لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل مرقس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح العاشر

1 وَقَامَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ أَيْضًا، وَكَعَادَتِهِ كَانَ أَيْضًا يُعَلِّمُهُمْ. 2 فَتَقَدَّمَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَسَأَلُوهُ:«هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟» لِيُجَرِّبُوهُ. 3 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟» 4 فَقَالُوا:«مُوسَى أَذِنَ أَنْ يُكْتَبَ كِتَابُ طَلاَق، فَتُطَلَّقُ». 5 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هذِهِ الْوَصِيَّةَ، 6 وَلكِنْ مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللهُ. 7 مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، 8 وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. 9 فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ». 10 ثُمَّ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أَيْضًا عَنْ ذلِكَ، 11 فَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. 12 وَإِنْ طَلَّقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي». (عدد 1-12).

أن تجد تعاليم مهمة في هذا الإصحاح الذي يختم تاريخ حياة المسيح. ففي الأناجيل الثلاثة الأولى نرى الأحوال المتعلقة بموتهِ مبدوءة بشفاء الرجل الأعمى بالقرب من أريحا. ذلك نشاهدهُ في العدد السادس والأربعين من هذا الإصحاح. فالمبدأ الأول الذي نعاينهُ هنا إنما هو فساد كل ما خلقهُ الله على الأرض وخرابهُ ودخول الخطية على العلائق التي وطدها الله وممارسة سطوتها. على ان شريعة موسى نفسها التزمت ان تسمح بأمور تتعلق بحياتنا على الأرض ولا تطابق أفكار الله وأردته. ذلك لأجل قساوة القلب الإنساني ولكن إن كان الله يتأنى على القوم الغير القادرين وهم في هذه الحالة ان يعيشوا معهُ حسب القانون في أمور ليست حسب أرادتهُ ولا حسب العلاقة الكاملة التي وطدها فلا يقضي عليها ولا يكف عن الاعتراف بها بحسب كونها أمورًا قد أسسها منذ البدء. فان ما أسسهُ الله منذ البدء لا يفتأ عن كونهِ صالحًا وهو يحافظ على تلك النسبة ويحامي عنها بسلطانهِ الإلهي. فالخليقة نفسها صالحة غير ان الإنسان قد أفسدها. ومع ذلك لا يكف اله عن الاعتراف بما صنعهُ وبالنسبة التي فطر الإنسان عليها وجعلهُ مكلفًا بالمحافظة على التزاماتهِ. لا جُرم ان الله وإن كان قد أتى بعد موت المسيح بقوة ليست من هذه الخليقة أي الروح القدس فيستطيع الإنسان بهذه القوة ان يحي حياة خارجة عن علاقة الخليقة العتيقة ان دعاهُ الله لذلك غير انهُ من المحتوم عليهِ ان يحترم هذه العلائق حيثما وجدت.

فتقدم الفريسيون وسألوا يسوع إذا كان يحلَّ للرجل ان يُطلق امرأتهُ فانتهز الفرصة لبيان هذا الحق وهو ان ما أسسه الله من بدء الخليقة سنَّة لا يمكن إبطالها فقد سمح موسى للرجل بأن يُطلق امرأتهُ إنما كان ذلك من صبر الله على صلابة قلب الإنسان وأرادتهُ. لأن الله أبدع في الخليقة كلما هو حسن وإن كان ضعيفًا. وقد سمح بأشياء أخرى حين سن السنن الوقتية لشعبهِ الداخل في رتبة الإنسان الساقط. غير انهُ أوجد الأمور حين الخليقة على حال أخرى فإنهُ تعالى قد جمع الرجل والمرأة وضمها معًا فليس لإنسان حق بأن يفصلها فهذه العلاقة لا يجب ان تنفك.

13 وَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلاَدًا لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ. وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ فَانْتَهَرُوا الَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ. 14 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ:«دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. 15 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ». 16 فَاحْتَضَنَهُمْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ. 17 وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى الطَّرِيقِ، رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 18 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. 19 أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلُبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». 20 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». 21 فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ:«يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ». 22 فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ. 23 فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ:«مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!» 24 فَتَحَيَّرَ التَّلاَمِيذُ مِنْ كَلاَمِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ:«يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! 25 مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ» 26 فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 27 فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ:«عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ». (عدد 13-27).

ثم أتوهُ بأولاد، فانتهر التلاميذ من أحضرهم. أما يسوع فأغتاظ من ذلك، فأن أصل الخطية، وأن كان مغروسًا في قلوب الأولاد، فهم يمثلون البساطة، والثقة، والخلو من الغش والفساد، الناشئين من معرفة العالم، وانحطاط الطبيعة البشرية، وهم كناية عن بساطة القلب، والطبيعة الغير مُفسدة التي لم تتعلَّم بعدُ عن خداع العالم، فقد شاهد بهم الرب صورة خليقة الله أبيه.

أيوجد بالحقيقة شئ صالح في الإنسان؟ لا ريب أن بقايا مبروكات الله إنما توجد في خليقتهِ الطاهرة فهي مكسوة بالجمال، والبهاء، فأن ما يأتي من يد الله كثيرًا ما يكون جميلاً، ويمثل لنا بهاء المبدع، وطهارتهِ. ومن المفروض علينا أن نعترف بذلك كأنهُ صادرٌ منهُ تعالى. فالطبيعة حولنا جميلة؛ لأن الله خلقها، وأن نبت بها العوسج والعلَّيق. بل نجد أحيانًا في صفات الإنسان، وأخلاقه بل في الحيوان أمورًا حسنة محبوبة. غير أن المسألة تتعلق بقلب الإنسان، وأرادته، وما هو عليه نحو الله لا بما هو طبيعي ، ومن أثمار الخليقة. فلا لا يسكن فيهِ شئ صالح، وليس فيهِ عاطفة نحو الله بل بالعكس ينفث ضدهُ العدوان، والتمرد، وقد وضح ذلك برفض المسيح.

فهذا هو الدرس الذي نتعلَّمهُ من قصة الشاب المدرجة هنا ذلك الذي ركض، وجثا عند قدمي يسوع، وسألهُ أيها المُعلَّم الصالح: ماذا أفعل لأرث الحياة الأبدية؟ فقد كان ذا أخلاق رضية، وعواطف حسنة متأهبًا للتعلُّم عن طريق الصلاح. وكان قد عاين سمو حياة يسوع، وأعمالهِ فتأثر قلمهُ بما رأى. وكان مفعمًا بحمية الصبا، ولم يكن مفسدًا، ومنحطًا من الانهماك في الرذائل المفسدة للقلب، والأخلاق. وقد حفظ الناموس ظاهرًا، وأعتقد أن يسوع يستطيع أن يعلّمهُ أسمى سُنَن الناموس؛ لأن اليهود أنفسهم ذهبوا إلى أفضلية بعض الوصايا على الأخرى.

غير أن ذلك الشاب لم يعرف نفسهُ، ولا الحالة التي كان عليها الإنسان لدى الله بل كان تحت الناموس؛ فأوضح لهُ يسوع الناموس أولاً في منزلة قانون للحياة أعطاهُ الله لبني آدم في مثابة مقياس للبر، والصلاح. فلم يسأل الشاب كيف يستطيع أن يخلص؟ بل كيف يرث الحياة الأبدية؟ فلم يجيبهُ يسوع عن الحياة الأبدية بل لاقاهُ من نفس الباب الذي دخل بهِ. فقد قال الناموس أفعل هذه؛ فتحيا. فصرَّح الشاب بأنهُ حفظ تلك الأشياء منذ حداثتهِ. فلم ينكر عليه السيد ذلك، ولم يحاجَّهُ بهِ بل يُقال: أنهُ نظر إليه، وأحبَّهُ. فنرى بذلك ما يحبهُ المخلص ويرضى بهِ. ولكن ما هي حالة الإنسان الحقيقية؟ فقد كشف الرب النقاب، ووقف الإنسان مجردًا أمام الله، ووقف الله بقداستهِ أمام الإنسان. فأن الأعمال التي يعملها الإنسان شئٌ، وطريق الخلاص شئٌ آخر. 

فلنتأمل بما يقوله الرب عن حال الإنسان. فالشاب خاطب يسوع لا كابن الله بل كحاخام يهودي أي كمعلم في إسرائيل، ودعاهُ المعلم الصالح، فلم يسلم الرب أن الإنسان صالح. لأنه لا يوجد بار بين البشر كلاَّ ولا واحد فأجابهُ: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله. لا جرم أن المسيح صالح لأنهُ الله، وأن كان صار إنسانًا بمحبتهِ الكاملة للإنسان. ولم ينفك عن اللاهوت بل تجسد بدون الانقطاع عن طبيعتهِ الإلهية بدون استطاعة الانفصال عنها. إنما كان لاهوتهُ مستورًا في الطبيعة الإنسانية أو بالحري مجدهُ وذلك لكي يدانينا. فأن سلطان يسوع الإلهي ومحبتهُ تظهران بأشد وضوح بالإيمان. أما الشاب فوافى يسوع كمُعلَّم إنساني أي كحاخام يهودي. فأجابه:  وفقًا لأسلوب سؤالهِ وأيد هذا الحق الخطير، وهو أن لا إنسان صالح بين أبناء آدم الساقط. ذلك مبدأ يذلّ كبرياء الإنسان، ويخفضها، ولكنهُ ذو أهمية عظيمة. فلا نجد بذلك إنسانًا صالحًا حسب الطبيعة، وإن رأينا بعض صفاتهِ باقية على الخليقة الأولى. فأن ما خلقه الله صالحًا، وصرَّح بأنهُ كذلك قد فسد بالسقوط. فالإنسان يذهب في سبيل شهواتهِ، ومصالحهِ، لا في سبيل الله ومجده. فربما جدَّ وراء تلك الأشياء بالوجه الحلال أو الحرام، وفتش عليها في قاذورة الإثم، والمعصية، ولكنهُ لا يرغب إلاَّ في إشباع إرادتهِ الذاتية، وقد شرد عن إلههِ، وتاه عنه، ولا يصبو إلاَّ لإرضاء نفسهِ.

فبعد أن عرض الرب على الشاب وصايا الناموس التي إن الإنسان، يحيَ بها، حرضهُ على وصية حملت بولس الرسول على الشعور بما ينشئهُ الناموس في الإنسان الساقط - أعني بذلك الموت فقال لهُ يعوزك شئ واحد أذهب وبع كل ما لك واتبعني. فنرى بذلك شهوة القلب الذي قد تمزَّق عنهُ الحجاب. فقد جرَّد الرب العارف القلب، والفاحص حالة ذلك الشاب الحقيقية من كل رداه وحجاب بكلمتهِ الفعالة البسيطة. فأصبحت زهور الشجرة البرية عديمة الجدوى، فما أثمارها إلاَّ أثمار قلب منفصل عن الله، والعصارة إنما هي عصارة شجرة مرّة، ورديئة. فقد سادت محبة المال على قلب ذلك الشاب، وإن كانت عواطفهُ الطبيعية قد بدت بمظاهر الخلوص، والأمانة. غير أن محبة الدينار كانت كامنة في أعماق قلبهِ، وهي المحرّك الأول لأرادتهِ، ومقياس حالهِ الأدبي الحقيقي؛ فذهب حزينًا وغادر السيد لأنهُ فضل الدراهم على الرب المُعلَن بملء المحبة، والنعمة.

فما أرهب وجودنا في حضرة فاحص القلوب. فالمقياس الحقيقي لحالة الإنسان الأدبية إنما هو الباعث، والمحرّك لا الصفات، والأخلاق الموروثة بالولادة، وإن كانت على جانب من الألطاف، والمحاسن فأن الصفات الحسنة توجد حتى في الحيوانات، وهي مما يحمل على الاعتبار، والمحبة، ولكنها لا تعلن قط حالة القلب الأدبية. فالإنسان الموصوف بالطبع الشرس، والأخلاق السيئة الباذل الجهد في الحكم على خلقهِ القبيح بالنعمة، وفي أن يكون محبوبًا عند الناس، ومرضيًا لله هو في حالة أدبية أفضل من الإنسان الحسن الأخلاق طبيعيًا الراغب في التمتع بالمسرات مع الآخرين، وفي إرضائهم بدون ضمير لدى الله، وبدون المبالاة بهِ فأنهُ وإن كان محبوبًا من الناس فهو مُغيظ لله؛ بنسيانهِ إياهُ وعدم اكتراثهِ بهِ. فغاية القلب هي التي تصوّر صفات الإنسان الأدبية، وهذا ما أوضحهُ يسوع في هذه الحادثة إيضاحًا مؤثرًا؛ فخرق بذلك كبرياء القلب الإنساني، وهدم معلقها.

غير أن السيد صرَّح بشيء آخر أيضًا، فأن التلاميذ ذهبوا كالفريسيين في كل قرن إلى أن من الواجب على الإنسان أن يربح السماء لنفسهِ، وأن اعترفوا بالحاجة للمساعدة الإلهية انذهلوا وعجبوا من ذلك، فكأنهم قالوا: أيمكن أن إنسانًا كهذا غنيًّا ذا أخلاق فاضلة قد حفظ الناموس، ولم يطلب من مُعلَّمهم إلاَّ معرفة الوصية الفضلى؛ ليقوم بإتمامها يكون بعيدًا عن ملكوت الله، ودخولهُ إليهِ عسرًا في الدرجة القصوى. فإذا لم نفهم هذه الحقيقة، وهي أننَّا هالكون، ونفتقر للخلاص، وأن المسألة تتعلق على حالة القلب، وأن كل القلوب بعيدة عن الله حسب ا لطبيعة، ولا تطلب إلاَّ شهوتها بالانفصال عن الله، وأنها لا تودُّ حضورهُ لأن الضمير يشعر أن ذلك يمنع القلب من أتباع غايتهِ، وإذا لم نتعلَّم هذه الأمور بالنعمة كنا عميانًا وفي جهالة قصوى.      

أن يسوع لم يستطع الآن كتمان حالة القلب الحقيقية اقلهُ عن تلاميذه فهذه الحالة قد ظهرت كل الظهور لأن الإنسان أبى قبول ابن الله. ومن ثمَّ قد تبرهن أن المرء بأفضل الصفات الطبيعية حتى بالمحافظة على الآداب الخارجية فضل اتباع غاية أمانيهِ، وأطماعهِ على محبة الله الحالة على الأرض أو على مُعلَّم اعترف بأن لهُ أسمى المعرفة بمشيئة الله. ذلك يبين أن الإنسان هالك، فقد ظهرت هذه الحقيقة برفض ابن الله، فلا غنى لهُ تعلُّم هذا الدرس الخطير، وأنهُ وأن كان حائزًا على أفضل الصفات، لا يستطيع أن يخلّص نفسهُ. فمن يستطيع إذًا أن يخلص! أما يسوع فلم يكتم هذا الحق فقال: أن ذلك غير مستطاع عند الناس، فما أرهب هذه الكلمات التي نطق بها السيد الآتي ليخلصنا! فقد علَم أنهُ يستحيل على الإنسان خلاص نفسهِ، ويتعذر عليهِ النهوض من الحالة التي سقط بها بدون معونة الله. ذلك غير مستطاع عند الناس إنما يأتي الله بمحبتهِ الغير محدودة لإنقاذنا، ولا يكتم عنا حالتنا السيئة، وافتقارنا لخلاصهِ المجاني.

فلابدَّ لنا من معرفة حالتنا الحقيقية، ولا نقدر أن نستخف بأن ابن الله المجيد أخلى نفسهُ لأجلنا، ومات على الصليب الذي هو الواسطة الوحيدة لفداء الإنسان الهالك، وخلاصهِ. فلا غنى لنا عن معرفة أنفسنا، وأنهُ قد قضى علينا بالهلاك؛ وذلك لكي نستطيع أن نفهم أن المسيح حمل هذا القضاء عوضًا عنا، وأنهُ أكمل عمل خلاصنا بحسب مجد الله. فلنتأكد وقوع الدينونة علينا، ولندرك قوة الخطية، ونتائجها، ولتتضح لدينا كل الوضوح محبة الله، وبرُّهُ الكامل، وقداستهُ التي لا تطيق النظر إلى الخطية، وأن عاملنا بالصبر، والإمهال فإذا عرفنا ذلك؛ علَمنا أن هذا غير مستطاع عند الناس… ولكن عند الله كل شئ مُستطاع فلا يتم ذلك إلاَّ بعمل يسوع المسيح فقط، ذلك ما اشتهت الملائكة أن تُطلع عليهِ، فالخلاص لا يمكن نوالهُ إلاَّ بالإيمان لأن العمل قد كمل، فالمجد كل المجد لأسمهِ الكريم. فقد تمجد يسوع كإنسان في السماء لأن العمل قد نُجز، ولأن الله قد اعترف بكمالهِ ولهذا السبب قد وضع المسيح عن يمينهِ لأن كل شئ قد تمّ فارتضى الله، وتمجد بعمل يسوع.

ذلك غير مُستطاع عند الناس، ولكن عند الله كل شئ مُستطاع. فما أعظم النعمة! التي تبين لنا من نحن؟ وما هو الله؟ أن النعمة، والحق أتيا بيسوع المسيح، فتأملوا بهذه الحقيقة أيها الأخوة، فأن هذا يفيد أننَّا ينبغي أن ننتظر في هذا العالم صليبًا. فكونوا متأهبين لقبول كلمات الرب، ولحمل الصليب لكي تفوزوا بمعرفة أنفسكم حقيقةً أي أنكم هالكون بالخطية، وأن الخلاص إنما هو من مجرَّد النعمة لا بالوسائط البشرية فأن ذلك غير مُستطاع. إنما عمل الخلاص كامل، وتامٌ، وأن برَّ الله على كل الذين يؤمنون بمن أكملهُ. فلا نرى في كل الأسفار المقدسة هذا الحق الأساسي عن افتقار الإنسان لخلاص الله، وعن حالتهُ الحقيقية مُوضحًا إيضاحًا جليًا أكثر مما هو وارد في هذه الحادثة.

28 وَابْتَدَأَ بُطْرُسُ يَقُولُ لَهُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». 29 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ، 30 إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولاً، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 31 وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ». (عدد 28-31).

ثم أضاف الرب إلى ما قيل في قصة الشاب الغني المار ذكرها تعليمًا آخر عن طريق الصليب، والمواعيد المرافقة ذلك، فلنُمعن بهِ النظر.

أنه يسهل علينا أن نرى كيف أن هذه القصة تشبه تاريخ بولس الرسول غير أن النعمة قد غيرت حوادث حياتهِ فأصبحا بعد المشابهة متباينين في أطوارهما. فأن بولس حسب البر الذي في الناموس كان بلا لوم، ولكن حين عملت روحية الناموس في القلب ظهرت الشهوة، وانكشفت؛ فرأى أنه لا يسكن فيهِ أي في جسدهِ شئ صالح. ولما اقتنع بالخطية أعلن الله ابنهُ لهُ؛ ففهم أن الغير المُستطاع عند الناس مُستطاع عند الله. فأن الله فعل لهُ ما لا يستطيع أن يفعلهُ لنفسهِ أي ليربح البر الذي بالناموس، وأن تلك الخطية في الجسد قد قضى عليها بالصليب، وأنه أتمَّ ذلك بذبيحة نفسهِ. فبدلاً من أن يرى نفسهُ هالكًا في الإثم أصبح إنسانًا جديدًا مخلصًا أما الشاب المذكور فظلَّ باقيًا في حالتهِ السابقة فغادر السيد، وانطلق للتمتع بغناهُ، والمحافظة عليهِ، وأما بولس فالأشياء التي عدَّها ربحًا حسبها بعد إذٍ خسارة لأجل المسيح فقال: بل أني أحسب كل شئ أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجلهِ خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح. (فيلبي 8:3).

فانظروا هنا الفرق بين تأثير النعمة، وبين الطبيعة الإنسانية. فسلوكهُ إنما كان ينبئ عن الحكمة الحقيقية، وتأملوا أنهُ لم يحسب كل الأشياء نفاية لأجل فضل معرفة المسيح في البدأة فقط حين أُعلن لهُ يسوع بل استمرّ، وهو سالك بالاشتراك معهُ أن يحسبها كذلك، ويعدها كأقذار لا نفع لها، ولا جدوى. ثمَّ تتبعوا المواعيد المعطاة للسالكين في هذا السبيل، وفي الخطة التي مثَّلها المسيح نفسهُ. فقال بطرس: أنهم تركوا كل شئ ليتبعوهُ، وفقًا لِما كان قد عرضه الرب على الشاب. فماذا يكون لهم؟ فأجابه:  يسوع أن ليس أحد يترك بيتًا أو أخوة أو أخوات إلخ لأجلهِ، ولأجل الإنجيل إلاَّ ويأخذ مئة ضعف في هذه الحياة، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية أي أنهم سيتمتعون بأمور أفضل جدًا من أمور هذه الحياة الدنية، ولكن مع اضطهادات. فمن ثمَّ لهم موعد الحياة الحاضرة، والحياة العتيدة، فربما لا يربحون غنى العالم بل يتمتعون تمتعًا حقيقيًّا بكل ما هو في العالم بحسب مشيئة الله كعطية منهُ تعالى، ولكن عليهم أن يحتملوا مقاومة عالم لا يعرف الله. غير أن الذين كانوا أوَّلين في الديانة اليهودية سيكونون آخرين بين المسيحيين.

32 وَكَانُوا فِي الطَّرِيقِ صَاعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَقَدَّمُهُمْ يَسُوعُ، وَكَانُوا يَتَحَيَّرُونَ. وَفِيمَا هُمْ يَتْبَعُونَ كَانُوا يَخَافُونَ. فَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ عَمَّا سَيَحْدُثُ لَهُ: 33 «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ، 34 فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». 35 وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبْدِي قَائِلَيْنِ:«يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ لَنَا كُلَّ مَا طَلَبْنَا». 36 فَقَالَ لَهُمَا:«مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟» 37 فَقَالاَ لَهُ:«أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ». 38 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» 39 فَقَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«أَمَّا الْكَأْسُ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَتَشْرَبَانِهَا، وَبَالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. 40 وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ». 41 وَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ ابْتَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ أَجْلِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. 42 فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. 43 فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، يَكُونُ لَكُمْ خَادِمًا، 44 وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلاً، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا. 45 لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ». (عدد 32-45).

ثم انطلق يسوع صاعدًا إلى أورشليم، وكانت قلوب التلاميذ ملأَنة من توقع الأخطار التي كانت أمامهم في تلك المدينة، فتبعوهُ يجزع وارتعاد لأننا نخشى خبث العالم وشرهُ فإنه إذا كان لا يستطيع ان يحارب الله تعالى في الأعالي يقدر ان يضطهد خادميهِ على الأرض. فنرى هنا أيضًا الفرق بين تأثير النعمة في بولس الرسول الذي ترك كل شيء لأجل محبة المسيح وفرح بشركة آلامهِ متشبهًا بموتهِ وأراد ان يعرف قوة قيامتهِ وبين التلاميذ الذين لم يعرفوا هذه الأشياء بعد. أما يسوع فلم يرد إخفاء هذا الحق بل شاء ان يعرف التلاميذ المنزلة التي كان مزمعًا ان يتخذها. فبدأ يُخبرهم عما سيحدث لهُ وما هو نصيب ابن الإنسان. فإنهُ يسلم إلى أيدي الكهنة فيقضون عليهِ ويسلمونهُ لأيدي الأمم فيعاملونهُ بأشد الاحتقار والإهانة ويقتلونهُ ولكنهُ سيقوم في اليوم الثالث. وعلى هذا المنوال ينتهي تاريخ ابن الإنسان بين البشر. فان شعبهُ الخاص كان الأول بالقضاء عليهِ وكان الأمم مستعدين بعدم اكتراثهم لإكمال العمل الهائل وهو رفض المخلص في العالم. فقد اتحد شعب الله أي اليهود مع الوثنيين واتفقوا معًا على طرد ابن الله الآتي بالنعمة لإنقاذهم فكان من الأمور المهمة ان يعرف التلاميذ نهاية معلمهم، وهي ان لابد من موتهِ كابن الإنسان. فهذا هو التعليم الذي هو أساس كل بركة ومصدرها. غير ان ذلك الأساس هدم كل آمال التلاميذ وأمانيهم وأوضح أيضًا شر الإنسان وجودة الله الغير المحدودة.

فالآن قد وضحت أفكار التلاميذ على الفور وبدت بمظهر يُباين أفكار المخلص المقدسة كل المباينة. لا جُرم ان التلاميذ كانوا بعيدين عن إدراك هذا الحق حتى النهاية على أنهم بالنعمة احبوا المخلص، وفرحوا بامتلاكهُ كلام الحياة الأبدية. فكل هذه الأمور لم تكن كافية لمحو أفكار الملكوت الذي كانوا ينتظرونهُ على الأرض ولا لإزالة الطمع الجسدي بالحصول على مقامٍ سامٍ عند المسيح في هذا الملكوت. فلم يجد الرب إنسانًا واحدًا يقدر ان يدرك الأمور التي كان يفسرها لتلاميذهُ عن موتهِ في أورشليم حين انفرد معهم للحديث بهذا الشأن.

فطلب يعقوب ويوحنا ان يجلسا الواحد عن يمينهِ والآخر عن يسارهِ في مجدهِ. ذلك كان لا يخلوا من الإيمان لأنهما اعتقدا بأنهُ سيملك غير ان شهوة الجسد كانت لا تكف عن العمل. أما الرب المفعم من الجودة والإحسان على خاصتهِ فحوَّل بجوابهِ ذلك السؤال الجسدي إلى موضوع مفيد لتعليم تلاميذهِ وانتهز الفرصة الملائمة. فلم يكن هو الشخص الوحيد المطلوب منهُ حمل الصليب. على انهُ هو وحدهُ يستطيع إتمام عمل الفداء بتقديم نفسهِ. فابن الله قد تنازل وأسلم نفسهُ بمحبتهِ ليكون حمل الله الرافع خطية العالم. ولكن كان من المفروض على التلاميذ ان يسيروا في نفس السبيل الذي سلكهُ إذا شاءوا ان يكونوا مثلهُ. أوضح الرب هنا أتضاعهُ الفائق وخضوعهُ التام لما كان مزمعًا ان يلمَّ بهِ.

فقد أخلى نفسهُ وقبل تلك المنزلة الدنيا طوعًا واختيارًا ولم يكن عديم الشعور بعار الصليب وآلامهِ بل قَبِلَ كل شيء من يد أبيهِ وخضع لكل ما يصادفهُ في هذا سبيل.

«فأجاب يسوع التلميذين. وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي ان أُعطيهِ إلا للذين أُعدَّ لهم من أبي» فليس لهُ حق تفضيل الواحد على الآخر في ملكوتهِ بل ترك لأَبيهِ حق الاختيار وإعطاء المجد الخاص المعين لعمل خاص لأولئك المُعدَّ لهم، والذين أعدتهم النعمة لذلك المجد. أما نصيبهُ هو فالصليب فإذا شاء أحد ان يتبعهُ كتلميذ نال المجد بالصليب. فهذا هو الدرس المطلوب من شعبهُ ان يتعلموهُ. وهو كان خاضعًا لأبيهِ وقبِلَ من يدهِ كل ما كان مُعدًّا لهُ بحسب مشيئتهِ، وإذا أراد التلاميذ اتباعهُ وجب عليهم حمل الصليب الغير المنفك عن هذا السبيل والملازم لهُ في كل الأحوال. وفضلاً عن ذلك يُطلب من كل تلميذ يتبع المخلص ان يضع نفسهُ كسيدهِ لا ان يُشابه عظماء هذا العالم المعظمين أنفسهم بالانفصال عن الله بل ان يكون خادم الكل بالمحبة كما كان الفادي المبارك وإن كان سيد الجميع بحقه الخاص. فالمحبة أقوى الفواعل وأقدرها وهي تود ان تَخدم لا ان تُخدَم. فعلى هذه الكيفية أعلن الله نفسهُ بالإنسان يسوع ومن واجباتنا ان نتبعهُ في هذا السبيل. فالأصغر في عيني نفسهِ إنما هو الأعظم عند الله.

فهنا قد انتهى تاريخ خدمة المخلص على الأرض وبدأ تاريخ الحوادث المقترنة مع آلامهِ. غير انهُ يعرض نفسهُ أيضًا المدة الأخيرة في أورشليم كابن داود وغاية المواعيد المعطاة لإسرائيل وذلك لكي يقبلهُ شعبهُ وتقبلهُ المدينة المحبوبة، ولكنهم بالحقيقة رفضوهُ وقتلوهُ. فقد تكلم حتى الآن عن ابن الإنسان الآتي ليَخدم ويذل نفسهُ فدية عن كثيرين. أما الآن فصاعدًا فيعرض ذاتهُ بالنسبة الوحيدة التي يستطيع بها الاشتراك مع شعبهِ حسب النبوات.

46 وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا. وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٍ غَفِيرٍ، كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ الأَعْمَى ابْنُ تِيمَاوُسَ جَالِسًا عَلَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. 47 فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ، ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ:«يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!» 48 فَانْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ، فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيرًا:«يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». 49 فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى. فَنَادَوُا الأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ:«ثِقْ! قُمْ! هُوَذَا يُنَادِيكَ». 50 فَطَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ. 51 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ لَهُ الأَعْمَى:«يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ!». 52 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«اذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ. (عدد 46-52).

فدخل إلى أريحا المدينة الملعونة ولكنهُ دخلها بحسب النعمة الفائقة اللعنة. على انهُ كان مزمعًا ان يحملها هو نفسهُ فقد وافى ابن داود بنعمتهِ وقوتهِ الإلهية واستطاع ان يُكمل كل شيء ولكن بالاتضاع والمسكنة. فأجاب إذًا حسب الاسم المُلقب بهِ أي ابن داود وأظهر بالنعمة سلطانهُ بشفاء الإنسان الأعمى. على ان الجمهور المصاحب المخلص لم يشأ انهُ ينزعج وأما هو فوقف وأصغى بنعمتهِ لاحتياجات شعبهُ وأمر بإحضار بارتيماوس الذي ركض إلى يسوع بفرح فان شعورهُ بالحاجة حملهُ على الإسراع إلى يسوع الشخص الوحيد القادر على القيام بحاجتهِ وأعطائهِ العلاج الفعال القاطع. فالإنسان الأعمى إنما كان صورة حية تُمثل حالة اليهود المظلمة، ولكننا نرى بما حدث عمل الرب بإنشاء الشعور بالحاجة بنعمتهِ فيقلب إنسان يهودي في ذلك الوقت. ولا ريب في ان ذلك بصدق في كل زمن ولا سيما في هذه الحالة وهي حالة اليهود في ذلك الحين. فلما سأل بارتيماوس عن تلك الأصوات أجابهُ الجمع ان يسوع الناصري مجتاز. فهذا اسم لم يفهم معناهُ اليهود لأن الناصرة كانت اسمًا مقترنًا بالتعيير. أما الإنسان الأعمى فكان قلبهُ ملأنًا من الإيمان وعارفًا المنزلة التي اختارها يسوع بالنسبة لشعبهِ فناداهُ يا ابن داود. ذلك يدل على انهُ علم ان وشفاهُ. ففاز بالبصر وتبع يسوع في الطريق.

فهذه هي صورة مؤثرة  تُمثل حال إسرائيل والعمل الجاري في وسط الشعب. فان ابن الله وابن داود حسب الجسد وغاية المواعيد كان قد آتى بنعمتهِ وكان قادرًا على إبراء إسرائيل، وقد أزال العمى بالقوة التي آتى بها معهُ وكانت حالة فيهِ في المكان الذي بالحقيقة أعمى. غير ان القوة الإلهية كانت مستعدة للشفاء عند وجود إيمان كافٍ للاعتراف بيسوع كابن داود. ذلك يُزيل العمى على الفور. فهذا مشهد بديع يُرينا عمل النعمة في المكان الذي حلت عليهِ اللعنة. غير ان تلك النعمة لا تعمل إلا حيث يُعترف بيسوع انهُ ابن داود وهي التي فتحت عيني الأعمى فأصبح منذ ذلك الحين تلميذًا ليسوع.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة