لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

الكهنوت الطقسي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الحجج الخاصة بقيادة الكنيسة، والرد عليها

1- [ إن العبادة تتطلب وجود أشخاص يقودون المؤمنين في تأديتها، وهذا ما يثبت وجوب وجود خلفاء للرسل، أو رؤساء روحانيين ].

الرد: إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن القسوس أقيموا لرعاية المؤمنين ووعظهم ولتوبيخ المناقضين الذين يظهرون بينهم كما ذكرنا فيما سلف، وليس لقيادة العبادة، كما يقول أصحاب هذه الحجة، ويرجع السبب في ذلك إلى ما يأتي:

(أ) وجود الرب في وسط المؤمنين الحقيقيين عند العبادة: فقد قال إنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه، فهناك يكون في وسطهم (متى 18: 20) ووجود الرب في وسطهم ليس مجرد عقيدة دينية، بل إنه قبل كل شيء حقيقة واقعة، لأن المسيح لا يحدثنا عن عقائد لا حقيقة لها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن حاجتنا إلى رؤساء من البشر يرأسون العبادة أو ينظمونها (كما يقال أحياناً دون أي وعي روحي)([1])، بل إلى الارتقاء بالإيمان إلى الحالة الروحية التي نستطيع معها إدراك حقيقة وجود المسيح بلاهوته في وسطنا وبذلك نختبر سيادته القدسية على قلوبنا، هذه السيادة التي تملؤنا خشوعاً وورعاً أمامه، كما تهيئنا للحصول على ما نحتاج إليه من تعزية وبركة.

(ب) عمل الروح القدس في القلوب: فهو يسكن في قلوب المؤمنين الحقيقيين (1كورنثوس 6: 19). وعندما يكونون في حالة الخضوع الكلي له، يهيئهم لتقديم العبادة اللائقة بالله، والتي يعجزون عن تقديم مثلها من تلقاء أنفسهم. فقد قال الرسول "وكذلك الروح أيضاً يعين ضعفاتنا لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات([2]) لا ينطق بها" (رومية 8: 26). وقد أشار المسيح له المجد إلى هذه الحقيقة من قبل فقال "الله روح، والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يوحنا 4: 24). وبذلك يمكن حتى للأميين من المؤمنين الحقيقيين أن يقدموا لله العبادة الروحية المقبولة أمامه.

وقد عرف المؤمنون الحقيقيون منذ القديم أهمية الصلاة بالروح القدس، فقال الشيخ الروحاني إن نفسه تتحرك بابتهاج بفعل الروح القدس فيها، فتتأمل في الله وتتحد به. وقال القديس غريغوريوس إن الصلاة في المبتدئين تشبه ناراً تندلع من قلوبهم، ولكن في الكاملين تشبه نوراً يفيح عطراً يملأ قلوبهم. وقال غيره إن الدرجة الثانية في الصلاة العقلية هي صلاة التأمل بالروح، وهي تاج الحياة الروحانية. وقال مار إسحق السرياني إن الصلاة بالروح تجعل الله حقيقة ملموسة للنفس، تهيئها للاتصال الحقيقي به. وقال أيضاً إن الصلاة الروحانية هيمن فعل الروح القدس وتدبيره، وليس من فعل الإرادة البشرية وسلطانها. وقال غيره عن هذه الصلاة إنها مصدر سرور خفي في الباطن، وفرح وطرب في القلب، واشتياق ملتهب نحو الله، وتهليل داخل النفس لا ينقطع. وقال آخر إن القديسين عندما وجدوا أن هذا الروح يسكن فيهم، رفعوا إلى الرب شكراُ عظيماً.

فضلاً عن ذلك فقد عرف هؤلاء المؤمنون أن المصدر الذي نستمد منه الصلاة، ليس هو العقل أو الاختبار أو أقوال القديسين الذين سبقونا، بل إنه كلمة الله دون سواها فقالوا "المنبع الذي يلقن منه الروح القدس دروس الصلاة ، هو الكتاب المقدس. إذ بدون القراءة في الكتب الإلهية، لا يمكن للذهن أن يدنو من الله" (حياة الصلاة الأرثوذكسية 21 و 29 و 37 و 40 و 48 و 70 و 87 و 162 و 182 و 187). ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذه الكتب هي أقواله، ومن ثم فإنه يقودنا لاستخدامها دون سواها عند الصلاة.

(ج) كلمة الله والمواهب الروحية: وإن كان الرب قد سمح بوجودنا في عصر لا رسل فيه أو أنبياء، لكنه أبقى لنا كلمته، كما أبقى لنا كلمته، كما أبقى لنا المواهب الروحية اللازمة لنا في العالم الحاضر. فمن جهة كلمة الله، فإنها ملاذنا الوحيد لأنها هي التي تبنينا وتعطينا ميراثاً مع جميع القديسين (أعمال 20: 23). كما أنها حية وفعّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته (عبرانيين 4: 12). ولذلك عندما نضع نفوسنا تحت تأثيرها، تستطيع بقوة الروح القدس أن تطهّرنا من كل شر يمكن أن يكون فينا، لأن هذه الكلمة توبخنا وتؤدبنا لكي نكون كاملين متأهبين لكل عمل صالح
(2 تيموثاوس 3: 7)، وبذلك تهيئنا لتقديم العبادة اللائقة بجلال الله وقداسته.

ومن جهة المواهب، فقد أبقى الله بيننا المبشرين الذين ينيرون طريق الخلاص أمام الخطاة، والرعاة الذين يهتمون بأمر الذين يخلصون منهم، والمعلمين الذين يفصلون لهم كلمة الحق بالاستقامة، والوعاظ الذين يحثونهم بعد ذلك من وقت لآخر على حياة التقوى والقداسة، التي تتوافق مع مشيئة الله (أفسس 4: 11-12، 1كورنثوس 12: 4، رومية 12: 6-8). وأصحاب المواهب هؤلاء اقتداءً بالرسل، لا يأخذون مركز الرياسة على المؤمنين أو الوساطة بينهم وبين الله. كما أنهم لا يجمعون المؤمنين حولهم كرعية أو طوائف تحت أسماء خاصة، بل يوجهونهم إلى الرب لكي يكون هو الكل في الكل لديهم. كما أنهم لا يتكلمون عنه من عندياتهم، بل بإرشاد الروح القدس الساكن فيهم، وبالحري في حدود الكتاب المقدس الموحى به من لدنه.

(د) فإذا أضفنا إلى ذلك (أولاً) أن الله يريد أن يكون جميع المؤمنين الحقيقيين في حالة الصلة الروحية به والطاعة التامة لإرشاده، والاهتمام المتواصل بدراسة كلمته والسير على مقتضاها، والتهيؤ عن طريق الاجتهاد والصلاة الخاصة للحصول على مواهب روحية منه (1 كورنثوس 12: 31، 14: 1)، حتى يستطيع كل واحد منهم أن يعطي إظهار الروح للمنفعة (1كورنثوس 12: 7). (ثانياً) أن اعتماد المؤمنين في شؤونهم الروحية على رئيس ديني منظور، يؤدي إلى تفرده بالصلاة والوعظ، مما يبطل عمل الروح القدس فيهم ويخمد المواهب الروحية التي أعطاها لهم بمجرد إيمانهم إيماناً حقيقياً، وتكون النتيجة الحتمية لذلك أنه إذا غاب هذا الإنسان بسبب سفر أو مرض أو موت مفاجئ، تتعطل الصلاة والخدمات الروحية العامة ولو إلى حين، مثلما يحدث بين الجماعات التي تعتمد على أمثاله، أدركنا أهمية اتصال المؤمنين الحقيقيين بالله اتصالاً مباشراً في العبادة، كما أدركنا خطر اعتمادهم فيها على رئيس ديني بينهم أياً كان مقامه.

(هـ) أخيراً نقول إن النظام في الصلاة (كما يقول البعض) لا يتجلى في رياسة إنسان ما على اجتماعات العبادة حتى يكون هو، أو النائب عنه، القائد للمجتمعين في الصلاة والترانيم، والقائم بالوعظ والتعليم، ويكون المجتمعون في حالة الصمت والسكون أمامه. بل أن النظام في العبادة أمام الله هو خضوع العابدين بقلوبهم له، وانقيادهم التام بروحه، وذلك في الصلاة والترنيم، والوعظ والتعليم. إذ بهذه الوسيلة تسير العبادة حسب مشيئته، فيتمجد هو ويكرم، وبتمجيده وإكرامه، يتباركون هم بكل بركة.

(و) وقد أشار الراهب الفاضل متى المسكين إلى العبادة والخدمة في العصور الأولى فقال "فالعبادة المسيحية كانت تمارس داخل الكنيسة بحرية روحية كاملة، وكانت الجماعة تنمو نمواً مكشوفاً تلقائياً غير مصطنع وغير مدرسي قط. فكان كل من يدفعه الإلهام للكلام أو الشهادة أو تعزية الجماعة، كان مأذوناً له أن يتكلم وأن يعبر عما يحسه" (المواهب الكنسية ص22).

وما دام الأمر كذلك، لا تكون هناك حاجة إلى رؤساء روحانيين (كما يقال)، لكي يرأسوا الصلاة أو ينظموها لنا كما ذكرنا. وإذا قمنا بتعيين أمثالهم من تلقاء أنفسنا، يعتبر عملنا هذا عصياناً لمشيئة الله ورغبة منا في تسيير عبادتنا له، حسب آرائنا البشرية، وليس حسب كلمته التي أعطاها لنا ـ وتصرف مثل هذا يعتبر أشرّ من تصرف بني إسرائيل قديماً، في طلبهم ملكاً يتقدم جيوشهم (1صموئيل 8). لأن الحرب عمل مادي، يتطلب على أي حال وجود قائد منظور يخوضها أمام الجنود. بينما العبادة، بالإضافة إلى أنها عمل روحي محض، فهي صلة مباشرة بيننا وبين الله، الأمر الذي لا يدع مجالاً لوجود رؤساء يؤموننا فيها أمامه.

مما يتقدم يتّضح لنا أن الذين يشعرون بحاجة إلى رئيس بشري يؤمهم في الصلاة ويلقي عليهم كلمة الله، هم المؤمنون بالاسم الذين ليست لهم علاقة حقيقية مع الله، أو المؤمنون الحقيقيون الذين بسبب فتورهم الروحي يعجزون عن الشركة الروحية المباشرة معه. وفي هذه الحالة لا يكون هؤلاء أو أولئك في الواقع أشخاصاً عابدين لله، بل مجرد مستمعين أو تابعين للرئيس البشري المذكور.


[1] - فكثيراً ما نسمع من القائلين بالخلافة الرسولية، إن الأنبا "فلان "سيرأس الصلاة. وكأن الصلاة أصبحت في نظرهم حفلة يرأسها رئيس بشري، وليست علاقة روحية مباشرة بين كل واحد من المؤمنين وبين الله.

[2] - يقول بعض المسيحيين إن شفاعة الروح القدس فينا، يراد بها أن يصلي نيابة عنا، ومن ثم يطلقون على شفاعته اسم "شفاعة نيابية "ـ والحال أن الروح القدس لا يصلي نيابة عن أحد إذ أن المعنى الأصلي للشفاعة كما يقول علماء اللغة اليونانية "هو المساعدة المتبادلة بين اثنين، يحملان حملاً واحداً". فمن يتقدم للصلاة من المؤمنين الحقيقيين بإخلاص، يتلقى المعونة من الروح القدس على أدائها كما يريد الله. أما من لا يتقدم للصلاة بإخلاص، لا يتلقى من الروح القدس مثل هذه المعونة، ومن ثم لا تكون صلاته مقبولة أمامه تعالى.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.