والثانية تشمل الوصايا الست الباقية.

«والأنبياء». كان الأنبياء الذين من وقت إلى آخر يدعون إسرائيل إلى حفظ الناموس، ويوبخونهم على مخالفتهم إياه كما يقول الرب هنا «بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء» فعبثًا ينتظر الإنسان أن يقوم بمطلوب الناموس لكي يحصل بر يؤهله للقبول عند الله، والناموس لا ينفعه ولو انقسم إلى أقسام متفاوتة القيمة لأنه لا يقدر أن يحفظ أقل وصية من وصاياه، ويظهر اعوجاج قلبه في زعمه أنه يقدر على ذلك، وفي بحثه في ما هي الوصية العظمى كأنه يستطيع أن يكتسب بحفظها برًا أزيد.

 

امتحان المسيح لممتحنيه

(عدد 41-46؛ مرقس 35:12-37؛ لوقا 41:20-44)

«وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً ماذا تظنون في المسيح ابن من هو؟ قالوا له ابن داود. قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلاً. قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطيع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن سأله بتةً».

كان رعاة إسرائيل ومعلموهم قد حضروا إلى الرب ليقاوموه وكانوا على ثلاثة مذاهب الهيرودسيين والصدوقيين والفريسيين وافرغوا جعبة حيلهم لتخطئته ولو بكلمة ولم يقدروا. كان قصدهم أن يبينوا أنه مُعَلم مُضل ولكنه أبكمهم واظهر عدم أهليتهم للوظيفة التي اتخذوها كرعاة شعب الله قابل هذا مع قوله «وأبدت الرعاة الثلاثة في شهر واحد وضاقت نفسي بهم وكرهتني أيضًا نفسهم. فقلت لا أرعاكم من يَمُت فليمت ومن يُبد فليبد والبقية فليأكل بعضها لحم بعض» (زكريا 8:11، 9). فالويل لإسرائيل الرافضين لراعيهم الحقيقي لانقيادهم إلى رُعاتهم المنافقين فليس لهم الآن إلا الحكم المتضمن في آخر هذه الشهادة بحيث يكون كقطيع غنم متروك لا بل يأكلون بعضهم بعضًا كما صار فيهم بعد رفض المسيح وموته

«وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم إلخ» كان الفريسيون في ذلك الوقت المتقدم بين اليهود فسألهم الرب سؤالاً بسيطا عن المسيح «ماذا تظنون في المسيح؟ » أي في المسيح المتنبأ عنه. فإنهم كانوا قد رفضوا يسوع الناصري زاعمين أنه ليس متصفًا بصفات المسيح الحقيقي فإذًا لابد وأنهم قد بحثوا بحثًا دقيقا في جميع النبوات المتعلقة بهذا الموضوع.

«ابن مَنْ هو؟ » لقد أجابوا على سؤاله الأول هذا بلا توقف قائلين انه «ابن داود» ولكنهم عجزوا عن الإجابة على سؤاله الثاني الذي بناه على (مزمور 1:110) وهو «كيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلاً قال الرب لربي؟ » لأنهم لم يعرفوا حقيقة شخص المسيح بحسب ما ورد لهم عنه في كتبهم. لأنه وإن كان ينبغي حسب نبوات الكتاب عنه رب داود أيضًا بحسب اللاهوت لكونه هو بذاته منذ الأزل الله المبارك إلى الأبد.

ويجب أن نلاحظ أيضًا أن هذه الشهادة أتت في وقتها ومحلها لأنه قد رُفض من مملكته على الأرض وهو مزمع أن يموت ويقوم ويرتفع إلى السماء والله مزمع أن يقول له حينذاك «اجلس عن يميني» (قابل أعمال الرسل 30:2-35) ويراد باليمين أعظم مكانة للإكرام. لم يكن له قبول عند إسرائيل حينئذ ليجلس على كرسي داود ولكنه مزمع أن يفوز بالقبول في السماء ويجلس هناك كرب داود على عرش أبيه

«حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك» فسيظل جالسًا هناك إلى أن يضع الآب أعداءه تحت قدميه (عبرانيين 13:1؛ 12:10، 13) وأعداؤه هم اليهود الذين لم يريدوا انه يملك عليهم في ذلك الوقت (لوقا 27:19). على انه سيكون له أعداء كثيرون غيرهم كما لا يُخفى.

«ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن سأله بتة» لم يقدر أحد من هؤلاء المقاومين المنافقين أن يسأله سؤالاً بعد ذلك خوفا من أن يضيع صيتهم الكاذب عند الشعب. وفضلوا السكوت على الكلام مادام الكلام يفضح جهالتهم.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة